في هذا الزمن الذي تدّعي فيه القوى الكبرى تبنّي قيم العدالة وحقوق الإنسان، تُرتكب على الأرض الفلسطينية أبشع الجرائم، وسط صمتٍ دوليٍّ مريب، لا يمكن سوى وصفه بالتواطؤ. هنا، لا تُنتهك القوانين الدولية فحسب، بل تُقتلع القيم الإنسانية من جذورها، وتُفرّغ مفردات "الحق" و"العدالة" من مضامينها الحقيقية. فحين يختنق طفل في غزة من العطش، وحين يُترك جريح في جنين ينزف حتى الموت أمام عدسات الكاميرات، ولما يُقابَل وفد دبلوماسي بالرصاص لمجرد محاولته الاطّلاع على الحقيقة، تُصبح كلّ المعايير الأخلاقية ساقطة، وكلّ الشعارات التي يرددها الغرب مجرّد حبرٍ على ورق.
منذ السابع من أكتوبر 2023، شدّد الاحتلال الصهيوني حصاره على قطاع غزة، محولاً المعابر إلى أدوات خنق جماعي، والمساعدات الإنسانية إلى ورقة ابتزاز سياسي. لأكثر من سبعة أشهر، يعاني أكثر من مليوني فلسطيني من ظروف معيشية تفوق الوصف: الغذاء نادر، الماء شبه مفقود، والدواء محرّم. لا حديث في غزة اليوم إلا عن الجوع والعطش والمرض. أما الأمل، فقد أصبح ترفاً لا يتسع له قاموس الموت اليومي.
تتحدث بلدية غزة عن كارثة مياه حقيقية. ففي ظل ارتفاع درجات الحرارة وانعدام الوقود، توقفت العديد من آبار المياه عن العمل. الشاحنات التي كانت تجلب الوقود للبلدية لم تعد تصل، وخزانات المياه في منازل السكان نضبت. الأزمة لا تتعلق فقط بعدم توفر الماء، بل باستحالة الوصول إليه في ظل شلل البنية التحتية وغياب الحلول. مع كل شروق شمس، يدخل السكان معركة يومية من أجل شربة ماء.
وفي موازاة ذلك، تنهار المستشفيات أمام أعين العالم. وزارة الصحة في غزة أعلنت أن المنظومة الصحية تواجه انهياراً كاملاً، وأن المولدات الكهربائية في المستشفيات تُستهدف عمداً، ما يهدد بإغلاقها التام. مستشفى العودة، الذي يُعد آخر شريان حياة في شمال القطاع، أصبح مهدداً بالإغلاق في أي لحظة، بسبب نقص الوقود وانقطاع الإمدادات الطبية. في غزة، لم يعد السؤال عن العلاج، بل عن البقاء على قيد الحياة من دون علاج.
جنين.. رصاص الاحتلال لا يفرّق بين مقاتل ودبلوماسي
ليست غزة وحدها التي تدفع ثمن هذا المشروع الدموي. ففي الضفة الغربية، وتحديداً في مدينة جنين، يُعاد رسم مشهد الاحتلال بملامح أكثر وقاحة. فقد أقدمت قوات الاحتلال على إطلاق النار مباشرة على وفد دبلوماسي كان يزور مخيم جنين، في مشهد يعكس استهتاراً سافراً بالقانون الدولي. الوفد، الذي ضم سفراء من دول عربية وأجنبية، كان يهدف إلى الاطلاع ميدانياً على تداعيات العدوان الصهيوني. ورغم وضوح هويتهم الدبلوماسية، لم يتردد الجنود في فتح النار، في رسالة تقول إن الاحتلال لا يعترف بأي حدود، حتى تلك التي رسمها القانون الدولي لحماية الدبلوماسيين.
وزارة الخارجية الفلسطينية دانت الهجوم بشدة، مؤكدة أن هذا الاعتداء يُعد انتهاكاً صارخاً لاتفاقية فيينا، التي تضمن الحصانة للبعثات الدبلوماسية. وطالبت الدول المعنية بتحمّل مسؤولياتها واتخاذ إجراءات رادعة بحق الاحتلال، معتبرة أن استمرار الصمت إزاء مثل هذه الأفعال يُشجّع على تكرارها.
هذا الحادث لم يكن استثناءً، بل يأتي ضمن تصعيدٍ ممنهج بدأ منذ يناير الماضي، وشمل حملات عسكرية متكررة على جنين وطولكرم ونابلس. أسفرت هذه العمليات عن استشهاد العشرات، وتشريد آلاف العائلات، وتدمير واسع للمنازل والبنى التحتية، دون أن يُحرّك العالم ساكناً.
المساعدات.. مسرحية الاحتلال المفضوحة
في مقابل كل هذه الكوارث، تروج "إسرائيل" رواية زائفة عن سماحها بدخول المساعدات إلى غزة، لكنها في الواقع تُحول هذه المساعدات إلى أداة سياسية وعسكرية، تتحكم من خلالها في إيقاع الحياة والموت. وتشير تقارير برنامج الأغذية العالمي ومنظمة أطباء بلا حدود إلى أن ما يُسمح بإدخاله من مواد لا يكفي لتلبية الحد الأدنى من الاحتياجات، بل يُستخدم لإيهام المجتمع الدولي بأن هناك استجابة إنسانية.
وتؤكد منظمات الإغاثة أن الاحتلال يمارس سياسة ممنهجة في تجويع السكان، عبر تقليص عدد الشاحنات وتقييد نوعية البضائع والسماح بدخولها في أوقات محددة ومحدودة. ومنذ أيام، أوقف الاحتلال فجأة إدخال المساعدات من معبر كرم أبو سالم، متجاهلاً التحذيرات الأممية من وقوع مجاعة حتمية.
ما يحدث في غزة من حصار وتجويع، وما يجري في الضفة من اقتحامات وقتل واعتقالات، ليسا ظاهرتين منفصلتين، بل يُمثلان وجهين متكاملين لسياسة صهيونية تهدف إلى إخضاع الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده. فقد تجاوز عدد الشهداء منذ بدء العدوان حاجز الـ970، فيما ناهز عدد المعتقلين 17 ألفاً، في سلسلة حملات اعتقال عشوائية تطال النساء والأطفال والشباب، بما في ذلك الأكاديميين والنشطاء المدنيين.
وفي القدس الشرقية، تتواصل عمليات التهجير القسري وهدم المنازل، ضمن مخطط واضح لفرض واقع ديموغرافي جديد يخدم مشروع التهويد الشامل للمدينة. كما أن المستوطنين المدعومين من "الجيش" الصهيوني يوسّعون من اعتداءاتهم على القرى الفلسطينية، في ظل حماية سياسية وعسكرية.
شراكة الغرب في الجريمة
ما يُضفي مزيداً من المأساوية على المشهد هو الدعم الغربي اللامحدود للكيان، لا سيما من قبل الولايات المتحدة، التي تواصل تزويدها بالسلاح، وتُوفر لها الغطاء السياسي في المحافل الدولية، وتمنع صدور قرارات تُدين جرائمها. هذا التواطؤ الغربي لا يُعد دعماً فحسب، بل شراكة فعلية في جريمة ترتقي إلى مستوى الإبادة الجماعية.
لقد أصبح واضحاً أن ما يجري في فلسطين اليوم ليس مجرد احتلال، بل مشروع استعماري عنصري يسعى إلى اقتلاع شعب من جذوره، وتصفية قضيته سياسياً وجسدياً. وتحت غطاء "مكافحة الإرهاب"، تواصل "إسرائيل" سياسة القتل الجماعي، وتُروّج لروايات كاذبة تغذيها بعض وسائل الإعلام الغربية المتواطئة.
نحو محاسبة دولية عادلة
إن مسؤولية المجتمع الدولي لا تقتصر على الإدانة اللفظية، بل تتطلب تحركاً فورياً لتفعيل آليات المحاسبة، سواء عبر المحكمة الجنائية الدولية أو من خلال تشكيل لجان تحقيق أممية مستقلة. فالصمت لم يعد خياراً أخلاقياً، بل بات تواطؤاً صريحاً. ويجب أن يُدرك العالم أن من لا يقف اليوم في وجه الاحتلال، سيكون غداً شاهداً صامتاً على انهيار النظام الدولي بأسره.
في خضم هذا الظلام، يبقى الشعب الفلسطيني شعلة مقاومة لا تنطفئ. من تحت ركام غزة ومن بين أنقاض جنين، يخرج صوت الحق متحدياً دبابات الاحتلال وأصوات القتل، ليؤكد أن الحق لا يموت، وأن الحرية لا تُقهر. لقد أثبت الفلسطينيون، على مدار العقود، أن صمودهم هو الصخرة التي تتحطم عليها كل مشاريع الإبادة والتهويد.