2025.07.17
سياسة
أسرى فلسطين يكتبون وصاياهم على جدران الزنازين.. إنها دماء الصبر

أسرى فلسطين يكتبون وصاياهم على جدران الزنازين.. إنها دماء الصبر


في ظلمة السجون الإسرائيلية، حيث تُسلب الحرية ويُخنق الأمل، يقبع أكثر من عشرة آلاف فلسطيني، ليسوا أرقامًا باردة، بل هم قلوب تنبض بحكايات صمود وتضحيات لا تُنسى. نساء وأطفال، صحفيون وأطباء احتُجزوا وسط ظروف لا ترحم، محرومون من أدنى حقوق الإنسان، مصنّفون كمجرمين في قانون ظالم، يُجرّدهم من إنسانيتهم ويمنح الاحتلال ذريعة لتعذيبهم بلا رحمة.

في زنزانة باردة وُلد الطفل يوسف، حاملاً معه آلام أمه التي عذّبت قبل أن تراه، ونبضت روحه رغم القهر حتى استشهد برصاص الغدر. وهناك أطباء أُسروا وهم يؤدون أسمى واجباتهم، بعضهم رحلوا تحت وطأة التعذيب، والآخرون يعانون الإهمال الطبي الذي يقتل ببطء. وأجساد الأسرى تتلوّى في القيود، لكنها ترفض الانكسار.

خارج الأسوار، كانت الحاجة مزيونة وأم حلوة أيقونات الصبر والوفاء، صمدتا رغم وجع الفراق، وحمَلت قلوبهما أعباء الألم حتى آخر نفس، تاركتين فراغًا لا يُعوّض في قلوب الأسرى وعائلاتهم. أما الصحفيون الفلسطينيون، فهم يُقمعون خلف القضبان، لكن صوتهم لا يصمت، ينبض بالحقيقة رغم كل محاولات الاحتلال إسكاتهم.

وفي قلب هذا الظلام، تضيء قصص التحرّر ورسائل المقاومة كنجوم لا تخبو، تؤكد أن الحرية ليست حلماً مستحيلًا، بل هي حقٌ ينتظر من يشق طريقه. هنا، في دموع وآلام الأسرى وأمهاتهم، يُكتب فصل جديد من قصة شعب لا يُقهَر، يقاوم حتى آخر نفس، حتى الحرية.

بقلم: بن معمر الحاج عيسى

في قلب الظلام.. أسرى تموز يكتبون تاريخ الصمود بدمائهم

في تموز/ يوليو 2025، لم تعد أرقام الأسرى في سجون الاحتلال مجرد إحصائيات جامدة تكتب على ورق وتقفل في ملفات المنظمات الحقوقية، بل صارت مرآة دامية تعكس حجم المأساة الوطنية والإنسانية، وصارت وجوهاً وأسماء وأصواتاً تتردد أصداؤها من خلف جدران الزنازين، حتى بلغ عددهم الكلي 10,800 أسير، وهو الرقم الأعلى منذ اندلاع انتفاضة الأقصى، رقم يختزن في طياته قصصاً من الفجر المبكر حين يداهم الجنود البيوت، وحكايات أمهات يودعن أبناءهن على عتبات البيوت دون أن يعرفن متى سيعودون، رقم لا يشمل آلاف المعتقلين من غزة الذين اقتيدوا إلى معسكرات عسكرية مغلقة يديرها جيش الاحتلال بعيداً عن أعين العالم، حيث تنعدم أبسط مقومات الحياة وتغيب أي رقابة دولية، وبين هؤلاء الأسرى تقبع 49 أسيرة في زنازين يضيق هواؤها برائحة القهر، منهن أسيرتان من غزة تحملان في أجسادهما آثار الحرب والحصار، وفي قلوبهن جمراً من الصبر، كما يضم هذا السجن الكبير أكثر من 450 طفلاً أسيراً لم تتجاوز أقدامهم حدود الطفولة، جرى انتزاعهم من دفاتر المدرسة وحقائب اللعب وزُجّوا في غرف التحقيق والعزل الانفرادي، لتتشوه ذاكرتهم البريئة بمشاهد القيد والجنود، ويتصدر المشهد المظلم الاعتقال الإداري الذي طال 3,629 أسيراً، وهو أعلى رقم مسجل في تاريخ الاحتلال، هؤلاء الذين يعيشون على حافة الزمن بلا محاكمة وبلا تهمة، محتجزون بأوامر مفتوحة تجددها أجهزة المخابرات كلما شاءت، وكأن حياتهم ملكٌ مطلق لقرار ضابط، وفي زاوية أخرى يقف 2,454 أسيراً يصنفهم الاحتلال كمقاتلين غير شرعيين، وهو الرقم الأعلى منذ بدء الإبادة في غزة، ويشمل بين صفوفه أسرى عرباً من لبنان وسوريا، في مشهد يكشف أن قبضة الاحتلال لا تعرف حدود الجغرافيا ولا توقفها السيادة الوطنية للدول، وأن سياسته في الأسر هي مشروع إقليمي ممتد، ومع ذلك تبقى هذه الأرقام متحركة لا تعرف الثبات، فكل فجر جديد في فلسطين قد يعني اقتحاماً جديداً واعتقالاً جديداً، وقد يضيف وجهاً آخر إلى قائمة الأسرى، وجهاً يحمل معه قصة جديدة من الفقد والصمود، وبينما يظن الاحتلال أن هذه الأرقام دليل قوته وسطوته، فإن التاريخ الفلسطيني يعلمنا أن الزنازين تحولت إلى مدارس لصناعة الوعي وإعادة تشكيل الروح الوطنية، وأن كل أسير هو جبهة قائمة بذاتها، وكل قيد هو امتحان لإرادة لا تضعف، وأن هذه الأرقام التي تحاول "إسرائيل" أن تكتبها بالحبر ستظل محفورة في الذاكرة الفلسطينية بالدم والدمع، وأن ما بين 10,800 أسير و49 أسيرة وأكثر من 450 طفلاً و3,629 معتقلاً إدارياً و2,454 مصنفين كمقاتلين غير شرعيين، يقف شعب بكامله ليقول إن القيد مهما اشتد لا يستطيع أن يكسر قلباً امتلأ بفلسطين حتى آخر نبضة.

بقلم: نور يحيي إسليم

مقيدون بالإنسانية.. الطواقم الطبية في غزة بين قصف الاحتلال وقيد السجون

في زمن يعلو فيه صوت الدمار على أنين المصابين، وفي لحظةٍ كان من المفترض أن تبقى الأيادي البيضاء محصنة، تتحول المستشفيات في قطاع غزة من حصون للنجاة إلى ساحات اعتقال، ويغدو الطبيب الفلسطيني، لاجئا خلف القضبان، متهما بممارسة إنسانيته. أمام صمت العالم، يواصل الاحتلال الإسرائيلي استهداف الطواقم الطبية الفلسطينية، قافزا فوق كل المواثيق الدولية والإنسانية، باعتقال الأطباء أثناء تأدية مهامهم الإنسانية في إنقاذ أرواح الجرحى. الدكتور أكرم حسن أبو عودة، رئيس قسم جراحة العظام في المستشفى الإندونيسي شمال قطاع غزة، ليس سوى نموذج لهذا الاستهداف الممنهج.

من هو الدكتور أكرم أبو عودة؟

من مواليد 26 فبراير 1964، في بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة. اختار طريق الطب متخصصا في جراحة العظام، وحصل على درجة الماجستير من جامعة صوفيا في بلغاريا ليعود إلى غزة ويحمل هموم الجرحى والمصابين في قلبه، وسماعة الأمل على كتفه.

شغل منصب رئيس قسم العظام في المستشفى الإندونيسي وكان في طليعة الأطباء الذين رابطوا في مواقعهم رغم القصف والدمار، يؤدون واجبهم الإنساني في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وفي 23 نوفمبر 2024، وبينما كان الدكتور أكرم يعالج الجرحى، اقتحمت قوات الاحتلال المستشفى واعتقلته.

تفاصيل الاعتقال والتعذيب

نقل الدكتور أبو عودة إلى سجن عوفر العسكري. هناك، واجه صنوفا من التعذيب الجسدي والنفسي، وآلاما حادة نتيجة سوء المعاملة والضرب في انتهاك صارخ لكافة الأعراف الدولية التي تحمي الأطباء أثناء النزاعات. الاحتلال زعم أن الدكتور قدم علاجا لأسرى إسرائيليين جرحى، وهو ما يخالف المنطق القانوني حيث إن القانون الدولي يلزم الأطباء بتقديم العلاج دون تمييز ويوفر لهم الحصانة أثناء تأدية واجبهم الإنساني.

استهداف الطواقم الطبية: قائمة الأسرى من الأطباء

اعتقال الدكتور أبو عودة حلقة في سلسلة طويلة من الانتهاكات، حتى لحظة إعداد هذا التقرير، يقبع في سجون الاحتلال 24 طبيبا من قطاع غزة يعانون ظروف اعتقال لا إنسانية، منهم:

1 - د. حسام أبو صفية

2 - د. أمير التيان

3 - د. أحمد موسى

4 - د. مؤنس محيسن

5 - د. أحمد مهنا

6 - د. عبد الله أبو الجديان

7 - د. غسان أبو زهري

8 - د. أكرم أبو عودة

9 - د. بلال المصري

10 - د. حسن المقيد

11 - د. مراد القوقا

12 - د. خالد صيام

13 - د. عصام رضوان

14 - د. محمد حمودة

15 - د. محمود الحلاق

16 - د. رائد مهدي

17 - د. ناهض أبو طعيمة

18 - د. عوني جعوانة

19 - د. محمد أبو عبيد

20 - د. أحمد شحادة

21 - د. مصعب سمعان

22 - د. حمزة أبو صبحة

23 - د. مدحت أبو طبنجة

24 - د. مروان الهمص

مروان الهمص.. الطبيب الأخير خلف القضبان

في 21 يوليو 2025، اختُطف الدكتور مروان الهمص، مدير المستشفيات الميدانية والمتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة، على يد قوة خاصة إسرائيلية أثناء ذهابه لأداء مهمة عمل في مستشفى اللجنة الدولية للصليب الأحمر بمنطقة المواصي غرب خان يونس.

أثناء عملية الاعتقال، أصيب السائق المرافق له، واستشهد مواطنان أحدهما صحفي. وكان الهمص يشغل سابقا إدارة مستشفى الشهيد أبو يوسف النجار، قبل أن يتولى مهامه في قيادة القطاع الطبي الميداني خلال الحرب. اعتقال الدكتور الهمص يمثل تصعيدا خطيرا في سياسة الاحتلال الرامية إلى شل العمل الطبي في غزة عبر تغييب قيادات القطاع الصحي.

 شهداء الواجب خلف القضبان

في 19 أبريل 2025، استشهد الطبيب عدنان البرش، رئيس قسم جراحة العظام في مستشفى العودة، بعد أشهر من اعتقاله في سجن عوفر. كان قد اعتُقل من داخل المستشفى أثناء أداء واجبه، رغم إصابته، وارتقى شهيدا تحت التعذيب. بعده بأسابيع، لحق به الطبيب إياد الرنتيسي، رئيس قسم الولادة في مستشفى كمال عدوان، الذي توفي في مركز تحقيق تابع لجهاز "الشاباك" في عسقلان، بعد أسبوع من اعتقاله فقط، في نوفمبر 2024. جثمانا الشهيدين لا يزالان محتجزين، في جريمة مزدوجة: الاعتقال ثم القتل، ثم الإخفاء.

 القانون يُنتهك.. الطواقم الطبية هدف لا محمي

إن ما يتعرض له الأطباء الفلسطينيون في قطاع غزة من اعتقال وتعذيب وقتل، يُعد انتهاكا صارخا لأحكام القانون الدولي الإنساني، وتحديدا لاتفاقيات جنيف (1949) التي تنص في المادة 24 من الاتفاقية الأولى على حماية العاملين في الخدمات الطبية أثناء النزاعات المسلحة وتعتبر الاعتداء عليهم جريمة حرب. كما تنص المادة 20 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف على ضرورة احترام وحماية أفراد الخدمات الطبية في جميع الأوقات، وتمنع محاسبتهم على تقديم الرعاية الطبية لأي طرف من أطراف النزاع.

وعليه، فإن المجتمع الدولي مطالب بـ:

*  التدخل الفوري والعاجل للإفراج عن جميع الأطباء المعتقلين.

* محاسبة المسؤولين عن تعذيب الأطباء واستشهادهم داخل السجون.

* تفعيل الآليات القانونية لملاحقة مرتكبي الجرائم ضد الطواقم الطبية في غزة.

 حين تقيد أيادي الأطباء تفتح جراح الشعوب

في غزة، الطبيب لم يعد مجرد مداوٍ، لقد أصبح هدفا. وبين غرفة العمليات والسجون والمعتقلات يصرخ الضمير الإنساني: "أنقذوا من يُنقذون". إن اعتقال الأطباء الفلسطينيين في قطاع غزة، وتعذيبهم داخل مراكز التحقيق الإسرائيلية، واستشهاد الأطباء تحت التعذيب واحتجاز جثامينهم يعد جريمة حرب مكتملة الأركان توجب على المجتمع الدولي فتح تحقيق فوري، ومساءلة سلطات الاحتلال أمام المحاكم الدولية المختصة، وعلى رأسها المحكمة الجنائية الدولية وفقا لمبدأ عدم الإفلات من العقاب. إن السكوت عن هذه الانتهاكات يشجع على تكرارها ويفتح الباب أمام ارتكاب مزيد من الجرائم ضد المدنيين والعاملين في القطاع الصحي ما يستوجب تحركا دوليا عاجلا لحماية ما تبقى من الضمير الإنساني في ساحات الصراع.

تحديث عن أعداد الأسرى والمعتقلين في معتقلات الاحتلال الإسرائيلي حتى بداية شهر آب/ أغسطس

● بلغ إجمالي أعداد الأسرى والمعتقلين في معتقلات الاحتلال الإسرائيلي حتى بداية شهر آب / أغسطس 2025 نحو (10,800) أسير، علمًا أن هذا الرقم لا يشمل المعتقلين المحتجزين في المعسكرات التابعة لجيش الاحتلال. ويشكّل هذا العدد الأعلى منذ انتفاضة الأقصى عام 2000، وذلك استنادًا إلى المعطيات التوثيقية المتوفرة لدى المؤسسات.

● الأسيرات: يبلغ عددهن حتى تاريخ اليوم (49) أسيرة، بينهن أسيرتان من غزة.

● الأطفال: حتى تاريخ اليوم، بلغ عددهم أكثر من (450) طفلًا.

● المعتقلون الإداريون: حتى بداية تموز/ يوليو، بلغ عددهم (3,613) معتقلًا، وهي النسبة الأعلى مقارنة بأعداد الأسرى الموقوفين والمحكومين والمصنفين "كمقاتلين غير شرعيين".

● المعتقلون المصنّفون "كمقاتلين غير شرعيين": بلغ عددهم (2,378) معتقلًا. علمًا أن هذا الرقم لا يشمل جميع معتقلي غزة المحتجزين في المعسكرات التابعة لجيش الاحتلال. ويُذكر أن هذا التصنيف يشمل أيضًا معتقلين عربًا من لبنان وسوريا.

بقلم: عبد الناصر فروانة

الفتى يوسف: المهد سجنٌ.. واللحد شهادة

يوسف محمد الزق، هو فتى أنجبته أمه وهي مقيَدة بالأصفاد بين جدران سجن إسرائيلي، فوُلد أسيراً، وأطلق صيحاته الأولى مكبَلاً، وأبصر النور في زنزانة معتمة وضيقة المساحة، وسُجل مولده في شهادة ميلاده أنه في سجن هشارون الإسرائيلي، فكانت الصورة الأولى التي حُفرت في ذاكرته ووجدانه هي لسجان متوحش بصورة إنسان، فأضحى شاهداً على الجريمة. وعاش الفتى طفولة استثنائية وغير طبيعية في كنف الحياة الاعتقالية، فعانى جرّاء وجع السجن في المهد من دون أن يعي معنى الحياة بين جدرانه أو أن يدرك مكان وجوده. ومع ولادته، لم تراعِ إدارة السجن بداياته، ولم توفر له مكاناً ملائماً وعناية صحية أو غذاءً مناسباً، كما رفضت إدخال بعض من حاجاته الضرورية عبر الأهل أو المؤسسات، بما فيها الملابس والألعاب وسرير النوم. ولم يكن يوسف في منأى عن سوء المعاملة وآثار الإجراءات اليومية والاقتحامات المفاجئة ورشّ الغاز وتبعات ذلك، فذاق قسطاً مما عانت جرّاءه أمه ورفيقاتها، وفي مرات عديدة جعل السجَّان من الطفل ذريعة لمعاقبة الأسيرات داخل الغرفة، وذلك بتهمة "الإزعاج" في إثر بكاء شديد أو صراخ متواصل سببه جوع الرضيع أو ألم كامن داخله.

عودة إلى أصل الحكاية..

تعود أصل الحكاية إلى 20 آيار/مايو 2007، حين اعتقلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي والدته فاطمة الزق، تاركة ورائها ثمانية أبناء، في أثناء مرورها عبر معبر بيت حانون، المسمى إسرائيلياً إيرز، شمالي قطاع غزة، وهو المنفذ الوحيد أمام سكان غزة للمرور إلى المناطق المحتلة سنة 1948 أو إلى القدس والضفة الغربية. وكانت فاطمة مرافقة لابنة أختها المريضة روضة حبيب، التي اعتقلت معها أيضاً وهي أم لأربعة أبناء، وكانت في حاجة إلى إجراء عملية جراحية في أحد المستشفيات الإسرائيلية بتغطية مالية من وزارة الصحة الفلسطينية، بعد أن حصلتا على موافقة إسرائيلية مسبقة للمرور عبر المنفذ المذكور. اعتُقلت فاطمة، وكنيتها أم محمود، ولم تكن على معرفة بأنها حامل في شهرها الثاني، وقُيدت يداها بالأصفاد وعُصبت عيناها، قبل أن تُنقل إلى سجن عسقلان، وهناك زُج بها داخل زنزانة، ضيقة ومعتمة ومتسخة. وبينما دلل الفحص الطبي الذي أُجري لها في الأيام الأولى على ثبوت حملها، زادت شدة التعذيب عليها من دون اكتراث بما تحمله بين أحشائها، وما يمكن أن يلحق بالجنين من ضرر وأذى، وتكررت محاولاتهم مراراً لإسقاط جنينها، لكن شاء القدر أن ينجو الجنين من بطشهم ويبقى يتنفس وينمو. لقد أُخضعت الأم الحامل لتحقيق قاسٍ، وواجهت صنوفاً متعددة من التعذيب الجسدي والنفسي، بينما لم ينتهِ العذاب مع انتهاء فترة التحقيق، والتي استمرت لنحو 21 يوماً، ولم تتحسن معاملة السجان/ة لها بعد نقلها إلى سجن هشارون المخصَص للنساء، حيث قسوة المعاملة وسوء التغذية وصعوبة أوضاع الاحتجاز ورداءة التهوية وتدنّي الرعاية الصحية وغيرها.

الولادة..

حين اشتد المخاض ودخلت فاطمة مرحلة متقدمة من الولادة، تم نقلها إلى مستشفى مائير، ووُضعت في غرفة صغيرة، مقيَدة اليدين والقدمين بالسلاسل، وجزء من أطرافها مقيَد بالسرير، وسط حراسة أمنية مشددة من دون أن يُسمح لزوجها أو أي من أفراد عائلتها الدخول لمساندتها في أثناء المخاض، أو للاطمئنان عليها والتواجد إلى جانبها بعد الولادة، وهو ما زاد من خوفها وقلقها، مستحضِرة ما حدث من قبل مع مثيلاتها. وفي لحظة دخولها غرفة العمليات فقط، فُكت القيود عنها، وبعد الولادة بساعتين فقط، أعادوا القيود ثانية، وعادت معها السجانة لتقف فوق رأسها، تنهرها وتكيل لها الشتائم، بدلاً من أن تكون هناك أمّ أو أخت أو إحدى قريباتها إلى جانبها تساندها وتخفف عنها. وضعت أم محمود مولودها التاسع، في 17 كانون الثاني/يناير 2008، وسمّته يوسف، تيمُناً بسيدنا يوسف عليه السلام الذي عاش في السجن، رافضة طلب إدارة السجن أن تطلق عليه اسم مدير السجن نبيل، بحسب ما روت لي في وقت سابق حين التقيتُها، وقد التقيتُها أكثر من مرة، واستمعت إلى قصتها مراراً.

ما لا يقل عن 12 أسيرة أنجبن في الأَسْر

فاطمة الزق ليست المرأة الأولى التي تُعتقل وهي حامل، إذ سبقها ولحق بها كثير من النساء الفلسطينيات، أغلبهن كانت فترة اعتقالهن قصيرة، فأُطلق سراحهن قبل أن يحين موعد الولادة، بينما ما زالت 3 أمهات حوامل، من مجموع 50 أسيرة، يقبعن في سجون الاحتلال الإسرائيلي اليوم. كما لم تكن هي الأسيرة الوحيدة التي طالت فترة اعتقالها وأُجبرت على الولادة والإنجاب داخل السجن الإسرائيلي، فالذاكرة تحفظ أسماء ما لا يقل عن اثنتي عشرة أسيرة فلسطينية أنجبن في الأَسْر، في أوضاع متشابهة، على مدار فترة الاحتلال الإسرائيلي، وسبق أن وُثّقت مجموعة منها، فكانت الأسيرة زكية شموط، من مدينة حيفا، والتي اعتُقلت سنة 1971، وهي حامل في شهرها السادس، أول أسيرة فلسطينية تُنجب داخل السجن الإسرائيلي.

للحرّية مذاق آخر...

في 1 تشرين أول/أكتوبر 2009، كان موعد الطفل مع الحرية، بعد إمضاء أول 21 شهراً من عمره وراء القضبان ووسط الأسيرات اللواتي شكّلت كل واحدة منهن أمّاً له، وعندما غادرهن مُحرَرَاً، بكى حُزناً على فراقهن، بينما أمضت أمه 28 شهراً موقوفة من دون حكم، وتحررت في إطار ما عُرف بصفقة شريط الفيديو الخاص بالجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، الذي كان في حينها أسيراً لدى الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، حين أُفرِج عن 20 أسيرة فلسطينية آنذاك. لم تخرج أم محمود من السجن وحدها كما دخلت، إنما خرجت وفي حضنها طفل يحمل لقب أصغر أسير محرَر في العالم، فكانت المرة الأولى التي يَراهُ فيها أبوه وإخوته الذين لم يُسمح لهم بالزيارة طوال فترة الاعتقال. تحرَر يوسف وخرج من السجن، بينما السجن ومعالمه بقيا في مخيلته، وبات يفضّل إغلاق الأبواب، ويميل إلى اقتناء الأقفال والسلاسل. وبالتدريج، بدأ يتكيف مع المحيط الاجتماعي ويندمج في المجتمع الجديد من دون أن تُمحى من ذاكرته تلك الصور. ومخطئ من يعتقد أن مرور الأعوام يُمكن أن يمحو صوراً قاسية طُبعت في ذهن طفل تعرض لحادث يفوق قدرته على التحمل، وما يُصطلح على تسميته بالصدمة، والصدمات النفسية في الصغر لا تُمحى.

زيارة الجزائر..

بعد عام ونيف، سافر يوسف ووالدَيه بصحبتنا إلى الجزائر للمشاركة في الملتقى العربي الدولي لنصرة الأسرى، برعاية الرئيس الجزائري، فنَالَ ووالدته ترحيباً كبيراً، محفوفاً بالحب والتقدير، وحين اعتلى مع والدَيه المنصة داخل قاعة الصنوبر، وهي القاعة نفسها التي أعلن فيها الرئيس الراحل ياسر عرفات إعلان وثيقة الاستقلال الفلسطيني سنة 1988، حظي بتصفيق حار وهتافات شديدة، وكان حضوره وكلمات أمه من أكثر رسائل المؤتمر قوة وتأثيراً، وقد كنتُ هناك شاهداً على الحدث.

النشأة والانتماء..

ينتمي الفتى يوسف إلى أسرة مكونة من 11 فرداً، تنحدر من قطاع غزة، وتربّى في كنفها، ونشأ وسط عائلة مناضلة عُرفت بأصالتها وانتمائها الوطني، وقدّمت من أبنائها العديد من الشهداء والجرحى، وكان لها نصيب وافر من الاعتقال، والقائمة هنا تطول، فهي لم تقتصر على يوسف وأمه، ولا تتوقف عند أبيه الذي سبق أن ذاق مرارة الاعتقال أيضاً لأكثر من مرة، فجده أبو عبدالله - رحمة الله عليه - وأعمامه الخمسة هم الآخَرون تعرضوا للاعتقال، ومنهم مَن اعتُقل أكثر من مرة، وبينهم محمود (أبو الوليد)، وعبد الله (أبو سليمان)، وقد كانا من الرعيل الأول، وتحررا ضمن صفقة التبادل الشهيرة سنة 1985 بعد أن أمضيا أعواماً طويلة في الأَسْر. وفي فترة ما من انتفاضة الحجارة سنة 1988، قدِّر لهم - الأب والجد والأعمام - أن يكونوا جميعاً في السجون، بينما كان محمود يعاني جرّاء قهر الإبعاد منذ أن تحرر سنة 1985، قبل أن يعود إلى غزة في أواسط تسعينيات القرن الماضي، وغيرهم كثيرون من أفراد العائلة الذين حفروا أسماءهم على جدران الزنازين. كبُر يوسف وترعرع بين أزقة حي الشجاعية وشوارعه، وتعلّم في مدارس الحي، وكان مهتماً بدراسته، ويسعى لتحقيق النجاح والتفوق في مراحلها المتعددة كي يتمكن من اجتياز الثانوية العامة والوصول إلى الجامعة، ومن ثم تحقيق أحلامه وطموحاته الكبيرة. واتسم الفتى بالهدوء وحسن الخلق، وقد أحب مَن حوله، وأنشأ دائرة واسعة من الأصدقاء، فأحبه الجميع، وعلى الجانب الآخَر بقي ملتصقاً بقضية الأسرى والأسيرات، وجاء مراراً مع والدته إلى الاعتصام الأسبوعي التضامني أمام مقر الصليب الأحمر في غزة. كما رأيته مشاركاً في العديد من الفعاليات الأُخرى ذات الصلة بالقضية. أمّا والدته المُحرَرَة، فهي دائمة الحضور، ونادراً ما تتغيب عن الاعتصامات والفعاليات المساندة للأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

موعدٌ مع الشهادة..

منذ اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 تشرين أول/أكتوبر 2023، عاش الفتى حياة لم يعتدها من قبل؛ فعانى، كالآخرين، جرّاء الخوف والرعب، والجوع والعطش، والقصف والقتل، وخاض تجربة النزوح مع أُسْرَتِهِ مرات عديدة هرباً من الموت من خيمة إلى أُخرى، ومن مكان إلى آخر، بحثاً عن أمان مفقود في مساحة جغرافية صغيرة، فلم يجده، ولن ينعم به أحد ما دام الاحتلال جاثماً هُنا في بلدي، وطالما حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة مستمرة. وفي فجر السبت 12 تموز/يوليو الجاري، وبينما هو نائم، كان حينها موعد يوسف مع الشهادة في إثر قصف بطائرة مسيّرة إسرائيلية استهدف شقة نزحت إليها عائلته في شارع الثورة وسط مدينة غزة. لم يكتفِ الاحتلال بميلاد الفتى في زنزانة، أو بأنه عاش مُحَرَراً مُحاصَراً ومُكبَلاً بذكريات السجن، إنما عاد إليه السجان الإسرائيلي، حين بلغ السابعة عشر من عمره، وجاءه هذه المرة بزي مختلف، فأرداه قتيلاً، ليرتقي يوسف الزق شهيداً، وينضم إلى ضحايا حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، فكان وداع الأم لجثمان نجلها الشهيد ليس كأي وداع، بعد أن تشاركا سوياً قسوة الاعتقال ومرارة السجن وفرحة الحرية، قبل أن يطوي الاحتلال حياة الشاب ويُذيق الأم لوعة الفقد.

عن الكاتب: عبد الناصر فروانة: أسير محرَّر، ومختص بشؤون الأسرى، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، ورئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين، وعضو لجنة إدارة هيئة الأسرى في قطاع غزة. ولديه موقع شخصي اسمه: فلسطين خلف القضبان.

كتب: أمجد النجار - مدير عام نادي الأسير

الأسير المحرر في صفقة التبادل أحمد سليم.. نموذجٌ وطني يُحتذى به بين الأسرى المحررين

حينما يُذكر اسم أحمد سليم بين الأسرى المحررين المبعدين إلى القاهرة، يتردد صداه في قلوبهم وعقولهم بكل تقديرٍ وإجلال. فهو ليس مجرد أسير محرر، بل رمزٌ للعطاء والتفاني والانتماء الصادق للوطن. ابن محافظة سلفيت، الذي حُكم عليه بالسجن المؤبد مرتين إضافة إلى 25 عامًا، قضى منها 23 عامًا في سجون الاحتلال، ليخرج مرفوع الرأس، حاملاً رسالة الوفاء لرفاقه في الأسر، ومسؤولية السهر على راحتهم وتلبية احتياجاتهم. منذ أن وطأت قدماه أرض مصر، لم يعرف الراحة. فهو الدينامو الذي لا يهدأ، يسعى لتوفير كافة متطلبات زملائه الأسرى، ويتولى مسؤولية تنسيق أمورهم باهتمام وحسٍ وطني عالٍ. سواء أكان الأمر متعلقًا بمواعيد الأطباء، أو بتأمين الاحتياجات الأساسية، أو حتى باستقبال الضيوف الذين يأتون لتهنئة الأسرى، كان أحمد سليم حاضرًا، جاهزًا، متفانيًا. ما يميّزه ليس فقط حبه لوطنه وإخلاصه لقضيته، بل أيضًا أسلوبه في العمل الجماعي، إذ لا يتخذ أي قرار بمفرده، بل يشاور الجميع ويحرص على جمع الكلمة وتوحيد الصف. وهذا ما جعله محبوبًا ومحل احترام كل من عرفه وتعامل معه. أخي أحمد سليم، أنت فخر لكل الأسرى المحررين، وقدوة يُحتذى بها في العطاء والتضحية. حفظك الله، وحفظ همّتك العالية، التي تنبع من انتماء وطني أصيل لا يعرف الحدود

بقلم: سامي إبراهيم فودة

وصمة "المقاتلين غير الشرعيين".. تشريع الظلم بحق أسرى غزة

في سابقة خطيرة تكشف الوجه الفاشي الحقيقي للاحتلال الإسرائيلي، صادقت الهيئة العامة للكنيست الإسرائيلي، في القراءتين الثانية والثالثة، على قانون يُتيح اعتبار الفلسطينيين المعتقلين من قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 "مقاتلين غير شرعيين"، في خطوة ترقى إلى مستوى جريمة تشريعية بحق الأسرى والمدنيين الفلسطينيين، وتُعدّ انتهاكًا صارخًا للشرائع الدولية كافة، وعلى رأسها اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني. القانون الذي أُقر بأغلبية 30 صوتًا فقط من أصل 120 عضوًا في الكنيست، يعكس حجم العنصرية المتفشية في المؤسسة التشريعية لدولة الاحتلال، ويمنح الضوء الأخضر لمواصلة خطف الفلسطينيين من القطاع وتجريدهم من أبسط حقوقهم القانونية والإنسانية، دون تهم، دون محاكمة، ودون تمكينهم من الدفاع عن أنفسهم أو حتى معرفة سبب اعتقالهم.

الاعتقال بلا تهمة.. والاحتجاز بلا سقف زمني

طيلة 22 شهراً، لا تزال آلة البطش الإسرائيلية تلاحق أبناء غزة، تعتقلهم من معابر الموت، ومن على أنقاض البيوت والملاجئ، وتزج بهم في معسكرات التعذيب وسجون الاحتلال، حيث تُمارَس بحقهم أفظع الانتهاكات: من الضرب والتنكيل إلى العزل والتجويع والحرمان من العلاج، وصولاً إلى التعذيب حتى الموت كما حدث مع عدد من الشهداء داخل السجون، وسط تعتيم إعلامي وتحايل قانوني ممنهج. إن تصنيف الفلسطينيين الغزيين كـ "مقاتلين غير شرعيين" يُجردهم من صفتهم المدنية أو حتى من صفة أسير الحرب، ويضعهم في خانة خارج نطاق الحماية القانونية. وكأنهم غرباء تسللوا عبر الحدود، لا أبناء أرضهم، يُقاومون الاحتلال الذي يفتك بشعبهم، ويشن عليهم حرب إبادة شاملة.

قانون عنصري.. وممارسة فاشية ممنهجة

يمنح القانون سلطات الاحتلال الصلاحية المطلقة لاحتجاز المعتقلين الفلسطينيين دون لائحة اتهام، ويمنعهم من لقاء محامين، ويشرعن تعذيبهم في غياهب الزنازين العسكرية، دون رقابة أو مساءلة. وهو بذلك لا يعدو كونه غطاءً قانونيًا لجرائم حرب واضحة، يعكس الانحدار الأخلاقي والقانوني للمؤسسة التشريعية الإسرائيلية الخاضعة لسطوة اليمين المتطرف. وبدل أن يتحرك الكنيست لإلزام حكومته بوقف العدوان، يسعى لتكريس واقع الإبادة وتطبيع الجرائم، وتشريع أساليب التعذيب الممنهج، والتنكيل الجماعي بأهالي غزة تحت يافطة "قانون استثنائي"، في تجاهل فاضح لكل القيم الإنسانية.

دعوة للتحرك الدولي الفوري

إننا في ظل هذه التطورات الخطيرة، نطالب:

- البرلمانات الدولية، والمؤسسات التشريعية الحرة في العالم، بإدانة هذا القانون العنصري.

- الهيئات الحقوقية والقانونية الدولية، باتخاذ خطوات فاعلة لوقف العمل بهذا القانون الجائر.

- اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بتحمل مسؤولياتها تجاه الأسرى في سجون الاحتلال، والعمل للكشف عن مصير المئات من المعتقلين من غزة.

- محكمة الجنايات الدولية، بتوسيع دائرة التحقيق في جرائم الحرب ضد المدنيين، واعتبار هذا القانون دليلاً دامغًا على الانتهاكات المتعمدة. إن استمرار الصمت العالمي أمام تشريع الجريمة، هو تواطؤ غير مباشر في استمرار حرب الإبادة ضد غزة وأسرانا الأبطال. يجب أن يتحول الغضب الشعبي إلى ضغط قانوني وسياسي يُلجم آلة القتل، ويُسقط قناع الشرعية الزائفة عن دولة الاحتلال.

بقلم: ثورة ياسر عرفات

الأسير المحرر أحمد سليم: ثماني رصاصات... وقلب لا ينهزم

في قلب سلفيت، حيث تنبض الأرض بالعزم، وتخضّبت التلال بصدى المقاومين، بدأت حكاية أحمد سليم الجقمط "أبو فادي"، قصة لا تُروى إلا بمداد الألم، ولا تُفهم إلا بمن عاش معنى الوطن الحقيقي. لم يكن أحمد مجرد شاب فلسطيني وُلد في مدينة سلفيت في أواخر الثمانينيات، بل كان وعدًا مؤجلاً للحرية، يحمل في قلبه شوق الأرض، وفي عينيه وهج التحدي. تربّى على حكايات الشهداء والأسرى، وسكنته فلسطين لا كخريطة بل كهوية لا تنفصل عن دمه. في أوائل الألفينات، وبينما كانت سلفيت تقاوم بصلابة جبالها، كان أحمد في طليعة من واجهوا المحتل. لم يكن ينتظر دورًا أو منصبًا، بل كان يتحرك من قلبه، مؤمنًا بأن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع.

وفي إحدى الأيام المشحونة بالتوتر، كان أحمد في ساحة من ساحات مدينة سلفيت، حين تسللت قوة إسرائيلية خاصة إلى المكان. وقع اشتباك عنيف، قاتل فيه أحمد ببسالة، لكن رصاصات الغدر اخترقت جسده، ثمانٍ منها استقرت فيه، وأثخنت قدمه بالجراح. لم يكن هذا المشهد نهاية، بل بداية الأسر الطويل. نُقل أحمد وهو ينزف إلى التحقيق ثم السجن، محمولًا على نقالة، لكن روحه لم تكن منهارة. بدأ داخل السجن فصلاً جديدًا من الصمود، لا كضحية، بل كمقاوم يتحدى السجن كما تحدى الرصاص. داخل الزنزانة، كان الألم في قدمه لا يفارقه، لكنه لم يطلب شفقة. لم يكن يعاني من أمراض، بل من إهمال طبي متعمد، ترك إصابته بلا علاج حقيقي، لتبقى آثارها شاهدة على جريمة الصمت. ورغم القيد والجراح، اختار أحمد أن يجعل من السجن جامعة. قرأ بنهم، درس، تثقف، وبدأ يُعلّم من حوله. كانت روحه تكبر، وعقله يتسع، وكان دائمًا يقول لرفاقه: "السجن يقيّد الجسد، لكن الفكر لا يُسجن." مرّت السنوات ثقيلة. أكثر من عقدين قضاهما خلف القضبان، تحمل خلالها أصعب أنواع العذاب النفسي والحرمان. لكن القلب ظل معلقًا بفلسطين، والأمل لم يمت فيه يومًا.

وفي فبراير من العام 2025، تنفس أحمد أولى أنفاس الحرية. أُفرج عنه ضمن صفقة تبادل مع الاحتلال، لكن الاحتلال لم يطلقه حرًا إلى بيته، بل اختار أن يُبعده إلى مصر، بعيدًا عن أهله، عن سلفيت، عن والدته التي انتظرته العمر كله. في القاهرة، لم يكن اللقاء بالحرية كاملاً. كانت فرحته مبتورة. استقبلته جالية فلسطينية تحتضنه، لكن قلبه كان هناك... في سلفيت، في بيت أمه، في أزقة الطفولة. لم يكن حرًّا كما يجب أن يكون. لم يتجوّل في شوارع المدينة، بل يمكث في غرفة فندق، يراقب الزمن وهو يمرّ ببطء، يراقب مصيره المعلّق بين الحدود والمنفى. يحمل في صدره الشوق، وفي عينيه الانتظار. يسأل نفسه: هل ما زالت شجرة التين في الحوش كما تركها؟ هل تعرفني أمي إن رأتني؟ ومتى تعود قدماي لتطأ أرض سلفيت من جديد؟ وفي لحظة إنسانية لا تُنسى، جاءت أمّه من فلسطين لزيارته. عانقته كما لو أنها تحتضن الوطن كلّه، وبكت كما تبكي الأرض حين ترتوي بعد سنين الجفاف. عادت إلى سلفيت، وهو بقي خلف الحدود، لكن اللقاء أعاد الحياة لعينيه. سيعود أحمد إلى سلفيت، إلى شجر الخروب، إلى البيارة، إلى الحارة، إلى ضحكة أمه، وإلى تراب لا ينسى من أحبه. المنفى لا يدوم، والسجون لا تُخلد، لكن العائدين أمثال أحمد... هم من تكتب الأرض أسماءهم في حجارتها.

في لقاء حاسم.. نادي الأسير يواجه الصليب الأحمر بمطالب الأسرى

التقى وفد من نادي الأسير الفلسطيني، برئاسة عبد الله الزغاري والمدير العام أمجد النجار، مع مدير البعثة الفرعية للجنة الدولية للصليب الأحمر بيرتراند لامون، ومديرتها في رام الله سهى مصلح. ناقش اللقاء الجرائم الممنهجة التي تُرتكب بحق الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، في ظل صمت دولي مستمر وعجز واضح، مقابل تصاعد المطالبات بالإفراج عن أسرى الاحتلال المحتجزين في غزة.

وجّه نادي الأسير انتقادات لاذعة للجنة الدولية بسبب خطابها الرسمي، خاصة ردها الأخير على مطالبات نتنياهو بملف "الرهائن"، إذ اقتصرت ردود اللجنة على إبراز جهودها دون موقف صريح من الانتهاكات الخطيرة التي وثقتها المؤسسات الفلسطينية، وعدم إعلان موقف واضح إزاء ارتفاع أعداد شهداء الأسرى الذين بلغ عددهم 76 حتى الآن.

وشدّد النادي على ضرورة أن تستعيد اللجنة دورها الحيوي، خاصة في متابعة زيارات الأسرى في سجون الاحتلال، التي أوقفها الاحتلال منذ بداية العدوان، مشيراً إلى أن استمرار هذا التوقف يعمّق معاناة الأسرى ويزيد من مخاطر تعرضهم للتعذيب والإهمال الطبي. ودعا نادي الأسير المجتمع الدولي إلى الضغط على الاحتلال لضمان احترام حقوق الأسرى وتوفير الحماية اللازمة لهم، معتبرًا أن واجب اللجنة الدولية هو حماية حقوق الإنسان وعدم التواطؤ مع الانتهاكات.

عبد الله الزغاري رئيس نادي الأسير الفلسطيني

وداعاً يا أم ناصر وداعاً يا أيقونة الوفاء

نقف اليوم بقلوبٍ مكلومة، وأرواحٍ حزينة، أمام وداع قامة وطنية شامخة، ووجه من وجوه الصبر والتحدي، الحاجة مزيونة أبو سرور، والدة عميد أسرى محافظة بيت لحم، الأسير البطل ناصر أبو سرور، المعتقل منذ 33 عامًا والمحكوم بالمؤبد. نودعك اليوم يا أم ناصر، والدمع في العيون، والقلب يعتصره ألم الفقد، والروح تئن حزناً على فراقك. كنتِ رمزًا حيًا لصوت الأمهات المناضلات، الحاضرة الدائمة في كل فعالية، في كل ساحة، أمام مقرات الصليب الأحمر، في وقفات التضامن، في صلوات الصابرين ودعاء الصامدين. بكِ كانت شوارع بيت لحم تشتعل أملاً، وكانت زقاق المخيم تعرف وقع خطواتك، وتعرف ملامحك، وتتنفس من صبرك صمودًا، ومن وجعك طاقة نضال لا تنضب. رحلتِ يا أم ناصر، وكأنك استعجلتِ اللقاء مع من سبقوكِ من أمهات الشهداء والأسرى، في وقت نحن فيه نقترب من نور الحرية القادم، نور سيضيء زنزانة ناصر، ويفتح باب السجن على مصراعيه لكل من يزال يقبع خلف القضبان. لن ننساكِ، ولن ينسى شعبنا تضحيتك، وصوتك الذي لطالما صدح باسم الأسرى في كل ساحة. كنتِ أمًّا لكل أسير، وأيقونة للصبر النبيل. باسمي، وباسم نادي الأسير الفلسطيني، وباسم كل أبناء شعبنا، نتقدم من عائلتك الكريمة، ومن أبنائك، وفي مقدمتهم الأسير القائد ناصر، بأحر التعازي وأصدق مشاعر المواساة. رحمك الله، وأسكنك فسيح جناته، وجعل صبرك ومواقفك ذخراً لك في دار الخلود. وداعاً يا أم ناصر… وداعاً يا أيقونة الوفاء.

55 صحفياً معتقلاً.. الاحتلال يواصل القمع

قال نادي الأسير الفلسطيني، إنّ سلطات الاحتلال الإسرائيلي تواصل التصعيد من استهداف الصحفيين عبر عمليات اعتقالهم، حيث ارتفع عدد الصحفيين المعتقلين إلى 55 صحفياً، من بينهم 50 صحفياً اُعتقلوا منذ بدء حرب الإبادة. ولفت النادي إلى أن الاحتلال يواصل تصعيد حملته ضد الصحفيين واستهدافهم بشكل غير مسبوق منذ بدء حرب الإبادة الجماعية المستمرة، إذ بلغ عدد الصحفيين الذين تعرضوا للاعتقال أو الاحتجاز منذ اندلاع الإبادة 195 صحفيًا/ة، وذلك بعد اعتقال الصحفية فرح ابو عياش فجر اليوم.

وأكد نادي الأسير مجدداً أنّ الاحتلال يسعى من خلال اعتقال الصحفيين إلى إسكات أصواتهم أمام الجرائم المهولة التي يرتكبها، واستهداف الرواية الفلسطينية، وفرض المزيد من الرقابة والسيطرة على عملهم. ومن الجدير ذكره أنّ غالبية الصحفيين الذين يتم اعتقالهم تُوجَّه لهم "تهم" تتعلق بما يدّعيه الاحتلال "بالتحريض" عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، فيما يُحتجز آخرون إداريًا بذريعة وجود "ملف سري". ويواجه الصحفيون المعتقلون في سجون الاحتلال ومعسكراته كافة الانتهاكات التي يواجهها الأسرى، بما فيها جرائم التعذيب الممنهج، والضرب المبرح، والتجويع، والإهمال الطبي، إضافة إلى عمليات الإذلال والتنكيل المستمرة، عدا عن سياسات السلب والحرمان التي تطالهم، واحتجازهم في ظروف اعتقالية قاسية ومهينة.

أعلن عن استشهاده سابقاً.. الأسير مصطفى مسالمة.. نازفٌ بين الألم والأمل

تقرير: إعلام الأسرى

أن تقف مكتوف الأيدي لا تملك سوى أن تنتظر مصير ابنك وهو على بعد أميال فقط منك، أن تتخوف من اتصالٍ هاتفي مفاجئ، أو من سؤال عابر عن حالته، أن ترصد أخباره عبر أي شخصٍ في أي بقعة، وأن تتابع أخبار الواقع الفلسطيني بقلبٍ يرجو أن يصبح كل شيء ذكرى عابرة، أن تعيد مراراً وتكرراً للجهات المختصة بأن لديك ابناً في بقعة جغرافية من هذا العالم يستحق لحظة من اهتمام، وجزء ولو يسير من المطالبة بأبسط الحقوق الإنسانية.

هذا هو حال عائلة الأسير الجريح مصطفى محمود محمد مسالمة(20عاماً) من سكان منطقة الدوحة في مدينة بيت لحم، هذه العائلة التي انقلبت حياتها رأساً على عقب منذ إطلاق الاحتلال النار على نجلها، واعتقاله لاحقاً، وغياب الأخبار عن آخر أوضاعه الصحية، وفقد العائلة القدرة على عمل أي شيء ممكن أن يكون سبباً في إنقاذه من كل ما يحدث في سجون الاحتلال من انتهاكات.

بدأت حكاية الأسير مسالمة حين تعرض لإطلاق الاحتلال الرصاص عليه في بيت لحم، تتحدث عائلته عن تلك الحادثة لمكتب إعلام الأسرى وتروي تفاصيل ملف الإهمال الطبي الشائك له وحاجته الماسة لعمليات جراحية ولأدوية يومية ولمسكنات ألم يجب أن تلازمه طيلة حياته، وتعلم بكل حال من الأحوال أن الأوضاع في سجون الاحتلال تعني عدم توفير هذه الأدوية وتعني خطراً يهدد حياة نجلها في أي لحظة.

يقول محمود محمد مسالمة، والد الأسير مصطفى" تعرض مصطفى لإطلاق الرصاص الحي في منطقة قرب بيت لحم، وبصعوبة بالغة جداً تمكن عدد من الشبان من نقله من موقع الإصابة وسط إطلاق الاحتلال الكثيف للرصاص، وحين وصل مستشفى الحسين في بيت لحم، ولكثرة ما نزف أعلن المستشفى في البدء عن استشهاده".

لطبيعة الإصابة البالغة التي تعرض لها الأسير مصطفى مسالمة أعلن عنه شهيداً، حتى حدثت بارقة أمل أدت بالطاقم الطبي لمعالجته والإبقاء على حياته مع كم الأضرار التي حدثت في جسده نتيجة الإصابة، يقول والده" أجرى المستشفى 3 عمليات جراحية للأسير مسالمة لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، استمرت عمليته 18 ساعة، وتم نقل 48 وحدة دم له، وبصعوبة بالغة نجا من الموت".

لم يكد الأسير مصطفى مسالمة ينجو من موت الإصابة حتى جرى اعتقاله بتاريخ 27/11/2024، ليخوض تجربة ألم من نوع آخر، وسط تخوف شديد لعائلته إزاء كل ما يمكن أن تسببه الإصابة له في ظل غياب العلاج اليومي الذي يجب أن يحصل عليه نجلهم تحت أي ظرفٍ كان.

خضع الأسير مسالمة لعملية جرى فيها نقل شرايين من منطقة الفخذ حيث تعرض لإطلاق رصاص هناك، وتمكن الأطباء من نقل شرايين من منطقة الفخذ الأيسر للأيمن، ونجحت العملية، ثم تبين لاحقاً أن الشرايين التي جرى نقلها دقيقة ولا تضخ الدم على أكمل وجه، وبأنه بحاجة لعملية أخرى لتلافي هذه المشكلة وفقط قبل أن تجرى له هذه العملية اعتقله الاحتلال.

أشد ما يؤرق عائلة الأسير مسلمة اليوم هو حدوث جلطة مفاجئة له، فلصعوبة نقل الدم خلال شرايينه مكان الإصابة فهو عرضة لتجلط الدم، ما يجعله عرضة لجلطة وموت مفاجئ قد يحدث في أي وقت، وهو بحاجة ماسة لأدوية "تميع للدم" لتلافي ذلك على الأقل، وفي ظل الهجمة الشرسة التي تتعرض لها الحركة الأسيرة فإن أقصى ما يمكن تقديمه من علاج للأسرى هو حبة أكامول لا تغني ولا تسمن من شفاء.

يعاني الأسير مسالمة كذلك من آثار تهتك في عظام الفخذ نتيجة الإصابة، ما يجعله يعاني من عجز في قدميه، وهذا يزيد الأمر سوءاً في ظل ما يحدث في سجون وما يتم تقديمه من شهادات من أسرى محررين تؤكد على ضربهم ونقلهم بطريقة وحشية وتكبيل أيديهم لأيام، في الوقت الذي لا يمكن أن يتحمل الأسير مسالمة كل هذا العبء.

يقول والده" يعاني ابني كذلك من مشاكل في المسالك البولية نتيجة الإصابة وكما تعرض لإصابة في بطنه، ويحتاج لمعالجة طبية حثيثة، ومتابعة وكلما توجهت لمؤسسة معينة للمطالبة بحقه المالي والعلاجي تم مطالبتي بإحضاره لإثباتات رسمية، وأنى لي أن أحضره للعلاج وهو معتقل، ولا تصلني من أخباره إلا القليل القليل".

يشدد والد الأسير مسالمة على أن العائلة طالبت بتقديم علاج له، لكن كل ما يحصل عليه هو مسكن، وقد تمكن محاميه من زيارته قبل 5 أشهر، وطمئنهم، لكن أنى له كأب أن يطمئن في ظل هذا الكم من المشاكل الصحية والأخبار المتعاقبة.

بخوفٍ على حياته يقول والد الأسير مسالمة" وزن ابني كان (50ك) قبل اعتقاله، ومرت 10 أشهر اليوم، وفي ظل ما أسمعه من أخبار كيف سيكون وزنه اليوم علاوةً على صحته، لا أملك له الشيء الكثير تعطلت شؤون عملي وحياتي في ظل التضييق الحاصل لنا في الضفة الغربية ما بعد حرب السابع من أكتوبر، ابني بحاجة لعلاج وأدوية مزمنة ورغم انعدام مصدر رزقي إلا أنني أحاول جاهداً لأن يحصل ابني على حريته، وأسعى ما بين تكاليف المحاميين، وما بين اتصالات لعائلات أسرى خرجوا من ذات قسمه تجيبني على بعض من تساؤلات حول أوضاعه".

يحتاج الأسير مسالمة لعملية مستعجلة لنقل شريان له، قبل أن تداهمه جلطة مفاجئة، ويحتاج لسلسلة من جلسات العلاج الطبيعي على أدنى تقرير نتيجة إصابته، ويحتاج لجهد مالي ونفسي كبيرين من عائلته، واليوم وبعد أن جرى تمديد محاكمته للمرة السادسة حتى تاريخ 15/9/2024، ينتظر كما تنتظر عائلته قدره.

بعد أن شاهد والده صورته خلال محكمته الأخيرة وشكل وجهه المنتفخ فإن أكثر ما يمكن استنتاجه من أوضاعه في سجن عوفر حيث يتواجد اليوم بأنه بحاجة لوقفة حقيقية من قبل مؤسسات الأسرى وحقوق الإنسان وكل من يمكنهم الضغط من أجل إنقاذه وإخراطه في عملية علاج طويلة ومستعجلة.

من داخل سجن النقب .. شهادات توثق التجويع والإهمال والتنكيل اليومي

زار محامي هيئة شؤون الأسرى والمحررين عددًا من الأسرى في سجن النقب، للاطلاع على أوضاعهم الصحية والمعيشية، وخلال الزيارة، التقى بالأسير عمرو محمد منصور (38 عامًا) من بلدة بيتونيا/ رام الله، والمعتقل إداريًا منذ 28/01/2025. حيث أفاد الأسير أنه تم تحويله للاعتقال الإداري دون تحقيق أو معرفة أسباب احتجازه، وتم تمديد اعتقاله مرتين (6+6 أشهر)، دون تسليمه قرار التثبيت الأخير. وفيما يتعلق بوضعه الصحي، أوضح أنه يعاني من مرض الشقيقة، وقد تعرض لنوبات متكررة داخل السجن دون تلقي العلاج اللازم، رغم معرفة إدارة السجن بحالته. كما يعاني من الإصابة بمرض "الإسكابيوس" وظهور دمامل، دون تقديم أي رعاية طبية تُذكر، مضيفًا أنه حتى عند نقله للعيادة، يتم تسجيل اسمه فقط دون تلقي علاج فعلي.

كما قام محامي الهيئة بزيارة عدد من الأسرى، والذين أكدوا أنهم يتمتعون بصحة مستقرة، وهم:

1.  محمد رائد عطون (22 عامًا) من بلدة صور باهر/ القدس، محكوم بالسجن لعامين منذ 27 يناير 2025.

2.  أحمد عبد المحسن سليمان (27 عامًا) من بيت عور/ رام الله، معتقل إداريًا منذ 30 يونيو 2024.

3.  يعقوب مصطفى عمر حسين (32 عامًا) من مخيم الجلزون/ رام الله، معتقل إداريًا منذ 5 نوفمبر 2023.

4.  يامن محمد أسعد أبو بكر (19 عامًا) من بلدة يعبد/ جنين، معتقل إداريًا منذ 15 يناير 2024.

وفيما يتعلق بالأوضاع العامة في السجن، فهي غير مسبوقة، حيث تسود حالة من الرعب والخوف بين الأسرى بسبب التنقلات المستمرة، وانعدام الاستقرار، والحرمان من الحد الأدنى لمقومات الحياة، الى جانب تعرضهم لمعاملة مهينة، وتفتيشات مذلة، وتقييد للأيدي للخلف، وإجبارهم على الركوع أثناء العدّ أو التفتيش، بالإضافة إلى تقليص كميات الطعام المقدّم وغياب النظافة. كما أن الغرف مكتظة، حيث تضم كل غرفة بين 10 إلى 12 أسيرًا، وتحوّلت فعليًا إلى زنازين، مع قلة في الأغطية والملابس، وعدم توفر المستلزمات الأساسية. وتُمنح "الفورة" مرة كل أسبوع إلى أسبوعين، لمدة تتراوح بين 15 إلى 30 دقيقة، بالكاد تكفي للاستحمام.

اضافة إلى أن الطعام المقدم لا يكفي، وأحيانًا غير صالح للاستهلاك، مما أدى إلى إصابة معظم الأسرى بنقص حاد في الوزن يتراوح بين 20 إلى 30 كيلوغرامًا. كما تفتقر الأقسام إلى السكر، الملح، الشاي، القهوة، السجائر، الأدوية، المعلبات، وحتى الماء الساخن.

الأسير عمرو منصور يروي فصول التجويع والإهمال الطبي

* اعتقال إداري دون تحقيق أو تهمة واضحة وتمديد متكرر للاحتجاز.

* إهمال طبي متعمد رغم المعاناة من أمراض مزمنة (الشقيقة، الإسكابيوس، دمامل).

* عند النقل للعيادة يتم تسجيل الاسم فقط دون علاج.

* معاملة مهينة وتفتيشات مذلة، تقييد الأيدي للخلف، وإجبار الأسرى على الركوع.

* تنقلات مستمرة وحرمان من الاستقرار.

* تقليص كميات الطعام وانعدام النظافة.

* اكتظاظ شديد (10–12 أسيرا في الغرفة) وقلة الأغطية والملابس.

* "الفورة" مرة كل أسبوع أو أسبوعين ولمدة قصيرة.

* طعام أحيانا غير صالح للاستهلاك وفقدان كبير للوزن (20–30 كغ).

* نقص حاد في المواد الأساسية: السكر، الملح، الشاي، القهوة، الأدوية، المعلبات، والماء الساخن.

