2025.07.17
حديث الساعة
تجارة الخراب برعاية المخزن.. من راعي غنم إلى \

تجارة الخراب برعاية المخزن.. من راعي غنم إلى "إسكوبار المغرب"


لم تعد تجارة المخدرات في المغرب مجرّد نشاط إجرامي على هامش المجتمع، بل أصبحت سياسة دولة مكتملة الأركان، مدعومة بالسلطة، ومحمية بالقانون، ومكرّسة من رأس المنظومة. من طنجة إلى "الداخلة" المحتلة، ومن الرباط إلى الدار البيضاء، تتدفق أطنان القنب والكوكايين، لا لتسميم شباب المغرب فحسب، بل لتدمير المجتمعات المجاورة، وعلى رأسها الجزائر. لكن الكارثة الحقيقية تكمن فيما كشفته قضية "إسكوبار الصحراء"، التي تجاوزت كل الخطوط الحمراء، وأسقطت القناع عن مؤسسات يفترض أن تكون حصن العدالة، فظهرت متورطة حتى النخاع في منظومة تهريب عابرة للحدود.

رأس الأفعى في هذه الشبكة الإجرامية ليس إلا الحاج أحمد بن إبراهيم، الملقّب بـ "المالي"، رجل بدأ حياته راعياً بسيطاً في الصحراء، لكنّه سرعان ما تحوّل إلى بارون مخدرات مدعوم من أعلى هرم السلطة في نظام المخزن. لم يكن مجرد مهرب، بل عراباً محمياً من النظام، يستقبل السيارات الفارهة، ويُهرّب الكوكايين، ويؤسس شبكة ممتدة داخل الأجهزة الأمنية والسياسية، بل وحتى الرياضية، بفضل علاقاته الوثيقة بعدد من الشخصيات النافذة في الدولة.

بلغ الانحطاط مستوى غير مسبوق عندما ورد اسم وزير العدل المغربي، عبد اللطيف وهبي، في قلب التحقيقات. الرجل، الذي يفترض أن يكون رمزاً للعدالة وحاميها، تحوّل إلى مشتبه فيه في واحدة من أخطر قضايا تهريب المخدرات في تاريخ البلاد. في الجلسة الرابعة من المحاكمة، وُجهت اتهامات مباشرة إلى وهبي، على خلفية تدخل مزعوم لترحيل "المالي" إلى بلده الأصلي، مالي، في خطوة وُصفت بأنها "محاولة تهريب قضائي" تحت غطاء رسمي.

ففي إحدى المكالمات الهاتفية التي جمعت بين سعيد الناصيري، رئيس نادي الوداد البيضاوي، و"المالي"، ظهرت زوجة الأخير وهي تؤكد أن "وزير العدل سيتكفل بترحيله". هذه الشهادة، التي أُدلي بها أمام المحكمة، تشكّل ضربة قاتلة لمصداقية المؤسسة القضائية، وتحمل في طياتها دليلاً دامغاً على التواطؤ العلني بين السلطة والمافيا.

تواطؤ مؤسساتي من الجيش إلى البرلمان

لم يكن القضاء المغربي ليتحرك لولا الضغط الدولي والإعلامي. فقد أجبر الإعلام الدولي، بكشفه عن شبكة العلاقات السوداء التي تربط السياسيين والمهربين، القضاء المغربي على فتح هذا الملف المتعفّن، رغم أنف المخزن. وإن دل هذا على شيء، فإنه يكشف أن لا استقلال للقضاء، ولا نية حقيقية لتجفيف منابع الفساد، بل مجرد تحرك تكتيكي لامتصاص الغضب الشعبي والدولي.

الأدهى من ذلك أن المحاكمة كشفت عن تواطؤ عسكري خطير على الحدود المغربية الجزائرية، حيث أظهرت التحقيقات أن عسكريين مغربيين تلقوا رشاوي على مدى يقارب عقدين من الزمن، لتأمين عبور أكثر من 200 طن من القنب الهندي نحو الجزائر، لصالح عبد النبي بعيوي، البرلماني السابق وأحد أبرز قيادات حزب الأصالة والمعاصرة. هذه المعطيات تطرح تساؤلات خطيرة: هل نحن أمام حالة فساد فردي، أم أمام سياسة ممنهجة تستخدم المخدرات كسلاح غير تقليدي لضرب أمن واستقرار الدول المجاورة؟

كل الخيوط تعود إلى حزب الأصالة والمعاصرة، الحزب الذي كان وهبي أمينه العام، ويضم بين صفوفه أبرز المتورطين في هذه الفضيحة. سعيد الناصيري، عبد النبي بعيوي، وحتى محمد بعيوي، كلّهم رجال الحزب، وكلّهم على صلة وثيقة بوهبي، إما كمستشارين أو كممولين. فهل الحزب مؤسسة سياسية؟ أم واجهة لعصابة منظمة؟

لا عجب أن وهبي رفع عشرات الدعاوى ضد المدونين والنشطاء الذين ذكروا اسمه في هذه القضية، محاولاً خنق الحقيقة ومصادرة حرية التعبير، بدل أن يُبرّئ نفسه أمام القضاء المستقل، إن وُجد في المغرب قضاء كهذا أصلاً.

رغم صدور مذكرات توقيف من "الإنتربول" بحق "المالي"، يواصل الرجل التحرك تحت مظلة الحماية السياسية. الصحافة الدولية أكدت أن "إسكوبار الصحراء" ما هو إلا صنيعة للمخزن، أعده ورتّب له، وجعل منه أداة لتمويل المشاريع السرية، وتصفية الحسابات، وتوسيع النفوذ على حساب شعوب مغاربية بأكملها.

العدالة تحت الطلب.. محاكمات شكلية ونتائج محسومة

كل الدلائل تشير إلى أن المحاكمات الجارية ليست سوى عروض هزلية، تهدف إلى التستر على الفضيحة، لا تفكيكها. كيف يمكن انتظار العدالة من منظومة قضائية متورطة حتى النخاع، ومُسيّرة بتعليمات فوقية؟ كيف يُعقل أن تكون نفس الجهة التي تحمي المجرم هي من تحقق معه وتحاكمه؟

في خضم هذه العاصفة، تعرقل وهبي شخصياً تمرير القانون الجنائي الذي يُجرّم الإثراء غير المشروع. فهل هي صدفة؟ أم محاولة مكشوفة لحماية طبقة سياسية فاسدة، اغتنت من عرق الشعوب، ومن دماء الشباب الذين يسقطون ضحايا للإدمان والمخدرات؟ هذا التعطيل لا يمكن تفسيره إلا كجزء من منظومة متكاملة للنهب والتغطية على الجرائم.

ما يتكشف اليوم ليس فقط ملفاً جنائياً، بل هو مرآة لوجه دولة تحتقر القانون، وتُدار بعقلية العصابات. من الداخل الفاسد للقضاء، إلى التواطؤ العسكري، إلى الصمت السياسي، يتضح أن سلطة المخزنية لا تعيش إلا على تجارة الخراب، سواء عبر تهريب المخدرات أو من خلال التطبيع مع الكيان الصهيوني، أو خنق الصحافة الحرة.

قضية "إسكوبار الصحراء" ليست نهاية المطاف، بل بداية انهيار شرعية نظام يعيش على الأكاذيب ويحتمي بالفساد. الكرة اليوم في ملعب الشعب المغربي ونخبه الصادقة، فإما المطالبة بإصلاح جذري وتطهير شامل، أو ترك البلاد تنهار في مستنقع الفساد الرسمي والمافيا السياسية.

تشريعات تشرعن الفساد وتخنق صوت المجتمع المدني

وفي الوقت الذي تتكشّف فيه هذه الفضيحة التي تعري فساد مؤسسات الدولة المغربية، جاءت مصادقة البرلمان المغربي على مشروع قانون الإجراءات الجنائية لتمنح الفساد غطاءً قانونياً إضافياً، وتضعف دور المجتمع المدني في محاربته. القانون الجديد، الذي يُقيّد الجمعيات الحقوقية ويمنعها من التبليغ عن الفساد، أثار موجة غضب في الأوساط الحقوقية التي اعتبرته "حصانة متينة للصوص المال العام".

وأكد رئيس الجمعية المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان وحماية المال العام، عبد الإله طاطو، أن القانون يتعارض مع الدستور المغربي والالتزامات الدولية، خاصة اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، التي تعتبر المجتمع المدني شريكاً أساسياً في محاربة هذه الظاهرة. وأضاف أن المادة 3 من القانون تشكّل "ضرباً لاستقلالية السلطة القضائية"، وأشار إلى أن سحب الحكومة لقانون الإثراء غير المشروع يؤكد وجود نية مبُيّتة لعرقلة دور الجمعيات.

وفي السياق ذاته، وصف محمد سقراط، رئيس المنظمة المغربية لحماية المال العام، القرار بأنه "يتناقض مع الدستور ويضرب مصادقة المغرب على الاتفاقيات الدولية في الصميم"، مؤكداً أن منع الجمعيات من التبليغ عن الفساد "يفرمل أدوارها ويخنق رقابتها الشعبية". أما نبيل الأندلوسي، رئيس منتدى الكرامة لحقوق الإنسان، فقد اعتبر هذا التوجه "تراجعاً مقلقاً في المسار الديمقراطي والحقوقي"، محذراً من أن إضعاف المجتمع المدني سيعزز مناخ الإفلات من العقاب ويقوّض مبادئ الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة.

في ضوء ما سبق، يبدو أن المخزن لم يكتفِ برعاية شبكات تهريب المخدرات، بل بات يسعى لتكميم أفواه كل من يفضح فساده، عبر قوانين تشرعن السكوت وتجرّم الصراخ. إنها معركة بين مافيا مدعومة من السلطة ومجتمع مدني يُراد له أن يختفي. وفي هذه المعركة، سيُحسم مصير المغرب: فإما نهضة يقودها وعي شعبي وحقوقي مقاوم، أو غرق في مستنقع الاستبداد والمافيا المقننة.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار