حين يتحوّل الجندي إلى شبحٍ يطارد نفسه، وتغدو الطفولة صرخة جوع تتردّد في أنفاق الظلام، ندرك أننا لا نعيش حربًا عادية، بل مأساة إنسانية يتداخل فيها الألم الفلسطيني مع حقيقة التفكك الصهيوني المُلبَّس بوهم القوة. فمنذ السابع من أكتوبر 2023، لا تقتصر مشاهد الحرب على القصف والدمار، بل تتّسع لتشمل تمزقًا داخليًا في بنية جيش الاحتلال، وانهيارًا نفسيًا في صفوف جنوده، يقابله صمود أسطوري لشعب محاصر تُذبح إنسانيته على مرأى من العالم. إنها حرب تفضح جوهر الاحتلال، وتكشف عن عدوٍّ بات يأكل نفسه، فيما تتآمر صمّامات الأخلاق الدولية بالصمت والتواطؤ.
ففي وقت تعاني فيه غزة من مجازر يومية وحصار خانق وأوضاع إنسانية كارثية حوّلت أطفالها إلى هياكل عظمية بفعل الجوع والمرض، يواجه جيش الاحتلال واحدة من أعقد أزماته منذ تأسيسه. فهذا "الجيش" الذي طالما تغنى بعقيدته القتالية وتماسكه النفسي، بات يعيش حالة تمرد صامت وانهيار داخلي، يعبّر عنها رفض متصاعد للعودة إلى ساحات القتال، وتزايد حالات الانتحار في صفوف جنوده، فضلًا عن تفكك الثقة بين القيادة السياسية والعسكرية.
كشفت تقارير إسرائيلية عن تفاقم أزمة داخل المؤسسة العسكرية الصهيونية، حيث يتزايد عدد الجنود الرافضين للعودة إلى القتال في قطاع غزة، مطالبين بإعفائهم لأسباب نفسية بعد شهور طويلة من المعارك الطاحنة التي استنزفت قواهم الذهنية والجسدية. وقد نقلت "هيئة البث الإسرائيلية" عن مصادر عسكرية أن ما لا يقل عن 11 جنديًا رفضوا الانصياع لأوامر العودة إلى القطاع، وهو ما دفع القيادة العسكرية إلى التهديد بإنزال عقوبات قاسية تصل إلى الحبس لمدة عشرين يومًا، بتهمة العصيان العسكري.
وفي رسالة صادمة وجهها هؤلاء الجنود إلى قيادتهم، عبّروا عن حجم الانهيار النفسي الذي أصابهم قائلين: "بعد 17 جولة قتال داخل غزة، فقدنا رفاقنا الواحد تلو الآخر، وحملنا بأيدينا جثثًا ممزقة، وقدمنا كل ما نستطيع تقديمه. لم نعد قادرين على الاستمرار. لقد تحطمنا نفسيًا بالكامل". هذه الكلمات لم تأتِ من ناشطين سياسيين ولا من صحفيين معارضين، بل خرجت من قلب المؤسسة العسكرية، من أولئك الذين عايشوا تفاصيل الموت يوميًا، وانهاروا تحت وطأته. وهي ليست مجرد احتجاج فردي، بل انعكاس لتصدع داخلي آخذ في التوسع، يكشف هشاشة الجبهة العسكرية واهتزاز مشروعيتها في نظر من يفترض بهم الدفاع عنها.
في سياق متصل، أشارت صحيفة "هآرتس" إلى أرقام صادمة تكشف عن حجم المأساة النفسية داخل "الجيش" الصهيوني، حيث أُفيد بأن 35 جنديًا قد أقدموا على الانتحار منذ بدء الحرب، من بينهم سبعة حالات سجلت خلال الأشهر الأولى فقط من العام الجاري. الأكثر إيلامًا في هذه المعطيات أن العديد من هؤلاء الجنود يُدفنون في صمت، بعيدًا عن الإعلام وبدون مراسم عسكرية، في محاولة ممنهجة لإخفاء حجم التدهور النفسي داخل المؤسسة العسكرية. وتبيّن أن بعض المنتحرين كانوا يعانون أصلًا من اضطرابات نفسية شديدة، سبق أن دفعت "الجيش" إلى تسريحهم من الخدمة، لكنهم أُعيدوا لاحقًا إلى ساحة المعركة، تحت ضغط النقص الحاد في عدد الجنود.
وفي هذا الإطار، كشفت دراسة أعدها فريق بحثي من جامعة تل أبيب أن نحو 12% من جنود الاحتياط يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة، إلى درجة تجعلهم غير مؤهلين صحيًا ونفسيًا للعودة إلى ساحة القتال. ورغم هذه الحقيقة الخطيرة، فإن الصحف الإسرائيلية تؤكد أن أكثر من تسعة آلاف جندي يتلقون علاجًا نفسيًا منذ اندلاع الحرب، ومع ذلك يتم استدعاؤهم بشكل متكرر للمشاركة في العمليات القتالية، في خرق فاضح لكل من المبادئ الأخلاقية والبروتوكولات العسكرية.