انتهاكات موثقة من سجن الدامون.. شهادة الأسيرة بشرى قواريق

* رقابة وقمع دائم: طيارة (درون) بتحوم فوق السجن وبتصور كل الوقت، الكلبشة ع الطالع والنازل، شكلهم بحضروا لقمعة قوية؟"

* وجود مراقبة مستمرة وتجهيز دائم لاقتحام السجن وتعنيف الأسيرات.

* عنف مفرط بدون تحقيق: «أخذوا أسيرة جولة 3 أيام كلها ضرب واستعراض وبدون تحقيق" احتجاز تعسفي للأسيرات مصحوب بعنف جسدي وإذلال نفسي دون أي مسوغ قانوني.

* أوضاع صحية متدهورة*: "معنا كلّنا حساسية وحَبّ" تفشي أمراض جلدية وسط غياب الرعاية الصحية الأساسية.

* استيلاء على المتعلقات الشخصية: * تم مصادرة متعلقات الأسيرات الشخصية دون مبرر حتى فستان العرس.

*حرمان من الخصوصية والكرامة*: تم اعتقال قواريق بشكل مفاجئ بعد تجهيزات زفافها، ما يعكس استهدافا نفسيا مقصودا.

* محاولات لكسر الروح المعنوية*: "شايف الفرق بين الزيارتين؟ ما نجحوا يكسرونا" رغم القمع تبدي الأسيرة تحديها لمحاولات الاحتلال كسر إرادتها.

الأسيرة سماح الحجاوي.. رسالة من الدامون "صرت عيوطة"

تقرير/ إعلام الأسرى

من قلب سجن الدامون في أعالي الكرمل السليب خرج صوت مرتجف، صوت الأسيرة سماح بلال صوف الحجاوي (مواليد 18/ 08/1999) من مدينة قلقيلية، ليحكي حكاية قهر جديد ويفتح نافذة على معاناة لا تزال تتكرر وإن تغيرت الوجوه والسجون. في زيارتها الأخيرة انهارت سماح بالبكاء إنها دموع الفرح، بكت حين وصلها خبر أن عبود شقيقها، بات حرا. قالت وهي تبتسم بين دموعها: "عبود بألف خير صحته منيحة، وفرحان ومش مصدق إنه حر… يوم استقباله كان كلشي بأحسن ما يكون". ثم أضافت بحنين يكاد يسمع فيه نبض قلبها: "بسلم عليك، وبحكيلك ديري بالك على حالك، وتقلقيش، الحرية قريبة". تلك الكلمات وحدها، كافية لتهز جدران السجن. هذه هي المرة الثالثة التي تعتقل فيها سماح. لكنها تقول بوضوح: "هاي أصعب حبسة ملحقتش أعيش جو الحرية من الترويحة السابقة". كانت قد تحررت بصفقة طوفان الأحرار لكن كذبة نيسان لم تمر عليها.

في فجر الأول من أبريل 2025، اقتحم الاحتلال منزلها بأكثر من 70 جنديا وجندية. "فكرتهم داخلين لجارنا بالغلط ما توقعت إنهم إلي". أخذوها مع والدها بحجة البحث عن هاتف كأداة ضغط لا أكثر. قضت أربعة أيام في معسكر قلقيلية ثم نقلت إلى الشارون ليوم وليلة برفقة الأسيرة فاطمة جسراوي قبل أن تحتجز في سجن الدامون حيث تقبع حاليا في الغرفة رقم 10 مع عدد من الأسيرات منهن بشرى قواريق، تسنيم عودة، كرمل الخواجا، ماسة غزال، وشهد دراوشة. تستفسر بلهفة عن أخت تسنيم: "هل خلفت أختي سجود؟"، وتضحك وهي تروي عن كرمل: " وزنها 49 كيلو مع الكلبشات". لكن خلف تلك الابتسامات المتعبة، وجع ثقيل "الوضع في الدامون سيئ كثيرة ووصل إلى أسوأ مرحلة"، تقولها بصوت منخفض، كأنها تخشى أن يسمعها السجان. تحدثت عن القمع والعزل والشتائم والمسبات المستمرة "بهددوني بالعزل والغاز وكل شوي بيقولولي: طلعتِ بسبب حماس وهيك رجعتي". رغم ذلك ما زالت روحها تتشبث بالحياة، بالناس، بالرسائل. طلبت إيصال سلامها لعدد من الأسيرات: انتصار، سيرين "سلمي ع مديرتي… هل برجعوني ع الدوام؟ ولا لسه بإجازة؟"، ميسون "جوزي ما يدفع الكفالة، مروحات"، إيمان شوامرة "بدي يوسف يستقبلني على أحسن طراز".

وفي لحظة اعتراف نادرة قالت سماح: "صرت عيوطة لما جبتلي خبر ترويحة أخوي أول مرة بعيط من يوم الحبسة". لكنها أردفت بابتسامة: "ضحكتي بسمعها كل القسم". تحن إلى ملامح ابن أختها تشتاق لعائلتها، وتحلم بهم كل الوقت. أمنيتها بسيطة ولكنها عميقة: "بدي عبود يستقبلني"

الأسير المقدسي أيمن الشرباتي.. 27 سنةً خلف القضبان وصمت يلف مصيره

"نحن لا نعرف أين هو ولا كيف حاله، لا أحد يرد علينا"، بهذه الكلمات الموجعة عبر نجل الأسير المقدسي أيمن الشرباتي (الملقب بـ "المواطن") عن حالة القلق التي تعيشها العائلة منذ شهور، بعد انقطاع التواصل مع والده المعتقل منذ 27 عاما في سجون الاحتلال الإسرائيلي. أيمن الشرباتي، أحد رموز الحركة الأسيرة، يقضي حكما بالسجن المؤبد منذ اعتقاله عام 1998. خاض معارك طويلة ضد سياسات القمع والعزل والتنكيل، ودفع من عمره وصحته ثمنا لمواقفه الثابتة وكرامته.

لا معلومات مؤكدة والعائلة تطالب بالتحقق

تفيد آخر معلومة وصلت العائلة قبل عدة أشهر، بأن أيمن كان محتجزا في العزل الانفرادي في سجن "مجدو". ومنذ ذلك الوقت، لم تتوفر أي تفاصيل جديدة. وعندما حصلت محاميته مؤخرا على تصريح لزيارته في سجن النقب، جاء الرد الصادم من إدارة السجن: "أيمن الشرباتي غير موجود هنا". تقول العائلة إنها تشعر بالقلق من هذا الغموض. "نخشى أن يكون قد تعرض لمشكلة صحية أو لاعتداء جسدي، ولا يريدون إبلاغنا"، يقول نجله، مؤكدا أن والده كان يعاني في الفترة الأخيرة من تدهور صحي، وأن ظروف العزل تزيد من معاناته النفسية والجسدية.

سيرة نضال خلف القضبان

منذ اعتقاله خضع الشرباتي لتحقيقات قاسية وتعرض للتنكيل والعزل أكثر من عشر مرات، امتدت لفترات طويلة. كما خاض عدة إضرابات عن الطعام احتجاجا على ظروف الاعتقال، وعلى استخدام العزل كأداة للعقاب. ورغم كل ذلك، بقي "المواطن" صوتًا صلبا داخل المعتقلات، ورمزا من رموز الحركة الوطنية الأسيرة، ومثالا للإرادة والصمود.

دعوة لتحرك المؤسسات الحقوقية

في ظل الغموض الحالي بشأن وضعه، تطالب العائلة جميع المؤسسات الإنسانية والحقوقية، وعلى رأسها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بالتحرك لأداء دورها في متابعة أوضاع الأسرى المعزولين، وضمان سلامتهم وظروف احتجازهم، وتوفير الحد الأدنى من التواصل مع ذويهم. وأكد مكتب إعلام الأسرى أن استمرار تغييب المعلومات عن الأسير الشرباتي يحتم تدخلا مسؤولا من الجهات الدولية، لمساءلة إدارة السجون ووقف سياسات العزل القاسية بحق الأسرى الفلسطينيين.

هيئة الأسرى: إدارة سجن جلبوع تعذب الأسرى بالصعقات الكهربائية

أكدت هيئة شؤون الأسرى والمحررين اليوم الجمعة، أن إدارة سجن جلبوع رفعت وتيرة تعذيب الأسرى والانتقام منهم، حيث تستخدم مؤخراً الصعقات الكهربائية المؤلمة والموجعة خلال اقتحامها لأقسام وغرف الأسرى. ونقلت محامية الهيئة بعد زيارتها للسجن آلية تعذيب الأسرى بالصعقات، حيث يتم اقتحام القسم بوحدات القمع الخاصة بحجة التفتيش، ويتم تقييد كافة الأسرى من أيديهم وأقدامهم وإخراجهم لساحة الفورة، ويباشر عناصر الوحدة بضربهم وإهانتهم، ويُصعقون بالكهرباء ويُسحلون على دوشات الاستحمام في ساحة الفورة وتُبلل ملابسهم وأجسادهم بالماء ثم يُصعقون مجدداً، والهدف من ذلك مضاعفة الوجع والألم، حتى أن غالبية الأسرى يسقطون على الأرض جراء ذلك. وأضافت محامية الهيئة "يتم الصعق الكهربائي باستخدام مسدسات خاصة، كما تستخدم الى جانب الصعق كأداة ضرب على رؤوس الأسرى، وكونها مصنوعة من الحديد الصلب تُحدث جروحاً خطيرة، حيث نزفت دماء العديد من الأسرى في ظل سخرية واستهزاء وضحك السجانين، ومن شدة التعذيب فقد عدد كبير من الأسرى وعيهم". وأشارت الهيئة أنه الى جانب ذلك يحرم الأسرى من الطعام والغذاء، وما يقدم لهم كميات قليلة جداً، مما أدى الى انخفاض أوزانهم بشكل حاد، وشح مواد التنظيف والمعقمات مما يجعل الغرف بيئة خصبة لانتشار الأمراض، كما يستخدمون صحون وملاعق بلاستيكية، وكل واحد منهم يستخدم الأدوات الخاصة به شهراً كاملاً، مما يجعل الفيروسات والجراثيم حاضرة مع كل استخدام لها، وكل هذا يهدد حياتهم ويجعلهم في دائرة الخطر الحقيقي.

الأسير المحرر رجا إغبارية: تركت خلفي هياكل عظمية في جحيم السجون

تنسّم القيادي في الداخل الفلسطيني وفي حركة أبناء البلد، الأستاذ رجا شريم إغبارية (74 عامًا) من أم الفحم، الحرية بعد اعتقال إداري تعسفي استمر 4 أشهر.. واعتُقل إغبارية في 9 نيسان/ أبريل، وتم تحويله للاعتقال الإداري في 15 من الشهر ذاته بقرار من وزير الأمن يسرائيل كاتس. ونُقل إغبارية من سجن كتسيعوت في النقب إلى مركز الشرطة بأم الفحم، حيث أُفرج عنه بعد التحقيق معه وتحذيره من إقامة أي احتفال بمناسبة الإفراج عنه. وحققت الشرطة مع إغبارية، وقامت بتحذيره من الاحتفال في أعقاب تحرره من السجون. وقال القيادي رجا إغبارية، بعد تحرره، إن “فترة السجن كانت كالجحيم، وتركت خلفي هياكل عظمية في السجون”.

وتابع: “هناك نحو 10 آلاف أسير يتواجدون في السجون بفترة صعبة جدًا، إذ علمت بأنني سأخرج من السجن صباح اليوم، الساعة السابعة صباحًا، وكنت أعلم أن فترة اعتقالي على وشك الانتهاء، ولكن صباح اليوم تفاجأت بوصول القوات وإطلاق سراحي”. وأضاف: “تعرضت لضرب واعتداءات عنيفة جدًا.. كانت فترة الاعتقال صعبة، وتحديدًا خلال توجهنا إلى العيادات في السجون كنا نتعرض لضرب مبرح، دون لأخذ بعين الاعتبار تقدمي في السن، وهذا ينطبق على كل الأسرى في السجون”. وذكر إغبارية أنه “خلال مدة الاعتقال تسنت لي الفرصة أن أحلق شعري مرة واحدة فقط، حيث أنه يتوفر جهاز واحد للحلاقة في كل السجن لكافة الأسرى”. وعن تعرضه لتهديدات في أعقاب إطلاق سراحه، قال: “تعرضت لتهديدات في أعقاب علم الشرطة أن اللجان تتجهز للاحتفال، وأنا شخصيًا أرفض أية احتفال خاصةً أن الظروف لا تسمح وغير مقبول أن نحتفل بأي شيء في الوقت الراهن”.

بقلم: يوسف كتلو

زياد الرحباني… يلوّح من وراء الغياب لجورج عبد الله

في مساءٍ ثقيلٍ على بيروت، رحل زياد الرحباني بهدوءٍ يشبه عزفه الأخير. غابت نغماته عن البيانو، لكن صدى صوته بقي يدوّي في الأزقة التي أحبها، وفي قلوب الفقراء الذين لم يتخلَّ عنهم يومًا.

وفي اللحظة ذاتها، بعيدًا خلف الأسوار التي ابتلعت الزمن، كان جورج عبد الله يفتح باب سجنه ويمشي نحو الضوء.

العالم انقلب للحظة؛ موت يولد منه حُرية، وحُرية تتفتح من رحم الفقدان.

مشهد سريالي على مسرح الحياة

على مسرحٍ غير مرئي، وقف زياد، بسيجارته المعتادة، يحدّق في هذا الكون المرهق ويبتسم بسخرية عميقة:

“طلعت من هون يا جورج؟ إي والله تأخرت عليّ! كنت ناطر هالنهار متل ما بينتظر الفقير نهار العدالة.”

يمد زياد يده من الضباب، يسلّم على رفيقه في الفكرة والموقف، ويقول بصوتٍ مبحوح:

“ما بيموت اللي بيترك أثر، وما بينكسر اللي بيختار الحرية.”

لقاء بين الغياب والحضور

تتداخل أرواح الثائرين في لحظة واحدة. زياد يغيب جسدًا، وجورج يحضر حرًا.

الأول يترك مقعده على البيانو فارغًا، والثاني يترك زنزانته وراءه، وكأن الحياة كتبت مشهدًا جديدًا:

موتٌ يُنجب حرية، وحرية تخلّد ذكرى الميت.

إرث لا يموت

زياد الرحباني لن يموت، لأنه لم يعش يومًا لنفسه. عاش للفقراء، للمنسيين، للمقهورين. ترك خلفه موسيقى تصرخ بالعدالة، وكلمات تفضح القهر. وفي تلك اللحظة التي خرج فيها جورج عبد الله إلى الهواء، كان زياد يلوّح له من مكان بعيد، وكأنه يقول:

“من هون بتبلش الأغنية… ومن هون بيكمل النضال.

اللوحة بريشة الفنان: محمود البوليس

اللوحة بريشة الفنان: محمود البوليس

تقرير: زهير طميزة- بيت لحم

رحلت مزيونة وظل قلبها أسيرا

رحلت مزيونة أبو سرور بسكتة دماغية عن 84 عاما قضت منها 34 سنة في انتظار نجلها الأسير ناصر، عميد أسرى محافظة بيت لحم، والمحكوم بالمؤبد منذ مطلع عام 1993. يقول الدكتور عبد الفتاح أبو سرور ابن عم الأسير ناصر، إن الحاجة مزيونة لم تستسلم عبر مشوارها الماراثوني الطويل بين سجون الاحتلال، لا لمرض أو لكسل وتقاعس، ورغم إصابتها بعدة "جلطات" سابقا، فإنها لم تتوقف عن السعي وراء ناصر من سجن إلى آخر، حاملة مشعل الأمل في أحلك الظروف، موقنة بأنها لن تغادر قبل أن تحتضن ناصر بين ذراعيها تحت سماء المخيم (مخيم عايدة للاجئين). كاد حلم مزيونة يتحقق عام 2014 عندما أدرج اسم ناصر في الدفعة الأخيرة من الأسرى الذين تم الاتفاق بين القيادة وحكومة إسرائيل على تحريرهم، ولكن حكومة نتنياهو، كدأبها، أخلت بالاتفاق. أما مزيونة التي لم يدخل اليأس قلبها على مدى عقود ثلاثة، فقد استعدت لاستقبال ناصر بعدما أشيع مؤخرا عن أنه سيخرج ضمن صفقة تبادل للأسرى، يعمل ويتكوف مبعوث الرئيس الأميركي ستيف على إنجازها، فحزمت امتعتها وسافرت إلى العاصمة الأردنية على أمل استقبال نجلها هناك، فقد علمت أن سلطات الاحتلال تمنع ذوي الأسرى المبعدين بعد تحررهم، من السفر للقاء أبنائهم، فقررت أن تستبق إجراءات الاحتلال، لكن خيبتها هذه المرة كانت قاتلة، فأصيبت بالسكتة الدماغية، لترحل عن عالم الانتظار بعد ثلاثة أيام على نقلها من عمان إلى مستشفى بيت جالا الحكومي. مزيونة الشولي ابنة قرية الخضر غرب بيت لحم، عاشت حياة اللجوء مع زوجها حسن أبو سرور المُهجر من قرية بيت نتيف المدمرة عام 1948، والمعروفة بسنديانة فلسطين وأم الأسرى، كان منزلها المحطة الثانية لكل أسير محرر، كذلك كانت تزور كل من يتحرر من سجون الاحتلال بفرح ولهفة، وكأنها تتلمس في كل من يخرج من السجن رائحة نجلها. ناصر أبو سرور (56 عاما)، الأسير المثقف، والشاعر والكاتب.. صاحب ديوان "عن السجن وأشياء أخرى" والذي رشحت روايته "حكاية جدار" لنيل جائزة البوكر بعد ترجمتها إلى الإنجليزية، لا يعلم حتى اللحظة انه فقد مزيونته إلى الأبد، وأنه لن يراها بعد اليوم، فبعد أن حُرم من وجهها سبع سنين بسبب منعها من زيارته "لأسباب أمنية" حسب ادعاء سلطات الاحتلال، عادت المثابرة لتزوره رغم ضعف بصرها وعدم قدرتها على رؤيته بوضوح، حسب حفيدها عبد الفتاح، مكتفية بسماع صوته، لكن حرب الإبادة التي اندلعت عام 2023 حرمتها من صوته أيضا، لترحل دون أن تفي بوعدها له عندما أجابته مازحة على طلبه بألا تموت وتتركه في السجن: "سأطلب من ملاك الموت أن يمهلني حتى تخرج من السجن".يقول الدكتور عبد الفتاح أبو سرور: "لا أعلم كيف سيستقبل ناصر الخبر، فهو لم يتحمل مجرد أن يضعف بصرها، فما بالك عندما يعلم بأنها توفيت!". سيعود ناصر أبو سرور إلى مخيم عايدة محطته المؤقتة، وسيحدث أبناءه عن جدتهم المزيونة، التي تشبه فلسطين في قدرتها العجيبة على مواجهة اليأس رغم كل المحن.

تقرير: عبد الباسط خلف- جنين

سلمى أصغر متضامنة مع عُشّاق الشمس

تستبق الطفلة سلمى محمود الزرعيني، ابنة الربيع السادس، المشاركين في اليوم الوطني والعالمي نصرةً لغزة والأسرى ورفضًا للإبادة الجماعية والتجويع والاستعمار والتهجير والعدوان، وتسجل حضورها مبكرًا إلى ميدان وسط جنين. وتحمل سلمى، ذات الجدائل الصغيرة، صورة لشقيقيها حمزة وقسام، القابعين في قبضة الاعتقال الإداري منذ قرابة عام ونصف. وتجلس، رغم الأجواء الحارة، رفقة أمها في مدخل سوق المدينة العتيق (السيباط)، الذي شهد وقفة تضامنية شاركت فيها قوى جنين وفصائلها الوطنية ومؤسساتها وأطرها النسوية. وتقول ببراءة وعفوية وبمساعدة والدتها إن شقيقها قسام اعتقل قبل عام ونصف العام، تبعه بأيام حمزة، الذي كان يستعد لإتمام فرحه بعد يوم واحد. ووفق سلمى، فإنها كانت شاهدة مرتين على اقتحام بيت عائلتها في جنين واعتقال شقيقيها بفارق 3 أيام. وتبعًا لإيمان الأم المكلومة، فإن نجلها حمزة اعتقل في 25 كانون الثاني 2023، تبعه قسّام في 28 كانون الثاني من العام نفسه، وقد أتلف جنود الاحتلال فرحة العائلة بزفافه في اليوم التالي. وتشير إلى ترتيب أفراد أسرتها، فعبد الله، الابن البكر، ثم قسام يتبعه حمزة، تليهما براءة وحنان.

فرح ممنوع!

وتختزن الزرعيني، رغم صغر سنها، مشاهد اقتحام بيت عائلتها، وعبث جنود الاحتلال بخزانتها الخاصة وألعابها المحببة، وإفساد عربتها الزرقاء والبيضاء، وتكسير خزانة أحذيتها، وتدمير أثاث البيت. وتستعد سلمى للالتحاق بصفها الأول بعد أسابيع، لكن القلق والأمل لا يفارقانها، فهي تنتظر عودة الأخوين غير المعلومة، وارتداء فستان الفرح الأبيض الذي جهزته. وترسم الطفلة الزرعيني صورة لمعتقلات الاحتلال بمخيلتها، فتقول إنها حديد وسياج وعصي، ومكان لا يرى الشمس والهواء، وبطعام قليل وغير مطبوخ جيدًا، وضرب ومنع من الخروج. وتنتظر سلمى بفارغ الشوق عودة أخويها، لإتمام عرس حمزة وخطيبته ليالي، وللذهاب برفقتهما إلى الدكان المحبب وشراء المسليات. وتبعًا للصغيرة، فإنها طلبت من والدتها خلال اعتقال شقيقيها الهروب من البيت، حتى لا تتعرض للضرب من جنود الاحتلال.

تجويع وحصار

وليس ببعيد عن أحلام الطفلة الزرعيني، يؤكد مساعد محافظ جنين، منصور السعدي أن الوقفة تتضامن مع الأسرى وغزة التي لا تقصف بالطائرات فحسب، بل بالتجويع والحصار، في وقت يشهد العالم على الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية. ويشير إلى أن الوقفة تجري بمشاركة قوى وفصائل منظمة التحرير، الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا، والتي تحارب على كل الجبهات لإفشال مخططات الاحتلال، وتتمسك بالوحدة الوطنية. ويبين السعدي أن جنين تتضامن مع نفسها ومع مخيمها ومع الأسرى وغزة، وتنتظر أيلول القادم الذي يعد موعدًا لانتصار دبلوماسي دولي يسبقه حراك سياسي في كل العالم. ويشدد ممثل القوى الوطنية والإسلامية، فراس الحاج أحمد على أن الوحدة الوطنية هي صمام الأمان للدفاع عن حقوقنا الوطنية، ولإفشال مخططات التهجير. ويوضح بأن الوقفة رسالة تضامن مع الأسرى، الذين يعيشون ظروفًا قاسية داخل معتقلات الاحتلال. ويحث الحاج أحمد على التكافل بين أبناء شعبنا ضد التجويع والتهجير والضم والاستيطان. ويؤكد رئيس نادي الأسير في جنين، راغب أبو دياك لـ"الحياة الجديدة" أن الوقفة المتزامنة في محافظات الوطن والشتات تتمسك بحرية الأسرى ودعم غزة ضد سياسة التجويع والحصار والقتل. ويرى بأن ليل السجن مهما طال، ومهما تخلله من ظلم وتعذيب، فإن فجر الحرية يقترب أكثر فأكثر.

1300 "عاشق"

ويؤكد مدير هيئة شؤون الأسرى والمحررين، سّياف أبو سيف، بأن جنين تشهد عددًا غير مسبوق من الأسرى القابعين في معتقلات الاحتلال، فهناك نحو 830 أسيرًا، و350 رهن "الإداري" التعسفي. ويشبه الأوضاع داخل المعتقلات بالقاسية جدًا، والتي شهدت منذ تشرين الأول 2023 ارتقاء 75 بينهم 3 من المحافظة: قرية رمانة، وبلدة سيريس، ومخيم جنين، وهو رقم قياسي وصعب. ويردد الخطيب زياد العيسة أمام الحاضرين الدعاء للأسرى ولغزة، فيما تهتف نساء جنين بشعارات وطنية تطالب العالم بوقف التجويع ودعم فرسان الحرية. ويشدد عضو إقليم حركة "فتح" في جنين، وعريف الوقفة، أسامة بزور على أن الفعاليات تتوحد تحت ألوان العلم الفلسطيني، وتتمسك بالشرعية الوطنية، وتهتف ضد آخر وأطول احتلال في العالم.

تقرير: عبد الباسط خلف- جنين

شهيد الحركة الأسيرة.. شهيد قباطية... الدمعة الرابعة عشرة

يمتزج غروب بلدة قباطية، جنوب جنين، بأنباء ثقيلة فتحها الإعلان عن ارتقاء أحمد سعيد صالح طزازعة (20 عامًا)، في معتقل "مجدو". ويتقاطر المعزون إلى العائلة التي فقدت ابنها العشريني، الذي كان مفعمًا بالنشاط، والمعروف ببشاشته في سوق الخضار بالبلدة، حيث يعمل في نقل البضائع. وبشق الأنفس، يصف محمد طزازعة، ابن أخيه، الذي اعتقل في 6 أيار 2025، وحكم عليه بـ "الإداري" 6 أشهر، ويقول نه كان منهمكًا في مساعدة والده، وترك المدرسة قبل إكمالها، وتوجه إلى العمل سوق الخضار والفواكه في البلدة. ويؤكد العم أن هيئة شؤون الأسرى والمحررين أبلغت العائلة مساء الأحد بارتقاء أحمد، الذي أبصر النور في 11 تشرين الثاني 2004، دون تقديم تفاصيل. وأحمد هو الأصغر في الأبناء بين شقيقيه البكر صالح والثاني محمد، وثلاث بنات، لأب مزارع وأم ربة منزل، لكنه كان محبوبًا بين أقرانه، وشكّل استشهاده صدمة في البلدة. ويفيد ابن عمومته المحاضر الجامعي إسلام طزازعة، أن أحمد كان قبل اعتقاله "مثل الوردة"، ولم يكن يعاني أي مرض، وكانت العائلة تنتظر انتهاء حكمه "الإداري" والعودة إلى بيته وبلدته. ووفق ابن العم، فإن الأسرة دخلت في صدمة، وتحاول البحث عن سبب استشهاده الحقيقي، وبخاصة أنه من "الإداريين"، ولم يزره أي محامٍ.

وبحسب طزازعة، فإن الأسرة استلمت "رسالة تطمينات وشوق" عبر أسير محرر كان يلازم أحمد في "مجدو"، زارها بعد فترة من اعتقاله، وأبلغها بأن ابنها يتمتع بصحة جيدة. ويؤكد رئيس بلدية قباطية، أحمد زكارنة، أن طزازعة هو الثاني الذي يرتقي من البلدة داخل معتقلات الاحتلال، فقد سبقه كمال أبو وعر في تشرين الثاني 2020. وطزازعة هو الشهيد الرابع عشر من البلدة، الذي يحتجز الاحتلال جثمانه، منذ 7 تشرين الأول 2023، من بين 37 شهيدًا. ويصف الشاب إبراهيم كميل، حال بلدته، فقد دخلت في حزن عميق على أحمد، خاصة أن جثمانه لن يدفن في ثرى البلدة، وستبقى أحزان عائلته مفتوحة إلى أجل غير مسمى. والمحزن حسب كميل، أن طزازعة ارتقى في اليوم الوطني والعالمي لنصرة غزة والأسرى، الذي شهد وقفات تضامن معهم في محافظات الوطن والشتات، والتي حذرت من ارتقاء المزيد من الأسرى. ووفق هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير، فإن "مجدو"، الذي كان طزازعة محتجزا فيه، شكّل واحدًا من أبرز المعتقلات التي سُجلت فيها جرائم جسيمة، لا سيما مع استمرار انتشار مرض الجرب (السكابيوس)، الذي حوّلته إدارة السجون إلى أداة واضحة لقتل المزيد من الأسرى. وأكدتا أنه باستشهاد طزازعة، يرتفع عدد الشهداء بين صفوف الأسرى والمعتقلين منذ تشرين الأول 2024 إلى 76، هم فقط من عُرفت هوياتهم في ظل استمرار جريمة الإخفاء القسري، فيما وتشكل هذه المرحلة من تاريخ الحركة الأسيرة وشعبنا الفلسطيني الأكثر دموية، حيث بلغ عدد شهداء الحركة الأسيرة المعلومة هوياتهم منذ عام 1967 حتى اليوم 313. وبينتا أن تصاعد وتيرة استشهاد الأسرى والمعتقلين بشكل غير مسبوق، يؤكد مجدداً أن منظومة سجون الاحتلال ماضية في تنفيذ سياسة القتل البطيء بحقهم. فلم يعد يمر شهر دون أن نستقبل اسمًا جديدًا لشهيد من الحركة الأسيرة، ومع استمرار ارتكاب الجرائم داخل السجون، فإن أعداد الشهداء مرشحة للارتفاع مع مرور المزيد من الوقت على احتجاز الآلاف من الأسرى والمعتقلين في ظروف تفتقر لأدنى مقومات الحياة، وتعرضهم بشكل يومي لجرائم ممنهجة.

لب

رحيل الحاجة حلوة عوض عبيات.. نبض الأم التي لم تنطفئ رغم بعد المسافات

في مدينة بيت لحم، حيث الحكايات تنبض بصمود لا ينكسر، رحلت الحاجة حلوة عوض عبيات، الأم التي كانت رمزًا لصبر الأسرى الفلسطينيين وألم عائلاتهم. فقدانها ليس مجرد وداع لإنسانة محبة، بل هو وجع جديد يضاف إلى جراح عائلة تعاني منذ أكثر من عشرين عامًا من قسوة الاحتلال، الذي سلب منها ابنها الأسير ماهر موسى عبيات، وحكم عليه بالسجن 24 عامًا في زنزانة الاحتلال.

ماهر عبيات، هذا الاسم الذي يحمل في طياته حكاية كفاح ومقاومة، اعتقل في 21 يوليو 2004، ليبدأ فصلًا مظلمًا من حياته، فصل من المعاناة الطويلة في سجون الاحتلال. التحقيق الذي دام لأكثر من شهر ونصف في مركز توقيف "عتصيون" كان بمثابة جحيم حقيقي، حيث عاش ظروفًا قاسية ومذلة، تعرض فيها لشتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي في محاولة لكسر إرادته.

وجه الاحتلال له تهمًا ثقيلة، من بينها الانتماء إلى كتائب شهداء الأقصى، الجناح العسكري لحركة فتح، والمشاركة في عمليات مقاومة ضد قوات الاحتلال، ما جعل محكمة عوفر العسكرية تصدر حكمًا قاسيًا بالسجن 24 عامًا، حكمًا يُعد جريمة بحد ذاته في سياق الاحتلال الذي لا يعترف بحقوق الإنسان.

ورغم هذه السنين العجاف التي مضت على اعتقاله، لم يضعف صمود الأم التي صبرت على ألم فراق ابنها، تحملت وحدها مرارة الغياب، وواصلت حمل أعباء الحياة دون كلل أو استسلام. لكنها اليوم، وبعد سنوات من الصبر، غادرتنا إلى عالم الرحمة، تاركة خلفها فراغًا لا يعوض، وحزنًا عميقًا في نفوس كل من عرفها.

رحيل الحاجة حلوة عوض عبيات هو تذكير صارخ بأن الاحتلال لا يكتفي بالاعتقال والسجن، بل يحاول بشتى الطرق أن يجرح القلب الفلسطيني، أن يقتلع جذور النضال من داخل البيوت، لكنه يجهل أن صمود العائلات هو في النهاية من سيهزم هذا الاحتلال.

إن فقدان هذه الأم الصابرة يشكل خسارة إنسانية كبيرة، لكنها أيضًا إشارة على أن الطريق نحو الحرية لا يخلو من الألم، وأن دموع الأمهات لا تُسقط إلا على وجوه الاحتلال الظالم.

في ذكرى رحيلها، نرفع صوتنا عالياً مع الأسرى في سجون الاحتلال، نؤكد أن نضالهم لن ينتهي، وأن قضيتهم ستبقى في قلب كل فلسطيني حرّ، حتى تحقيق الحرية والكرامة.

بقلم: وسام زغبر - عضو الأمانة العامة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين

استهداف الأطباء في غزة.. جريمة ضد الإنسانية وسط حرب إبادة جماعية

في ظل استمرار حرب الإبادة الجماعية التي تشنها قوات الاحتلال "الإسرائيلي" على قطاع غزة، يتعرض الطاقم الطبي الفلسطيني، وبالأخص الأطباء، لهجمة ممنهجة تنذر بكارثة إنسانية أخطر من القصف نفسه. فالاستهداف المباشر للأطباء واعتقالهم وتعذيبهم في سجون الاحتلال ليس فقط انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، بل هو محاولة واضحة لإخماد صوت الإنسانية وسط جحيم الحرب.

الأطباء في غزة ليسوا مجرد مقدمي رعاية صحية، بل هم خط الدفاع الأول عن حياة المدنيين الأبرياء، وأبطال يصارعون الموت في أصعب الظروف، حيث يعانون من نقص المعدات الطبية والدواء، والحصار الخانق الذي يعصف بكل مقومات الحياة. لكن الاحتلال لم يكتفِ بتدمير المستشفيات واستهداف البنية التحتية الطبية، بل تعدى ذلك إلى اعتقال الأطباء وتعذيبهم، في محاولة يائسة لكسر إرادتهم وإضعاف قدرة القطاع الطبي على التصدي للكارثة المتفاقمة.

إحصائيات صادمة

حسب تقرير أصدرته منظمة "أطباء بلا حدود" في منتصف 2025، تعرض أكثر من 40 طبيبًا فلسطينيًا للاعتقال على يد قوات الاحتلال منذ بداية الحرب الحالية في أكتوبر 2023.

وثّقت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة استشهاد 1592 من الكوادر الطبية وإصابة 35 آخرين بينهم 8 أطباء خلال قصف مباشر على المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية.

ما يقارب 60% من المستشفيات في غزة تعرضت لأضرار مادية كبيرة بسبب القصف، مما زاد من معاناة الطواقم الطبية في تقديم الخدمات.

فيما أكثر من 363 من الطواقم الطبية بينهم 25 طبيبًا معتقلين حاليًا في سجون الاحتلال، وتتوارد أنباء عن تعرضهم لتعذيب نفسي وجسدي.

إن اعتقال الأطباء الفلسطينيين وتعذيبهم في سجون الاحتلال يُعد جريمة حرب بكل المقاييس، وينبغي أن يُحاسب عليها المجتمع الدولي. كما أن ذلك ينعكس سلبًا على الحالة الصحية العامة في القطاع، حيث يفقد المرضى إمكانية الوصول إلى العلاج المناسب، وتتفاقم معاناة الجرحى والمرضى، في وقت هم بأمس الحاجة إلى الرعاية الطبية.

على العالم أن يدرك أن استهداف الأطباء في غزة ليس مجرد عمل عسكري عابر، بل هو جريمة ممنهجة تهدف إلى تجويع شعب بأكمله وإضعاف صموده عبر قطع شريان الحياة الأساسية: الرعاية الصحية. وبناءً عليه، يتوجب على المؤسسات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان أن تتحرك فورًا لإنقاذ هؤلاء الأطباء، والإفراج عن المعتقلين منهم، وضمان حمايتهم من التعذيب وسوء المعاملة.

ختامًا، يبقى أطباء غزة رموزًا للصمود والإنسانية في وجه آلة الحرب "الإسرائيلية"، ويستحقون كل الدعم والحماية، ليس فقط كمهنيين، بل كبشر يعانون مع شعبهم من هول معاناة الحرب والحصار. إن استهدافهم هو استهداف لكل من يؤمن بالحق والعدالة والإنسانية في هذا العالم.

بقلم: نهى عودة (كاتبة وشاعرة فلسطينية)

قراءة في رسالة "الصياد والتنين" للأسير "زكريا الزبيدي".. حين يصير المُطارَد تنّين الأرض!

هو ليس أنموذجًا استثنائيًا، لكننا سنسميه أنموذجًا فلسطينيًا مميزًا، يعطي للأقدار وللترتيب والتخطيط وما يلحقها من شؤون أخرى حقها في أن تكون مسارًا ومنهجًا وطنيا يُقتدى به، مِن خلال مَن عرفه ومن عمل معه، ومن سيكون لهم في السنوات المقبلة بعد عمر طويل قدوة ومثالا وأسطورة نضال.

زكريا الزبيدي، هذا الرجل الفلسطيني الحر، الذي كنت قد كتبت له منذ سنوات قصيدة "يا زكريا"، يُمثّل نضال شعب أرهقه الاحتلال، لكنه ما زال، وسيظل، يقاوم.

علمت الكثير عنه، وعن غيره من الأسرى الذين يُوجِعون فطرتنا وإنسانيتنا، بل إن فكرنا لا يحتمل أن يراجع ما مروا به من سنوات الأسر، والليالي المظلمة.

لكني اليوم سأذكر "التنين"، وهو اللقب الذي يُطلق على زكريا الزبيدي، ولم يكن ذلك عبثًا ولا من فراغ، بل جاء نتيجة دراسة عميقة، تجسدت في رسالة الماجستير التي قدّمها عام 2018، حين سنحت له الفرصة بأن يكون خارج السجن.

كانت الرسالة بعنوان "الصياد والتنين"، لكنها قدّمت طرحًا مختلفًا عن سابقاتها، ومن منظور مغاير؛ إذ إن الزبيدي قلب المفاهيم: فبينما التنين يُصوَّر عادةً على أنه رمز الشر، جاء في بحثه ليمثّل الخير، الأرض، الأصل، والانتماء، فيما كان الصياد هو الدخيل، العابر، الطارئ، الذي لا بد من مقاومته وخلعه ودحره.

أقنعنا زكريا بالعقل والمنطق أن التنين هو صاحب الأرض، العالم بمكانه الطبيعي، ووجوده الحق، أما الصياد، فهو غريب عن البيئة والطبيعة، غريب عن التاريخ، لا مكان له فيها، ولا حق له عليها.

كان الزبيدي يُمثّل التنين، والمحتل هو الصياد؛ العابر الطارئ، الذي لا بد من اقتلاعه خارج أرض التنين، ومساحته، وحريته، وتاريخه العامر بهذا المكان.

المطاردة في تجارب العالم: من الجبل إلى المخيم، ومن التنين إلى الفكرة.

"لقد استعان الزبيدي بالكثير من الأمثلة الحية الشاهدة على المطاردة، التي تحتل العالم المستضعف، فتنجب الثوار والأنداد، على مدى سنوات النضال، حتى النصر أو الاستشهاد"

لم تكن المطاردة فعلًا فلسطينيًا صرفًا، وإن كانت فلسطين قد منحته معنًى مكثفًا، ومشهدًا لا يُنسى. فمن جبال أمريكا اللاتينية، حيث مر تشي غيفارا، إلى أدغال فيتنام، ومن كهوف الجزائر إلى خنادق كربلاء، كان هناك دومًا رجلا مُطارَدا، يحمل في صمته نارًا، وفي خطاه فكرة، وفي هروبه مقاومة.

في أمريكا اللاتينية، لم يكن تشي غيفارا مجرد ثائرا بل كان مُطارَدًا، يتنقّل بين قرية وأخرى، لا يملك سوى بندقية، وصورة للعالم الذي يحلم به. وقد لاحقته الإمبراطوريات كلها، لا لأنه خطر عسكري، بل لأنه كان يُصر على أن الأرض لمن يفلحها، وأن الحرية لا تُستعطى، بل تُنتزع.

أما في فيتنام، فقد كانت المطاردة فنًا من فنون الحياة. كان الثائر يُطارِد المحتل داخل أرضه، فيمتزج بالتراب، ويذوب في النهر، ويخرج من بين الأشجار. لم يكن المُطارَد هناك فردًا، بل كان شعبًا كاملًا يُتقن فن الغياب عن عيون العدو، والحضور في قلب المعركة.

وفي الجزائر، كانت الجبال مرآة لما سيكون عليه المخيم في فلسطين. عاش المجاهدون مُطارَدين، لكنهم لم يكونوا غرباء. هم أصحاب الأرض والأخبر بشعابها حيث كانت الأرض تُخفي أبناءها، تحن عليهم وكان الشعب يعرف أن كل مُطارَد هو سليل ثورة لم تكتمل. حتى الاحتلال الفرنسي أدرك أن الطائرات لا تصيد فكرة، وأن الزنازين لا تُعيد السيطرة على وطن ولا يمكنها أن تمحو ما خبأته الصدور من الإيمان المطلق بالأرض والقضية.

في كربلاء، لم تكن هروبا، بل يقينًا بالشهادة. الحسين بن علي، الذي علم أنه ذاهب إلى قتله، لكنه لم يتراجع.

وقد وصلت هذه النماذج جميعًا إلى فلسطين، كجذور نضالية. استنطقها الزبيدي في قلب رسالته، ليقول إن المُطارَد تنينًا يعرف مكانه، يملك أرضه، ويتقن حماية نفسه من الصياد.

كما أنه ذكر أمثلة عديدة تفي بغرض الدراسة وتشييع فكرة الصياد الذي يبدو وكأنه يتحرك نحو هدفه كضحية وليس جلاد.

هنا يتبادر إلى أذهاننا شخصية الفلسطيني الحقيقي، الذي يضع الوطن فوق كل اعتبار، ويؤمن أن النصر للمستضعفين الذين سُلبت أوطانهم، وعاث بها المحتل خرابًا، دون الوقوع في فخ الدين والطائفية وما يُمزّق الوطن إلى أشلاء، ويحوّله إلى جثث بنيران المحتل ونيران الإخوة.

هذا يعكس ثقافة الزبيدي، الرجل اللامحدود الفكر، الناطق باسم الوطنية تحت شعار: الدين لله، والوطن للجميع.

وهي من أساسيات العمل الوطني، التي ترقى بأي قضية إنسانية لتستمر، وتواجه، وتقدّم، وتضحّي حتى تتحرر من دنس المحتل. فلا يتشرذم الوطن هنا وهناك، بل يتجه الهدف كله نحو وجهة واحدة، وعدو واحد.. وهذا ما نحتاج أن نفهمه ونتعلمه من الزبيدي وتاريخه العظيم.

لقد تحدّث الزبيدي، قبل أن يغوص في تجربته الشخصية مع "الصياد"، عن المطاردات الفلسطينية التي سطّرت الكثير من البطولات، وعن المراحل التي يمر بها المطارد، وهو يعلم جيدًا أن لديه خيارين فقط: إما الشهادة، وإما الأسر، بما يترتب على ذلك من ضغوطات كثيرة على عائلته.

وما هو أبعد من ذلك، فإن طبيعة البلاد تفرض عليك شكل الفرص التي ستأتيك من هذه المطاردة، وقيود سياساتها أحيانًا. فالفلسطيني تعرّض للكثير من الاختلالات عبر أشكال الاحتلال، لكن الفارق الجوهري بين سابقات الاحتلالات والاحتلال الصهيوني، أن الأولى كانت تترتب على نظم وآليات هدفها سرقة خيرات البلاد واستبعاد أهلها، وإن زيّنت الأمر بغير ذلك.

أما الاحتلال الصهيوني، فلم يرضَ بذلك فقط، بل تفوّق في مشروعه القائم على الإحلال والاقتلاع: قتل واستبدال، مجتمع يحل محل مجتمع، شعب مكان شعب آخر، له تاريخه وجذوره وذكرياته، وأحفاده وفرحه وحزنه.

أما في جزئية زكريا الخاصة، فهي الزمان والمكان وطبيعة الأهل الذين تربّى ونشأ في كنفهم. فهو ينحدر من بيت مقاوم عبر التاريخ، لم يرضخ لمطامع المحتل. وأسفر ذلك عن استشهاد جدّه، وهدم منزلهم، وانتقالهم للعيش خارج فلسطين تحت وقع الضغط والتهجير.. وهو ابن حيفا المهاجرة أيضًا، وكأن نكبة واحدة لا تكفي، وكأن وجعًا واحدًا لا يكفي.

لقد ترعرع في ظل انتماءات مختلفة، ونستشف من تجربته أن الوطن هو الأساس، ما دامت كل الأهداف والرايات تندرج تحت اسمه وتحريره. فلا فرق بين فصيل وفصيل، ولا بين يساري وإسلامي؛ فالقضية واحدة، والهدف هو تطهير البلاد من المارين العابرين، الطارئين على هذا الوطن الذي لا تنضب فيه أسماء الشهداء، والأسرى، واللاجئين، والنازحين، والمقهورين.

وهنا أيضًا، لا بد من الإضاءة على الجانب الإنساني، الذي يعكس ثقافة "التنين"، وهو ما أشار إليه الزبيدي في حديثه عن المرأة الفلسطينية، تلك التي أُسرت، وحوصرت، وعُذّبت، ونالت نصيبها من القهر بأشكال مختلفة، حتى وإن لم تكن مطاردة على النحو الذي تعرّض له الرجل الفلسطيني.

ضحكة معلّقة بين رصاصتين (حين يضحك الموت من قلب القبر)

زكريا: الابن، والأخ، والزوج، والمطارد. تاريخه وتاريخ عائلته، يعلّمانك بأن ذاك الشبل الصغير قد نمت فيه روح المقاومة، إذ زرعها والده فيه منذ الصغر، وشاهد الظلم بعينيه، والدماء تتناثر في المكان، والجنائز تتكرر. كان والده أستاذًا للغة الإنجليزية، لكنه مناضلًا في صفوف تلامذته، لا يشرح لهم عن اللغة الأجنبية بقدر ما يشرح لهم عن وطنهم. فلا تتعجب من المناضلين الصغار الذين يمجّدون الأرض والوطن، ويتغنّون بالشهادة، ويزغردون للشهيد.

لقد توالى الفقد على جبل المحامل، زكريا، هذا الفتحاوي الأصيل. ولنتذكّر أنه ليس استثناءً، ففلسطين تلد الفقد كما تلد الفرح بمولود جديد في آنٍ واحد. بل هو رمز يُحتذى به لتجربة قاسية، ملاصقة لعلاقة مباشرة مع المحتل، علاقة الندّ بالندّ، والمواجهة، والانسحاب التكتيكي. لقد حمل في قلبه وعقله الثورة والمواجهة والتعليم، والحفاظ على من معه، والنظرة الشاملة لما يخطّط له العدو. وهو يعلّمنا بأن للجواد غفوته، ومن رحم الموت تولد ضحكته. وهذا ما حدث معه عندما كان مختبئًا في قبر محكم الإغلاق عليه.

إن الزبيدي، الذي استُشهد أخوه معه في معركة المواجهة مع العدو، والتي استمر زكريا في نضاله، حيّر القنّاص والمحتل، ولعب معهم لعبة الموت على سبيل الندّ. لكنه، هنا، زكريا المهجّر، والمقاوم، والفلسطيني العنيد، رغم الإصابات المتفرقة التي لحقت به، بدءًا من وجهه، وتسلّلت الطلقات تلو الأخرى إلى سائر جسده، وما زال يقاوم.

تجربة زكريا تعلّم الفلسطيني أن لحظات، أو ثوانٍ، أو ربما شعرة، تفصل بين موت وحياة، بين أمسٍ وغدٍ، بين شعور بالقوة والضعف، وبين التصميم على مواصلة الطريق، وإن كانت كل النوافذ تؤدي بك إلى الشهادة أو الأسر.

لقد كانت وستبقى طبيعة البيئة الفلسطينية وتشكيلها حاضنة للعمل المقاوم، وبالمحصلة فهي حاضنة للمطاردين من الأعداء، والمتمردين على القهر والظلم، والمصممين على اقتلاع محتلهم، وإن لم يمتلكوا قوته وأدواته، لكن صاحب الأرض أقوى، وصاحب الحق أقوى، وقد أثبت الفلسطينيون بأن بيوتهم، وحجارتهم، وشجرهم، وكل شيء فيهم، ينبض بالمقاومة، إذ لا يخلو بيت فلسطيني من شهيد أو أسير.

وقد تحدث الزبيدي في نهاية رسالته عن القرية، والمدينة، والمخيم، وما كان يتناسب مع المكان والزمان لوجود المطاردين من شبابنا، وقد لا يخلو الأمر من إخفاق هنا أو هناك، نظرًا لعدم الإلمام والمعرفة الواسعة عند بعض المطاردين، أو عندما يسبقه حنينه إلى أهله وأولاده فيقع في مصيدته، غير أن هذا كله لا ينفي ولا يغير حقيقة الفلسطيني الذي دوّن تاريخًا من الانتصارات على أعدائه، وقاوم، ولم تفقد فلسطين هويتها التاريخية والتراثية، رغم جميع المحاولات لطمس التاريخ وتزويره وتهويد بعض الأماكن.

وحتى وإن مات كبارنا، واستشهد الكثير منا، لكن صغارنا لم ينسوا، ولن ينسوا، هذه القضية، وعلى مدى عقود طويلة ما زالت راية النصر ترفرف، ورغم الإمكانيات العسكرية الأقل بكثير من إمكانيات العدو، لكنه لم ولن ينتصر على من يتنفس هواء فلسطين من سمائها، ويعرف قيمة كل حبة تراب على أرضها، فقد حيّر العدو، ورغم جميع الممارسات فنحن الأقوى، وسنبقى حتى عودتهم بالبحر كما جاءوا إلى بلدانهم، لكن هذه المرة ستكون العودة بلا رجعة، وسنعود إلى قرانا ومدننا.

وكما قالها الشهيد الرمز أبو عمار: "وسيرفع شبل من لشبابنا أو زهرة من زهراتنا علم فلسطين فوق مآذن وكنائس القدس شاء من شاء وأبى من أبى".

▪ أجرت اللقاء: نهى عودة - شاعرة وكاتبة فلسطينية

حوار "الأيام نيوز" مع الأسير المحرر أحمد سليم (أبو فادي).. من ظلمة السجن إلى نور الحرية.. حكاية روح لا تنكسر

تجاوز عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الصهيوني مليون أسير، لكلٍّ منهم حكايةٌ يجب أن تبقى حيّة، وتُوثَّق وتُروى لهذا العالم، لأنها ليست مجرّد حكاية، بل هي جزءٌ من تاريخ نضال وكفاح الشعب الفلسطيني في سبيل تحرّره. ولا يكاد يخلو بيتٌ فلسطيني من أسير، سواء أكان شابًّا، أو شيخًا، أو امرأة، أو حتى طفلًا قاصرًا. بل إنّ الاحتلال الصهيوني رفض الإفراج حتى عن جثامين الأسرى بعد انقضاء مدة محكوميتهم، هذه المحكومية التي تجاوزت عشرات المُؤبّدات بحقّ السجين الواحد. هذه نافذة يُطلّ منها القارئ على حكايا الأسرى الفلسطينيين، من خلال حوارات يحكي فيها كل أسير عن تفاصيل حياته بين جدران السجون... بكل ما فيها من أوجاع وآلام ومشاعر وآمالٍ أيضًا.

الأيام نيوز: من أنت، بعد كل هذا الغياب؟

أحمد سليم: أنا إنسان عاش التجربة بأظافر الروح. لم أخرج من الأسر كما دخلته. لم أعد ذلك الفتى الذي اعتقلوه، بل خرجت رجلًا يعرف قيمة الضوء حين يشقّ عتمة الزنزانة. أنا جرحٌ ليس مفتوحًا على الحياة، لكني ما زلت أتنفّس بالحب والإيمان.

 أنا ذاكرة لا تموت.

الأيام نيوز: حين فُتح لك باب السجن، هل خرجت أم وُلدت من جديد؟

أحمد سليم: كأنّ السماء نزلت إليّ، لا أنا خرجت إليها. أول من حضرني: أمي… رائحتها التي كانت تملأ وسادتي بالدعاء. جسدي كان خفيفًا، كأنني لا أنتمي لهذا العالم. أول رائحة شممتها كانت رائحة الأرض… التراب حين يبكي من الفرح.

الأيام نيوز: ما الذي يحدث في أول لحظة يُنتزع فيها الإنسان من حياته؟

أحمد سليم: كأنّ أحدهم سحبني من جلدي. في لحظة، فقدتُ كل امتيازاتي كبشر: حريتي، اسمي، حتى وجهي صار رقمًا. سقطت أشياء كثيرة، ووُلد في داخلي شيء عنيد… فكرة المقاومة.

الأيام نيوز: كيف يُعاد ترميم الروح حين تكون الزنزانة بيتك؟

أحمد سليم: رمّمتني الدعوات، دموع العزلة، صوتي حين يرتدّ إليّ في العتمة. بكيت؟ نعم. كثيرًا. كتبت؟ كنت أكتب على الجدران، على قلبي، أحيانًا على الهواء.

وتحدّثت إلى الله كثيرًا… كنت أعاتبه، ثم أطلب منه العزاء.

الأيام نيوز: الحنين... هل كان عدوك أم حليفك؟

أحمد سليم: الحنين كان رفيقي. لم يكن ألمًا فقط، بل دافعًا لأعيش، لأعود. كنت أحتضن صورهم في ذهني، أعيد وجوههم قطعةً قطعة، حتى لا أنساهم. كنت أقاوم النسيان كما أقاوم الاحتلال.

الأيام نيوز: كيف يمكن للإنسان أن يصنع معنى في يوم بلا معنى؟

أحمد سليم: التمرد الصغير كان في التفاصيل: تنظيم وقتي، ممارسة الرياضة، تعلّم لغة جديدة، أو الكتابة في الظلام. صنعت من الزنزانة عالمًا... مليئًا بالانضباط، لأن الفوضى تقتل.

الأيام نيوز: في عزّ الظلمة، ماذا منحك النور؟

أحمد سليم: الكتاب أنقذني، علّمني أن الألم ليس النهاية. قرأت عن مانديلا، عن جيفارا، عن غسان كنفاني، فصرت أكتب كأنني أخاطب المستقبل. كتبت رسائل، تأملات، رسائل حبّ لا تصل، وربما لم يكن يقرؤها إلا الله.

الأيام نيوز: كيف تتشكّل الأخوّة في مكان يُسرق فيه كل شيء؟

أحمد سليم: بعضهم صار لي أكثر من أخ في السجن، الإنسانية تُختصر في لحظة صمتٍ مشترك، في كسرة خبز، في أن تحسّ بألم غيرك قبل ألمك. تعلّمنا أن نحبّ بصمت، وأن نحزن معًا.

الأيام نيوز: ماذا كنت تفعل حين يكسرك الحزن ولا يجوز لك أن تُظهر انكسارك؟

أحمد سليم: كنت أضطر أحيانًا إلى أن أبتسم فقط لأرفع من معنويات من حولي، حتى لو كنتُ محطمًا من الداخل. الصمود كان تمثيلًا نبيلًا أحيانًا، لكنه أيضًا كان قرارًا يوميًا.

الأيام نيوز: مَن كان أول حضن بعد الغياب؟ ومتى شعرت أنك حر؟

أحمد سليم: أمي… ثم بكيت. الزمن لم يمرّ فقط، بل خلّف فينا أخاديد. أغرب لحظة؟ أن أفتح بابًا عاديًا دون إذن سجان…

 الحرية بدأت من هناك.

الأيام نيوز: ماذا تترك خلفك حين تخرج من الأسر، غير الجدران؟

أحمد سليم: نعم، هناك من بقي هناك: رفاق وأحلام. والسجن… يسكن فينا بعمق، حتى حين نخرج. لكنه لا يكسرنا، فقط يترك وشمًا على الذاكرة.

الأيام نيوز: هل الحرية كما كنتَ تتخيّلها؟

أحمد سليم: ليست كما تخيّلتها. صارت أكثر واقعية، وأحيانًا أكثر وجعًا. لكنها تظلّ مطلبًا، صرخة، ثمنها عمر، وأحيانًا روح.

الأيام نيوز: لو نظرت الآن في عينيّ أسير، ماذا تقول؟

أحمد سليم: لن أتكلم، لكن عيوني ستقول له: "تماسك… كل هذا سيصير يومًا ذكرى تُروى… كن حيًا، لأجلك، لأجلنا."

الأيام نيوز: ما الذي تغيّر فيك حين نظرت للحياة بعد الأسر؟

أحمد سليم: أراها فرصة ثانية. تغيّر فيّ كل شيء. صرت أقدّر الشمس، ضحكة الطفل، ورائحة القهوة. وربما سأكتب تجربتي… لكن هناك أوجاع لا تُقال، فقط تُحسّ.

الأيام نيوز: ما رسالتك لشعبك وللجزائر؟

أحمد سليم: لشعبي الفلسطيني: لا تيأسوا، نحن شعب يُولد من الرماد، ولن تُكسرنا السلاسل. وللشعب الجزائري: أنتم النبلاء… شكرًا لأنكم لم تخذلونا يومًا. دمكم ودمنا من ذات النبع الثائر.

وشمٌ في الذاكرة

الأسير المحرر أحمد سليم

مكان الولادة: سلفيت – شمال فلسطين المحتلة

تاريخ الميلاد: 22.2.1982

صدر بحقه حكم بالسجن مؤبدين وخمس وعشرين سنة، وقد أمضى ثلاثة وعشرين عامًا في سجون الاحتلال

يتصفحون الآن
أخر الأخبار