2025.07.17
حديث الساعة
الجيش يقلب الطاولة على \

الجيش يقلب الطاولة على "حميدتي".. نهاية مشروع الإمارات في السودان


في مشهد يحمل أبعاداً عسكرية وسياسية كبرى، أعلن الجيش السوداني سيطرته الكاملة على ولاية الخرطوم، في خطوة مثّلت تحوّلاً جذرياً في موازين القوة داخل البلاد، بعد صراع دموي استمر لما يقارب العامين. هذا الإعلان، الذي بدا وكأنه لحظة فاصلة في مسار الحرب الأهلية، لم يكن مجرّد إعلان عن نصر ميداني، بل جاء محمّلاً برسائل استراتيجية إلى الداخل والخارج، مفادها أن المؤسسة العسكرية لا تزال القوة الأولى في معادلة الحكم، وأن السودان لن يُترك رهينة لمشاريع التمزيق الإقليمي والدولي بقيادة الإمارات.

أعلن الجيش، أمس الثلاثاء، في بيان رسمي، أنه أكمل "تطهير كامل ولاية الخرطوم من أي وجود لفلول التمرد"، في إشارة إلى قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي". وأشار البيان إلى أن هذا الإنجاز جاء نتيجة عمليات متواصلة خاضتها القوات المسلحة "بكل مكوناتها"، في إطار ما وصفته بـ"حرب الكرامة الوطنية" ضد من اعتبرتهم "مجرمي وأوباش مليشيا آل دقلو وأعوانهم من قوى الشر المحلية والإقليمية والدولية".

وأكد البيان أن هذه المعركة لم تكن فقط ضد مجموعات مسلحة داخلية، بل شملت مواجهة أطراف دولية متورطة في تأجيج الصراع، وتقديم الدعم العسكري واللوجستي لقوات الدعم السريع، وهو ما اعتبره الجيش بمثابة عدوان مباشر على سيادة السودان ووحدته الوطنية.

وقد تضمن البيان تجديد العهد مع الشعب السوداني بمواصلة القتال حتى يتم "تطهير آخر شبر من تراب الوطن من كل متمرد وخائن وعميل"، في خطاب تعبوي يعكس رغبة المؤسسة العسكرية في إعادة ترسيخ دورها المركزي كضامن لوحدة البلاد وحامي لسيادتها في وجه التدخلات الخارجية والانقسامات الداخلية.

السيطرة على الخرطوم.. نصر عسكري أم بداية لتحوّل سياسي؟

بحسب مراسلين ميدانيين في العاصمة، فقد تمكن الجيش من إحكام سيطرته على مواقع استراتيجية وحساسة، شملت أجهزة تحكم لطائرات مسيّرة أمريكية الصنع، كانت بحوزة قوات الدعم السريع في منطقة صالحة جنوب أم درمان، بالإضافة إلى استعادة عدد من الطائرات المسيّرة نفسها. كما تمكّنت القوات المسلحة من السيطرة الكاملة على مدينة أم درمان، مُعلنة بذلك إنهاء أي وجود منظّم لقوات الدعم السريع في مدن العاصمة الثلاث (الخرطوم – بحري – أم درمان).

ويُعدّ هذا التطور الميداني تتويجاً لسلسلة من العمليات المركّزة التي نفّذتها القوات المسلحة منذ مطلع العام الجاري، والتي استهدفت الجسور والممرات الحيوية مثل جسر السوبا، فضلاً عن استعادة القصر الجمهوري ومطار الخرطوم الدولي، ما أدّى إلى شلّ خطوط الإمداد التي كانت تمدّ قوات الدعم السريع بالذخيرة والتمويل.

عامان من الدم.. من الإطاحة بالبشير إلى حرب إبادة

الصراع في السودان، الذي اندلع بشكل مكشوف في أفريل 2023، كان في جوهره امتداداً لصراع طويل على السلطة بين الجنرال عبد الفتاح البرهان قائد الجيش، والجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع المدعوم من الإمارات. ويُذكَر أن الطرفين كانا شريكين في الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس عمر البشير في 2019، ثم في انقلاب أكتوبر 2021 الذي أوقف عملية الانتقال الديمقراطي وأعاد البلاد إلى مربع الحكم العسكري.

غير أن تحالف الضرورة سرعان ما انهار، وتحول إلى مواجهة مفتوحة، استخدمت فيها كل أشكال القوة، من الطائرات المسيّرة إلى المدفعية الثقيلة، في حرب وُصفت بأنها واحدة من أكثر النزاعات دموية في القرن الحادي والعشرين. وقد أدّت هذه الحرب إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة، حيث تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى مقتل أكثر من 150 ألف شخص، وتشريد ما يزيد عن 12 مليون سوداني، فيما بات خطر المجاعة يهدد ملايين آخرين، لاسيما في مناطق دارفور وكردفان.

حرب إقليمية بواجهة سودانية

لم تكن الحرب التي عصفت بالسودان خلال العامين الماضيين حرباً داخلية خالصة، بل بدت وكأنها ساحة صراع لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. فقد اتّهم الجيش السوداني، في أكثر من مناسبة، دولة الإمارات العربية المتحدة بتقديم دعم مباشر لقوات الدعم السريع، عبر تزويدها بالسلاح والطائرات المسيّرة، وهو ما أدى إلى تنفيذ هجمات جوية على مواقع حساسة في مدينة بورتسودان في مايو 2025. وردّاً على ذلك، أعلن السودان في وقت لاحق قطع علاقاته الدبلوماسية مع أبوظبي، في خطوة تعكس تصاعد التوتر الإقليمي وتحوّل الحرب إلى ما يشبه استخدام الدم السوداني، في حرب بالوكالة.

الجيش يعيد تقديم نفسه.. من فاعل سياسي إلى حارس للدولة؟

في ظل هذا المشهد الملتهب، يسعى الجيش السوداني إلى إعادة تشكيل صورته لدى الرأي العام، ليس كطرف في نزاع سلطوي، بل كحامٍ للدولة السودانية المهددة بالتفكك. وقد جاء إعلان "تحرير الخرطوم" في هذا السياق، ليُعزّز من سردية الجيش بوصفه صمام الأمان الوحيد الذي يقف في وجه الانهيار الكامل، سواء من خلال مواجهة التمرد المسلح، أو من خلال التصدّي لمحاولات التدخل الإقليمي التي تُهدّد وحدة البلاد.

لكن هذا الإعلان يطرح في الوقت نفسه تساؤلات معقّدة: هل يشكل هذا النصر العسكري بداية حقيقية لنهاية الحرب؟ أم أنه مجرّد محطة على طريق صراع أطول، قد ينتقل من ساحات المعركة إلى دهاليز السياسة والتحالفات الإقليمية؟ وهل سيسمح المجتمع الدولي للجيش بالاحتفاظ بكل أوراق القوة، أم سيضغط من أجل تسوية سياسية تُعيد الاعتبار للانتقال المدني الديمقراطي؟

وهكذا، فإن ما جرى في الخرطوم ليس مجرّد حدث عسكري، بل لحظة سياسية بامتياز، قد تُعيد رسم الخرائط السودانية من جديد. فالخرطوم، التي ظلت رمزاً للانقسام والعنف طيلة عامين، عادت إلى حضن الجيش الوطني، ولكن بأي ثمن؟ وهل يستطيع السودان أن يتحرر من فوضى البنادق ليدخل في مسار بناء دولة مدنية عادلة؟ أم أن الصراع سيتحوّل إلى أشكال أخرى من الهيمنة والتجاذب السياسي؟ الإجابة ستحدّد ليس فقط مصير السودان، بل أيضاً شكل توازنات القوى المخترقة على رأسها الإمارات.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار