ليلة الخامس عشر من يوليو 2016 ستظل واحدة من أكثر اللحظات إثارة في التاريخ السياسي الحديث لتركيا. محاولة انقلاب عسكري أربكت البلاد، وخلقت حالة من الغموض والارتباك، ثم انتهت سريعًا بفشلها وبقاء النظام الحاكم. لكن ما تلا تلك الليلة من تحوّلات عميقة في بنية الدولة والمجتمع، جعل السؤال الأهم لا يتعلق فقط بمن حاول إسقاط السلطة، بل بما حدث بعدها. بعد تسع سنوات، لا تزال الروايات متضاربة، والقراءات مختلفة. بين من يرى فيما حدث مؤامرة مدبّرة، ومن يراه تهديدًا حقيقيًا تم احتواؤه.
تظل تلك الليلة نقطة مفصلية أعادت تشكيل المشهد السياسي في تركيا، وساهمت في انتقالها من ديمقراطية برلمانية إلى نظام رئاسي بصلاحيات واسعة. هذا الملف محاولة لتتبّع ما جرى في تلك الساعات الحرجة، واستعراض تطورات ما بعدها، وتحليل كيف استُخدمت تلك اللحظة في بناء تركيا جديدة، تجمع بين الاستقرار والجدل، بين قوة الدولة وتراجع التعددية السياسية.
بدت تركيا في ليلة 15-16 يوليو 2016 تشبه إلى حد كبير المشهد الافتتاحي لفيلم "رجل الفولاذ" عام 2013. فقد قامت عناصر غير راضية من الجيش بانقلاب ضد النخبة السياسية التي رأوا أنها بعيدة عن الواقع، والأسوأ من ذلك أنها "خائنة". وعلى الرغم من فشل المجلس العسكري التركي، تماماً مثل نظيره الكريبتوني، كما كتب بول بيلار في مجلة ناشيونال إنترست في 16 يوليو، إلا أن الديمقراطية "نوعاً ما" نجت في البلد الحليف المهم في حلف شمال الأطلسي.
وقد يكون الأسوأ لم يأتِ بعد بالنسبة لتركيا وشريكها العالمي الأكثر أهمية، الولايات المتحدة و"إسرائيل".
في تلك الليلة، وبينما كان المتظاهرون في ساحات إسطنبول وأنقرة والمدن التركية الكبرى يواجهون دبابات الجيش بأيديهم العارية، كانت قناة "سي أن أن تورك" تبث شريطًا وثائقيًا عن الفقمات في القطب الشمالي، بينما كانت نظيرتها "سي أن أن" الأمريكية تنقل بثًا مباشرًا من الميادين، التي غصت بالأتراك الحاملين لأعلام بلدهم، والمساندين لرئيسهم، الذي أطلّ عليهم عبر بث هاتفي قصير، من خلال تطبيق على هاتفه، بثّته إحدى القنوات التي نجت من انقطاع البث، دقائق فقط قبل قصف مركز بث القمر الصناعي التركي "تركسات".
ماذا حدث؟
حوالي الساعة التاسعة مساءً بالتوقيت المحلي، بدأت التقارير تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، تفيد بأن وحدات عسكرية تقيم حواجز على الطرق الرئيسية في إسطنبول وأنقرة، بينما كانت مروحيات "سوبر كوبرا" وطائرات مقاتلة من طراز F-16 تقوم بطلعات جوية على ارتفاع منخفض فوق أكبر مدينتين في البلاد.
في إسطنبول، أغلقت الدبابات الجسرين الممتدين على مضيق البوسفور، وتحركت وحدات مدرعة إلى مطار أتاتورك الدولي. وفي العاصمة أنقرة، تمركزت الدبابات عند التقاطعات الكبرى، فيما انطلقت طائرات الهليكوبتر في دوريات جوية ليلية. وبعد قليل، اندلعت اشتباكات عنيفة بين قوات المجلس العسكري، ووحدات الجيش والشرطة الموالية للحكومة.
قرابة الساعة 11:15 مساءً، أجرى رئيس الوزراء "بن علي يلدريم" مداخلة هاتفية عبر القنوات التلفزيونية، أكد فيها وجود "محاولة انقلاب" جارية. وفي وقت لاحق، تواصل الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي كان يقضي عطلته في مدينة مرمريس على بحر إيجه، مع وسائل الإعلام عبر تطبيق "فيس تايم"، داعيًا المواطنين إلى النزول إلى الشوارع لمواجهة المجلس العسكري.
استجاب الآلاف لذلك النداء، ونزلوا إلى الساحات. في الوقت ذاته، قرأت مذيعة التلفزيون الرسمي TRT بيانًا للمجلس العسكري، الذي أعلن فيه توليه السلطة. وكان لافتًا أن هذا البيان لم يُبث عبر باقي القنوات الخاصة، ذات التأثير الجماهيري الأكبر، والتي بقيت خارج سيطرة الانقلابيين.
بين الثانية صباحًا والرابعة فجرًا، بثت القنوات التركية مشاهد مؤلمة لوحدات مدرعة تغلق جسر البوسفور وهي تطلق النار على المدنيين الذين توافدوا استجابة لنداء أردوغان. وفي أنقرة، فتحت طائرات الهليكوبتر النار على الحشود المتجمعة قرب القصر الرئاسي الجديد والجمعية الوطنية (البرلمان)، في وقت كان فيه النواب يتحصنون داخل القاعة تحت وابل من القصف.
سارت الأمور بسرعة بعد ذلك. طار أردوغان متحديًا الانقلابيين من مرمريس إلى إسطنبول، وألقى خطابًا أمام الحشود في مطار أتاتورك، أعلن فيه صمود الدولة. كما سارعت الأحزاب الأربعة الممثلة في البرلمان، بما فيها المعارضة، إلى إدانة المحاولة الانقلابية.
وفي وقت مبكر من صباح اليوم التالي، حوالي الساعة 6:45، عرضت القنوات التلفزيونية صورًا لوحدات عسكرية وهي تستسلم للشرطة على جسر البوسفور، وسط أنباء عن أن العديد من الجنود كانوا مجندين صغارًا، جرى الزجّ بهم في العملية تحت ذريعة المشاركة في "تدريبات خاصة".
ووفقًا للتقديرات الرسمية، فقد لقي نحو 190 شخصًا حتفهم، وأصيب أكثر من 1,440 بجروح، فيما جرى احتجاز ما يقرب من 6,000 من أفراد الجيش والقضاء بتهمة التورط في مؤامرة الانقلاب.
من يقف وراء الانقلاب؟
في تركيا، يكاد يكون الجواب على سؤال "من دبّر محاولة 15 يوليو؟" مرآةً لميول من يجيب عليه. فالمشهد لم يكن مجرد صراع بين جيش ورئيس، بل مسرحًا متعدد الطبقات، اختلط فيه ما هو أيديولوجي بما هو انتقامي، وتداخلت فيه الحسابات المحلية بتوازنات إقليمية ودولية. منذ تلك الليلة، برزت ثلاث روايات أساسية، لكل منها أنصار وخصوم، ولكل منها ما يعززها وما يفندها.
السيناريو الأول: انقلاب جماعة غولن
وفق الرواية الرسمية التي تبنّاها "رجب طيب أردوغان" وأنصاره في حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، كما قبل بها حتى بعض خصومهم، فإن العقل المدبر لمحاولة الانقلاب هو رجل الدين المقيم في بنسلفانيا الأمريكية، فتح الله غولن.
غولن، الذي يرأس شبكة عالمية من المدارس، الشركات، والمنظمات الخيرية، يُتهم بقيادة "هيكل موازٍ" داخل مؤسسات الدولة التركية، يعمل على تقويض الجمهورية من الداخل. وهو نفسه كان حليفًا سابقًا لأردوغان، قبل أن ينقلب عليه الأخير بعد تفجّر فضيحة فساد كبرى في أواخر 2013، كشفت تسجيلات تنصّت على كبار المسؤولين في الدولة، بينهم أبناء وزراء.
ردّ أردوغان على تلك الضربة بحملة تطهير شاملة، استهدفت نفوذ جماعة غولن في القضاء، والشرطة، والجامعات، والجيش، وامتدت حتى أبعد بلدية في الأناضول. وبعد الانقلاب الفاشل، تسارعت تلك الحملة: صودرت مؤسسات إعلامية وشركات ومدارس وجامعات مرتبطة بالشبكة، وأُلصق بغولن اسم "الإرهابي الأول".
يرى أنصار حزب العدالة والتنمية، أن محاولة الانقلاب لم تكن سوى محاولة يائسة لمنع التحقيق في فضيحة التنصت والفساد من الوصول إلى نهاياته. ويضيفون أن لحظة الانقلاب جاءت بعد تحسّن مفاجئ في علاقات أنقرة مع "إسرائيل" وروسيا، الأمر الذي فسّره البعض كإشارة على أن جماعة غولن ربما خشيت من فقدان دعم جهات خارجية كانت تعوّل عليها، فقررت التحرك قبل فوات الأوان.
السيناريو الثاني: أردوغان دبرها!
في الطرف المقابل، يرفض أنصار غولن وعدد من العلمانيين الأتراك هذه الرواية تمامًا. بل على العكس، يقدّمون فرضية صادمة: أن محاولة الانقلاب كانت عرضًا مسرحيًا دبّره أردوغان نفسه أو على الأقل علم به وتركه يتقدم حتى ينهار، ليستثمره في تحويل النظام السياسي التركي من برلماني إلى رئاسي تنفيذي.
منذ وصوله إلى السلطة عام 2002، كانت سيرة أردوغان محفوفة بالأزمات التي غالبًا ما قلبها لصالحه. فكلما واجه خصومًا أقوياء – من الجيش أو الجماعات الإسلامية المنافسة – خرج منها أقوى مما دخل.
