الدكتور “محمد رضا زائري” أكاديمي مُتخصِّصٌ في الإعلام الديني والفلسفة الإسلامية والعلاقات (الإسلامية – المسيحية). وهو كاتب وأديب متميّز له أكثر من ثلاثين مُؤلَّفًا في الأدب والترجمة والكتابة الإبداعية والسّردية، تُرجِم بعضها إلى اللغات الأجنبية: الإنجليزية والفرنسية. وهو إعلاميٌّ بارز تجاوزَت مسيرتُه الإعلامية ربع قرنٍ، أسّس خلالها دوريات ومجلاّت، وشغل رئاسة تحرير جرائد منها “همشهري” وهي أكبر جريدة في العالم باللغة الفارسية. إضافة إلى نشاطاته وأعماله في المجالات الثقافية والفنية والإنتاج السينمائي والتلفزيوني. وله أيضًا نشاطٌ كبير في مجال النشر، حيث أنشأ مؤسسة إعلامية مستقلة يَصدر عنها مجلة شهرية ما زالت مُستمرّة في صدورها منذ 23 عاما.
وهذه المساحة: “بحثًا عن الجيم”، تجربةٌ إبداعية أخرى يخوضها الدكتور “محمد رضا زائري” على صفحات جريدة “الأيام نيوز”، يُوثّق من خلالها وجودَه مُستشارًا ثقافيا لإيران في الجزائر.
جيم الجيش وجيم الجامع
بالعودة إلى بحثي المتواصل عن "الجيم" الذي ينقص أخاكم "الزايري" حتى يصبح جزائريًّا، أتوقّف عند جيم الجمعية، وجيم الجامع، وجيم الجيش.
هذه المؤسسات الثلاث كونّت المجتمع الجزائري بأبعاد متنوّعة، فالجمعيات تمهّد لتفعيل قدرات المجتمع المدني، والجيش يحافظ على الأمن والاستقرار، والجامع يحافظ على الهويّة الدينيّة ويعمّق الوحدة المجتمعية ويُحصّن الشخصية الوطنية ويرسّخ التماسك الاجتماعي.
جامع الجزائر شاهدٌ حيٌّ على خيبة آمال المُحتلّ لتنصير الجزائريين، وإجهاض الخطط والبرامج التبشيرية التي رصد لها الاحتلال ميزانيات ضخمة، وبُذلت لها جهودٌ جبّارة، إضافة إلى أشرس أنواع التدمير والتعذيب والقتل والتشريد!
جامع الجزائر في "المحمّدية"، وما أدراك ما "المحمدية"، تسميةٌ لها دلالة رمزية سوف تبقى إلى الأبد جوابا على تجرّؤ "لافيجري" الحاقد الجاهل، الكاردينال الذي أسّس جمعية المُبشّرين في الجزائر.. أراد لهذه المنطقة أن تحمل اسمه، لكن التاريخ قبَره في دفاتر النسيان المظلمة، وسطعَت أنوار "جامع الجزائر" في كل الدنيا لتؤكد للعالم بأن الجزائر قدّمت على أرضها تفسيرًا للآية الكريمة "يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" (الصف، الآية: 8).
أراد الاستعمار الفرنسي أن يطمس اسم "المحمدية" المُشتقّ من اسم النبي العظيم، وأراد الله لهذا الاسم المبارك أن يبقى عظيما وعزيزا وعاليا، ولا يُطلق على "المحمدية" فحسب، بل إنّ الإحصاءات الغربية تثبت بأنّ اسم "محمد" هو الاسم الأكثر شيوعًا في بعض المدن الأوروبية التي تتكاثر فيها الجاليات الإسلامية.
واليوم، والمسلمون على مشارف الذكرى الألف وخمسمائة عاما على ميلاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نجد أن جامع الجزائر هو ثالث أكبر المساجد في العالم، وأكبر مسجد في إفريقيا، يرفع علم الإسلام في بلادٍ اجتهدَت فرنسا، ومن خلفها الغرب، أن تكون لغير رسول الله، ولكن هذه البلاد أبَت إلّا أن تكون جزائرًا محمديةً أبد الدّهر.
أما الجيش الجزائري، فهو جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع، حتى يخيل إليك أن لكل عائلة فيه فردًا يخدم ضمن صفوفه. لذلك، فإن هذه المؤسسة العسكرية ليست كيانًا منفصلًا عن الشعب، بل هي نابعة من عمق المجتمع الجزائري، وقد وُلدت من رحم ثورة التحرير الوطني، وما تزال تحيا بقيمها، وتتنفس مبادئها، وتواجه التحديات بعزيمة لا تلين، مستلهمةً في ذلك بطولة الشهداء الذين قدّموا أرواحهم فداءً لعزة الجزائر وكرامتها ومكانتها الرفيعة بين الأمم.
الجيش الجزائري هو سليل جيش التحرير الوطني، وقد تأسس على قيم راسخة من الوطنية والتضحية والفداء. وهنا يحضرني موقف خالِد للمجاهدة البطلة "لالّة فاطمة نسومر"، حين أشاد أحد الجنرالات الفرنسيين ببطولتها قائلاً: "أنت للجزائر بمثابة جان دارك بالنسبة لنا"، فردّت عليه بفخر: "كلا، جان دارك ساندتكم في اجتياح البلاد وقتل الأبرياء، أما أنا فأقاتلكم لتحرير وطني ومنع سفك دماء الأبرياء".
ويتّسم الجندي الجزائري بإيمان ديني عميق، وتمسّك أصيل بالقيم الأخلاقية، وارتباط وثيق بالقرآن الكريم، مما يجعله أنموذجًا مثاليًا للجزائري الأصيل في فكره وسلوكه ووجدانه. وهي السمة نفسها التي وجدتها لدى الجندي الإيراني، على خلاف ما نراه – للأسف – في بعض البلدان الإسلامية الأخرى، حيث يتحوّل الجيش أحيانًا إلى مؤسسة معادية للدين، بل ويُعاقب من يتجرّأ على أداء الصلاة أو الصيام بالطرد من صفوفه!
وما يميّز الأجهزة الأمنية الجزائرية أيضًا هو هذا التوازن النبيل بين الصرامة والحزم من جهة، والرأفة والرحمة من جهة أخرى. ولا أنسى مشهدًا مؤثرًا لشرطي أوقف حركة المرور كي يساعد امرأة مسنّة على عبور الطريق بأمان، بكل احترام ومحبّة، وكأنها والدته أو جدّته.
كما أذكر كيف كنت أحيّي عناصر الشرطة كل صباح من سيارتي في طريقي إلى العمل، فكانوا يردّون التحية بأجمل منها، بكل ودّ وأدب وتقدير، مما جعلني أشعر أن العائلة في الجزائر ليست تلك التي تعيش تحت سقف واحد فقط، بل تتسع لتشمل الشوارع والأحياء، في علاقة ودّية صادقة بين المواطنين وعناصر الشرطة، وكأن الجميع ينتمي إلى أسرة واحدة. وهذه الصورة المشرقة عن العلاقة بين الشرطي والمواطن هي إحدى القواسم الإنسانية المشتركة بين الجزائر وإيران.
وعن الجمعيات فحدّث ولا حرج، فإنها هي المجتمع بعينه في جميع الجوانب الفنية والثقافية والعمل الخيري والإنساني. ويكفي ذكر "جمعية العلماء المسلمين" والدور التاريخي الذي أدته خلال عقود متواصلة للحفاظ على ثوابت الأمة الجزائرية، إضافة إلى جمعيات لا تُحصى، لا سيما الخيرية منها التي أولت اهتماما كبيرا بالقضية الفلسطينية..
وأنا سعيدٌ بكل جيم وجدته في الجزائر والحمد لله!