2025.07.17
حديث الساعة
\

"إسرائيل" تحرق مدارس الأونروا.. الملاذ الأخير يتحوّل إلى مذبح جماعي


لا نهاية للموت في غزة، ولا مكان فيها للنجاة، فحتى المدارس ومراكز الإيواء التي كانت توصف بكونها "الملاذ الأخير" تحولت إلى مسارح للمجازر، فيما العالم يكتفي بالتنديد اللفظي، ويصمت أمام حرب إبادة تُنفّذ على مدار الساعة.

منذ أن استأنف الاحتلال الصهيوني عدوانه على قطاع غزة في 18 مارس الماضي، وحتى اليوم، سجّلت وزارة الصحة الفلسطينية استشهاد أكثر من 3340 فلسطينياً، إلى جانب 9357 جريحاً، في حصيلة جديدة تضاف إلى سجل لا يتوقف عن النزف.

وبهذا، يرتفع العدد الإجمالي للشهداء منذ السابع من أكتوبر 2023 إلى أكثر من 53 ألف شهيد، و121 ألف جريح، في واحدة من أبشع صور الإبادة الجماعية في التاريخ الحديث. لكنّ الأرقام وحدها لا تروي حجم الكارثة، فخلف كل رقم، حكاية عائلة أُبيدت، وأم ودّعت أبناءها، وطفل نُزع من سريره جثة متفحمة، وشوارع غادرت الحياة لتحلّ مكانها رائحة الدم والرماد.

مجزرة حي الدرج.. حين احترق النازحون نياماً

في واحدة من أفظع المآسي التي هزّت الضمير الإنساني، شنّت طائرات الاحتلال الصهيوني غارة مروّعة على مدرسة "موسى بن نصير"، الواقعة في حي الدرج المكتظ شرقي مدينة غزة. المدرسة، التي تديرها وكالة "الأونروا"، استقبلت مئات العائلات التي فرّت من جحيم القصف، فحوّلها القصف إلى ساحة موت جماعي.

أسفرت الغارة عن استشهاد 44 شخصاً، غالبيتهم من النساء والأطفال، وحوّلت جدران المدرسة إلى رماد يتناثر فوق كتب مهترئة وحقائب أطفال لم يعرفوا بعد القراءة. وثّقت عدسات الكاميرات امرأة فلسطينية فقدت أبناءها جميعاً، وهي تجثو على الأرض داخل فصل دراسي محترق، تحتضن الهواء كأنها تحاول انتشال بقايا رائحة الأمان. في الخارج، وقف أطفال يحملون بين أيديهم ألعاباً مشوهة يبحثون عنها وسط الركام، كأنهم يرفضون التصديق بأن بيتهم المؤقت تحوّل إلى مقبرة.

لم تُمثّل المدرسة حالة استثنائية في هذا العدوان، بل جاءت ضمن سياق متواصل من استهداف الاحتلال للمدارس ومراكز الإيواء والمستشفيات. وبدا واضحاً من هذا التكرار أن آلة الحرب الصهيونية تسعى إلى تجريد الفلسطينيين من كل ما يشبه الحياة: التعليم، العلاج، المأوى وحتى الطفولة.

المقاومة ترد وتفاجئ العدو

في خضم هذا الجحيم، رفضت المقاومة الفلسطينية الاستسلام. كشفت وسائل إعلام إسرائيلية عن "حدث أمني كبير" هزّ قوات الاحتلال داخل القطاع، بعد انهيار مبنى فوق وحدة عسكرية صهيونية، ما أدى إلى إصابة عدد من الجنود وفقدان أحدهم. وبعد وقت قصير، أعلنت "سرايا القدس" – الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي – عن تنفيذ عملية نوعية استهدفت دبابة صهيونية شرقي خان يونس، وتسبّبت في اشتعالها.

المقاومة رفعت وتيرة عملياتها في مناطق متفرقة مثل خان يونس ورفح وبيت حانون وبيت لاهيا، واستفادت من معرفتها الدقيقة بجغرافيا القطاع، فاعتمدت على الكمائن والأنفاق لتوجيه ضربات موجعة للقوات المتوغلة. ورغم محاولات الاحتلال إخفاء حجم الخسائر، فإن مؤشرات عديدة كشفت عن استنزاف متواصل في صفوفه، الأمر الذي دفعه لتكثيف القصف والانتقام من المدنيين.

