قبل أن تكون "باريس" عاصمة النور والعطور التي يحلم السيّاح بزيارتها، كانت عاصمة للسّموم والقذارة والروائح الكريهة النفّاذة التي تُشمّ على بعد أميال. وقبل أن تحمل شوارعُها أسماء: الشانزليزيه، دي ريفولي، بوليفارد هوسمان، مونمارتر، رين.. كانت تحمل أسماء لها علاقة بالمَسالخ والدّم والذبائح مثل: قدم البقر (Rue du Pied de Boeuf)، الكَرْشَة (Rue de la Triperie).. "شوارع باريس كانت أشبه بحساءٍ له رائحة كبريتيّة، حيث تلقي فيها العائلات بقاذوراتها وفضلات أفرادها من النوافذ.. وفي يومي الخميس والجمعة، لم يكن أمام الباريسيين خيارٌ سوى السَّير وسط بوصاتٍ من الدماء المُتكاثفة التي تُلقيها المسالخ في الشوارع.. كانت قذارة باريس لا مفرّ منها، تلتصق بلا رحمة بالملابس، وجوانب المباني، وداخل فتحات الأنف.. ومن الحركة الدائمة للمارّين، يتحوّل التراب إلى زيت أسود كثيف ودهني، بحيث لا يمكن لأيّ فنٍّ أن يغسله". هذه هي العاصمة "باريس" كما وصفتها الكاتبة "هولي تاكر" في كتابها "مدينة النور، مدينة السموم: القتل والسحر وأول رئيس شرطة في باريس".
أما المؤرخ الفرنسي "دريبار" فيقول: "نحن الأوروبيون مدينون للعرب بالحصول على أسباب الرّفاه في حياتنا العامة، فالمسلمون علّمونا كيف نحافظ على نظافة أجسادنا. إنهم كانوا عكس الأوروبيين الذين لا يغيّرون ثيابهم إلا بعد أن تتّسخ وتفوح منها روائح كريهة..." (من كتاب "الحضارة" للمفكر والمؤرخ المصري "حسن مؤنس").
تطهّرت "باريس" من قذارتها الظاهرة، وصارت أشهر مدينة للعطور في العالم، غير أنها لا تزال تحتفظ بأقذر ما فيها من شرٍّ ونزعة استعمارية للهيمنة على الشعوب الآمنة ونهب ثرواتها في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. ولعل وجود فرنسا ضمن الدول الكبرى مرهونٌ بحفاظها على قذارتها.. ولا يزال ورثة الفكر الاستعماري الفرنسي يحلمون بإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، ويعملون من خلال أجهزة أمنية هجينة تتخفّى وراء وكالات إعلامية وسياحية وشركات تجارية ومنظمات وجمعيات مدنية ومراكز بحوث ودراسات.. يعملون على تخريب اقتصاديات الأوطان، وزعزعة استقرار الدول، ونشر الإرهاب والعنف، وبثّ الأفكار الهدّامة في المجتمعات، وغيرها من الأعمال الشيطانية التي تؤكّد بأن كل عطور باريس لا تكفي لتزيل عنها رائحة القذارة التاريخيّة والرّاهنة!
وتلك الأجهزة الأمنية الهجينة تتغذّى وتُؤمّن تمويلها وميزانياتها الضخمة من التجارة في المخدّرات وأعمال الدّعارة والقمار وبيع الأسلحة وكل الأعمال السوداء التي تدرّ أرباحا طائلة. وهي لا تخدم بالضرورة البلدان التي تنتمي إليها، فقد تخدم أيضًا أفرادا أو مجموعات في ميادين السياسة أو الاقتصاد أو قوى الضغط وكل التنظيمات الخفيّة التي تريد بسط هيمنتها ونفوذها عبر مختلف أنحاء العالم. وهذا ما يفسّر وجودها المتخفّي تحت شركات اقتصادية وتجارية في بلد مثل الإمارات والمغرب..
هي باختصار أجهزة في خدمة عَبَدة الشيطان وأعداء الحياة والإنسان، تتبنّى فكرة "الإنسان الأعلى" (السوبرمان) للفيلسوف الألماني "نيتشه" الذي يرى بأنه يتوجّب على النُّخبة القوية أن تسحق الشعوب الضعيفة التي هي مجرّد حشرات مهما سُحِقت فإنها لا تفنى.. وهي فكرة تتقارب إلى حدٍّ كبير مع الرؤية التلمودية الصهيونية التي ترى في الأغيار (غير اليهود) بأنهم حيوانات خلقها الله في صورة بشر لخدمة اليهود!
حول قذارة "باريس" التي لم تغسلها القرون ولا تستطيع أكثر مواد التنظيف تطوّرا أن تغسلها، يعرض علينا الكاتب والمؤرخ والديبلوماسي الجزائري "محمد الميلي" (1929 – 2016) قراءة في كتاب صدر عام 1975 بعنوان "ملف ب ... كعملاء سريين: فرنسا موازية، تلك التي تتعلق بالأعمال القذرة للسلطة في فرنسا" (Dossier B ... comme barbouzes: Une France parallèle celle des basses-oeuvres du pouvoir en France).
ينطلق الكتاب في تتبّع جهاز استخباراتي فرنسي موازي للجهاز الرسمي، ظهر بصفة رسمية عام 1958 تحت تسمية "ساك" أو "مصلحة نشاط الأخلاق المدنية" في شكل جمعية مُسيَّرة حسب قانون الجمعيات الصادر عام 1901. وكان من بين أعضائه شخصيات سياسية واقتصادية وعسكرية ومُدراء بنوك وشركات بترولية.. وامتدّ نشاطه من داخل فرنسا، حيث كان يؤثّر في صناعة الرؤساء: من رئيس الدولة إلى رئيس البلدية.. امتدّ إلى خارج فرنسا والقارة الأوروبية، ووصل نشاطه إلى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، حيث أنجز مهمات كثيرة في اغتيال الرؤساء والشخصيات السياسية الفاعلة، وخطّط ونفذ للانقلابات، وأثار الفوضى والفتن في دول كثيرة، ودعم الحركات الانفصالية، وزوّر عُملات عددٍ من البلدان الإفريقية وأغرق الأسواق بها.. وقد تركّز نشاطه بشكل أساسي في إفريقيا الغربية أو ما يُعرف بـ "الساحل الإفريقي".
كان هذا التنظيم السرّي (أو الموازي) يضمّ في شبكته عناصرا من عالم الإجرام والنازية والعداء لفرنسا ذاتها.. "ويُسجّل المؤلِّف أن التنظيم السرّي المذكور لم يكن يتشدّد في انتقاء العناصر، طالما تتوفّر فيها الشروط المطلوبة، أي أنه لم يكن الماضي يُؤخذ بعين الاعتبار. وبذلك وقع الاعتماد على عناصر كانت قد اشتغلت مع (نظام فيشي) أو مع سلطات الاحتلال الألماني، لكن فيما إذا كان العنصر المطلوب معروفا جدا في منطقته بأنه كان يتعاون مع الاحتلال النّازي، فتُزوَّر له شهادة نضال ومشاركة في المقاومة، ثم يُوجه إلى مدينة أخرى لا يكون فيها معروفا. أمّا شهادات النضال نفسها فقد كانت تُطبع بالجُملة في بلجيكا".
كما يُحدّثنا الكِتاب عن مهندس هذا التنظيم، "جاك فوكار" الذي "كان من مكتبه - في رئاسة الجمهورية الفرنسية - يصنع حكومات إفريقية، ويوجه خيوطها". وأسّس ما يُعتبر "إمبراطورية" لصناعة الإرهاب وتجارة السلاح والمخدّرات واغتيال الشخصيات وإحداث الانقلابات وتزوير العُملات.. في بلدان إفريقيا الغربية خاصة. وأفرد الكتاب فصلا للحديث عن تفاصيل عملية اختطاف المعارض المغربي "المهدي بن بركة".
ما يمنح هذا الكتاب قيمة تاريخية أنه اعتمد على شهادات عناصر انتمت إلى هذا التنظيم الفرنسي الهدّام، من ذلك هذه الشهادة حول محاولات زعزعة ثورة التحرير الوطني، يقول الشاهد: "كان علينا أن نفتعل عمليات تصفية حسابات بين الجزائريين، كما كان علينا أن نقتل بعض الناس. وكان ذلك عملا سهلا، كنا نصل في سيارة أو اثنتين، إلى الحي العربي (باب إیكس) في مرسيليا، أو حي (باربيس) في باريس، ونقف أمام مقهى يُعيّن مسبقًا، ثم نطلق قنبلة أو اثنتين ونصحبها بطلقات رشاشة..
وكان علينا أيضا أن نضطلع بعمليات أصعب، مثل استنطاق بعض من يُلقى عليهم القبض، ومثل إخفاء جثث الذين يُقتلون في محافظة البوليس لكي نلقي بها في نهر السين. وعندما نضع أيدينا على عنصر من الجبهة (جبهة التحرير الوطني) مُكلّف بجمع الأموال، نقتسم الغنيمة أخماسًا، فحتى الشرطي الرسمي لم يكن يتعفّف عن أخذ نصيبه. وباختصار لقد كان مسؤولونا عند كلمتهم ما عدا شيئا واحدا لم ينفّذوه وهو تطهير سجِلّ السوابق".
من المُجدي الإشارة إلى أنّ هذا التنظيم الموازي عُرف بتسميات عديدة منها "شبكة الاستخبارات الديغولية" لأنه كان يهدف - أو هكذا نفهم - إلى إعادة "ديغول" إلى حكم فرنسا، غير أنّه صار ذراعًا لرؤساء فرنسيين، وصار له ورثةٌ ابقوا على نشاطاته في مختلف أنحاء العالم، وليس هناك ما يُفيد بأنه انتهى وطُويَت صفته، بل إنّ الأحداث تؤكّد بأنه تغوّل وأمسى أكثر شراسة وخطورة.. عمّا تحدّث عنه الكِتاب. ولن نطيل على القارئ أكثر، ونتركه يُبحر في المقال الذي نشره "محمد الميلي" بمجلة "الأصالة" الجزائرية في شهر ماي 1976، تحت عنوان: "في فرنسا: شبكات التخريب والتهريب تنبع من السلطة".
إرهاب فرنسي تحت غطاء رسمي وشبه رسمي
بعد مرور ثمانية عشر عاما على قيام الجمهورية الفرنسية الخامسة، وبعد مرور أربعة عشر عاما على استقلال الجزائر، ما يزال غُلاة "الجزائر الفرنسية" يفكّرون في التخريب، تخريب المؤسسات الجزائرية، في فرنسا، وتتبّع الهجرة الجزائرية هناك بأعمال العدوان والعنصرية وحتى التقتيل الأعمى أحيانا. وقد عرفت الجزائر، في مطلع هذا العام (1976)، تصعيدا في موقف غُلاة إرهابیّي "الجزائر الفرنسية"، تمثَّل في التخطيط لعددٍ من عمليات التخريب كان مُقدّرًا لها أن تشمل جهات واسعة من القطر الجزائري، لكنها اكتُشفت كلها قبل التنفيذ، ما عدا واحدة هي التي نُفّذت في مقرّ جريدة "المجاهد" اليومي. والسؤال المطروح في مثل هذه الحالة، هو: كيف أمكن لأجهزة الأمن الجزائرية اكتشافهم بهذه السرعة، ومن هي الجهات التي تكمن وراء هؤلاء المخربّين، ولماذا لم يُكتشفوا بفرنسا، رغم أنهم ارتكبوا - على امتداد سبع سنوات - أكثر من 160 عملية تخريب؟
لا ندّعي أننا نستطيع أن نجيب عن هذا السؤال، ولكننا نريد فقط أن نعطى صورة عن وسطٍ فرنسي غريب تنتمي إليه عادة مثل هذه العناصر، وهو وسط يقع على حدود أجهزة الاستخبارات وحدود أوساط اللصوص والقتلة. إنها عناصر تنتقل بسهولة بين هذا وذاك، مُتمتّعة بغطاء رسمي أو شبيه بالرّسمي.
هيئة استخبارات فرنسية خاصة للمهمات القذرة
الصورة التي نريد إعطائها عن هذا الوسط الغريب، نعتمد فيها على كتاب صدر في فرنسا في آخر السنة الماضية (1975)، أي منذ شهور قلائل، عنوانه الحَرفي هو: "ملف ب.. مثل باربوز"، وقد صدر هذا الكتاب ضمن سلسلة تبدأ دائما بكلمة "ملف" متبوعة بالحرف الأول من الموضوع الذي يُخصّص له الكتاب. وكتابنا هذا مُخصَّص لهيئة استخبارات خاصة، قامت بنشاطات متعددة في أكثر من اتجاه، خلال العهد الديغولي. وقد بذل مُؤلِّف الكتاب ما لا يقلّ عن ثلاث سنوات من الجهود في البحث والتنقيب عن جهاز الاستخبارات هذا، معتمدا هنا على شهادة حيّة، وهناك عن وثيقة صحافية، وتارة على بيانات رسمية إلخ... حتى توصّل إلى تقديم صورة واضحة عن هذا الجهاز الديغولي الغريب. وكلمة "باربوز"، بالفرنسية مُشتقّة من كلمة "بارب" (أي اللّحية) لأن بعض من كانوا يُختارون لحراسة الرّسميين من بين أوساط معينة نظرا لخصائص بدنيّة معينة، كانوا مُلتحين.
بدايات شبكة الاستخبارات الديغولية
عُرفت شبكة الاستخبارات الديغولية هذه بعناوين وأسماء مختلفة. وقد وُلدت، بصفة رسمية عام 1958 باسم "ساك" (S.A.C.) أو "مصلحة نشاط الأخلاق المدنية". ظهرت في صورة جمعية مُسيَّرة حسب قانون الجمعيات (الصادر عام 1901).
والواقع أنها ترجع إلى ما قبل ذلك بأكثر من عشر سنوات، لأنها ارتبطت بنشاط التنظيمات الديغولية السياسية مثل "تجمّع الشعب الفرنسي" (الذي أنشئ عام 1947) والذي كان يهدف إلى تهيئة الظروف الملائمة كي يعود الجنرال "ديغول" إلى الحكم. ومن بين الوسائل المعتمدة لذلك هو العناية بجميع الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وضبط جهاز يوازي جهاز الدولة الرّسمي، حتى يتحرك عندما تجتمع ظروف رجوع الجنرال.
وقد حرص التنظيم الديغولى على أن يضم إليه العناصر ذات النفوذ والتي تتمتع بمواقع هامة في الميادين الاقتصادية والمالية والسياسية، إذ نجد من بين الشخصيات المتعاونة مع هذا التنظيم مُدراء بنوك وشركات بترولية، بل وحتى السيد "مارسيل داصو" المشهور بصناعة الطيران الفرنسي.
مصادر تمويل الشبكة
ومن هنا لم تكن مصادر التمويل تنقص هذا التنظيم. ولنستمع إلى شخصية تحتلّ اليوم موقع مسؤولية في بنك أميركي في باريس، تعطي بعض المعلومات عن جانب التمويل. تقول الشخصية المذكورة ما يلي: "جمعتُ ثلاثة ملايين دولار في لندن من طرف المكتب المركزي للاستخبارات والعمل (وهي مصلحة استخبارات ديغولية أنشئت خلال الحرب العالمية الثانية) كانت خارج أيّ حساب رسمي، ووزّعت في عدة بنوك بريطانية، وخاصة بنك (مورغن غارنشي تروست) و(بنك بارکلاي)، وكانت مُهمّتي الرسمية داخل بنك (مورغن) تتلخّص في زيارة فروعنا في أوروبا الغربية. وبمناسبة هذه الزيارات كنت أرسل إلى فرنسا وسويسرا عملات صعبة أسلّمها إلى شخصيات موثوق بها تابعة لمصلحة أمن حركة (تجمّع الشعب الفرنسي). وكان خروج العُملة من بريطانيا لا يصطدم بأيّة عرقلة رغم صرامة الإجراءات لأننا كنا نتمتّع بغطاء المخابرات البريطانية فقد كانت الصداقات التي تكوّنَت خلال المقاومة السرية ما تزال قوية".
نازيون وخونة لأوطانهم في خدمة الشبكة
ولكي نأخذ صورة عن أهمية تنظيم "أمن الحركة الديغولية" في الخمسينيات من القرن الماضي، يسوق المؤلف شهادة مفادها أنه - أي التنظيم الأمني المذكور - كان يشمل ستة عشر ألف شخص من بينهم من يعملون في مصالح الدفاع الوطني الفرنسي.
ويُسجّل المؤلف أن التنظيم السرّي المذكور لم يكن يتشدّد في انتقاء العناصر، طالما تتوفر فيها الشروط المطلوبة، أي أنه لم يكن الماضي يُؤخذ بعين الاعتبار. وبذلك وقع الاعتماد على عناصر كانت قد اشتغلت مع "نظام فيشي" أو مع سلطات الاحتلال الألماني، لكن فيما إذا كان العنصر المطلوب معروفا جدًّا في منطقته بأنه كان يتعاون مع الاحتلال النّازي، فتُزوَّر له شهادة نضال ومشاركة في المقاومة، ثم يُوجه إلى مدينة أخرى لا يكون فيها معروفا. أمّا شهادات النضال نفسها فقد كانت تُطبع بالجُملة في بلجيكا.
انتخابات فرنسية بالعصي والنيران
وقد استُعملت هذه الشبكة خلال حملة الانتخابات البلدية لمدينة "مرسيليا" عام 1947. يقول أحد عناصر هذا التنظيم، بهذا الصدد ما يلي: "كانت التعليمات الواردة من باريس قاطعة، يجب أن ننتصر بكل ثمن.. فجمعنا الأصدقاء وأصدقاء الأصدقاء وكاشفناهم بالوضع: يجب أن تُفسدوا الاجتماعات الانتخابية للأعداء بالعِصي، وفيما إذا لم يكن ذلك كافيا فاستعملوا الأسلحة النارية. فإذا نجحنا في الانتخابات فسوف نتكفل بتغطيتكم وبمستقبلكم، وفيما إذا هُزمنا فسوف نضمن نقلكم إلى جهات أخرى... وقعت عدة أضرار، لكننا نجحنا".
"دولارو".. من التعاون مع النازية إلى النضال في الديغولية
ويصف المؤلِّف بعد ذلك كيف بدأت محاولة التسرّب إلى الأجهزة البوليسية الرسمية والسيطرة عليها، ويقول إن الذي قام بهذه العملية هو محافظ الشرطة، "جان ديد"، وكان قد دخل إلى سلك البوليس في عام 1936، وعندما قامت الحرب العالمية الثانية وجدته في سلك البوليس السرّي الذي عهد إليه بمراقبة نشاط الأجانب. وقد كان هو الساعد الأيمن لمدير الاستخبارات العامة "روقي" الذي أُعدم عند تحرير باريس نظرا لتعاونه مع الألمان.
وكان "جان ديد" خلال هذه المدة يجمع الملفات والمعلومات والوثائق التي تمكّنه من تجنّب عمليات "التطهير" التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. ونظرا لاشتهاره بعداء الشيوعيين، فقد قبلت المخابرات الأميركية بالتعاون معه. وفي عام 1947، انضم إلى حركة "تجمع الشعب الفرنسي" الديغولية، وتعهّد بتسريب العناصر الديغولية وسيطرتها على الأجهزة البوليسية. وقد اختار مساعدًا له شخصًا اسمه "دولارو" كان محكوما عليه بعشرين سنة سجنا لتعاونه مع النازيين، فهرّبه في سبتمبر 1947، ليصبح بعد ذلك هو رئيس البوليس الخاص بالرئيس الكونغولي "فولبير يولو" الذي كان معروفا بعلاقاته وتبعيّته لباريس.