ويُفاقم من هذا الانهيار البنيوي العجزُ السياسي الحاصل داخل سلطة الاحتلال الصهيونية نفسها. فالأحزاب المكونة للائتلاف الحاكم تبدو غير قادرة على الاتفاق حول تشريعات أساسية، منها تمرير قانون يسمح بتمديد فترة استدعاء جنود الاحتياط. وقد فشلت لجنة الخارجية والأمن في المصادقة على مشروع القرار المتعلق بتمديد الخدمة، وسط تبادل الاتهامات بين أعضاء الائتلاف، حيث وصف عضو الكنيست عميحاي هاليفي خطط الحرب في غزة بأنها "سيئة وفاشلة"، وطالب بفرض حصار شامل على القطاع قبل إرسال مزيد من الجنود إلى ساحات القتال، في موقف يُبرز حجم الانقسام والتردد داخل النخبة السياسية الصهيونية.
على الطرف الآخر من هذه الحرب، وفي مشهد يعكس فداحة الكارثة الإنسانية، يعاني سكان غزة، لا سيما الأطفال، من مجاعة وصفتها عدة صحف عالمية بأنها من بين الأسوأ في القرن الحادي والعشرين. ففي تقرير ميداني مؤلم نشرته "الصنداي تايمز" البريطانية، عادت الصحيفة إلى متابعة مصير الطفلة "شام"، التي وُلدت قبل أشهر قليلة، لتجدها اليوم في حالة من الهزال الشديد، تبكي بلا توقف من شدة الجوع. تقول والدتها، شيماء، وقد فقدت كل أمل: "أطفالي لم يعودوا سوى جلود مشدودة على عظام بارزة. أخشى أن تفارقني ابنتي دون أن أتمكن من إنقاذها."
وتؤكد وسائل إعلام دولية أن "إسرائيل" تمارس سياسة تجويع جماعي ضد سكان غزة، الأمر الذي وصفته صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية بأنه جريمة أخلاقية بامتياز. ونقلت الصحيفة عن عدد من جنود الاحتياط الإسرائيليين معاناتهم من أزمة أخلاقية عميقة، أحدهم عبّر عنها بتساؤل: "كيف سأشرح لابني ما فعلته في غزة؟"، في إشارة إلى الشعور العميق بالذنب الذي ينهش ضمائر كثير من الجنود. من جهتها، اعتبرت صحيفة "ميديابارت" الفرنسية أن الحرب الصهيونية لم تعد مجرد حملة عسكرية، بل تحولت إلى "مرض وطني"، ينهك "الجيش" ويفتك بثقة المجتمع في ذاته وفي قيادته، وسط حالة من الغضب والإحباط غير المسبوقين.
على الصعيد السياسي والدبلوماسي، تشتد الضغوط على رئيس سلطة الاحتلال الصهيوني الوزراء بنيامين نتنياهو من جميع الاتجاهات. فالتصدع الداخلي بين القوى السياسية الصهيونية يعقّد من عملية اتخاذ قرارات حاسمة بشأن مستقبل الحرب، بينما تزداد الدعوات الدولية لوقف العدوان. ألمانيا وإيطاليا دعتا صراحة إلى وقف العمليات العسكرية، في حين نبّه الأمين العام للأمم المتحدة إلى أن سياسة الحصار والتجويع تمثل "انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني."
حتى الولايات المتحدة، الحليف التقليدي لـ"إسرائيل"، بدأت تُبدي قلقًا متزايدًا من تداعيات الوضع الإنساني في غزة. فقد حذر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب –رغم مواقفه السابقة الداعمة للكيان– من أن استمرار الحرب مع تصاعد الجوع قد يؤدي إلى نتائج كارثية على صورة "إسرائيل" في المجتمع الدولي. وفي هذا السياق، نشرت صحيفة "لوتون" السويسرية تحليلًا يشير إلى تغيّر في لهجة سويسرا، الدولة المعروفة بنزعتها الإنسانية والحيادية، خاصة منذ تولي إغنازيو كاسيس حقيبة وزارة الخارجية. وقد لفتت الصحيفة إلى أن كاسيس كان في السابق رئيسًا لـ"لجنة الصداقة السويسرية الإسرائيلية"، وقد عبّر في أكثر من مناسبة عن شكوكه في دور وكالة الأونروا، ما يعكس مدى تغلغل النفوذ الصهيوني حتى في أروقة الدول التي تتفاخر بحيادها.
وفي الوقت الذي تصرخ فيه أمهات غزة طلبًا للغوث، وتقاوم فيه الأسر الفلسطينية الموت بالجوع، يسعى المجرم نتنياهو لإطالة أمد الحرب، ربما لإنقاذ نفسه سياسيًا. لكن كل المؤشرات، من داخل "الجيش" إلى الساحة الدولية، تدل على أن هذا الاحتلال بات أقرب إلى السقوط، ليس فقط بفعل صمود أهل غزة، بل نتيجة التآكل الداخلي الذي ينهش جسده من الداخل، ويفقده شرعيته أمام العالم، وأمام شعبه.