وبحسب هذا الطرح، فإن ما جرى ليلة 15 يوليو 2016 كان "ترتيبًا محسوبًا" لتأمين دعم شعبي لتمركز السلطة بيده، خاصة وأن حزب العدالة والتنمية، رغم أغلبيته البرلمانية المستمرة، كان قد خسر مؤقتًا في انتخابات يونيو 2015، قبل أن يستعيد السيطرة لاحقًا.
لقد أراد أردوغان، وفق هؤلاء، لحظة صدمة كبرى. ولحظة الانقلاب الفاشل وفّرت له كل ما كان يطمح إليه: التفاف شعبي، غطاء دستوري لحالة الطوارئ، وتصفية جماعية لكل من يعارض مشروعه السلطوي.
السيناريو الثالث: الانقلاب ضد غولن وأردوغان معًا
أما السيناريو الأكثر توازنًا – في نظر بعض المحللين – فهو أن المجلس العسكري الذي حاول السيطرة على البلاد، لم يتحرك لصالح أحد، بل ضد خصمين معًا: أردوغان وغولن.
فخلال الفترة بين 2009 و2013، خسر الجيش التركي الكثير من هيبته في ما عُرف بقضية "أرغينيكون"، وهي محاكمات استهدفت كبار الضباط بتهم التآمر لقلب النظام، دبرتها عناصر محسوبة على جماعة غولن. تلك الحملة أضعفت المؤسسة العسكرية، لكن لم تُنهِ غضبها.
وبعد أن طُرد نفوذ غولن من الدولة، وجد الضباط الباقون أنفسهم أمام واقع جديد: دولة تحت قبضة رجل واحد، لا يكفّ عن تهميش النخب التقليدية، ويتوسع في استعداء شركاء الأمس.
صحيح أن غالبية ضباط الجيش تلقوا تعليمهم في مؤسسات علمانية أتاتوركية، تجعلهم على النقيض من أفكار غولن، لكنهم أيضًا لم يروا في أردوغان "قائدًا وطنيًا"، بل حاكمًا سلطويًا قاد البلاد إلى مغامرات خارجية، وأزمات اقتصادية، وحروب عبثية.
في تلك السنوات، كانت تركيا تعيش جملة من الكوارث: تفجيرات دامية في المدن، نزيف مستمر في الحرب ضد حزب العمال الكردستاني، انزلاق نحو الفوضى في سوريا والعراق، وعودة نعوش الجنود إلى مدنهم بشكل يومي.
ومع تراكم الضغوط، ربما قرر بعض كبار الضباط أن ما لا يُحلّ سياسيًا، يُفرض بالقوة.
ماذا حدث بعد ذلك؟
على الرغم من أن محاولة الانقلاب بدت منذ بدايتها ضعيفة، مرتبكة، ومحدودة النطاق، إلا أن بعض المحللين لا يستبعدون فرضية نجاحها لو توفرت بعض الشروط. فلو تمكن المجلس العسكري من الوصول إلى أردوغان – الذي يُقال إن رئيس جهاز الاستخبارات آنذاك، هاكان فيدان (وزير الخارجية الحالي)، كان هو من أنقذه – أو لو كان لدى الانقلابيين المزيد من الذخيرة والإصرار على مجازر صادمة بحق المدنيين والقوات الموالية للحكومة كرسالة ترهيب لبقية البلاد، لكان من الممكن أن تسير الأمور في اتجاه مختلف تمامًا.
كان "أردوغان" حينها في مرمريس، على بحر إيجة، تحت مرمى المحتملين، في لحظة كان فيها مصير الرجل والنظام الذي بناه، معلّقًا على مكالمة فيديو مرتجلة.
وبالمقابل، لا أحد يستطيع أن يتنبأ بما كان المجلس العسكري سيفعله لاحقًا بمعارضيه، لا سيما تجاه أنصار حزب العدالة والتنمية، أو تجاه الأكراد في الجنوب الشرقي، الذين غالبًا ما كانوا حطب الصراعات الداخلية.
لكن السؤال الأعمق – والأهم – لم يكن فقط عن "ماذا لو نجح الانقلاب؟"، بل: ماذا فعل أردوغان بعد فشله؟ وهل فهم أصل المظلومية الموجهة ضده، أم أنه استخدمها ذريعة لإعادة صياغة تركيا وفق صورته؟ تسع سنوات كانت كفيلة بالكشف عن الجواب: منذ تلك الليلة، بدأت تركيا تتغير. لا إلى الأفضل. بل إلى ما يمكن وصفه بأنه دولة ما بعد الديمقراطية.
انقلاب على الدستور باسم "الانقلاب"
بحسب تقرير مفصّل نشره مركز ستوكهولم للحريات (SCF) بعنوان: "15يوليو : انقلاب أردوغان" فإن ما وقع لم يكن انقلابًا حقيقيًا بالمعنى العسكري المعروف، بل "عملية زائفة" أوchestrated coup، استخدمها أردوغان كذريعة لشن أوسع حملة تطهير في تاريخ تركيا الحديث، وتحويل نظام الحكم إلى رئاسي استبدادي مغلق.
استند التقرير إلى بيانات مفتوحة المصدر، ولوائح الاتهام الرسمية، وشهادات المحاكمات، ومقابلات مع ضباط سابقين، وآراء خبراء عسكريين، وخلص مركز ستوكهولم للحريات إلى أنه "على ثقة تامة" بأن ما جرى لا يرقى حتى إلى مستوى محاولة انقلاب عسكرية حقيقية. فقد كانت القوات المشاركة محدودة، والتحركات محصورة في عدد قليل من المدن وعلى رأسها أنقرة وإسطنبول، في ظل غياب واضح للتنسيق بين الأفرع العسكرية المختلفة. كما فشل الانقلابيون في القبض على أردوغان، رغم معرفتهم المسبقة بمكان وجوده في مرمريس، وهو ما أثار مزيدًا من الشكوك حول طبيعة ما جرى تلك الليلة. والأهم: مخالفة العملية لكل الأعراف العسكرية والانقلابات السابقة في تركيا، لا سيما فيما يخص "قواعد الاشتباك وإجراءات التشغيل القياسية".
الأكثر إثارة للريبة أن رئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان، بحسب شهادته أمام البرلمان، كان على علم مسبق بتحركات انقلابية، لكنه لم يبلغ لا رئيس الوزراء، ولا رئيس الجمهورية، ولا حتى وزير الدفاع! ولم يتم حتى مساء يوم 15 يوليو اتخاذ أي إجراء وقائي، بل استمر العمل داخل الأجهزة كأن شيئًا لم يكن.
واليوم، يعود نفس الرجل إلى الواجهة، لا كمدير استخبارات، بل كـ وزير خارجية وعرّاب لملفات حساسة، من بينها الملف السوري، وتحديدًا "رئيس سوريا الجديد"، بحسب ما يتندر به البعض.
هدية من الله..
في فجر السادس عشر من يوليو، وبينما كانت الدبابات تتراجع أمام الحشود الشعبية الغاضبة، خرج رجب طيب أردوغان ليعلن أن ما حدث هو "هدية من الله". لم تكن تلك العبارة مجرد تعبير عاطفي في لحظة انتصار، بل كانت إعلانًا صريحًا لنوايا سياسية عميقة. ففي الأيام والأسابيع التي تلت فشل المحاولة الانقلابية، فرضت الحكومة حالة الطوارئ، وبدأت موجة اعتقالات لم تقتصر على العسكريين المتورطين أو المشتبه فيهم، بل امتدت لتشمل صحفيين، قضاة، أكاديميين، نشطاء سياسيين، رؤساء بلديات، ونوابًا معارضين، خاصة من الأكراد، وحتى موظفين بسطاء في البلديات الريفية.
شيئًا فشيئًا، توسعت رقعة "التطهير"، وتحولت المحاكمات الجماعية إلى أداة للانتقام وتصفية الحسابات، في مناخ قضائي مسيّس. وتم تمرير تعديلات دستورية جذرية، أقرت في استفتاء شعبي عام 2017، نقلت تركيا من نظام برلماني إلى نظام رئاسي تنفيذي، يمنح الرئيس صلاحيات واسعة تكاد تكون مطلقة.
وباسم "محاربة الإرهاب"، تم خنق الحياة الإعلامية، وإغلاق المئات من الصحف والقنوات والمواقع الإخبارية، في واحدة من أوسع حملات قمع الصحافة في تاريخ الجمهورية التركية. صارت الانتخابات منافسات شكلية تفتقر إلى الحد الأدنى من النزاهة، وتحوّل الخصوم السياسيون إلى "خونة" في الخطاب الرسمي، بينما وُظّفت آلة إعلامية ضخمة لصناعة عدو داخلي دائم وتبرير التغول السلطوي.
من ديمقراطية هشة إلى استبداد ذكي
ما بعد انقلاب 2016، ليس كما قبله. تركيا التي خرجت من تلك الليلة الدامية لم تكن تركيا نفسها، بل مشروع سلطوي يتقدم بثبات، ويعيد هندسة الدولة من الداخل. لم تعد البلاد دولة متعددة الأقطاب، ولا حتى ديمقراطية هشة، بل أصبحت دولة بشخص واحد، وبرؤية واحدة، وجهاز إداري مُفصّل على مقاس الزعيم.
نجح أردوغان، رغم تراجع شعبية حزبه، في تأمين أغلبية نيابية مريحة، عبر تحالفات ظرفية وتعديلات انتخابية. صاغ قوانين تمكّنه من ملاحقة خصومه السياسيين بأثر رجعي، وحصّن نفسه قانونيًا ضد المساءلة. كما أطلق عمليات عسكرية عبر الحدود، في سوريا والعراق وليبيا، تحت غطاء "مكافحة الإرهاب"، لكنها خدمته بالأساس داخليًا لتعزيز صورته كقائد قومي قادر على فرض هيبة الدولة خارج حدودها.
وازدادت براعة النظام في استخدام الهوية الدينية - القومية - العثمانية كوقود للشرعية، يعبئ به الشارع حين يتراجع الاقتصاد أو تتصاعد الانتقادات. هذا التلاعب الخطابي المدروس، بين إرث الإسلام السياسي والمجد الإمبراطوري، سمح له بإسكات الأصوات المعارضة، وتشتيت الانتباه عن الأزمة البنيوية التي تعيشها البلاد
ولعل المثل الشعبي التركي القديم: "ليس معروفًا من يملك الإيمان، ولا من يملك النقود"، يختصر هذه المرحلة الرمادية التي دخلتها تركيا. ففيها تتماهى القيم مع المصالح، ويتحول الدين إلى أداة خطاب، ويُشترى الولاء بعملة الخوف أو الحاجة أو الامتياز.
"رجل الفولاذ" لم يهبط من كريبتون
وعلى الرغم من أن السنوات التسع الماضية لم تشهد انفجارًا مزلزلًا بحجم الكارثة التي دمرت كوكب "كريبتون" في فيلم Man of Steel، إلا أن ما جرى كان كافيًا لإعادة تشكيل مستقبل تركيا. لم يخرج من تلك الفوضى بطل خارق، لا سوبرمان ولا أيقونة تحرر، بل خرج رجل واحد، بقبضة حديدية، وجهاز بيروقراطي مخصيّ، وإعلام مصفّق، ومجتمع مدني مبتور الأطراف.
في الواقع، كان هذا هو "هدف الفيلم" كما ورد في حبكته: ليس كل من ينجو من الانفجار بطلًا، وليس كل من يظهر في الصورة يُمثل الخير. وما بدا في لحظاته الأولى على أنه فشل لانقلاب عسكري، انتهى بانتصار لانقلاب سياسي ناعم، تحوّل مع مرور الوقت إلى نسخة تركية من "الاستبداد المحسوب"، الذي يعرف تمامًا كيف يخلق مشهده الدرامي... ويُخرج نفسه بطلاً من بين الركام.

دانييل بايبس - مؤسس ومدير منتدى الشرق الأوسط (واشنطن)
أردوغان بعد الانقلاب... ديمقراطية تحت السيطرة
في صيف 2016، أدانت جميع الحكومات الكبرى محاولة الانقلاب في تركيا، وكذلك فعلت الأحزاب السياسية الأربعة الممثلة في البرلمان التركي. حتى "فتح الله غولن"، الشخصية الدينية المتهمة بالوقوف وراء المحاولة، خرج ليعلن رفضه المطلق للانقلاب العسكري.
لكن في خضم التغطيات المكثفة، نشر المحلل والباحث الأمريكي دانييل بايبس، مؤسس ومدير منتدى الشرق الأوسط في واشنطن، تغريدة عبّر فيها عن أمله في "نجاح الانقلاب"، مشيراً إلى أن "أردوغان سرق الانتخابات وأقام نظاماً استبدادياً يتستر برداء الديمقراطية".
يعترف بايبس أن موقفه هذا كان "من الأقلية القليلة"، لكنه يرى أن هناك أسبابًا موضوعية تبرر دعمه "لإزاحة رئيس منتخب ديمقراطيًا، لكنه لا يحكم ديمقراطيًا فعليًا"، بحسب تعبيره.
أردوغان... من اللعب بالقواعد إلى احتقارها
يقول بايبس إن أردوغان، بوصفه "إسلامويًا سياسيًا"، ترك في البداية بصمته في بلدية إسطنبول، ثم في رئاسة الحكومة، من خلال احترام نسبي لقواعد اللعبة الديمقراطية. غير أن الأمر تغيّر تدريجيًا، إذ بدأ الرئيس التركي، حسب رأيه، يزدري تلك القواعد، لا سيما في الانتخابات.
احتكر الإعلام الرسمي، و"غض الطرف" عن الاعتداءات الجسدية على رموز المعارضة، وتلاعب في نتائج الاقتراع. ويستدل بايبس بانتخابات نوفمبر 2015، التي يرى أنها شهدت "علامات واضحة للتزوير والتلاعب".
وفي تقييمه لتطور النظام التركي، يرى بايبس أن أردوغان "أحكم سيطرته على مؤسسات الدولة الواحدة تلو الأخرى"، حتى إن المنصب الرئاسي الذي كان شرفيًا وغير تنفيذي، تحوّل إلى مركز القرار الفعلي. وعلى مدى سنوات، خضعت له السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، كما أصبح الإعلام والشرطة والمؤسسات الدينية والتعليمية والمالية في قبضة أنصاره.
أما المؤسسة العسكرية، التي لطالما شكّلت مركز توازن في المشهد السياسي التركي، فقد قاومت طويلاً، لكنها تعرّضت بعد الانقلاب لمحاولة تفكيك شاملة، عبر الاعتقالات والإقالات الواسعة.
حروب أردوغان... ضد الداخل والجوار
يرى بايبس أن أردوغان استخدم سلطاته الاستثنائية في أعقاب محاولة الانقلاب، ليس فقط لتعزيز حكمه، بل أيضًا لخوض ما يشبه "الحرب الأهلية" ضد الأكراد، والتضييق على الحريات العامة، بل ويتّهمه بدعم تنظيم داعش بشكل غير مباشر في مرحلة ما، قبل أن تنقلب الحسابات.
أما في الخارج، فيقول بايبس إن تركيا في عهد أردوغان تحوّلت إلى جار مزعج، إذ دخلت في صراعات مفتوحة أو مستترة مع جيرانها في سوريا والعراق، وتورّطت في ملفات إقليمية عديدة، بدعوى الدفاع عن الأمن القومي التركي.
الانقلابات في تركيا... بين التاريخ والواقع
في معرض تقييمه للانقلاب الفاشل عام 2016، يذكّر بايبس بأن تركيا "عرفت أربعة انقلابات عسكرية رئيسية" (1960، 1971، 1980، و1997)، لكن المؤسسة العسكرية، في كل مرة، "أظهرت فهمًا منضبطًا لدورها"، وفق رأيه، حيث كانت تتدخل لتصحيح المسار، ثم تنسحب من المشهد.
ويرى أن تلك الانقلابات، رغم ما فيها من انتقادات، أسهمت في حماية النظام العلماني، وأن ما جرى في 2016 كان يمكن أن يؤدي إلى نتيجة مختلفة، "لو لم يتمكّن أردوغان من النجاة في اللحظات الحاسمة"، مضيفاً: "ربما كان من الأفضل أن يُستبدل بشخصيات أكثر عقلانية من داخل حزبه، أو من الطيف الإسلامي المعتدل".
ينقل بايبس مقولة للجنرال التركي السابق "شفيق بير"، أحد قادة انقلاب 1997، تقول: "في تركيا، تزاوج الإسلام والديمقراطية، وطفل هذا الزواج هو العلمانية. وعندما يمرض هذا الطفل، تكون المؤسسة العسكرية هي الطبيب الذي ينقذه".
لكن الطبيب، بحسب بايبس، "تم تعطيل عمله" بعد 2016، عقب هيمنة أردوغان على الجيش، مما جعل "المرض يستفحل"، في إشارة إلى ما يصفه بـ"جنون العظمة" الذي يهيمن على النظام الحاكم.
تطهير واسع وأزمة مع واشنطن
يتوقف بايبس عند حملة "التطهير" التي أعقبت المحاولة الانقلابية، مشيرًا إلى اعتقال أكثر من 6000 شخص خلال أيام، وفصل نحو 3000 قاضٍ ومدعٍ عام، في سابقة غير معهودة.
كما يذكّر بالأزمة التي نشبت مع الولايات المتحدة، بسبب مطالبة أنقرة بتسليم فتح الله غولن، الذي يعيش في ولاية بنسلفانيا، وهو ما قوبل بالرفض الأمريكي، مما زاد من تعقيد العلاقات الثنائية.
يختم بايبس تحليله بالقول إن "الهالة التي نسجها الإعلام حول أردوغان بدأت تتآكل"، وإن نزعاته التوسعية، إذا استُنسخت في السياسة الخارجية بنفس الأسلوب الذي نجح داخليًا، قد تقوده إلى الهاوية.
ويشير إلى أن تراجع أردوغان النسبي خلال الاحتجاجات التي رافقت اعتقال رئيس بلدية إسطنبول "أكرم إمام أوغلو"، دليل على أن الرئيس التركي بدأ يدرك خطورة مجابهة الشارع، وأن نهايته قد تأتي "عندما يفرط في التمرد، ويفقد توازنه الداخلي والخارجي".
قد يكون دانييل بايبس من الأصوات الغربية الأكثر حدة في انتقاد "أردوغان"، لكن قراءته، رغم مرجعيتها الأيديولوجية، تفتح بابًا أوسع للتساؤل حول مستقبل تركيا ما بعد هذا الرجل الذي طبع مرحلة كاملة من تاريخها الحديث.
فهل تعود تركيا إلى مسار ديمقراطي أكثر اتزانًا وتعددية؟ أم أن النظام الذي شُيّد بعد 2016 أعمق من أن يُختزل في شخص، وأقدر على إعادة إنتاج نفسه؟ وهل يمكن للمعارضة، التي تلقت ضربات متتالية، أن تستعيد زمام المبادرة في ظل هذا التوازن الإقليمي المعقّد؟
ما هو مؤكد، أن المشهد التركي لا يزال في طور التشكل. وأن الجدل حول "الانقلاب" لم يُغلق بعد، تمامًا كما لم يُغلق النقاش حول طبيعة النظام الذي انبثق من رماده.
وبين الحنين إلى العلمانية الأتاتوركية، ونشوة القومية الإسلامية، وتمزقات الداخل والجوار، تبقى تركيا بلدًا يبحث عن معادلة مستقرة... ومعه تظل المنطقة كلها تراقب عن كثب.

الدكتور غويسيبي غاليانو - مدير مركز كارلو دي كريستوفوريس للدراسات الاستراتيجية. (إيطاليا)
تركيا على مشارف سوريا.. حسابات الربح الجيوسياسي بعد سقوط الأسد
أدى السقوط المفاجئ للنظام السوري إلى إعادة تشكيل التوازن الجيوسياسي في شرق البحر الأبيض المتوسط، مؤكّدًا أن تركيا باتت "الرابح الأكبر". وعلى النقيض، فإن روسيا وإيران تواجهان خسارة كبيرة، بعدما كان الرئيس بشار الأسد يمثل، لسنوات، الشخصية الأكثر موثوقية في الشرق الأوسط، مدعومًا بجهود عسكرية واسعة النطاق طوال فترة الحرب الأهلية.
وفي المقابل، كانت سوريا قد فتحت لروسيا أبواب قواعد بحرية وجوية محورية، مثل طرطوس واللاذقية، لضمان الوصول إلى البحر المتوسط، مقابل الدعم العسكري والسياسي. ويُعد تراجع هذا النفوذ ضربة قوية لأحد الأعمدة الاستراتيجية لروسيا في المنطقة.
الدور التركي الحاسم
تبنّى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سياسة داعمة لفصائل المعارضة الإسلاموية في سوريا، رغم وجود عناصر مقربة من جبهة النصرة، وأخرى يُشتبه في صلتها بتنظيم الدولة الإسلامية. ويمكن فهم هذا التوجه من خلال عداء تركيا المستمر للوجود الكردي في الشمال السوري، إضافة إلى رغبة أردوغان في توسيع نفوذ أنقرة على الشريط البحري الممتد بين سوريا وجمهورية شمال قبرص التركية. علمًا أن هذه الأخيرة، التي تسيطر عليها تركيا منذ 1974، لا تحظى باعتراف دولي، لكنها تشكّل نقطة ارتكاز محورية في الاستراتيجية الإقليمية التركية.
كما أن سوريا، على غرار قبرص، تمثل موقعًا استراتيجيًا حاسمًا في الشرق الأوسط. فالجزيرة القبرصية تضم قاعدتين بريطانيتين هما ديكيليا وأكروتيري، وتعملان منذ 1959 بموجب معاهدة زيورخ، التي أرست استقلال الجزيرة وشرعنت الوجود العسكري البريطاني ضمن سياق الحرب الباردة. ومع ازدياد أهمية قبرص بعد الغزو الروسي لأوكرانيا سنة 2022، نظر الغرب، وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إليها باعتبارها نقطة انطلاق أمنية واقتصادية، نظراً لعلاقاتها الواسعة مع روسيا في مجالات المال والعقارات والسياحة.
نصر جيوسياسي لتركيا
إن بروز الميليشيات الإسلاموية كقوة مهيمنة في سوريا يمنح تركيا فرصة استراتيجية للوصول إلى الساحل السوري، ما يقوي موقع "جمهورية شمال قبرص التركية". ويمكن لأردوغان أن يوظف هذا المعطى الجديد في المفاوضات مع جمهورية قبرص المعترف بها دوليًا، في محاولة لتخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على القسم التركي من الجزيرة. إذ لطالما شكل هذا الحظر عائقًا أمام النمو الاقتصادي، لكن المشهد الإقليمي الجديد قد يمنح أنقرة ورقة ضغط فعالة.
وكان قرار واشنطن في 2022 رفع حظر الأسلحة عن القسم اليوناني من قبرص إشارة إلى تحول نوعي، رغم أن غايته الأساسية كانت الحد من التغلغل الروسي أكثر من مواجهة تركيا. أردوغان بدوره استغل هذا التوجه الغربي المناهض لروسيا ليعزز موقفه ويقدم دعمه لفصائل المعارضة السورية كبديل "معتدل" مقارنة بنظام الأسد وحلفائه.
توازن إقليمي جديد
مع انهيار النظام السوري وصعود النفوذ التركي، بات أردوغان في موقع قوة إقليمية. فالجيش التركي، أحد أقوى الجيوش في المنطقة إلى جانب جيش "إسرائيل"، يحظى بدعم حلف شمال الأطلسي، وهو ما يحصّنه دبلوماسيًا ويعزز مكانته الدولية. وهذا ما يسمح له بالحفاظ على علاقات قوية مع الغرب، رغم دعمه غير المريح لجماعات متمردة يُنظر إليها بجدل في الأوساط الغربية.
في هذا السياق المتحول، لا يقتصر الطموح التركي على بسط النفوذ العسكري فحسب، بل يشمل الاستعداد لتوظيف هذا النفوذ لتحقيق مكاسب سياسية أوسع، تثبّت موقع أنقرة كطرف رئيسي في ترتيبات الإقليم الجديدة.
في ظل الانهيار المتسارع في المشهد السوري، تتحرك تركيا وفق منطق المصالح الاستراتيجية لا الإيديولوجيا، مستفيدة من تغير موازين القوى وانكماش خصومها الإقليميين. ومع أن طريق أنقرة لا يخلو من التحديات، فإن قدرتها على المناورة بين الملفات الشائكة تمنحها موقعًا متقدمًا في صياغة ترتيبات ما بعد الأسد. لكن هذه المكاسب تظل مرهونة بقدرة تركيا على التوفيق بين طموحاتها الإقليمية والضغوط الدولية، وبين أمنها القومي وحسابات الجوار المعقدة. فالميدان السوري، كما أثبتت السنوات، لا يعترف بالثوابت طويلاً.

إسكندر عون - صحفي ومحلّل مستقلّ لشؤون الشرق الأوسط
حين تصبح المصالحة أداة نفوذ.. سوريا الجديدة في قبضة أردوغان
في خضم التحولات الجيوسياسية العميقة التي شهدها الشرق الأوسط عقب انهيار النظام السوري، برزت تركيا كأحد أكثر الأطراف استثمارًا لهذا التغيير الجذري. فبينما غرق اللاعبون التقليديون في خسائرهم، تحركت أنقرة بخطى محسوبة لملء الفراغ، مستعيدةً أدوات نفوذ قديم وحديث، ومُلبسة طموحاتها الإقليمية غطاء الواقعية السياسية والشعارات البراغماتية. لكن ما يبدو في العلن كجهود "مصالحة" و"مكافحة للإرهاب" لا يخفي – كما يرى عدد من المحللين – مشروعًا توسعيًا طويل النفس، بدأ في صيغة "صفر مشاكل" وانتهى بتحالفات عسكرية، وواقع ميداني رسم خرائط جديدة على الحدود السورية.
في هذا السياق، يقدّم الصحفي والمحلل المستقل إسكندر عون قراءة معمّقة لأبعاد الدور التركي في سوريا، في ظل حديث رسمي عن "التطبيع"، وتوغل فعلي في مفاصل القرار السوري الجديد، مؤكّدًا أن عودة تركيا إلى دمشق ليست سوى "انتقام مؤجل من التاريخ".
في تقييمه للعلاقات المعقّدة بين سوريا وتركيا، أعاد الرئيس السوري بشار الأسد، في يوليو 2024، التذكير بجوهر المشكلة قائلاً: "إذا أردنا تحقيق علاقات طبيعية، يجب التحرّر من كل ما هو غير طبيعي، كالاحتلال، والإرهاب، وانتهاك القانون الدولي، وعدم احترام السيادة". جاءت هذه التصريحات بعد أيام فقط من إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن "رغبته في لقائه"، في إشارة إلى احتمال استئناف العلاقات بين البلدين
أردوغان، الذي وصف سابقًا الأسد بـ "العدو"، أعلن خلال قمة حلف شمال الأطلسي في 11 يوليو من العام الماضي عن رغبته في لقاء نظيره السوري، إما في تركيا أو في بلد ثالث، مبرّرًا ذلك بالقول: "نريد إطلاق عملية جديدة وتجاوز التوترات في علاقاتنا". لكن هذا الطرح، وفق ما يراه المحلل إسكندر عون، لم يكن سوى محاولة تركية لتجميل غاية حقيقية، وهي التصدي لما تسميه أنقرة بـ "النزعة الانفصالية الكردية" على حدودها الجنوبية.
في الواقع، كانت "قوات سوريا الديمقراطية"، التي يغلب عليها العنصر الكردي، تحتفظ بحكم ذاتي في مناطق شرق الفرات، مدعومةً عسكريًا من قوات أمريكية تتمركز بشكل غير شرعي في الأراضي السورية. وفيما يؤكد أردوغان علنًا على "تعزيز التعاون في مكافحة الإرهاب"، يرى عون أن ما يُخفيه لا ينطلي إلا على "السذّج"، بحسب تعبيره.
في يونيو 2024، صرّح أردوغان بأنه "لا يرى عائقًا أمام تطبيع العلاقات مع سوريا"، مؤكّدًا أن بلاده "لم تتدخل يومًا في الشأن السوري"، وذكّر بأن عائلتي الأسد وأردوغان سبق لهما أن قضتا عطلاتٍ مشتركة في الريفييرا التركية عام 2009، في إشارة إلى ما كان من علاقات دافئة قبل اندلاع الأزمة السورية.
لكن ما جرى في أواخر 2024 يروي قصة أخرى تمامًا. فبحسب عون، كانت أنقرة على علم مسبق بتقدّم الجماعات المسلحة باتجاه دمشق، بل كانت تدعمها بشكل مباشر. ويقول: "من الواضح أن المتمرّدين ما كان لهم أن يواصلوا الهجوم لولا حصولهم على الأسلحة والإمدادات من تركيا، بحكم القرب الجغرافي والدعم اللوجستي".
في 27 نوفمبر 2024، انطلقت ثلاث عمليات عسكرية متزامنة، هدفها المعلن "إسقاط نظام الأسد". قادت "هيئة تحرير الشام" عملية "ردع العدوان"، وتولت "الجيش الوطني السوري" مهمة "فجر الحرية"، بينما تولت "الخوذ البيضاء" تنفيذ عملية "أمل العائدين". ويرى عون أن نجاح هذه العمليات لم يكن ممكنًا لولا الغطاء التركي والدعم اللوجستي الذي وفرته أنقرة في الخفاء.
عودة تركيا إلى سوريا.. من "صفر مشاكل" إلى "صفر حلفاء"؟
يشير المحلل إسكندر عون إلى أن العلاقات السورية التركية، في العقد الأول من الألفية، شهدت دفئًا غير مسبوق. فقد كانت "العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية الثنائية أكثر من ودّية"، وبرزت آنذاك سياسة "صفر مشاكل مع الجيران"، التي نظّر لها أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية التركي حينها، والتي هدفت إلى جعل تركيا قوة إقليمية من خلال تصفير التوترات مع دول الجوار.
وبالفعل، تحسّنت علاقات أنقرة مع نظام بشار الأسد، كما مع مصر حسني مبارك، وحركتي فتح وحماس، في إطار تقارب شامل استُثمر فيه مبدأ "دبلوماسية دفتر الشيكات"، عبر توقيع اتفاقيات تجارة حرة مع الجزائر وتونس والمغرب ولبنان وسوريا. هدف أردوغان، كما يوضح عون، كان بناء "منطقة اقتصادية متوسطية" تشبه المجموعة الاقتصادية للفحم والصلب التي سبقت الاتحاد الأوروبي، وحتى إنشاء منطقة "شامغين" – على غرار "شينغن" – تضمن حرية تنقل الأشخاص والبضائع في المشرق العربي.
لكن خلف هذا المشهد الاقتصادي الطموح، بقيت التوترات التاريخية كامنة. فقد كانت أنقرة تتهم دمشق، في الثمانينيات والتسعينيات، بإيواء منظمات يسارية مناهضة لأنقرة، وعلى رأسها حزب العمال الكردستاني. في المقابل، كان حافظ الأسد يتهم تركيا بحرمان سوريا من حصتها في نهري دجلة والفرات. وقد استُخدمت المعسكرات الكردية، التي كانت منتشرة في البقاع اللبناني، كورقة ضغط في إطار الحرب الباردة.
ومع اقتراب نهاية التسعينيات، بلغت التوترات ذروتها حين هدّدت تركيا بالتدخل العسكري لمحاربة حزب العمال الكردستاني، مما دفع دمشق لطرد عبد الله أوجلان، زعيم الحزب، وتوقيع اتفاقية أضنة تحت وساطة مصرية وإيرانية، تعهّدت بموجبها سوريا بمحاربة الحزب على أراضيها.
غير أن "لحظة التقارب" لم تعمر طويلاً. ومع انهيار النظام السوري أواخر 2024، تسلّلت تركيا بسرعة إلى المشهد، وتحوّلت من "وسيط اقتصادي" إلى "فاعل سياسي وعسكري" على الأرض. ويشير عون إلى أن هذا التحول "تجاوز البعد العسكري، ليأخذ طابعًا استراتيجيًا أعمق، مرتبطًا بالحنين العثماني إلى مناطق النفوذ القديمة".
وسرعان ما كانت تركيا أول دولة ترسل رئيس مخابراتها، إبراهيم كالن، إلى دمشق بعد سقوط النظام، ثم أول دولة تعيد فتح سفارتها، وقنصليتها في حلب. كما كانت الدولة الثانية التي زارها الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، المعروف سابقًا بالجولاني، في جولته الأولى، والوحيدة التي زارها مرتين خلال أقل من 3 أشهر، آخرها لحضور منتدى أنطاليا الدبلوماسي في أفريل الماضي.
هذا الحضور الكثيف ترافق مع ترسيخ نفوذ تركي على الأرض: فصائل مسلحة تم تدريبها، مجالس محلية بإشراف تركي، وتأثير واضح في مسار آستانة السياسي. وهو ما اعتبره عون "مقدمة لتكريس هيمنة تركية على القرار السياسي السوري مستقبلاً".
الأكثر إثارة، حسب التحليل، هو ما يتعلّق بالدور الأمريكي. إذ يشير عون إلى "احتمال أن يسحب دونالد ترامب، إذا عاد للبيت الأبيض، الجنود الأميركيين الـ2000 من سوريا، إذا ما استعادت أنقرة علاقاتها مع الكيان الصهيوني". وفي هذه الحالة، فإن تركيا ستكون صاحبة اليد الطولى شمال سوريا، حيث ستواصل الضغط على الجماعات الكردية للتخلي عن السلاح، في مقابل مطالب دمشق بدمجها في الجيش الوطني.
في ختام تحليله، يؤكد عون أن ما يحدث اليوم هو "انتقام من التاريخ" كما يصفه، حيث تعود تركيا إلى سوريا، ولكن ليس من باب التعاون أو الإخاء، بل من باب الهيمنة وملء الفراغ، مستعيدة دورها في الإمبراطورية العثمانية... ولكن بثوب معاصر.
بين خطاب المصالحة ولغة الدبابات، تظلّ السياسة التركية في سوريا محكومة بمنطق التناقضات: تُشهرُ شعار السيادة، بينما ترعى مجالس محلية، وتطالب بالشرعية، وهي تملي شروطها على الأرض. غير أن المتغيرات الدولية والإقليمية، من بينها موقع واشنطن، ومآلات الملف الكردي، وتركيبة النظام السوري الجديد، سترسم حدود هذا "الانتصار التركي" وشكله النهائي. وكما يشير الباحث عون، فإن ما نراه اليوم قد لا يكون نهاية اللعبة، بل مجرد فصل جديد في صراع جغرافي سياسي طويل، تُعيد فيه أنقرة تعريف حدودها الرمزية، تحت عنوان: من "صفر مشاكل" إلى "صفر حلفاء"... وخرائط بلا خرائط.

بارن كايا أوغلو - محلل الشؤون الإستراتيجية للشرق الأوسط (جامعة أنقرة-تركيا)
من الذي يقف وراء الاحتجاجات الحاشدة في جميع أنحاء تركيا؟
تشهد تركيا في الآونة الأخيرة حراكًا سياسيًا واجتماعيًا يتجاوز مجرد صراع انتخابي أو احتجاجات عابرة، ليعكس أزمات بنيوية أعمق داخل النظام السياسي والقضائي. فما يحدث في الشارع التركي ليس فقط نتيجة لحكم قضائي ضد رئيس بلدية إسطنبول أو أزمة داخل حزب معارض، بل هو تجلٍّ لصراع طويل حول هوية الدولة، واستقلالية مؤسساتها، ومستقبلها السياسي. في هذا السياق، يقدّم الدكتور بارن كايا أوغلو، المحلل الاستراتيجي بجامعة أنقرة، قراءة متأنية للمشهد التركي الراهن، تربط بين ما يجري في الداخل من احتجاجات، وتغيرات في موازين القوى داخل مؤسسات الدولة، وبين التطورات الجيوسياسية الإقليمية، ولا سيما الملف الكردي، واحتمالات التفاوض حول دستور جديد يُمهّد لتجديد ولاية أردوغان.
يمكن النظر إلى الأحداث الراهنة في تركيا من زوايا متعددة. ما يحدث، في جوهره، هو محاولة لإصلاح مشكلات استقلالية القضاء وسيادة القانون الممتدة منذ سنوات، غير أن ما يحدث فعليًا هو تفاقمها، كما في مشهد شهير من فيلم "مستر بين"، حين يفسد البطل شيئًا عن غير قصد، ثم تتسبب محاولاته لإصلاحه في المزيد من الأذى.
ففي عام 2010، سعى حزب العدالة والتنمية إلى الحد من هيمنة العلمانيين المتشددين على القضاء، لا سيما بعد أن كاد هؤلاء أن يغلقوا الحزب في 2008، فقام بزيادة عدد القضاة في المحاكم العليا، وملأها بأسماء يرى أنها موالية له. لكن تبيّن لاحقًا أن هذه الكوادر كانت تدين بالولاء لشبكة فتح الله غولن.
وكان القضاة والمدعون العامون الموالون لغولن، إلى جانب أنصاره في الشرطة الوطنية، هم من نشروا تسجيلات التنصت على المكالمات الهاتفية التي تورط فيها آنذاك رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بين عامي 2013 و2014، سعيًا لإجباره على الرضوخ لمطالبهم، أو حتى إسقاطه بالكامل.
لاحقًا، أحكمت حكومة العدالة والتنمية قبضتها على القضاء والإدارة، للتخلص من نفوذ غولن، ليقابلها الأخير بمحاولة الانقلاب في يوليو 2016. ويرى الباحث أن هذا الصراع المتكرر، أضعف ثقة الشعب في مؤسسات الدولة، وخاصة الجهاز القضائي، إلى حد كبير. ويضيف أن الرأي العام لاحظ تناقضات فاضحة، فبينما يُخفف الحكم عن مجرمين خطرين، يتم سجن متهمين بـ"الإرهاب" لأسباب واهية ولفترات طويلة.
وبحسب كايا أوغلو، فإن الاحتجاجات التي تشهدها البلاد، منذ أشهر، بدرجات متفاوتة، لا ترتبط بشخص أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول المعتقل مؤخرًا، بقدر ما تعبر عن الغضب الشعبي من هذا الخلل العميق في العدالة.
ورغم أن كثيرين يرفضون ما يصفونه بالإساءة لحقوق رئيس أكبر بلديات البلاد، إلا أن إمام أوغلو، حسب الباحث، لم يعد يحظى بشعبيته السابقة، بل إن قطاعًا من أنصار المعارضة بات يشكك في دوافعه، ويراه أكثر اهتمامًا بالترشح للرئاسة في 2028، من إدارة شؤون إسطنبول حاليًا. كما أن قراره بعدم خوض سباق الرئاسة في 2023، وترك الساحة لكمال كليتشدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري السابق، الذي خسر أمام أردوغان، لم يساعده في استعادة شعبيته.
أما المرشح الآخر للمعارضة، منصور يافاش، رئيس بلدية أنقرة، فيُنظر إليه كأقوى منافس محتمل لأردوغان في استطلاعات الرأي، رغم أن البعض يرى أنه، هو الآخر، أخطأ في تأجيل ترشحه بناءً على حسابات كليتشدار أوغلو في 2023.
السياسة الرئاسية
وفقًا للمعارضة، يفكر أردوغان في الترشح مجددًا للرئاسة في 2028، رغم أن الدستور التركي يحدّ من عدد الولايات إلى اثنتين، وهو حاليًا في ولايته الثالثة. ويشير الباحث إلى أن الجدل ما زال قائمًا حول ما إذا كان استفتاء عام 2017 قد منح أردوغان تفويضًا جديدًا، ما يجعل فوزه في انتخابات 2018 بدايةً لولاية "أولى" بنظام الحكم الجديد.
وترى المعارضة أن حلفاء أردوغان يسعون لتهميش إمام أوغلو، كونه من أبرز خصومه المحتملين. أما حكومة العدالة والتنمية، فتنفي هذه الاتهامات، مؤكدة أن "المحاكم مستقلة"، وأن الأدلة ضد إمام أوغلو قوية.
ويتحفظ الباحث على الحسم بشأن ميول الرأي العام، لغياب استطلاعات دقيقة، ويقول: "لا تتوفر بيانات كافية لمعرفة ما إذا كان الشعب يتبنى رواية المعارضة أو الحكومة، أو ما إذا كان منقسمًا بينهما".
الجغرافيا السياسية الإقليمية والقضية الكردية
يرى الباحث أن ما يجري داخليًا في تركيا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقضايا إقليمية أوسع، أبرزها "المسألة الكردية"، التي تُعد من أقدم أزمات البلاد. فبعد سقوط النظام في سوريا مؤخرًا، وجدت أنقرة نفسها أمام فرصة استراتيجية. فقد توصلت "قوات سوريا الديمقراطية"، بقيادة الأكراد، وهي الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، إلى اتفاق يسمح باندماجها في الحكومة المركزية في دمشق. ورغم أن تركيا، إلى جانب الولايات المتحدة وغالبية دول الاتحاد الأوروبي، تصنف حزب العمال الكردستاني كتنظيم إرهابي، إلا أن أنقرة وحدها تعتبر "قوات سوريا الديمقراطية" أيضًا جماعة إرهابية.
في هذا السياق، تسعى حكومة العدالة والتنمية إلى التوصل لتسوية مع المكون الكردي، من خلال التفاوض مع زعيم الحزب المعتقل، عبد الله أوجلان، بعد إعلانه حل الحزب وتسليم السلاح، وأيضًا عبر التواصل مع حزب الديمقراطية والتنمية الكردي داخل تركيا. ويقر الباحث بعدم وضوح التنازلات التي قد يتطلبها هذا المسار، إلا أنه يرجح أن يطالب الجانب الكردي بعفو عن أوجلان وآخرين مدانين بالانتماء لحزب العمال الكردستاني أو التورط في أنشطة إرهابية. في المقابل، قد يدعم أردوغان تعديلًا دستوريًا يضع طموحه لولاية رابعة على أساس قانوني أكثر صلابة.
في المقابل، في أوساط القوميين العلمانيين، ممن لا ينسجمون مع توجهات العدالة والتنمية أو حزب الشعب الجمهوري أو الأحزاب الكردية، هناك قناعة بأن ملف إمام أوغلو والاحتجاجات ما هو إلا وسيلة لتشتيت الأنظار عن هذه الأجندة الحساسة. ويؤكد كايا أوغلو أن مسألة الحوار مع الأكراد لا تحظى بإجماع داخل أي من الحزبين الكبيرين، خاصة وأن حزب العمال الكردستاني تلقى ضربات موجعة على يد الجيش والشرطة التركية، بينما لم تعد "قوات سوريا الديمقراطية" تحظى بدعم سوى من الولايات المتحدة، رغم اندماجها في الحكومة السورية الجديدة.
أما بخصوص الاحتجاجات الأخيرة، فيراها الباحث محدودة النطاق وأكثر ضبطًا مقارنة باحتجاجات "غيزي بارك" سنة 2013. ويصرح كايا أوغلو أن الأمر لا يشبه "الثورات البرتقالية" في أوكرانيا (2004 و2014)، ولا انتفاضة مصر التي سبقت انقلاب يوليو 2013 على الرئيس محمد مرسي. ويرى أن أردوغان استخلص من التجربة المصرية عبرة شخصية، وقد صرّح سابقًا أن احتجاجات غيزي كانت "حصان طروادة" لانقلاب ضده، رغم نفي المتظاهرين لذلك.
ومع ذلك، يرى الباحث أن أردوغان لا يزال يتمتع بحظوظ قوية في الانتخابات القادمة، وأن رد فعله "المتحفّظ" تجاه الاحتجاجات الأخيرة يعكس ثقته النسبية. فهو لم يلجأ إلى الخطاب التصعيدي أو الشتائم ضد المتظاهرين كما فعل في 2013، ما يشير إلى نهج أكثر تريثًا.
وفي ظل التصعيد بين العدالة والتنمية والمعارضة، يشير كايا أوغلو إلى أن الأسواق المالية المحلية والدولية تأثرت مباشرة بالملف القضائي لإمام أوغلو. فقد شهد الدولار قفزات من 36.50 إلى 41 ليرة تركية، قبل أن يعود إلى 38، إثر ضخ مليارات الدولارات من احتياطيات البنك المركزي لدعم الليرة. ويُحتمل، بحسبه، أن يتردد المستثمرون الأجانب في البقاء في تركيا، أو العودة إليها، إذا استمرت الاضطرابات على هذا النحو.
وبخلاف عام 2013، حين كانت تركيا تنعم بوضع اقتصادي مريح، فإن الظروف اليوم مختلفة تمامًا: تضخم مرتفع، بطالة متفاقمة، وتقلبات حادة في سعر العملة. لذلك، من المرجح ألا يغامر لا حزب العدالة والتنمية ولا المعارضة، بإشعال التوترات، خوفًا من تحميلهم مسؤولية أي انهيار اقتصادي مرتقب.
وفي ظل هذا التعقيد المتعدد المستويات، يبدو أن تركيا تتجه نحو مرحلة مفصلية، تتداخل فيها الحسابات الانتخابية مع ترتيبات أمنية إقليمية، وتطفو على السطح أزمات الشرعية والثقة بالمؤسسات. ما يحدث ليس "ثورة" جديدة ولا مجرد احتجاجات ظرفية، بل هو اختبار لقدرة النظام السياسي على احتواء التصدعات المتراكمة دون تفجيرها. وبينما يراهن الرئيس أردوغان على تماسك سلطته وقدرته على المناورة داخليًا وخارجيًا، يبقى سؤال الديمقراطية وسيادة القانون مطروحًا بقوة، ليس فقط على المعارضة، بل على المجتمع بأسره. فهل تستطيع تركيا تجنّب الانزلاق نحو مزيد من الانقسام والاستقطاب؟ أم أن السيناريوهات القادمة ستعيد إنتاج أزمات قديمة بثوب جديد؟
الدكتور غويسيبي غاليانو - مدير مركز كارلو دي كريستوفوريس للدراسات الاستراتيجية. (إيطاليا)
من إدلب إلى آسيا الوسطى.. استراتيجية الباب العالي الجديد
يتحدث الدكتور غويسيبي غاليانو، المتخصص في دراسة ديناميات الصراع في العلاقات الدولية، عن الاستراتيجية "العثمانية الجديدة" التي "تنسجم بشكل جيد مع القاعدة القومية لأردوغان"، لا سيما في انتشار النفوذ والتموضع نحو المناطق التي كانت خاضعة سابقًا للباب العالي. ومن أبرز مظاهر هذا التموضع، بحسبه، إعادة تشكيل "العلامة التجارية" لبعض التنظيمات الإرهابية التي استولت على الحكم في سوريا، وقدّمت هذا البلد قربانًا لـ "إسرائيل".
الأيام نيوز: أزالت الولايات المتحدة جبهة النصرة، الفرع السوري السابق لتنظيم القاعدة والتابع حاليًا لهيئة تحرير الشام، من قائمتها للمنظمات الإرهابية. هل ترون في هذا التحول دورًا تركيًا ضمن الديناميكيات الجديدة في الملف السوري؟
الدكتور غويسيبي غاليانو: إن قرار الولايات المتحدة إزالة جبهة النصرة، التي أصبحت الآن جزءًا من هيئة تحرير الشام، من قائمة الإرهاب، لا يعكس فقط تعديلاً تكتيكيًا في استراتيجية واشنطن لمكافحة الإرهاب، بل يشير إلى تحوّل عميق في الرقعة الجيوسياسية للشرق الأوسط، ويبرز الدور المعقد المتزايد الذي تلعبه تركيا في رسم مسار الصراع السوري. فانتقال جبهة النصرة إلى هيئة تحرير الشام لم يكن مجرد إعادة تسمية، بل محاولة للابتعاد عن أجندة القاعدة العالمية، وتقديم نفسها كجهة محلية تركز على محافظة إدلب.
وقد حافظت أنقرة على علاقة دقيقة مع هيئة تحرير الشام، توازن فيها بين اعتبارها تهديدًا أمنيًا، واعتبارها ورقة ضغط في مواجهة الميليشيات الكردية وقوات النظام. وينبع نفوذ أنقرة على الهيئة من وجودها العسكري في إدلب، ودورها في التوسط في اتفاقيات خفض التصعيد مع روسيا. ومن الممكن فهم شطب الهيئة من قوائم الإرهاب على أنه اعتراف أمريكي جزئي بجهود أنقرة في تليين مواقف الجماعة، ومحاولة دمجها في التسوية ما بعد الحرب.
لكن هذا التطور يثير تساؤلات: هل يمكن لتركيا ضمان تحوّل الهيئة إلى جهة سياسية مدنية؟ أم أن الأمر مجرد تقاطع مصالح مؤقت؟ هذا القرار يتماشى أيضًا مع الهدف الأمريكي في الحد من النفوذ الإيراني في سوريا، وموازنة الدور الروسي، حيث تسهم أنقرة بشكل غير مباشر في هذا المسعى، في الوقت الذي تسعى فيه لمنع نشوء كيان كردي مستقل على حدودها.
في جوهر الأمر، تلعب أنقرة دورًا محوريًا في هذا المشهد الجديد، ما يعكس قدرتها المتزايدة على التأثير في ديناميكيات التنظيمات الجهادية في شمال سوريا، ويكشف تعقيدات التحالفات والعداوات التي تشكّل مسرح الحرب السورية.
الأيام نيوز: بعد محاولة الانقلاب في تركيا عام 2016، رسّخ الرئيس أردوغان نظام حكم مركزي واسع الصلاحيات، ويُعتبر حزب الشعب الجمهوري أبرز المعارضين له. كيف ترسمون ملامح الخريطة السياسية التركية في ظل هذه المعطيات؟
الدكتور غويسيبي غاليانو: منذ الانقلاب الفاشل في يوليو 2016، شهدت تركيا في عهد أردوغان تحوّلًا سياسيًا جذريًا، حيث حوّل البلاد من ديمقراطية حزبية هشة إلى نظام رئاسي مركزي، تتركّز فيه السلطة في يده. وقد شكّلت حالة الطوارئ التي فرضت عقب الانقلاب، نقطة انطلاق لحملات تطهير طالت الجيش، القضاء، الإعلام، والجامعات، وقلّصت بشكل كبير من قدرة المعارضة على الفعل السياسي.
ويهيمن حزب العدالة والتنمية، بتحالفه مع حزب الحركة القومية اليميني المتطرف، على المشهد السياسي. هذا التحالف عزز القاعدة القومية الإسلامية لأردوغان، لكنه في المقابل نفّر شرائح واسعة من العلمانيين، والأكراد، وسكان المدن الكبرى.
وتبقى المعارضة الرئيسية ممثلة في حزب الشعب الجمهوري، الذي حقق اختراقات هامة بفوزه ببلديات كبرى كإسطنبول وأنقرة عام 2019. لكن الحزب يعاني من قيود هيكلية: تضييق على الوصول إلى الإعلام، ونظام انتخابي يميل لصالح السلطة، وسلطة قضائية تلاحق المعارضة.
أما حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد، فقد تم استهدافه بشكل ممنهج، وسُجن الآلاف من أعضائه وقادته بتهم متعلقة بالإرهاب، ويواجه باستمرار تهديدات بالإغلاق.
إن الخريطة السياسية التركية باتت مستقطبة بشكل حاد. ويستند نظام أردوغان إلى مزيج من الخطاب القومي، والشعبوية الاقتصادية، والتحكّم بمفاصل الدولة. ومع ذلك، فإن الأزمة الاقتصادية، وخيبة أمل الشباب، والانقسامات المتزايدة داخل حزب العدالة والتنمية، تؤشر إلى أن هذا الاستبداد ليس بمنأى عن الانهيار.
الأيام نيوز: في ظل ما يُوصف بتراجع الدعم المحلي، كثّف الرئيس أردوغان تحركاته السياسية والاقتصادية والعسكرية خارج الحدود، خاصة في العراق وسوريا. ما أهداف أنقرة من هذه الاستراتيجية الإقليمية المتوسعة؟
الدكتور غويسيبي غاليانو: تعكس البصمة العسكرية والاقتصادية المتنامية لتركيا خارج حدودها استراتيجية مدروسة من جانب أردوغان لإعادة تموضع أنقرة كقوة إقليمية مهيمنة. ففي العراق وسوريا، تنبع الغارات التركية من مزيجٍ من الهواجس الأمنية والطموحات الأيديولوجية والحسابات السياسية الداخلية.
في العراق، تستهدف العمليات قواعد حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، بينما في سوريا، أنشأت أنقرة مناطق عازلة لمنع بروز كيان كردي يتمتع بالحكم الذاتي. وتُعد هذه المناطق طوقًا أمنيًا ووسيلة لترسيخ النفوذ التركي، حيث تستثمر أنقرة في الإدارة المحلية والبنية التحتية لخلق تبعية اقتصادية لصالحها.
ويُسهم هذا التمدد الخارجي في تعزيز مكانة أردوغان داخليًا من خلال استثارة النزعة القومية وصرف الأنظار عن الأزمات الاقتصادية المحلية. كما يمنح أنقرة ورقة ضغط مهمة في ملفات اللاجئين وخطوط الطاقة، ما يجعلها فاعلًا لا غنى عنه لكل من أوروبا والولايات المتحدة.
غير أن هذه الاستراتيجية تنطوي على مخاطر جدية، إذ أدّت إلى توتر في العلاقات مع بغداد ودمشق، وإلى تعميق الفجوة مع واشنطن، وقد تُفضي في النهاية إلى إنهاك الموارد التركية على المستويين العسكري والاقتصادي.
الأيام نيوز: في ضوء التجارب السابقة، ما خارطة الطريق المناسبة برأيكم لحل القضية الكردية في تركيا؟ خصوصًا بعد إعلان عبد الله أوجلان حل حزب العمال الكردستاني ودعوته لتسليم السلاح.
الدكتور غويسيبي غاليانو: لقد ظلّت القضية الكردية تطارد تركيا منذ تأسيس جمهوريتها الحديثة. وعلى الرغم من لحظات أمل عابرة، كما في فترة المفاوضات بين 2013 و2015، فإن الحكومات المتعاقبة فشلت في التوفيق بين التطلعات الكردية ومفهوم الدولة الواحدة غير القابلة للتجزئة.
ويقتضي الحل المستدام الاعتراف الدستوري بالهوية الكردية، وتحقيق لامركزية فعلية في السلطة تُمكّن من حكم محلي هادف، إلى جانب إعادة دمج القوى السياسية الكردية ضمن الإطار الديمقراطي.
لقد شكّل الانفتاح السياسي الأولي لأردوغان تجاه الأكراد بارقة أمل، لكن تحالفه اللاحق مع القوميين المتطرفين وحملاته العسكرية في سوريا ضد الفصائل الكردية نسفت ذلك المسار وعمّقت الفجوة.
إن حل القضية الكردية لم يعد مجرد مطلب أخلاقي، بل ضرورة استراتيجية تفرضها تطلعات تركيا للاستقرار الداخلي والطموح الإقليمي. من دون هذا الحل، ستظل أنقرة عالقة في دوامة من القمع والصراع المستمر.
الأيام نيوز: كيف تقيّمون العلاقات بين تركيا و"إسرائيل" في ظل الحرب الجارية في غزة، وما مدى تأثير التغيرات في سوريا على هذه العلاقة؟
الدكتور غويسيبي غاليانو: تُعد العلاقات التركية مع "إسرائيل" علاقة معقدة تُراوح بين التعاون البراغماتي والعداء الأيديولوجي. فقد أدّى دعم أردوغان الصريح للفلسطينيين، ولا سيما لحركة حماس، إلى توتر العلاقات منذ حادثة سفينة "مافي مرمرة" عام 2010. ومع ذلك، استمر التبادل التجاري بين الطرفين في النمو، وشهدت العلاقات فترات من التقارب الهادئ مدفوعة بالمصالح المتبادلة، خاصة في مجالات الطاقة والأمن الإقليمي.
شكّلت الحرب في غزة اختبارًا صعبًا لهذا التوازن الحرج. فرغم أن أردوغان اتهم "إسرائيل" بارتكاب "إبادة جماعية"، فإن أنقرة لم تُقدِم على قطع العلاقات الاقتصادية. في المقابل، فتح انهيار النظام السوري بابًا لتعقيد أكبر في الحسابات الجيوسياسية، حيث تُبدي كل من أنقرة وتل أبيب حذرًا تجاه تمدد النفوذ الإيراني، وإن بوسائل متباينة.
في النهاية، من المرجح أن تبقى العلاقة بين تركيا و"إسرائيل" قائمة على المنفعة المتبادلة: تعاون في حيثما تتقاطع المصالح، وتباعد في حيثما تتعارض الإيديولوجيات والطموحات الإقليمية.
الأيام نيوز: يلاحظ مراقبون توجهًا تركيًا لإعادة رسم مجال نفوذ إقليمي يشمل مناطق كانت خاضعة سابقًا للسلطنة العثمانية، بما في ذلك التوسع نحو آسيا الوسطى والتقارب مع مجموعة بريكس+. كيف تنظرون إلى هذه الاستراتيجية الجيوسياسية؟ وما أبرز التحديات التي قد تواجهها تركيا في هذا الإطار؟
الدكتور غويسيبي غاليانو: تعكس السياسة الخارجية التركية، في عهد أردوغان، رؤية لدور أنقرة كقوة صاعدة تربط بين الشرق والغرب. ففي آسيا الوسطى، تستثمر تركيا في الروابط الثقافية واللغوية لقيادة منظمة الدول التركية، لتعزيز نفوذها في منطقة ظلت لزمن طويل تحت هيمنة روسيا والصين.
أما فيما يخص مجموعة "بريكس+"، فإن انفتاح تركيا عليها، رغم أنها ليست عضوًا بعد، يعكس رغبة صريحة في تنويع التحالفات بعيدًا عن الهيمنة الغربية لحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. ويُعد طلب انضمامها إلى المجموعة دلالة واضحة على التوجه نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب، تُحاول فيه أنقرة لعب دور "قوة وسيطة" مستقلة.
لكن هذا الطموح العثماني الجديد يصطدم بعوائق كبيرة: المنافسة الشرسة مع موسكو وبكين في آسيا الوسطى، تشكك القوى الغربية في نوايا أنقرة، والأهم من ذلك هشاشة البنية الاقتصادية التركية التي تقف حجر عثرة أمام أية طموحات توسعية طويلة الأمد.

أتيلا يشيلادا - باحث رئيسي في مركز الأبحاث المستقل "غلوبال سورس بارتنرز" (إسطنبول - تركيا)
من غزة إلى أنقرة.. كيف تهدد الحروب الإقليمية اقتصاد أردوغان وفرص بقائه؟
يرى الخبير الاقتصادي والباحث السياسي أتيلا يشيلادا أن تركيا قد تتحول إلى "ضرر جانبي" في حال امتدت الحرب في الشرق الأوسط لتشمل لبنان، إيران، أو حتى الولايات المتحدة. ويؤكد أن الاقتصاد التركي يعتمد بدرجة كبيرة على استيراد الطاقة، وهو ما قد يعرّض البلاد لهزة قوية في حال اندلاع حرب شاملة ترفع أسعار النفط والغاز، كما بدأت تظهر ملامحه بعد الاعتداء الأخير لـ "إسرائيل" على إيران.
ويحذر يشيلادا من أن تركيا قد تخسر صادرات حيوية إلى إيران، الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، في حال أثّرت الحرب على مستويات الإنفاق الاستهلاكي في هذه الدول. ويضيف أن وقف التبادل التجاري مع "إسرائيل" كلّف أنقرة بالفعل نحو 7 مليارات دولار من الصادرات، بالإضافة إلى ملياري دولار أخرى مرتبطة بتجميد الاستثمارات المشتركة. ورغم أن هذا الرقم قد يبدو ضئيلاً مقارنة بإجمالي الصادرات التركية البالغ 265 مليار دولار سنويًا، إلا أن التأثير واضح في قطاعات صناعية محددة، خصوصًا قطاع مواد البناء، حيث تعاني الشركات بشكل ملموس.
وفي حال توسعت رقعة النزاع، يتوقع يشيلادا أن يتعرض الرئيس أردوغان لضغوط من دائرته الانتخابية ذات التوجه الإسلامي، ومن حزب "الرفاه الجديد"، المنافس الصاعد لحزب العدالة والتنمية، لاتخاذ مواقف أكثر صرامة. من بين هذه الخيارات، قد تضطر أنقرة إلى وقف تصدير النفط الأذربيجاني إلى "إسرائيل" عبر خط أنابيب باكو-جيهان، وهو قرار ستكون له تداعيات اقتصادية وجيوسياسية حساسة.
ويُتوقع أيضًا أن تتأثر السياحة التركية سلبًا، في حال توقفت رحلات مئات الآلاف من السياح "الإسرائيليين" الذين يزورون تركيا سنويًا (ما بين 400 و600 ألف سائح). وتأتي هذه الضربة في وقت يعاني فيه قطاع السياحة من ضغوط إضافية، في مقدمتها الانخفاض الكبير في قيمة الليرة التركية، الذي بات يقلّص هوامش الربح ويهدد استدامة الخدمات.
أما على مستوى الاقتصاد الكلي، فإن أي اضطراب جديد في أسواق الطاقة العالمية، يدفع بأسعار النفط نحو 100 دولار للبرميل أو أكثر، من شأنه أن يعرقل ما يسميه يشيلادا "برنامج التقشف المهتز" للحكومة التركية. ذلك لأن ارتفاع أسعار الطاقة سيؤدي إلى زيادة التضخم، وتفاقم العجز في الحساب الجاري، وبالتالي إلى هروب رؤوس الأموال الأجنبية من السوق التركية وتدهور قيمة الليرة مجددًا.
ويشير يشيلادا إلى أن ما يسميه "تفوق أردوغان الرمزي" على باقي الدول الإسلامية في إدانة العدوان الوحشي وغير الإنساني على غزة، قد يتحول إلى مصدر توتر في علاقات أنقرة مع دول الخليج، التي تلتزم خطابًا أكثر تحفظًا. فهذه الدول، بحسبه، تحاول الإبقاء على "توازن هش" ضمن اتفاقيات إبراهام مع "إسرائيل" والولايات المتحدة، بينما تحتاج تركيا بشدة إلى كل دولار من الاستثمارات الخليجية المباشرة أو الصناديق السيادية.
وبشكل عام، وعلى الرغم من ميول أردوغان الخطابية المعادية لـ "إسرائيل"، فإنه من الصعب الادعاء بأنه يرغب في استمرار الحرب. فهو داخليًا "في موقف خاسر على الجبهتين"، كما يقول يشيلادا. ويشير إلى أن شريكه في الحكم، حزب الحركة القومية، إلى جانب حزب "الرفاه الجديد"، المنافس الإسلامي الصاعد، ذهبا إلى حد المطالبة بإرسال قوات تركية إلى غزة، وهو ما يعتبره الباحث "أمرًا سخيفًا بوضوح"، لكنه يعكس - بحسب رأيه - "استحالة إرضاء القاعدة الإسلامية المتشددة التي تُقدّر نسبتها بـ10 إلى 12% من الناخبين، وقد بدأت بالفعل في التحول نحو حزب الرفاه الجديد".
ورغم أن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا مُقررة رسميًا في ربيع عام 2028، إلا أن النقاش السياسي حولها "احتدم مبكرًا"، كما يلاحظ يشيلادا، بفعل تزايد الأزمات الاقتصادية والسياسية. وقد أثارت هذه التحديات "تكهنات بإمكانية لجوء أردوغان إلى انتخابات مبكرة لتجديد ولايته قبل موعدها الأصلي".
وفي ضوء هذا السياق المتقلب، يشير يشيلادا إلى أن حزب الشعب الجمهوري المعارض بدأ في التحرك الاستباقي من خلال ترشيح رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، للرئاسة، تحسبًا لأي محاولة لإقصائه قانونيًا. وقد رفع إعلان هذا الترشيح من "التكلفة السياسية لأي محاولة لاعتقاله"، بل وأدى إلى "تعبئة جماهيرية واسعة النطاق داخل تركيا وخارجها".
غير أن العقبات القانونية ما زالت قائمة، حسب يشيلادا، لا سيما قرار إلغاء شهادة إمام أوغلو الجامعية، الأمر الذي يهدد أهليته للترشح. ويذكّر الباحث بأن الدستور التركي ينص على ضرورة حصول أي مرشح رئاسي على شهادة جامعية. وعلى الرغم من أن إمام أوغلو قد استأنف القرار أمام المحاكم الإدارية، "إلا أنه ممنوع حاليًا من الترشح".
وفي حال لم يُقبل ترشيح إمام أوغلو، يتوقع يشيلادا أن يبرز اسم زعيم الحزب، أوزغور أوزيل، كخيار بديل. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو قد يخدم مصلحة التحالف الحاكم، لا سيما إذا دخل رئيس بلدية أنقرة، منصور يافاش، السباق أيضًا. فوجود مرشحين قويين من المعارضة سيؤدي - بحسب يشيلادا - إلى "تشتيت أصوات المعسكر المناهض لأردوغان".
ولتفادي هذا الخطر، أكد أوزيل مؤخرًا أنه "في حال تم حظر ترشيح إمام أوغلو، فإن المعارضة ستتحد خلف منصور يافاش كمرشح مشترك".
وفي حال فاز يافاش بالرئاسة، وتمكنت المعارضة من السيطرة على البرلمان، فقد يتم الدفع بإصلاح دستوري يُعيد البلاد إلى النظام البرلماني، الذي جرى التخلي عنه عام 2017. في هذا السيناريو، سيكون يافاش "رئيسًا شرفيًا للجمهورية"، بينما قد يتولى إمام أوغلو منصب رئيس الوزراء، في استعادة لمسار مشابه لوصول أردوغان إلى السلطة عام 2002، بعد رفع العقبات القانونية التي كانت تمنعه من الترشح آنذاك.
ويحظى منصور يافاش حاليًا بتأييد شعبي واسع، ويتقدم على أردوغان في معظم استطلاعات الرأي بفارق مريح. وقد منحته خلفيته القومية دعمًا بين شرائح تقليدية كانت تصوّت لتحالف أردوغان، في حين يُنظر إلى أدائه كرئيس لبلدية أنقرة على أنه فعّال وواقعي.
غير أن هذه "الخلفية القومية" نفسها قد تُحد من شعبيته بين الناخبين الأكراد، الذين أدّوا دورًا حاسمًا في انتصارات المعارضة خلال انتخابات 2023 و2024. ومع ذلك، يشير يشيلادا إلى أن "محاولات الحكومة لإعادة إحياء مسار السلام مع الأكراد، ربما دفعت بالفعل بعض الناخبين الأكراد إلى الابتعاد عن دعم المعارضة".
في نهاية المطاف، كما يخلص يشيلادا، فإن "نجاح المعارضة في الانتخابات المقبلة يتوقف على الحفاظ على تماسك الثلاثي القيادي: إمام أوغلو، يافاش، وأوزيل". ويضيف أن "استمرار هذا التماسك أمر حيوي للحفاظ على ثقة الناخبين، وتغذية الزخم الشعبي نحو التغيير السياسي".