في فيلم "يوم الاستقلال" (Independence Day)، تلك الملحمة الهوليوودية التي جسدت نشوة الهيمنة الأمريكية على العالم، يقول أحد العلماء في مختبر سري تحت الأرض، بعد بدء الهجوم الفضائي "ما حدث في اليومين الأخيرين، مذهل حقًا!" فيرد عليه الرئيس الأمريكي توماس وايتمور، الذي لعب دوره "بيل بولمان"، بنبرة غضب "لا أرى أن مقتل الآلاف من الأشخاص، خلال اليومين الماضيين، يجعل من عبارة مذهل ملائمة للسياق!" قد تبدو هذه اللقطة ضربًا من الخيال، لكنّها تسلط الضوء على فجوة الإدراك الأخلاقي التي قد يعاني منها العالم، حين يصبح الدم المسفوك أمرًا "مذهلًا" لمجرد أنه غير مسبوق تقنيًا أو عسكريًا. ربما تصلح هذه اللقطة، كمفتاح رمزي لما يحدث – وما لا يحدث – في عالم اليوم. عالم يتعرى فيه النظام الدولي من قيمه الإنسانية، وتسقط فيه القوانين الدولية، ويتحول فيه الحلفاء إلى غزاة، والضحايا إلى أرقام.
ما نشهده في الستة أشهر الأخيرة والشهر الجاري لا يدعو فقط للدهشة، بل للاستنكار العميق. إننا نعيش لحظة انهيار تاريخي للمعايير التي طالما تغنى بها الغرب، وانكشاف لمنظومة أخلاقية وقانونية فقدت آخر ما تبقى من شرعيتها. فإذا كانت السينما تمارس فن الإقناع عبر الخيال، فإن الواقع اليوم، يمارس فن القهر باسم القانون، ويخترع مسرحيات العدالة بينما يمارس المجازر.
سقوط القيمة الإنسانية.. الدم مباح ما لم يكن غربياً
السعار الصهيوني، الذي تجاوز كل حدود السياسة والعقل، لم يعد يُخفي طبيعته العدوانية الهيستيرية. هو التعبير الأكثر وضوحًا عن انهيار القيمة الإنسانية في هذا العالم، واحتقار الحياة البشرية حين تكون الضحية غير غربية، وغير مطابقة للمعايير العرقية والسياسية السائدة. لم يعد القتل فعلاً استثنائيًا أو صادمًا، بل صار مشهدًا متكررًا تُبتلع دمويته في دوامة الأخبار اليومية، ما دام الدم عربيًا أو مسلمًا.
عادت الولايات المتحدة إلى واجهة المشهد العالمي، ليس فقط بقيادة دونالد ترامب الذي أعلنها حربًا تجارية مفتوحة على الجميع، بل بأجندة هجومية تشمل دعمًا مطلقًا للكيان الصهيوني، وتصفيةً منهجيةً لفكرة العدالة الدولية. في فلسطين، يتواصل إرهاب الدولة بكل أدواته، من التهجير القسري إلى القتل الجماعي. أكثر من سبعة وخمسين ألف شهيد، أغلبهم من النساء والأطفال، سقطوا تحت قصف مستمر ومتواصل، في ظل صمت دولي مشين، وتواطؤ إعلامي مكشوف. وعلى الرغم من كل هذا، لا تزال إسرائيل تُمنح حق الدفاع عن النفس، بينما يُصوّر الفلسطيني كتهديد يجب استئصاله.
تتفاخر "إسرائيل" باجتياحها للأجواء في لبنان وسوريا واليمن، وتباهي بـ"يد الرب" التي تضرب خصومها، في استعراض مرضي لقوة مفترضة، تنكسر سريعًا أمام جدار الممانعة في طهران. الغارات المكثفة، والاغتيالات النوعية، والتسلل الاستخباراتي، لم تغيّر من الحقيقة شيئًا: "إسرائيل" تخاف الحقيقة أكثر من القنابل، وتعلم أن صورتها قد تصدّعت، وأنها فقدت القدرة على خداع من لا يزال حي الضمير.
في الأيام التي تلت الرد الإيراني، نفدت كل حجج الناطقين باسم جيش الإبادة، وانكشفت الخدعة الكبرى التي غذّاها الإعلام المتصهين، طوعًا أو قسرًا. سقط القناع عن أسطورة التفوق، وتحوّل جنرالات الكيان إلى مروّجين لخيبة عسكرية لا يمكن تبريرها حتى بالكذب. بعد اثني عشر يومًا من الصمت القاتل، لم يبق لديهم ما يقولونه. أما الرئيس الأمريكي، المفترض أن يكون المنقذ الأخير لحليفته المدللة، فلم يجد بدًا من تهنئة الإيرانيين على ما وصفه بـ"كفاءتهم المذهلة". المفارقة أن ترامب، الذي تصفه الصحافة الغربية بالأحمق، هو الوحيد القادر على قول الحقيقة من دون ديبلوماسية، حتى لو جاءت في شكل زلة لسان.
ستيف بانون، كبير مستشاري ترامب السابق، قالها بصراحة ديبلوماسية لا تخلو من مرارة: وقف إطلاق النار جاء لإنقاذ "إسرائيل"، التي كانت على وشك الانهيار عسكريًا. "لقد كسروا أسنانهم"، قال بانون، "لقد تم شطفهم تمامًا، واستُنزفت ذخيرتهم الدفاعية". لم يعد ممكنًا الاستمرار في القتال، فالتكلفة باهظة، والهزيمة واضحة، ولا غطاء سياسيًا يغطي الإخفاق.
المثير للاشمئزاز في هذه الرواية، أن الدول الغربية، التي تشرعن القتل بدم بارد، لا تزال تتشدق بمبادئ حقوق الإنسان، وتُقنّع جرائمها بخطاب مزدوج. لقد صوّرت إيران – مثل روسيا من قبل – كدولة همجية تخضع لحكم الملالي، وأن من المشروع قتل علمائها واستهداف قادتها العسكريين، باسم حماية الديمقراطية وحق "إسرائيل" في الدفاع عن النفس. النسويات الغربيات، اللواتي أزعجهن وضع المرأة الإيرانية فجأة، كنّ حتى وقت قريب يجهلن معنى كلمة "المولى" في الثقافة الفارسية أو الشيعية، وها هنّ اليوم يبكين على قبة تل أبيب الحديدية.
لم يكن الغرب، يومًا، موطنًا نقيًا للقيم، لكنه بات في هذا الزمن معقلًا للاستكبار الأشدّ وقاحةً. لم تعد هناك أي محاولات جادة حتى لإخفاء الغطرسة. لم يعد أحد يتحدث عن القانون الدولي، أو العدالة، أو الأخلاق، بل عن "الخير والشر"، وكأن العالم حلبة لمباراة ميتافيزيقية، يحق فيها للأقوى أن يقرر من هو الإنسان، ومن هو الكائن القابل للإبادة.
قانون الأقوياء لا قانون العدالة
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وُعد العالم بنظام قانوني دولي قائم على العدالة، قادر على ردع المعتدين، وحماية المدنيين، وضمان الحد الأدنى من الاحترام المتبادل بين الدول. كان من المفترض أن تشكّل المؤسسات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية، جدارًا واقيًا ضد عودة منطق الغلبة والاستعمار والانتقام. لكن ما جرى في الأشهر القليلة الماضية كشف هشاشة هذا النظام، بل سقوطه المدوي أمام أعين العالم بأسره.
بنيامين نتنياهو، المتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم حرب، يُستقبل في عواصم الغرب استقبال القادة المنتصرين، بينما يُعامل قادة دول الجنوب العالمي كالهاربين من العدالة، حتى إن لم يصدر بحقهم أي حكم. حين صدرت مذكرة التوقيف بحق فلاديمير بوتين، ارتفعت الأصوات من واشنطن ولندن وباريس مطالبةً بتطبيق القانون دون استثناء، لكن حين يتعلق الأمر بـ "إسرائيل"، يصبح القانون نفسه محل تفاوض، وتُعلّق مبادئ العدالة إلى أجل غير مسمى. لا تفسير لذلك سوى أن العدالة في هذا العالم أصبحت مرتبطة بالتحالفات لا بالقيم، وبالاصطفاف السياسي لا بالجرم المرتكب.
مجلس الأمن الدولي، الذي من المفترض أن يكون ضامنًا للسلم العالمي، بات عاجزًا حتى عن إصدار بيان يدين قصف المستشفيات وقتل الأطفال. عشرات الاجتماعات الطارئة انعقدت بشأن فلسطين ولبنان وسوريا، وانتهت بلا نتائج، بسبب فيتو أمريكي يُشهر في كل مرة دفاعًا عن القاتل. أما أمين عام الأمم المتحدة، حين تجرأ على إدانة "إسرائيل"، فقد جُرّد من شرعيته المعنوية، وطُعن في مصداقيته من قبل الدولة التي تنتهك يوميًا قرارات الهيئة التي يُفترض أنه يمثّلها. لم يعد للأمم المتحدة سوى دور رمزي، لا يتعدى إصدار بيانات التعبير عن "القلق العميق"، في مواجهة جرائم ترتكب على الهواء مباشرة.
الانحراف عن القانون الدولي لا يقف عند حدود مؤسسات الأمم المتحدة. فالعقوبات الاقتصادية، التي من المفترض أن تصدر عن مجلس الأمن، صارت تُفرض بقرار أمريكي منفرد، أو عبر تكتلات غربية، دون أي مسوغ قانوني أو إجماع دولي. إيران، سوريا، روسيا، فنزويلا... كلها دول فُرضت عليها عقوبات أحادية، خارج أي إطار قانوني دولي، في حين تُعفى إسرائيل، رغم ارتكابها لجرائم موثقة بالصوت والصورة. إنه منطق مقلوب: تُمنح الحماية القانونية للجلاد، ويُعاقب الضحية على صموده.
هذا الانهيار الصارخ في المعايير القانونية لا يمكن أن يمر بلا عواقب. حين يفقد القانون الدولي معناه، ويتحوّل إلى أداة في يد الأقوياء، تبدأ الدول الصغيرة بفقدان الإيمان بالشرعية الدولية، وتلجأ إلى منطق الردع الذاتي، وتسود الفوضى. تتسارع سباقات التسلح، وتنهار الثقة بالتفاوض، ويصبح الرد على العدوان ميدانيًا لا قضائيًا، وتصبح القوانين الدولية حبراً على ورق. ومع استمرار ازدواجية المعايير، تصبح شرعية المؤسسات الدولية موضع سخرية، وتتحول العدالة إلى سلعة تُقاس بموازين القوة والنفوذ، لا بمبادئ الإنصاف والحق.
أبوّة متغطرسة وخطوط ديبلوماسية محترقة
في الخامس والعشرين من يونيو الماضي، نشر البيت الأبيض صورة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مرفقة بعبارة "عودة الأب إلى البيت". الصورة كانت لافتة في توقيتها ورمزيتها، لكنها لم تكن عابرة. قبل ساعات من نشرها، كان الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، الهولندي مارك روته، يقف إلى جانب ترامب في مؤتمر صحفي، حين ألقى جملة تجمع بين الفكاهة والسخرية المبطّنة: "إن أبي يضطر أحيانًا إلى التحدث بصرامة"، في إشارة إلى ترامب نفسه. حينها كان الرئيس الأمريكي قد بدأ للتو مقارنة عبثية بين الصراع بين "إسرائيل" وإيران وبين "أطفال يقاتلون في ساحة اللعب".
ذلك الموقف، رغم خفته الظاهرة، عبّر بوضوح عن الانحدار الديبلوماسي العميق الذي يشهده العالم الغربي. فحين يُشبَّه قائد عسكري عالمي بالأب، لا بوصفه رمزا للحكمة والاتزان، بل باعتباره من يفرض الانضباط بـ"الصرامة"، فإن ذلك يشير إلى اختزال السياسة الخارجية إلى سلطة أبوية متغطرسة لا تسمح بالخروج عن طاعتها. والأسوأ من ذلك أن هذه الاستعارة الأبويّة كانت في معرض تبرير سلوك أرعن، لا موقف متوازن. لم يعترض أحد على تشبيه ترامب لنفسه بـ"الأب"، ولم يسخر أحد من المقارنة الطفولية بين حروب حقيقية يسقط فيها آلاف القتلى، وصراع أطفال في ملعب. وحدها إسبانيا أعربت عن تحفّظها، بينما سارع بقية أعضاء الحلف إلى إعلان التزامهم برفع ميزانياتهم الدفاعية إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2035.
بهذا التصرف، كرّس ترامب صورة الرئيس الأمريكي الذي ينجح في إخضاع الحلفاء بالتهديد والإهانة، ويعيد صياغة العلاقات الدولية على قاعدة "التبعية أو العزل". لم تعد الخطوط الديبلوماسية مرجعية تفاهم وحوار، بل تحولت إلى خطوط عسكرية، تسبقها الأوامر وتتبعها الولاءات. البيان الختامي لقمة الناتو، الذي شدد على أهمية زيادة الإنفاق الدفاعي، لم يكن مجرد توافق بين دول الحلف، بل اعتراف ضمني بنجاعة الضغوطات الترامبية، التي انتزعت الإجماع بالإكراه الرمزي.
التراجع الديبلوماسي لا يُقاس فقط بمستوى اللغة المنفلتة التي أصبح يستعملها الرؤساء، بل أيضًا بموت المفاوضات كأداة للحل، وازدهار "التحذيرات" و"الخطوط الحمراء" و"الردود الساحقة" بدلًا من الحوار المتعدد الأطراف. بات التصعيد هو الأصل، والردع بالقوة هو القاعدة، ولم يعد هناك مجال للديبلوماسية الوقائية أو للمساعي الحميدة. كل ذلك ينعكس في الخطاب الغربي الرسمي الذي يُدار بمنطق التصنيف: "من معنا ومن ضدنا"، وكأن المشهد الدولي عاد إلى زمن ما قبل الحرب العالمية الثانية، حين كانت القوميات الكبرى تجرّ العالم نحو الهاوية.
اللغة الديبلوماسية، التي طالما كانت سلاح القوى الذكية، اختفت تدريجيًا لصالح التهديدات الاستعراضية. حين يتحدث زعيم دولة نووية عن استخدام الأسلحة التكتيكية، ويشبه الصراعات السياسية بألعاب الأطفال، وتتحول المنابر الدولية إلى مسرح للمزايدات، فإن ذلك لا يعني فقط انتكاسًا في أدوات التواصل، بل انهيارًا أخطر في مبدأ الحوار ذاته.
لقد تراجعت الخطوط الديبلوماسية كما لم يحدث منذ نهاية الحرب الباردة. ليس لأن الديبلوماسية لم تعد مطلوبة، بل لأن القوى المهيمنة لم تعد تجد فائدة في التفاوض. كل شيء يُفرض من الأعلى: العقوبات، التحالفات، الاتفاقيات، وحتى روايات الحقيقة. لم تعد السيادة تُحترم، ولا الخصوصية تُفهم، ولا الكرامة الوطنية تجد مكانًا على طاولة الحوار. الأبوة الأمريكية، في صورتها الجديدة، لا تنتج الأمن، بل تعيد العالم إلى معادلة الخوف والخضوع، ومنطقها الوحيد: الانصياع أو الإلغاء.
سقوط الميزان.. حين يغيب العقل وتُشرعَن الوحشية
الميزان الأخلاقي لم يعد صالحًا للقياس. إنه أشبه بميزان عتيق خُلع من أحد المتاحف الإمبراطورية القديمة، ثم أعيد استخدامه فجأة لقياس أوزان هذا العالم المختل. ما يشهده العالم اليوم ليس فقط تراجعًا في الحكمة السياسية، بل انحدارًا أخلاقيًا يُضفي على الوحشية شرعية وقانونًا، ويجعل من القتل فعلًا حضاريًا إذا صدر عن دولة كبرى، ويحوّله إلى "إرهاب" إذا خرج من مستضعف أو محاصر. هذا الانفصام في المعايير بات مشهدًا يوميًا، تتعايش معه وسائل الإعلام، وتعتاده المنابر الغربية، وترسّخه ثقافة سياسية تنحدر بسرعة نحو بدائية مغلفة بالتكنولوجيا.
في عالمٍ تهاوت فيه ثوابت العقل والعدالة، لم تعد الحكمة تُقاس بمدى نجاعة المفاوضات، بل بمدى فاعلية القصف. لم تعد الشرعية تُستمد من القانون الدولي، بل من نبرة الصوت في البيت الأبيض أو من صمت مجلس الأمن. فكرة "الزعامة الأخلاقية" التي كانت تتغنى بها بعض الدول الغربية، تحوّلت إلى أداة تسويقية فقط، تُستخدم لتبرير تدخل عسكري هنا، أو فرض عقوبات اقتصادية هناك، بينما تبقى دول أخرى، تمارس أفظع الانتهاكات، محصّنة بفيتو الجغرافيا والنفط والسلاح.
التحول الذي شهدته الديبلوماسية الدولية نحو التهوّر والانفعال، لم يأتِ من فراغ. السياسات الأحادية التي تبنتها الولايات المتحدة في عهد ترامب، والتي تُبعث الآن مجددًا كعقيدة أمريكية ثابتة، هي الوجه الآخر لعالم ينكفئ على مصالحه الأنانية. "أمريكا أولًا"، "الصين أولًا"، "فرنسا أولًا"، "روسيا أولًا"... كل هذه الشعارات ليست سوى إعلان رسمي عن انسحاب العقل من واجهة الحكم، وصعود النرجسية الجيوسياسية. لم تعد الأمم تسعى لبناء نظام عالمي أكثر عدلًا، بل تتنافس على ترتيب مواقعها في نظام فوضوي تهيمن فيه الغلبة، وتُنسى فيه الحكمة، ويُسحق فيه الضعفاء بلا مقاومة.
لقد تحوّلت السياسة إلى سباق غريزي بين الوحوش، لا مكان فيه للمرونة، ولا مجال فيه للصبر الاستراتيجي، ولا صوت فيه لعقلاء الأمم. كل ذلك يجري وسط فراغ فكري قاتل، حيث لا أحد يناقش البدائل، ولا أحد يجرؤ على طرح سؤال: إلى أين نمضي؟ الكل يسير، ولكن لا أحد يفكر في الطريق.
متاهة العالم المعاصر.. حين تُطفئ القوى الكبرى آخر مصابيح الخروج
قد تكون الوقائع المروّعة التي عاشها العالم خلال الستة أشهر الماضية، وماتزال، مرآة ساطعة تكشف عن عمق التصدّع في البنية الأخلاقية والسياسية للحضارة المعاصرة. ما من حاجة الآن إلى نظريات معقدة لفهم ما يحدث. فالمشهد واضح: نظام دولي يترنح على حافة الانهيار، وقيم كونية تُفرغ من معناها، ومؤسسات أممية تتآكل سلطتها، وتوازنات تاريخية تُستبدل بأشكال جديدة من الهيمنة تُمارس بوقاحة وصلف. والنتيجة: عالم أكثر خطورة، أكثر انقسامًا، وأقل إنسانية من أي وقت مضى.
لكن التفسير لا يكتمل من دون فهم الخلفية الثقافية والفكرية لهذا الانحدار. في كتابه "متاهة الضائعين: الغرب وأعداؤه"، يكتب أمين معلوف بسردية مؤلمة ومتشائمة في آن، شارحًا مأزق الحضارة الحديثة: الغرب في انحطاطه، وخصومه في إفلاسهم. فلا الغرب يمتلك بعد الآن القدرة الأخلاقية على قيادة العالم، ولا "العالم الآخر" يملك بديلاً حضارياً مقنعاً. الجميع مأزوم، الجميع متورط، والجميع ـ بدرجة أو بأخرى ـ ساهم في صناعة هذه المتاهة الأخلاقية والسياسية التي ضلّ فيها الإنسان المعاصر.
ليست المشكلة في أن تكون هناك قوة عظمى، بل في أن يُفترض أنها "حتمية" و"ضرورية" و"أخف الضررين". هذا التفكير، كما يشير معلوف، هو أصل كل الانحرافات. لأن أي قوة، بمجرد أن تُمنح صكًا مفتوحًا بالهيمنة، تتحول حتماً إلى طاغية، حتى لو بدأت بمبادئ نبيلة. من هنا، فإن الانتظار الساذج لـ "مخلّص" عالمي جديد، أياً كانت هويته، هو في جوهره استمرار لنفس النمط الإمبراطوري الذي أوصل البشرية إلى هذه الحافة. ما نحتاجه ليس قائداً جديدًا، بل نظامًا جديدًا للفكر السياسي ذاته، يعيد الاعتبار إلى الإنسان كقيمة، لا كأداة في حسابات القوى.
أزمة العالم اليوم ليست أزمة عابرة في دورة تاريخية يمكن إصلاحها بمؤتمر أو بانتخابات جديدة في عاصمة كبرى. إنها أزمة بنيوية، تتعلق بمعنى السيادة، ودور الدولة، ومفهوم القانون، ومكانة الإنسان في صلب المنظومة السياسية. لذلك، فإن العودة إلى الرشد لن تكون ممكنة من داخل أدوات الهيمنة ذاتها، بل من خلال تفكيكها، وإعادة بناء مفاهيمنا حول العدالة والشرعية والقوة والتعاون. لقد سقطت الأقنعة، وتهاوت الروايات الجاهزة، وانكشفت النيات الحقيقية لكل الأطراف الكبرى: ليس هناك من "طرف خير"، بل هناك فقط موازين قوى، تحكمها الغرائز والأنانيات.
ولعل أكثر ما يوجع في هذه المرحلة، هو أن أصوات العقل ـ تلك التي ما تزال تؤمن بإمكانية التغيير دون خراب شامل ـ تُقصى من المشهد، وتُستبدل بأصوات التهليل، والتضليل، والتبرير. لذلك، فإن السؤال الأهم اليوم ليس فقط "كيف وصلنا إلى هنا؟"، بل: هل بقي لدينا وقت لنتفادى الأسوأ؟ أم أن المتاهة قد أغلقت أبوابها تماماً خلفنا، ولم نعد نملك مفتاح الخروج؟

تاج آش كومار ذاكر - باحث مستقل (الهند)
من استعمار القوة إلى توازن الحضارات.. التاريخ يعيد التوازن
في عام 1492، أبحر كريستوفر كولومبوس غربًا، فبدأ نزيف الأمريكيتين، وسُحقت أفريقيا وآسيا تحت وطأة حروب الاستعباد. لم يكن الغرب بصدد اكتشاف العالم، بل كان قادته يعيدون تشكيل خريطته بالعنف والسلاح. ما تلا ذلك لم يكن عصرًا للاكتشاف، بل عصرًا للدمار والاستغلال. لم يكن التقدم المزعوم إلا تغليفًا لنهب منظّم. كان غزو الأمريكيتين إعلانًا لبداية نظام عالمي جديد، تأسّس على منطق الاستخراج المنهجي للثروات، والهيمنة على الشعوب، وترسيخ تراتبية عنصرية كما صاغتها الفلسفة الغربية.
طوال أكثر من خمسة قرون، فرض الغرب سطوته على العالم — في البداية عبر الإمبراطوريات الاستعمارية، ثم من خلال الشركات متعددة الجنسيات، وأخيرًا عبر مؤسسات سياسية توصف بأنها دولية. سيطر على الأرض والشعوب لا من خلال التوافق، بل عبر الغزو والإخضاع وفرض الهيمنة. استُنزفت المعادن والعقول، وأُعيدت كتابة التاريخ، وأُلبس المشروع الاستعماري لباس "الحضارة".
أما اليوم، في عام 2025، فيبدو أن هذا العصر شارف على نهايته. لا تسقط الإمبراطوريات دائمًا بالحروب، بل أحيانًا تنهار أمام موجات الصحوة. نحن نشهد ولادة عالم جديد — ليس عالماً تحت قيادة قوة عظمى واحدة، بل عالماً تتقاسم حضارات متعددة قيادته. هناك تحوّل عميق وجوهري قيد الحدوث، يدفع عجلة التاريخ بعيدًا عن الأحادية نحو التعددية، ومن التمركز إلى الحوار.
القرن الغربي بُني على ظهور مكسورة
منذ القرن الرابع عشر وحتى بدايات القرن الحادي والعشرين، حافظت القوى الغربية على تفوقها عبر نار الاستعمار، والنهب الاقتصادي، والهيمنة المؤسسية. حكمت الإمبراطورية البريطانية وحدها أكثر من ربع سكان العالم، واستخرجت ثروات لا يمكن تخيّلها — بما في ذلك ما يُقدّر بنحو 45 تريليون دولار من الهند، وفقًا للاقتصادي أوتسا باتنايك. أما في الكونغو، فقد خلّف نظام الملك ليوبولد الثاني ما يصل إلى 10 ملايين ضحية في حملة همجية لاستخراج المطاط. لم تكن هذه المآسي على الهامش، بل كانت قلب المشروع الإمبراطوري الغربي، وركائزه الاقتصادية.
إلى جانب أدوات السيطرة المادية، استخدمت القوى الغربية وسائل الهيمنة الثقافية والنفسية، من خلال الإعلام، والتعليم، واللغة. كما أسست مؤسسات دولية مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والأمم المتحدة، لتخدم مصالحها الجيوسياسية والمالية. ومن خلال هذه المؤسسات، تم تدمير مقومات التضامن العالمي، واستُبدلت بشعارات جوفاء عن "الحرية"، تخفي وراءها مجازر ومجاعات. لم تكن الحضارة التي صدّرتها تلك القوى سوى ستار لإبادة جماعية، ولم يكن "التقدم" يومًا عالميًا، بل كان دومًا مشروطًا بإخضاع شعوب الجنوب.
خلف الشعارات البرّاقة التي روّج لها الغرب — عن العقلانية، والحرية، والتمدّن — كانت تكمن بنية عنيفة من السطو والاستغلال. لقد تمّت عسكرة الفضاء المعرفي، وتحويل المدارس والجامعات إلى أدوات تطبيع للهيمنة، وتحوّلت وسائل الإعلام إلى منصات لبناء سردية استعمارية، لا تكتفي بتبرير السيطرة بل تقدّمها باعتبارها خلاصًا. ورغم انتهاء الحقبة الاستعمارية رسميًا، فإن البنية التي أفرزتها لا تزال حيّة، وقد أعيد إنتاجها عبر أنماط أكثر نعومة — ولكنها لا تقل فتكًا.
منطلق التحول: القراءة الخاطئة لروسيا وتجاهل الهند والتقليل من شأن الصين
عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، ساد اعتقاد في الغرب بأن التاريخ قد انتهى لصالحه، وأن اللحظة الليبرالية الغربية أصبحت قدرًا عالميًا لا رجعة فيه. ولذا انفرد منظّروه بمقولات مثل "نهاية التاريخ" و"صراع الحضارات"، دون أن يدركوا أن انتصارهم لم يكن إلا لحظة عابرة، وقراءة خاطئة عميقة لتحولات ما بعد الحرب الباردة.
شعرت روسيا، بقيادة فلاديمير بوتين، بالإهانة جراء توسع حلف الناتو شرقيًا، والرفض الغربي لأي شكل من أشكال الشراكة على أساس الندية. وقد جاءت الحرب الأوكرانية عام 2022 لا كصراع إقليمي فحسب، بل كزلزال جيوسياسي أظهر التصدعات في نظام الثقة العالمي، وكشف أن الغرب لا يزال يعامل روسيا بوصفها خصمًا مهزومًا لا شريكًا متساويًا.
في هذه الأثناء، نهضت الصين بهدوء وثبات، محوّلة تفوقها الصناعي إلى نفوذ جيوسياسي عالمي. لم تستخدم بكين الأدوات الاستعمارية القديمة، بل اعتمدت على الاستثمار، والمشاريع التنموية، والدبلوماسية الاقتصادية. أما الهند، فقد تخلّت تدريجيًا عن موقع "الشريك التابع"، لتصبح قوة حضارية ذات سيادة، تطمح إلى ترسيخ توازن دولي متعدد الأقطاب، بدلًا من خدمة أي قطب بعينه.
وفي المقابل، واصلت الولايات المتحدة انخراطها في مغامرات عسكرية أنهكتها أخلاقيًا وسياسيًا — من العراق إلى أفغانستان، ومن ليبيا إلى سوريا. وقد ساهمت تلك الحروب في تآكل الشرعية الأخلاقية للنموذج الليبرالي، وأضعفت الثقة العالمية في قيادة واشنطن، التي أصبحت مرادفة للتدخل والانقسام، أكثر من كونها نموذجًا للعدالة والاستقرار.
إن هذه اللحظة التحولية، بكل ما تحمله من أبعاد، لم تأتِ عبر الصدام العسكري المباشر، بل عبر تراكم الخلل الاستراتيجي في القراءة الغربية للعالم. لقد تم تجاهل التحولات العميقة في ميزان القوى، وتحقير المسارات السيادية للدول الكبرى خارج المعسكر الغربي، والاستهانة بالقدرات الفكرية والمؤسسية للحضارات الصاعدة. وكانت النتيجة: عالمٌ يستفيق من سُبات الهيمنة، ويسير نحو نظام أقل طغيانًا، وأكثر تنوعًا.
الإنهاك الأخلاقي للغرب
لم تعد أزمة الغرب جيوسياسية فقط، بل هي أزمة أخلاقية وثقافية عميقة. فالديمقراطيات الغربية التي طالما قدّمت نفسها بوصفها نموذجًا يحتذى، صارت تعاني من تصدع داخلي واضح: انفجار التضليل، تنامي نفوذ الأوليغارشيات، وتآكل الثقة في المؤسسات. أما الأجيال الشابة، فلم تعد تؤمن بتلك الأساطير الاستعمارية التي كانت تُقدَّم في مناهج التعليم والإعلام على أنها منجزات حضارية. لقد بدأت هذه الأجيال تطعن في شرعية التاريخ الذي كُتب من منظور استعلائي، وتحاسب رموزًا كانت تُعدّ إلى وقت قريب محل إجماع وتمجيد.
النخب السياسية والثقافية الغربية، التي كانت ذات يوم محور إعجاب عالمي، باتت اليوم ترمز إلى التفاوت، والانقسام العرقي، والانحطاط الإيديولوجي. فلا تُقاس قوة المجتمعات بما تمتلكه من ثروات فقط، بل بما تحتفظ به من روايات قادرة على إقناع شعوبها. والتاريخ يعلمنا أن الإمبراطوريات لا تسقط فقط بالهزائم العسكرية، بل تنهار عندما تفقد قدرتها على تبرير سلطتها من خلال سرديات مقنعة وشاملة.
في الغرب اليوم، تراجعت القيم التي ادّعى تأسيسها — مثل الحرية، والمساواة، وحقوق الإنسان — أمام واقع من الانغلاق، والعنصرية، وأزمات الهوية. وظهر تناقضٌ صارخ بين الخطاب المعلن والممارسة السياسية، بين الادعاء بالتحرر وتكريس السيطرة، بين الدعوة إلى الديمقراطية والتواطؤ مع الاستبداد ما دام يخدم المصالح.
الانقسام بين ما يُقال وما يُفعل، لا يمر دون ثمن. ففقدان المصداقية الأخلاقية، هو أقوى أشكال الانهيار. إنه لا يحدث فجأة، بل يتسلل تدريجيًا عبر فقدان المعنى، وتآكل الإيمان بالقيم المؤسسة للنظام. وإن كان الغرب قد استمد سلطته في القرون الماضية من مدافع الاستعمار، فقد صار يعاني اليوم من ارتداد السرديات — من تحوّل الفخر إلى ذنب، ومن التعالي إلى خجل. وهذا الانهيار الرمزي، هو الذي يجعل سلطته السياسية والاقتصادية تبدو أكثر هشاشة مما تبدو عليه على الورق.
المؤسسات الدولية في أزمة.. النواة الجوفاء للنظام العالمي
حين وُضعت أسس النظام العالمي المعاصر في "بريتون وودز" عام 1944، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، صُممت المؤسسات الدولية – كصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والأمم المتحدة – لتخدم توازنات القوة الغربية، وليس لإرساء عدالة شاملة. قادتها الولايات المتحدة بيدٍ مطلقة، فجاءت بنية النظام منحازةً من حيث التمثيل، والسلطة، وآليات التنفيذ، وقد استمر هذا الانحياز حتى اليوم، رغم تحولات العالم الجذرية.
يُعد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مثالًا صارخًا على هذا الخلل البنيوي؛ إذ لا تزال خمسة دول فقط تحتكر حق النقض "الفيتو"، مانعةً بذلك قيام أي نظام عالمي تشاركي فعلي. تظل قوى كبرى مثل الهند، والبرازيل، والدول الإفريقية الكبرى، خارج دائرة القرار الدائم، ما يُبقي توازن القوى داخل المنظمة مشلولًا وعاجزًا عن مواكبة الواقع الجديد. فقرارات تخص فلسطين، واليمن، والسودان، تُرحّل أو تُجمد، ما لم تتقاطع مع مصالح تلك القوى المهيمنة.
أما المؤسسات المالية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فقد ارتبطت دومًا بشروط مجحفة وخطط تقشفية، أثقلت كاهل الدول النامية، وفرضت عليها نماذج اقتصادية تتماشى مع مصالح الغرب، لا احتياجات المجتمعات. تمّت حماية البنوك الكبرى والدائنين الغربيين، فيما تُركت شعوب كاملة ترزح تحت عبء الديون والفقر. أما الدولار، الذي تم تعويمه كسلاحٍ اقتصادي، فقد استُخدم في العقوبات كسوطٍ لإخضاع الدول، وليس كأداة استقرار.
في هذا السياق، تزداد الدعوات إلى فك الارتباط بالنظام المالي الغربي. فالدول الصاعدة بدأت تميل إلى التخلص من التبعية للدولار في معاملاتها، مما يشكل تحديًا حقيقيًا لهيمنة الغرب الاقتصادية. وما يزيد من تعميق هذا التحول، هو انحسار الثقة بتلك المؤسسات، التي لم تعد تُرى كوسيط محايد، بل كأداة نفوذ جيوسياسي.
وإلى جانب هذه الانهيارات البنيوية، تلعب وسائل الإعلام الغربية دورًا خطيرًا في إنتاج وتسويق سرديات القوة. فقد روّجت لأكاذيب أسلحة الدمار الشامل في العراق، وموّهت على جرائم الحرب في ليبيا، وحرّفت الصورة الحقيقية للمقاومة الفلسطينية. إن ارتباط المؤسسات الإعلامية بالمنظومات العسكرية والمالية جعلها تفقد استقلالها، فبدلاً من محاسبة السلطة، صارت تعيد إنتاج خطابها وتبرر تدخلاتها.
لقد انكشفت "الشرعية" التي كانت تستند إليها تلك المنظومة، وأضحى جليًا أن النظام العالمي القائم لا يمثل الإجماع، بل الامتياز. وبينما كانت هذه المؤسسات تدّعي الحياد، كانت تمارس الانحياز. وبينما بشّرت بالحرية، دعمت الاستبداد حين خدم مصالحها. ولأن هذا النظام لم يُبنَ على العدالة، فإنه يتآكل من الداخل، لأن الظلم لا يُمكن تغليفه إلى الأبد بلغة القيم.
مؤسسات متوازية وزخم متعدد الأقطاب
من رحم الإحباط تولد الابتكارات السياسية. هكذا بزغت إلى الوجود مجموعة من الهياكل الناشئة في الجنوب الكبير، لتعيد رسم معالم النظام الدولي. ظهرت مجموعة "البريكس" وبنك التنمية الجديد التابع لها، وتأسس البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، إلى جانب منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، ومبادرات التعاون داخل مجموعة الـ 77 + الصين. كل هذه الكيانات لا تعكس مجرد تحالفات ظرفية، بل تعبر عن تحوّل هيكلي عميق في موازين القوة.
هذه المؤسسات لا تكرّر النموذج الغربي، بل تتحدّاه من خلال تقديم شروط أكثر إنصافًا، وحوكمة أكثر شراكة، وخالية من الإملاءات السياسية. إنها تجسيد لواقع جديد مفاده أن القيادة العالمية لم تعد تتمركز في الغرب. لكن مع ذلك، لا تزال الوحدة المفقودة تطرح سؤالًا ملحًّا: لماذا لم يتمكن الجنوب العالمي بعد من فرض حضوره المتماسك كقوة بديلة؟
رغم اتساع رقعة التأثير الجنوبي، فإن جبهة موحدة لم تتبلور بعد. صحيح أن تكتلات إقليمية مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا، والاتحاد الإفريقي، تشهد نضجًا مؤسسيًا، غير أن التنسيق الجيوسياسي بين كتل الجنوب ما زال محدودًا، بل متعثرًا أحيانًا. ومع أن مبادرات التعاون الرقمي، وتحولات القيادة بين الأجيال، وحركات التضامن الشبابي تبعث على الأمل، فإن طريق الوحدة الاستراتيجية يظل محفوفًا بالتناقضات.
المصالح المتباينة تُعيق هذا الطموح. فالهند والصين، على سبيل المثال، لا تزالان تتعاملان مع بعضهما البعض كمنافسين استراتيجيين، أكثر من كونهما شريكين حضاريين. ويُضاف إلى ذلك التفتت المؤسسي، فحتى اليوم لا توجد كتلة اقتصادية أو عسكرية واحدة تمثل الجنوب العالمي بصفته الكلية. ويرجع ذلك، في جزء كبير منه، إلى مخلفات مرحلة ما بعد الاستعمار، حيث لا تزال العديد من الدول الناشئة ترتهن لمساعدات الغرب، وتستجدي القروض الخارجية، مما يُكرّس تبعية سياسية وانهيارًا في القرار السيادي.
تُفاقم مشاكل الحوكمة الداخلية هذا الوضع. إذ تؤدي آفات مثل الفساد، وضعف المؤسسات المالية، وعدم الاستقرار السياسي، إلى إضعاف الموقف التفاوضي للعديد من دول الجنوب. كما أن القصور في الاستثمار في البنى الرقمية التشاركية، وشبكات التعليم والثقافة، يجعل هذه الدول أقل قدرة على خوض المعركة الرمزية والسردية مع الغرب – وهي معركة لا تقلّ خطورة عن تلك الاقتصادية.
ورغم هذا المشهد المليء بالتحديات، فإن منحنى التاريخ يتحرك في اتجاه واضح. الوحدة قد تكون بطيئة، لكنها حتمية. لا تأتي على هيئة ثورة خاطفة، بل تتبلور عبر تراكم التجربة، ومرونة التاريخ، وذاكرة النضال المشترك. تتجسّد ملامحها في القيادة متعددة الأجيال، وفي منصات التعاون الرقمي، وفي بناء سردية جنوبية أكثر تماسكا.
ما يتبلور الآن ليس صراعًا على وراثة الإمبراطوريات، بل ميلاد توازن حضاري جديد، تتوزع فيه مراكز القرار وتتعدد فيه الأصوات. فالهند، والبرازيل، وإندونيسيا، وتركيا، وجنوب إفريقيا، وغيرها من الدول، لا تنتظر دعوة إلى الطاولة؛ إنها بالفعل تضع لبنات نظام جديد، متعدد الأقطاب، يتجاوز المركزية الغربية.
وهنا، لا بد من تصحيح سوء الفهم المتعمد الذي تروّجه النخب الغربية: التعددية القطبية ليست فوضى، بل هي عودة إلى عالم يحترم تنوع الرؤى ومراكز السيادة. إنها تصويب للبوصلة الأخلاقية والسياسية التي اختلّت طويلاً. إنها لحظة نهاية الهيمنة الغربية، لا من خلال انهيار صاخب، بل من خلال يقظة هادئة وعميقة.
وكما قال "جواهر لال نهرو" يومًا حين عمّ الظلم: "لقد انطفأ النور في حياتنا". أما الآن، فإن عودة العدالة تُعيد إشعاله، لا في وطن واحد، بل في كل أركان الأرض. وما نعيشه ليس فوضى، بل انفتاح لمسار مسدود. إنه تصحيحٌ للاتجاه.
لقد علّمنا "نيلسون مانديلا" أن قوس التاريخ ينحني دومًا نحو الحرية، شريطة أن نُعينه على الانحناء. التاريخ يخلّف جراحًا وتحذيرات، لكنه يمنحنا، أيضًا، دروسًا ثمينة: لا تقدّم بلا عدالة، ولا استقرار بلا مساواة.
اليوم، تقف شعوب الأرض أمام خيارين: إما إعادة إنتاج الهيمنة بأعلام جديدة، أو صياغة نظام عالمي يقوم على التعاون والعدل. المستقبل لا يُكتب في "واشنطن" و"بروكسل" وحدهما، بل يُرسم في "نيودلهي"، و"بكين"، و"برازيليا"، و"لاغوس"، وسواها. ما ينهض ليس إمبراطورية جديدة، بل فسيفساء حضارية لا تُقصي أحدًا ولا تُخضع أحدًا.
الغرب لا يسقط. بل العالم ببساطة... ينهض. وكما قال توماس سانكارا "يجب أن نجرؤ على اختراع المستقبل". وهذه المرة، ننهض معًا.

أوغوستو أنييلي - باحث في الجغرافيا السياسية ووالإدارة البيئية والدبلوماسية (الولايات المتحدة)
ما بعد الغرب.. عالم يتشكل على أنقاض الهيمنة القديمة
من صمت برلين "الجامد" إلى عدم اكتراث باريس، تكشف الحرب في أوكرانيا عن أوهام جيوسياسية عميقة. وبينما تراقب أوروبا—وتنتظر—تعافي "العالم القديم"، يُعاد حاليًا "تصميم" نظام عالمي جديد.
يرى الباحث أنييلي أن الحرب في أوكرانيا تجاوزت كونها مجرد ساحة معركة، "بل أصبحت مرآة تكشف هشاشة المعسكر الغربي من الداخل". فبينما تتساقط القنابل على "دونيتسك" وتحلق الطائرات المسيرة فوق "بيلغورود"، يتباطأ النبض الحقيقي لأوروبا. ليس في كييف، ولا في وارسو، بل في برلين—حيث يتكشف انهيار داخلي غير مرئي.
في منظور الباحث، ألمانيا، التي كانت ذات يوم مرساة العقلانية لأوروبا ما بعد الحرب، أصبحت الآن بمثابة مريض مرتبك في تجربته الديمقراطية الحديثة: مثالية سياسية، تبعية مقنّعة بصيغة دبلوماسية، وولاء أعمى لنظام يتداعى، تقوده الولايات المتحدة. يضيف أنييلي "قلب الصناعة الأوروبية، الذي أنهكته ندرة الطاقة والتناقض الأخلاقي، لا يتعثر فحسب، بل يتلاشى".
من الكفاءة إلى عدم اليقين
يشير أنييلي إلى أن "النموذج الاقتصادي الألماني الشهير لم يُبنَ على المعجزات"، كما يتوهم كثيرون، بل "ارتكز على الغاز الروسي، والاستيراد من الصين، والتكنوقراطية المنضبطة". واليوم، كما يضيف، "تهتز هذه الركائز جميعًا". لم يسفر الغزو الروسي لأوكرانيا عن عقوبات وغضب إنساني فحسب، بل "أدى إلى كسر شريان الطاقة الرخيصة الذي كان يغذي قلب الصناعة الألمانية".
تباطأ الإنتاج في المصانع. وتوقفت شركات الكيماويات الكبرى عن التصنيع. وعائلات الطبقة المتوسطة، التي كانت تشكل سابقًا العمود الفقري لأكبر اقتصاد في أوروبا، تواجه الآن فواتير تدفئة تضاهي أقساط الرهن العقاري. وما كان ذات يوم محركًا اقتصاديًا لأوروبا، "يشبه اليوم آلة محمومة حراريًا، تتلعثم، وترفض الانطلاق".
ومع ذلك، لا تزال برلين "تتظاهر بالسلامة الاقتصادية والسياسية". فهي، كما يلاحظ الباحث، "تعقد مؤتمرات المناخ، وتلقي الدروس على المجر وبولندا بشأن سيادة القانون، وتقدم خوذات عسكرية لأوكرانيا، وشعارات براقة للعالم بأسره".لكن الحقيقة العميقة واضحة: "ألمانيا أصبحت دولة ما بعد صناعية في حالة إنكار للذاتها المتآكلةّ".
شتاء ألمانيا.. الاستراتيجية اليتيمة والمحرك العاطل لأوروبا
ماذا يحدث لقوة تفقد هويتها؟ إنها تبدأ في تقليد الآخرين. يرى أنييلي أنه "في غياب استراتيجية مستقلة، تحولت ألمانيا إلى وعاء للطموحات الأميركية، وبيروقراطية الاتحاد الأوروبي، والعقائد البيئية الخاصة بالتحول الطاقوي، التي لا تنسجم مع الواقع الجيوسياسي".
عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا، وعد خطاب الـ"Zeitenwende" (الصحوة) بنهضة ألمانية: إعادة تسليح أكثر القوى انضباطًا في التاريخ. لكن ما تلا ذلك لم يكن يقظة، بل جحيم بيروقراطي: الدبابات الموعودة وصلت إلى أوكرانيا بعد أشهر، والذخائر لا تزال محل جدل، لا قرار دولة.
في الأثناء، يشعر الشعب الألماني بالتصدع، وتعكس استطلاعات الرأي تزايد خيبة الأمل من حلف الناتو، ومن سياسة الطاقة، وحتى من استراتيجية ألمانيا تجاه أوكرانيا نفسها. فالألمان، كما يرى أنييلي، لا يسعون للتحالف مع موسكو أو ضدها، بل "يتساءلون إن كان من المنطقي التضحية بالرخاء من أجل حرب أبدية لا يمكن الانتصار فيها".
هذه ليست مجرد استعارة؛ فألمانيا تواجه شتاءً فعليًا مع انخفاض احتياطيات الغاز، وانهيار في البنية التحتية، وتحول في مجال الطاقة "قائم على الأمل، لا على الهيدروجين". يضيف الباحث ساخرًا: "مع تعطيل خط أنابيب نورد ستريم، وشيطنة شركات الطاقة الروسية، تتطلع ألمانيا غربًا للحصول على الغاز الطبيعي المسال، وشرقًا للحصول على المواد الخام، لتجد السياسة الأميركية في حالة تخبط، والصين تنتهز الفرص لتلعب لعبتها الطويلة".
ويشير إلى أن البراغماتية التي اشتهرت بها ألمانيا سابقًا أفسحت المجال لما يسميه "الشلل الأيديولوجي". فبرلين ترفض قيادة أوروبا، وترفض أيضًا أن تتبع. وهكذا أصبحت "عالقة بين الفضيلة والضرورة"، و"أقرب لما كان يخشاه نيتشه: فاعل سياسي يتفاعل مع الأحداث بدل أن يصنعهاّ. ومع تراجع ألمانيا، "يتلاشى أيضًا الحلم الأوروبي الذي كانت تحتضنه يومًا ما".
خادمو الإمبراطورية.. بريطانيا وفرنسا ومسرح الكذب السياسي
يؤكد الباحث أنييلي أن باريس ولندن لا تقودان أي مشروع سياسي أوروبي مشترك، بل تنجرفان أكثر نحو الهيمنة الأميركية. ويصرح قائلًا: "عبر المسرح المتعفن للتاريخ الغربي، لا يزال هناك ظلان باهتان يتمثلان في بريطانيا وفرنسا، الدولتين اللتين سادتا القارات يومًا، قبل أن تتحولا إلى شبحين استعماريين عالقين في ذاكرة العالم". حتى حين تتحدث سياستهما بلغة القيادة، فإن الصوت الصادر عنهما يبدو أجوف، تنقله مؤسسات لم تعد مرهوبة، وحدود لم تعد مقدسة، وتحالفات لم تعد تحظى بالاحترام.
يضيف أنييلي: "لقد تحرك العالم إلى الأمام، لكن هذين الشبحين الاستعماريين ما زالا عالقين في كهرمان الوهم".أما بريطانيا، فيشبه الباحث خروجها من الاتحاد الأوروبي بـ"الطلاق الذاتي"، ويضيف "في فصل نفسها عن أوروبا، كانت تأمل بإحياء هويتها الإمبراطورية، لكن ما انبثق لم يكن قوة أطلسية، بل شبحًا ممزقًا من التناقضات، بريطانيا تتدثر بخطاب الناتو، وتتلحف بعلم أوكرانيا، لكنها عاجزة عن الحفاظ على التماسك الداخلي أو وقف الانهيار الاقتصادي".
وفي تفسير هذا الضعف، يشير أنييلي إلى أن بريطانيا ترسل أسلحة لا تستطيع تعويضها، وتدرّب قواتها بينما تتآكل ثكناتها من آثار التقشف، وتستضيف قممًا تنادي بسيادة القانون، بينما تغرق داخليًا في فوضى قانونية بسبب أزمات اتحادها: اسكتلندا تلوّح بالانفصال، وأيرلندا الشمالية تنبض بالقلق. "وحتى إنجلترا نفسها تنجرف نحو شعبوية وقومية تنخر جسدها السياسي". ويخلص إلى أن السياسة الخارجية لبريطانيا "تتدحرج نحو المهزلة"، ووسائل إعلامها "تتشبث بأوهام عصر فوكلاند". فبريطانيا، التي كانت ذات يوم مهندسة الإمبراطورية، لا تصمم اليوم سوى خرائط الحنين.
أما في ما يخص فرنسا، فيرى الباحث أن رئيسها إيمانويل ماكرون يحاول محاكاة شارل ديغول، مؤسس الجمهورية الخامسة، لكنه يحكم دولة تخشى الإضرابات العمالية أكثر من التهديدات العالمية. "فرنسا تتحدث عن السيادة الأوروبية والاستقلال الاستراتيجي، لكنها مهمّشة من واشنطن، غير موثوق بها من برلين، وغائبة تمامًا عن مسرح الصراع في أوكرانيا"، حيث لا تجد مبادراتها للتوسط مع روسيا آذانًا صاغية.
كما أن تدخلاتها في إفريقيا تتهاوى تحت وطأة التمرد والازدراء، في حين تحولت ترسانتها النووية، التي كانت ذات يوم رمزًا للاستقلال، إلى بقايا من عالم يحكمه منطق جيوسياسي وأمني مختلف.
ويختم الباحث هذا القسم بملاحظة لاذعة: "باريس تحترق، لا بسبب الحرب، بل من الداخل".فأعمال الشغب، واحتجاجات التقاعد، والغضب الشعبي، كلها تكشف عن "جمهورية منهكة بتناقضاتها".فرنسا تحاضر العالم عن الحرية والمساواة والأخوة، بينما تكافح لحماية الحد الأدنى من التماسك داخل جمهوريتها الخامسة.
محور الجرحى.. صعود القوى الناقمة على الغرب
في مقابل التراجع الغربي، يشير أنييلي إلى ظهور كتلة دولية مختلفة، يصفها بـ"محور الجرحى"، تتشكل من الصين، والهند، وإيران، وكوريا الشمالية. هذه الدول، وفقًا له، لا تتحدث بصوت موحد أو رؤية أيديولوجية مشتركة، لكنها "تقدّم اليوم صدىً للعالم الجديد، الذي يتشكل في الصمت الذي خلّفه تفكك القوى الغربية".
ترتفع أصوات هذه القوى، كما يرى الباحث، "ليس في انسجام دائم، ولكن في وضوح وثبات"، والجامع بينها ليس المبادئ ولا القيم المشتركة، بل "الاستياء من طغيان الهيمنة الغربية". يقول أنييلي: "ما يوحّد هذه الدول ليس توافقًا أيديولوجيًا، بل مظالم متراكمة، وصدمات تاريخية، وسياسة قهر غذّتها عقود من الازدراء الغربي".
الصين.. المتفرج المراقب
في تحليله للسياسة الخارجية الصينية، يرى أنييلي أن "بكين لا تلعب لعبة التعاطف، بل تراقب عن كثب التآكل الذي ينخر جسد الكتلة الغربية".كل دولار يُنفق في أوكرانيا هو، بالنسبة لها، دولار لن يُستثمر في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وكل دبابة تُدمّر في خاركيف تعني وجودًا عسكريًا أقل في تايوان. دعم الصين لروسيا هو، كما يصفه الباحث، "دعم جراحي": تكنولوجيا بلا بصمات، وتجارة بلا معاهدات، وموافقة على السياسات الروسية من دون تبنّي المنهج. فـ"عقيدة بكين ليست التدخل، بل الاستغلال الذكي".إنها تنتظر تفكك حلف الناتو، وانقسام الغرب، كي تتاح لها فرصة بسط هيمنتها الخاصة.وبالنسبة لبكين، كما يرى أنييلي، "أوكرانيا هي طاحونة الغرب نحو الانهيار"، وشي جين بينغ لا يؤمن بالحروب، بل بالإنهاك البطيء الذي سيفتك بالمعسكر الغربي.
الهند.. قوة التحوّط
أما الهند، فهي تمارس "الصمت الحذر"، لكن هذا الموقف، كما يشير أنييلي، "ليس سلبيًا، بل يمثل توجهًا استراتيجيًا محسوبًا".فدلهي "تحافظ على توازنها بين الأطراف: تستورد النفط من روسيا، وتتودد إلى التكنولوجيا الأميركية، وتراقب أوروبا من بعيد"، كأنها "محارب يتأمل فرسانًا مخمورين". ويتابع أنييلي: "الهند لا تسعى إلى تشكيل قطب خاص بها، بل تنتظر انهيار الغرب من الداخل، لتصعد من دون مقاومة. "ليست صديقة للغرب ولا عدوة له، إنما سياستها الخارجية تقوم على إرث حضاري وذاكرة طويلة، وهي تتحيّن الوقت المناسب لاستخدامهما.
إيران وكوريا الشمالية.. العزلة التي أنجبت المقاومة
يرى أنييلي أن إيران وكوريا الشمالية لا تسعيان لتحقيق انتصارات جيوسياسية بقدر ما تشكلان "مختبرات للفوضى"، أو دولًا "معزولة ومعاقبة" طوّرت نمطًا خاصًا من المقاومة.
فالنيران التي تشعلها الولايات المتحدة وأوروبا في مناطق أخرى ليست مجرد حروب، بل "حروب استنزاف تُنهك اقتصادات الغرب الذي يُجبر على تمويل الخراب".وفي نظر الباحث، فإن ما يبدو عدوانية من طهران أو بيونغ يانغ، هو في الواقع نتيجة "للمعايير الغربية المزدوجة".فقد باتت شعوب العالم تدرك أن هاتين الدولتين "ليستا مجرد فاعلين مارقين"، كما يصنفهما الغرب، بل ضحيتان لهيمنة فشلت في دمجهما، فأنجبت انتقامًا لا معارضة فقط.
تصفية حسابات عالم ما بعد الغرب
يرى الباحث أنييلي أن ما يحدث في أوكرانيا ليس مجرد حرب دفاعية عن كييف، بل "انهيار لأحلام عصر التنوير"، ذلك العصر الذي ألهم يومًا البرلمانات والثورات، ونُسجت مبادئه في دساتير قارّات بأكملها. ويتساءل: ماذا يحدث حين تصبح السياسة وهمًا، وتتحول الحرب إلى الملاذ الأول؟
يتابع أنييلي: "لقد نسي الغرب، في مسرحه الأخلاقي، أن الإمبراطوريات لا تنهار فقط بفعل الحروب، بل تتصدع وتتآكل من الداخل، بينما تواصل التظاهر بالصمود". فـألمانيا تتظاهر بالقيادة، وبريطانيا تدّعي الأهمية، وفرنسا تتباهى بالإلهام، وأمريكا تزعم أنها تقود العالم. لكن "الستار قد أُسدل"، والعالم يشاهد الآن مسرحًا يقدم فيه اللاعبون "مناجاة لأنفسهم أمام مسرح فارغ"، كما يصف الباحث. فالدول لم تعد تتحدث بلغة المعاهدات، بل بلغة الصفقات، ولم يعد القادة يؤمنون بالقيم، بل بالنفوذ الاستراتيجي. ويرى أن التراجع الغربي يكشف شيئًا أعمق من الهزيمة السياسية أو الاقتصادية: "إنه مأساة العقل"، وانهيار للأساطير التي بنت قرنًا كاملاً من الهيمنة الغربية.
ما تكشفه هذه اللحظة التاريخية ليس مجرد فشل في السياسات أو التحالفات، بل انكشاف لفراغ أخلاقي وعقلي يضرب في عمق السردية الغربية. فبينما تتسابق العواصم على ترديد شعارات الحرية والديمقراطية، تتحول مؤسساتها إلى مسارح لجمود استراتيجي، وخوف وجودي من عالم لم يعد يُدار من بروكسل أو واشنطن.
الحرب في أوكرانيا ليست مجرد صراع حدود، بل نقطة انعطاف تكشف عمق الانفصال بين خطاب الغرب وواقعه، بين صورته عن نفسه، ومكانته الفعلية في نظام عالمي يتشكل بلا إذنه . لم يعد العالم يدور حول الغرب. بل يدور الغرب الآن حول أسئلة وجوده نفسه.

غلين دايسن - أستاذ في جامعة (USN) جنوب شرق النرويج
حين تنهار الإمبراطورية من الداخل.. الولايات المتحدة من القمة إلى التيه
تتبع جميع الإمبراطوريات النمط التاريخي نفسه: إمبراطورية تبلغ أوج مجدها فتثير "الحسد"، فتتحد ضدها الإمبراطوريات الأخرى لإسقاطها. هكذا يصف البروفيسور غلين دايسن ما نعيشه اليوم في الساحة الدولية.
"الغرب، الذي يرفض مبدأ التعايش السلمي، ينتقل من كونه إمبراطورية إمبريالية إلى إمبراطورية متفككة"، على حد قوله. وعادةً ما يتّسم هذا الانتقال، كما يضيف، بـ"الإنكار المتعنت لدى قادة الإمبراطورية الآخذة في الانحطاط"، وتتخلله "محاولات لإبطاء هذا التراجع عبر منع صعود القوى البديلة". ويتحدث الباحث عن "إسرائيل" بوصفها "مفارقة تاريخية"، مذكرًا بأن المئة وخمسين عامًا الماضية شهدت نضالات ضد الاستعمار وإنهاء الكولونيالية، متسائلًا: "كيف يمكن لـ ‘إسرائيل’، وهي كيان استيطاني استعماري، أن تستمر في القرن الحادي والعشرين الذي يُفترض أنه مناهض للاستعمار؟"
الغرب المتفكك ومفارقة ‘إسرائيل’"
يؤكد البروفيسور دايسن أن "إسرائيل" تمثل امتدادًا لمشروع أمريكي يائس يسعى إلى التمسك بهيمنة عالمية آخذة في التآكل من جميع الجهات. فمنذ قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قصف المنشآت النووية الإيرانية، بدأت تتعالى أصوات من كلا الحزبين في واشنطن تقول: "لقد سددنا ديننا لـ ‘إسرائيل’". وهو ما يعبّر، حسب دايسن، عن نزعة متنامية داخل الولايات المتحدة نحو الانسحاب من التزاماتها تجاه "إسرائيل".
ويشير إلى أن هذا الكيان لم يكن يواجه سابقًا عداءً حادًا، لكن يبدو اليوم أن حتى أشد الأمريكيين تطرفًا، لا يظهرون رغبة حقيقية في التورط مجددًا في نزاعات الشرق الأوسط. فالبيئة السياسية والشعبية الأمريكية، كما يرى، لم تعد مستعدة لتحمل تكاليف ذلك، لا ماليًا ولا أخلاقيًا، خاصة في ظل انكشاف تناقضات السياسات الإمبريالية.
تفكك داخلي… من سحق العمّال إلى صعود الشعبوية
يواصل الباحث تحليله، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة، في ذروة تفوقها الإمبراطوري، أسست اقتصادًا ليبراليًا قائمًا على مبدأ السوق الحرة وحرية تنقل الأفراد ورؤوس الأموال، وهي المبادئ التي نظّر لها ديفيد ريكاردو واعتُمدت كمسلمات في الجامعات الغربية الكبرى.
وقد مكّن هذا النموذج الولايات المتحدة من امتصاص ثروات العالم، لكون صناعاتها وتقنياتها كانت الأكثر كفاءة وابتكارًا. إلا أن الأمور انقلبت اليوم، إذ باتت الليبرالية الجديدة تُحمَّل مسؤولية تراجع الغرب، وبدأت تلقى الرفض في معظم بقاع العالم.
لم يعد ترامب يتحدث عن "الأسواق الحرة"، بل عن "الأسواق العادلة"، وهو مفهوم مستوحى من الخطاب اليساري الذي صاغ فكرة التجارة العادلة دعماً للدول النامية. لكن المفارقة أن ترامب يستخدم هذا المفهوم ليبرّر فرض الحواجز في كل الاتجاهات: اقتصاديًا عبر الرسوم الجمركية، اجتماعيًا ببناء الجدران الشائكة "لمكافحة" الهجرة، وسياسيًا من خلال العقوبات والحروب ضد كل من يُعتبر منافسًا.
بنبرة لا تخلو من التهكم، يتحدث البروفيسور دايسن عن مسيرته الأكاديمية، مشيرًا إلى أن العديد من طلابه، الذين أصبح معظمهم أساتذة في جامعات أخرى، إما عاجزون حاليًا عن العثور على وظيفة أكاديمية، أو مضطرون للجمع بين العمل الأكاديمي ووظائف أخرى "من أجل البقاء على قيد الحياة".
يستند الباحث إلى هذا المثال لتسليط الضوء على إغلاق الجامعات وتقليص البرامج الاجتماعية لصالح تضخيم ميزانية التسليح، مضيفًا أن أحدًا لا يربط بين هذه التحولات وبين الانهيار البنيوي الذي تعيشه الإمبراطورية الأمريكية، رغم وضوح الترابط.
ويشير إلى أن العقود الأربعة الماضية شهدت عملية إعادة توزيع هائلة، وغير عادلة، للثروة داخل الولايات المتحدة، حيث انتقلت من القاعدة والطبقة الوسطى إلى القمة، لا سيما نحو الـ1% الأكثر ثراءً، مثل إيلون ماسك وجيف بيزوس، الذي "خصخص" مدينة البندقية لإقامة حفل زفافه.
الضحايا الرئيسيون لهذا التراكم التصاعدي للثروة هم عمال المصانع البيض المنتمون إلى النقابات، الذين خسروا كل شيء بسبب نقل المصانع إلى دول أخرى، أو نتيجة إلغاء التصنيع والتوجه نحو اقتصاد الخدمات.
يشير البروفيسور دايسن إلى أن "الساحل الشرقي والساحل الغربي للولايات المتحدة احتفلا بانتصار الليبرالية الجديدة، بل واعتبرا تحطيم الفئات العمالية إنجازًا ضروريًا"، مشددًا على أن هذا السلوك كان مدفوعًا بغطرسة طبقية وازدراء صريح للفقراء.
لقد أُقنع هؤلاء "التعساء" بأن الاقتصاد الأمريكي يزدهر، وأن كل شيء يسير على ما يرام، وأن المشكلة الوحيدة تكمن في عجزهم عن التأقلم أو الكفاءة أو حتى مجرد "الجدارة". ويتحدث دايسن عن ما يسميه "تعذيبًا نفسيًا حقيقيًا"، حيث يدفع هذا الإيهام المنهجي عشرات الآلاف من الأمريكيين سنويًا نحو الانهيار الذاتي، فيُقدم نحو 100,000 شخص على تدمير أنفسهم عبر تعاطي المواد الأفيونية.
هذا الانهيار الاجتماعي العميق، بحسب دايسن، هو ما يفسر نجاح ترامب في كسب أصوات أعداد متزايدة من الأمريكيين المتمسكين بحلم لم يعد قابلًا للتحقق، لكنه لا يزال يمنحهم وهمًا بالكرامة والانتماء في واقع شديد القسوة.
وفي الوقت نفسه، شهدت العقود الثلاثة الماضية بروز حركة اجتماعية متصاعدة من الأمريكيين السود، واللاتينيين، والنساء، الذين لم يعودوا يقبلون بأن يُعاملوا كمواطنين من الدرجة الثانية. ويشير الباحث إلى أن ساسة انتهازيين، مثل ترامب، سعوا إلى استغلال هذا التحول من خلال إقناع الفقراء البيض بأن تدهور أوضاعهم المعيشية سببه سياسات الديمقراطيين، الذين فتحوا الأبواب أمام المهاجرين.
ويؤكد دايسن أن عدد سكان الولايات المتحدة يبلغ نحو 330 مليون نسمة، من بينهم فقط ما بين 10 إلى 12 مليون مهاجر غير موثق، وهم في الغالب يعملون بجدّ، ومعدلات الجريمة في صفوفهم أقل من المعدلات المسجلة لدى الأمريكيين المولودين داخل البلاد.
لكن، رغم هذه الحقائق، يستمر الخطاب السياسي في تجاهل الأسباب البنيوية الحقيقية لانهيار الطبقة العاملة البيضاء، وعلى رأسها هيمنة النظام الرأسمالي، وأصحاب رؤوس الأموال الذين يفضلون نقل استثماراتهم إلى بلدان منخفضة الكلفة، أو استقدام عمال مهاجرين بأجور زهيدة لملء قطاعات لا يمكن ترحيلها مثل المطاعم، والخدمات، والمتاجر الصغيرة.
في السياق ذاته، يذكّر البروفيسور دايسن بأن الولايات المتحدة ركزت، خلال تسعينيات القرن الماضي، على قطاعي التمويل والتكنولوجيا، وقررت تحويل قاعدة التصنيع إلى الصين، بهدف تحقيق أرباح أكبر للمستثمرين. هذا الخيار، الذي اتُّخذ بتوافق بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ساهم في تعميق تبعية الاقتصاد الأمريكي للمضاربة المالية، على حساب الإنتاج الحقيقي.
ويشير الباحث إلى أن أياً من الحزبين لا يجرؤ حتى اليوم على مساءلة هذه القبضة الخانقة التي تمارسها القوى المالية على الاقتصاد، أو على مراجعة نموذج النيوليبرالية الذي فَرض هيمنة رأس المال على السياسة.
ونتيجة لذلك، يُترك أولئك "التعساء"، الذين تحطمت أوهامهم، بلا خيار سوى التعلق بشخصيات مثل ترامب، التي تقدّم لهم خطابًا شعبيًا غاضبًا، يُوهمهم بالتمرد على النخبة، بينما يعيد إنتاج البنية نفسها التي أدّت إلى تهميشهم.
حين تصبح الإمبراطورية عبئًا على العالم... وعلى نفسها
حتى تتمكّن سردية الساسة الأمريكيين من حشد المزيد من التأييد الشعبي، يرى البروفيسور دايسن أن اليمين الأمريكي سيندفع نحو مزيد من الانحرافات الدراماتيكية، لافتًا إلى أن ما قامت به إدارة بايدن تجاه إيران لن يكون كافيًا لضمان استمرار تلك السردية.
ويعتقد دايسن أن الوضع الحالي سيتواصل "حتى يصبح غير قابل للاحتمال"، متسائلًا عن كيفية تفاعل دول البريكس، وخصوصًا الصين وروسيا وإيران، مع هذه المناورات الأمريكية المتكررة.
ويشير الباحث إلى تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي أفادت بأن إيران ربما أرسلت اليورانيوم المخصّب إلى دولة أخرى قبل تعرّض منشآتها للقصف، محذرًا من أن صحّة هذه المعلومات قد تدفع طهران إلى اتخاذ قرار استراتيجي باقتناء سلاح نووي.
أما بالنسبة إلى الصين وروسيا، فيؤكد دايسن أن قادتهما باتوا يدركون، بشكل متزايد، أنه لم يعد هناك في الولايات المتحدة من يمكن وصفه بـ"العاقل" القادر على خوض مفاوضات مسؤولة بشأن القضايا الدولية الحساسة.
يرى البروفيسور دايسن أن الأوضاع ستستمر على هذا المنوال، وأن العالم يشهد تراجعًا مطّردًا في التسامح مع دعاة الحروب الغربيين، خاصة مع استمرار الإبادة الجماعية في غزة، وتصاعد الحرب في أوكرانيا. كلما طال أمد هذه النزاعات، ازدادت الكراهية تجاه الولايات المتحدة و"إسرائيل"، وتفاقمت مشاعر الرفض للغرب بوجه عام، لا فقط على المستوى السياسي، بل أيضًا الأخلاقي والإنساني.
وفي مواجهة هذا الواقع، يعتبر دايسن أن الأمل الوحيد القابل للبناء عليه يتمثل في تقوية الجناح الشعبي داخل الحزب الديمقراطي، الذي يمثله سياسيون مثل بيرني ساندرز وألكسندريا أوكاسيو-كورتيز وآخرين ممن يسعون إلى إعادة تعريف العلاقة بين السياسة الأمريكية والمصالح الشعبية، بعيدًا عن الولاءات المطلقة لأصحاب رؤوس الأموال ومراكز النفوذ.
يشير البروفيسور دايسن إلى الحراك الانتخابي في نيويورك، حيث يتواجه في الانتخابات البلدية مرشحان من الحزب الديمقراطي، أحدهما هو "زهران ممداني"، الذي يصف نفسه صراحة بأنه اشتراكي، ويخوض حملته ضد "أندرو كومو"، أحد رموز التيار الوسطي داخل الحزب. ويرى الباحث أن هذا التنافس يمثل إشارة فارقة إلى التحول الجاري داخل البنية السياسية الأمريكية، تحول لم يحدث بمثل هذا الوضوح منذ أكثر من 75 عامًا.
وفي قراءته لهذا التحول، يعتقد دايسن أن الجناح اليساري داخل الحزب الديمقراطي قد يجرؤ أخيرًا على التحرر من وصاية المانحين المليارديرات، الذين يديرون النظام السياسي وفق مصالحهم الاقتصادية الضيقة، ويملون على الساسة البرامج والتوجهات التي تضمن استمرار احتكارهم للثروة والسلطة.
يستحضر البروفيسور دايسن مشهد تنصيب دونالد ترامب رئيسًا، ملاحظًا أن من ظهروا خلفه على المنصة لم يكونوا قضاة ولا سياسيين تقليديين، بل أصحاب رؤوس الأموال مثل إيلون ماسك، ومارك زوكربيرغ، وجيف بيزوس وخطيبته. ويقرأ دايسن هذه الصورة بوصفها تعبيرًا صارخًا عن واقع جديد: ترامب لم يكن رئيسًا لحكومة تمثل الشعب، بل لحكومة تمثل مالكي رأس المال، الذين لا ينتجون شيئًا بأنفسهم، ولكنهم يموّلون السياسات التوسعية وخطط الهمنية للولايات المتحدة، بما في ذلك الحروب والعقوبات والابتزاز الاقتصادي.
وبحسب دايسن، فإن هذه الطبقة المالية ليست فقط شريكة في القرار السياسي، بل باتت تمثل بنيته التحتية الفعلية، وتتحكم في مساراته وتوجهاته الكبرى، محولة الدولة إلى أداة لخدمة مصالحها العابرة للحدود.
يرى البروفيسور دايسن أن الإمبراطورية الأمريكية في حالة تراجع واضح، وعلى ساستها الاعتراف بذلك ومواجهة الواقع كما هو. فالحقيقة، في نظره، أن الولايات المتحدة باتت مضطرة للجلوس مع الإيرانيين والصينيين والروس، للتفكير الجماعي في كيفية التعايش السلمي على هذا الكوكب، دون هيمنة أو استعلاء.
ويستحضر الباحث النموذج البريطاني-الأمريكي من القرن التاسع عشر لتسليط الضوء على المسار البديل الممكن. فعندما قررت الولايات المتحدة الاستقلال، خاضت الإمبراطورية البريطانية حربًا ضدها في عام 1776، وهي الحرب التي يحيي الأمريكيون ذكراها كل عام في الرابع من يوليو. وبعد هزيمة بريطانيا، عاد الطرفان، بحلول منتصف القرن التاسع عشر، إلى صيغة تعايش وتقاسم للنفوذ: هيمنت الولايات المتحدة على أمريكا اللاتينية، فيما احتفظت بريطانيا ببقية العالم. ولم تقع بينهما حرب أخرى منذ ذلك الحين.
ويرى دايسن أن هذا ما ينبغي فعله اليوم إذا أراد العالم الخروج من دائرة الرعب التي تفرضها المغامرات العسكرية الأمريكية. ويعني ذلك، كما يقول، التحرر من السياسات التي تضعها واشنطن، وبناء منظومة اقتصادية وسياسية وعسكرية بديلة، تبدأ بتخفيض الإنفاق العسكري الأمريكي، الذي يعادل حاليًا مجموع إنفاق الدول التسع التالية لها مجتمعة.
إعادة تنظيم السياسات الأمريكية، على هذا الأساس، هي في رأي دايسن السبيل الوحيد نحو إعادة ترسيخ علاقات دولية عادلة، متوازنة، وغير قائمة على الهيمنة أو القسر.
من هو غلين دايسن؟
غلين دايسن، أستاذ في جامعة جنوب شرق النرويج (USN)، وباحث متخصص في الجغرافيا السياسية والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على السياسة الخارجية الروسية ومنطقة أوراسيا الكبرى. تتناول أعماله التحولات في النظام الدولي، وتفكك الهيمنة الغربية، وصعود التعددية القطبية.

الدكتور ناصر زميط، باحث ومستشار في العلاقات الدولية (فرنسا)
الطلقة الأولى لحرب طويلة.. حين تسقط الإمبراطوريات من الشرق
ليس من الواضح تماماً حتى الآن إلى أي مدى تضرر برنامج الأسلحة النووية الإيراني بسبب الهجمات الأميركية–"الإسرائيلية"، ولكن من الصعب أن نشك، وخاصة في ضوء رد إيران الضعيف، في أن الضرر حقيقي ودائم.
ومرة أخرى، وبشكل ضمني، يزعم الغرب لنفسه الحق في تحديد أين تتوقف قواعد القانون الدولي. بقية العالم لا تنخدع بهذه الأساطير. ربما باستثناء "نتنياهو" الذي تبدو حريته في اتخاذ المبادرات شبه كاملة، لا أحد لديه أي مصلحة في التغيير القسري للنظام في إيران. هذا لن يحدث. ومن شأن هذه الاستراتيجية أن تؤدي إلى سيناريو ليبي أو سوري. سوف تنهار إيران بين الفرس والأكراد والأذربيجانيين، وفي حال حدوث هذه الفوضى لن يتمكن أحد من السيطرة عليها بعد ذلك.
في يونيو الماضي، تعرضت ثلاثة مواقع نووية إيرانية، "فوردو" و"نطنز" و"أصفهان"، لقصف من قبل قاذفات أميركية. إن هذا الهجوم غير القانوني تماماً من وجهة نظر القانون الدولي، لم يكن مبنياً على أي تفويض من الأمم المتحدة، ولا إذناً من الكونغرس، ولم يكن رداً على أي هجوم من جانب إيران. لقد كان قرارًا غير قانوني وأحادي الجانب، وغير شرعي تماماً.
وكان دونالد ترامب قد ادعى أن الجيش الأميركي دمّر ثلاثة مواقع نووية إيرانية، خلال الضربات التي نُفذت من ليلة السبت 21 يونيو إلى الأحد 22 يونيو. وكان "نتنياهو" يأمل في هذا التدخل العسكري لمدة تسعة أيام، حيث شن في 13 يونيو هجوماً عسكرياً على الجمهورية الإسلامية، "بهدف تدمير برنامجها لتخصيب اليورانيوم". لكن هذا الهجوم فاجأ أيضاً بعض المراقبين، في حين بدا الرئيس الأميركي متردداً في إشراك الولايات المتحدة في صراع جديد.
مرة أخرى، تم انتهاك القانون الدولي، ناهيك عن دفنه نهائياً... مزيد من القواعد الجماعية، ومزيد من الاحترام للقانون الدولي، هي عبارات تُعيد إحياء مجرد حلقة جديدة في مسار استعباد العالم. إن هذا الهجوم كان تحت تأثير النشوة بالقوة، ولكن في واقع الأمر لم يحمِ أي مصلحة حيوية أميركية. ولم تستجب تلك الضربات العسكرية لأية ضرورة استراتيجية أو وطنية أو غربية. لقد اتبعت فقط أجندة اليمين المتطرف المسيحاني الصهيوني. في واقع الأمر، لم تعد واشنطن تأمر، بل أصبحت تنفذ.
هيمنة إقليمية بدلاً من هيمنة عالمية
ونلاحظ بشكل خاص أن كياناً إقليمياً صغيراً، عازماً على حماية مصالحه الحيوية وحده بكل الوسائل، قادر على قيادة قوة عالمية كبرى، كالولايات المتحدة، إلى المغامرة العسكرية، على الرغم من أننا جميعاً شهدنا نتائج الحروب على العراق، أو أفغانستان، أو ليبيا.
ومن خلال التصرف بهذه الطريقة، تظهر الولايات المتحدة الآن في نظر العالم كقوة مزعزعة للاستقرار، ومتراجعة في مواجهة صعود الصين إلى السلطة. في حين تعمل الصين والجنوب الكبير، من ناحية أخرى، كقوة لإعادة التوازن (خاصة الصين وروسيا)، اللتين أصبحتا قوتين لتحقيق الاستقرار من خلال مجموعة البريكس الموسع.
لكن في مواجهة هذه الأحداث، وخلف طهران، هناك قوتان تظهران بصفة المراقب للأوضاع. أولاً، روسيا التي تعتبر إيران حاجزاً استراتيجياً، لا سيما في منطقة القوقاز وحول بحر قزوين. وثانياً، الصين التي ترى في إيران مورداً طاقوياً استراتيجياً. الصين لا يمكنها أن تسمح بانهيار نقطة ارتكاز حيوية في ما يُعرف بـ«طريق الحرير» الخاص بها. لذلك، من غير المحتمل أن تظل موسكو وبكين مكتوفتي الأيدي أمام احتمال اندلاع نزاع في المنطقة.
حسابات موسكو الدقيقة
في يناير 2025، أبرمت إيران وروسيا شراكة استراتيجية شاملة، صادق عليها برلمانهما بسرعة. رغم مظهر التحالف العسكري المعزز، لا يتضمن هذا الاتفاق أي بند يفرض تقديم المساعدة في حال تعرض أحد الطرفين لهجوم خارجي. بل تلتزم الدولتان فقط بعدم دعم قوة معادية.
هذا الموقف يعكس ثباتاً في الدبلوماسية الروسية: تأكيد التضامن المبدئي مع الحفاظ على أقصى قدر من المرونة الاستراتيجية.
في هذا السياق، كانت هذه الحرب القصيرة، رغم احتمال تسببها في زعزعة الاستقرار، مفيدة لموسكو على المدى القصير. إذ سمح الصراع في الشرق الأوسط بتحويل الانتباه مؤقتاً عن أوكرانيا، مما مكّن الكرملين من تكثيف عملياته العسكرية ضد كييف. وكان الهجوم الذي بدأ بعد ذلك من بين الأكثر دموية في الأشهر الأخيرة. تُظهر هذه المرحلة مدى إدراك روسيا أن الحرب في أوكرانيا ليست فقط مركزية لأمنها، بل أيضاً محور سياستها الخارجية.
هذا التركيز يفسر التراجع التدريجي في الالتزام الروسي تجاه شركائها «الهامشيين». ففي 2023، أظهرت موسكو عدم تحركها خلال الهجوم الأذري على "ناغورني قره باغ"، رغم وجود معاهدة دفاع تربطها بأرمينيا.
كما أن سقوط نظام بشار الأسد في سوريا لم يفضِ إلى رد فعل عسكري كبير، حيث اكتفت روسيا بعرض اللجوء للرئيس بشار الأسد. يبدو جلياً أن هذه القرارات تتماشى مع منطق تركيز الموارد على الجبهات التي تعتبرها وجودية.
فيما يخص إيران، كانت العلاقة الثنائية مكثفة لكنها عملية. بعد تزويد موسكو بكميات كبيرة من الطائرات المسيّرة والخبرات التقنية، تشهد طهران اليوم تراجع نفوذها. إذ باتت روسيا قادرة على إنتاج هذه المعدات محلياً، كما قامت بتنويع مصادر توريدها. علاوة على ذلك، ساهمت الأزمة في ارتفاع ملحوظ بأسعار النفط، مما وفّر بحبوحة مالية لموسكو.
لكن هذا التريث يفسر أيضاً بأسباب أعمق، حيث تسعى موسكو للحفاظ على علاقاتها مع "إسرائيل"، التي يعيش فيها مليونان من أصل روسي، مما يجعل الروسية ثاني أكثر اللغات استخداماً في "إسرائيل" بعد العبرية.
أما دول الخليج وواشنطن، لا سيما في إطار الحوار البراغماتي الذي يتجدد تحت إدارة ترامب، فهي لا تمانع في سقوط النظام الإيراني، مع الحفاظ على موقف ظاهر بعدم التدخل في الصراع. كما تراقب هذه الدول بقلق طموحات إيران النووية، التي تُعتبر منافساً محتملاً في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى أكثر منها تابعة.
لذلك، تتبع روسيا استراتيجية إدارة المخاطر، مفضلة الحفاظ على هامش المناورة ومصالحها الأساسية، بدلاً من الانخراط في تضامن مكلف. دعم موسكو لإيران يبقى محسوباً بدقة، مشروطاً بضرورات الحذر، والأولويات الجيوسياسية، وإدارة حالة عدم اليقين الإقليمية.
أما فيما يتعلق بالصين، فكانت هذه الحرب التي استمرت 12 يوماً ذات دلالات عدة. فقد درست بكين عن كثب حملة التخريب التي نفذها الكيان الصهيوني ضد إيران. وقد أبدى المحللون الصينيون قلقهم من سرعة نجاح أجهزة الاستخبارات "الإسرائيلية" في تحييد الدفاعات الإيرانية، والوصول إلى أهداف رئيسية وحساسة.
واتبعت الضربات "الإسرائيلية" الأولى على إيران نمطاً واضحاً، يقوم على شل الدفاعات الجوية، وتحييد الرؤوس القيادية، والضرب بطائرات مسيرة رخيصة التكلفة، بالإضافة إلى تحريك فرق تخريب تسللت إلى الأراضي الإيرانية. وكان اللافت هو نقاط الضعف في البنية التحتية الاستراتيجية والدفاعية لإيران.
في كثير من النواحي، تمثل هذه حرباً جديدة، حيث تمكن عملاء سريون داخل إيران، عبر التخريب، من تحقيق أهداف كبرى دون استخدام أسلحة دمار شامل.
وهذا يبرز عدة نقاط:
• ضرورة تعزيز الأمن الداخلي وحماية المواقع الحيوية.
• الاستخدام المكثف لتكنولوجيا الطائرات المسيرة.
• ضرورة تحصين الوسائل الاستراتيجية والهجومية وإنشاء ملاجئ جوية محصنة.
• الاستقلالية وتوزيع وسائل الإنتاج والدفاع.
• ويجب الأخذ في الاعتبار أن حتى الأسلحة المتطورة لا تعوّض نقص الخبرة القتالية.
ما يتضح هو المواجهة بين قوة أميركية في تراجع وقوة صينية صاعدة. في النهاية، الفوضى في النظام الدولي، أكثر من نوايا الرجال، تدفع القوى الكبرى للسعي إلى الهيمنة.
في ظل استحالة التنبؤ بنوايا الدول الأخرى، وغياب سلطة عليا تضمن الأمن الجماعي، تُحفز القوى الكبرى العقلانية على تعظيم قوتها، ليس من أجل القوة بحد ذاتها، بل لأنها الوسيلة الأكثر أماناً لضمان بقائها.
ومع أن الهيمنة العالمية مستحيلة بنيوياً بسبب المحيطات والجغرافيا التي تعمل كحواجز طبيعية، فإن الهيمنة الإقليمية طموح يمكن تحقيقه من قبل بعض القوى. وهذا يفسر سلوك الولايات المتحدة، التي أصبحت مهيمنة في أمريكا الشمالية: تسعى لمنع ظهور مهيمنين منافسين في مناطق أخرى، من خلال تبني سياسة توازن القوى، والتدخل حيثما يهدد التوازن. في هذا الإطار، يُنظر إلى صعود الصين كتهديد وجودي، ليس لما هي عليه، بل لما يمكن أن تصبح عليه.
إذا تمكنت بكين من السيطرة على شرق آسيا، فستتمكن من التدخل في أماكن أخرى، بما في ذلك مجال النفوذ الأميركي. إن هذه القراءة تشكل اليوم النهج الاستراتيجي للولايات المتحدة تجاه الصين، متجاوزة القضايا التجارية أو التكنولوجية.
رغم أن هذه الرؤية تفسر بعض دوافع المنافسة الحالية، إلا أنها تثير سؤالاً: هل يمكن التفكير في الجغرافيا السياسية فقط بمصطلحات القوة؟
يلزم الاعتراف بأهمية دور الترابطات الاقتصادية، والمعايير، والقانون الدولي، والفاعلين غير الحكوميين، والردع النووي، مما يخفف من الحتمية الاستراتيجية الأميركية.
في الواقع، هذا الصراع لا يهدد المنطقة فقط، بل يعيد تشكيل التوازنات العالمية. ربما يتعلق الأمر ببداية المواجهات الكبرى القادمة؛ الطلقة الأولى لصراع منهجي بين الغرب، والبريكس، والجنوب العالمي. وربما بداية حرب طويلة، غير متماثلة، خارجة عن السيطرة بين الغرب والجنوب العالمي.
في النهاية، يمكن للعالم أن يستمر بدون الولايات المتحدة. بل يمكن أن يعيش بدونها. عبر التاريخ، تعاقبت الإمبراطوريات، معتقدة أنها أبدية ولا يمكن استبدالها.
قبل قرن، كانت الإمبراطورية البريطانية تسيطر على طرق التجارة، محتفظة بأكثر من 20% من ثروات العالم. في ذلك الوقت، كان كثيرون يعتقدون أن الشمس لا تغرب أبداً على الإمبراطورية البريطانية.
قبل قرنين، كانت فرنسا تهيمن على أوروبا، بقوتها العسكرية التي كانت مهيبة، وثقافتها التي كانت محط إعجاب. نابليون، بغروره، أعلن نفسه خالداً.
ونعود أبعد من ذلك، قبل 400 عام، كانت إسبانيا تملك إمبراطورية عابرة للمحيطات، من "مانيلا" إلى "مكسيكو". كانت سفنها تعود محمّلة بالفضة والحرير، وكان ملوكها يعتقدون أن مجدهم أبدي.
كل هذه الإمبراطوريات اعتقدت أنها لا غنى عنها. لكن التاريخ أظهر أن كل واحدة انتهى بها الأمر إلى التخلف. تتآكل السلطة، يتراجع النفوذ، وتختفي الشرعية عندما تصبح غير مستحقة، وتتحول إلى مجرد أمر مفروغ منه.
وإذا فقدت أمريكا احترام العالم، فستكتشف ما تعلمته كل الإمبراطوريات الساقطة متأخراً