المجازر تتوالى.. والنازحون يدفعون الثمن

شهد أمس الثلاثاء مذبحة حقيقية في أنحاء متفرقة من غزة، حيث استشهد 79 فلسطينياً، بينهم نساء وأطفال، في سلسلة من الغارات التي استهدفت مراكز إيواء ومنازل وأسواق. وفي بيت لاهيا، استهدفت طائرات الاحتلال مدرسة "خليفة"، ما أسفر عن استشهاد أربعة نازحين. وفي مخيم جباليا، تساقطت القذائف على منزل عائلة المقيد، فارتقى عدد من سكانه. أما في مخيم النصيرات، فحوّلت غارة عنيفة محطة وقود إلى كتلة من اللهب، وسط ازدحام كبير بالنازحين، مما أدّى إلى استشهاد 15 شخصاً.

وجهة الغرب أيضاً لم تسلم من القصف، إذ استشهد فلسطينيان في دير البلح، أعقب ذلك استهداف منزل آخر في المدينة، ما أدى إلى ارتقاء 13 شهيداً إضافياً. وتصاعدت الغارات بشكل ملحوظ على منطقة المواصي بخان يونس، حيث لجأت آلاف العائلات المهجّرة بحثاً عن مأوى آمن. لم تحمِ الخيام سكانها من القذائف، بل تحوّلت إلى أكفان جماعية.

كارثة إنسانية بلا ملامح للنهاية

انهار النظام الصحي في غزة تحت وطأة العدوان، بعد خروج أكثر من 80% من المستشفيات عن الخدمة. طواقم الدفاع المدني وقفت عاجزة أمام الأنقاض، حيث لم تمتلك المعدات أو الوقود الكافي لإنقاذ العالقين أو انتشال الجثث. كشفت وزارة الصحة عن وجود أكثر من عشرة آلاف مفقود، يُعتقد أن معظمهم دُفنوا تحت الركام، فيما تزداد التحذيرات الدولية من اقتراب القطاع من كارثة إنسانية لم يشهد لها العصر الحديث مثيلاً.

رغم تصاعد الدعوات الدولية لوقف إطلاق النار، وارتفاع أصوات الإدانة، عجزت المنظمات الدولية عن إدخال المساعدات الطبية أو حتى الغذاء، وبقيت غزة تحت حصار مزدوج: قصف جوي وحصار بري خانق.

الدمار يبتلع كل شيء

دخل العدوان شهره الثامن عشر، مخلفاً دماراً واسعاً طال كل مناحي الحياة في قطاع غزة. لم تسلم منطقة من القصف، إذ أُبيدت البنية التحتية في معظم المدن والمخيمات، وانهارت المدارس والمستشفيات والطرق والجسور والمباني الحكومية، أو لحقت بها أضرار جسيمة. تحوّلت المدن إلى مناطق منكوبة يصعب الوصول إليها، ويعيش أكثر من مليوني فلسطيني نازحين داخل وطنهم، حيث اضطُر كثيرون للنزوح المتكرر، بعضهم أكثر من عشر مرات، بحثاً عن مأوى آمن.

لم يعد في غزة شارع آمن ولا مبنى صالح للسكن، وتحولت الأحياء إلى خرائب والمدن إلى مدافن مفتوحة، فيما يقف المجتمع الدولي موقف المتفرج، عاجزاً أو متواطئاً.

غزة تنزف لكنها لم تنحنِ

رغم الموت والركام، تمسكت غزة بالحياة. أهلها واجهوا العدوان بما توفر لهم: قاوموا بالسلاح حيناً، وبالدموع والصبر والتكاتف الشعبي حيناً آخر. لم تنحنِ غزة رغم وحشية القصف، ورفع شعبها راية الكرامة في وجه آلة عسكرية لا تعرف الرحمة.

في أزقتها، قُصف الطفل وهو نائم، وسقطت المرأة وهي تهرول نحو ملاذ آمن، واستُهدف الشيخ وهو يتوضأ. تحولت المدارس والمساجد والمستشفيات إلى ركام، واندثرت عائلات تحت منازلها، لكن جذوة الحياة في غزة لم تنطفئ.

اليوم، لا تخوض غزة معركتها من أجل حدودها فقط، بل من أجل القيم التي تخلّى عنها العالم: العدالة والكرامة وحق الإنسان في الحياة. ورغم وقوفها وحيدة، فإنها تقف بشموخ، تنزف لكنها لا تنهزم، تُطعن لكنها لا تموت. وفي قلب الظلمة التي تخيم عليها، تواصل غزة الإيمان بأن فجراً جديداً سيولد، مهما طال الليل.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار