بينما يغرق العالم في صمته المخزي، يواصل الأسرى الفلسطينيون كتابة فصول الكرامة بأجسادهم المكبّلة وذاكرتهم العنيدة. إنهم لا يعيشون في الزنازين، بل يقيمون في قلب القضية. يصفهم محمد شريم بـ "حراس الجبل"، ويؤكد محمد موسى عويسات أنهم "العنوان" الذي لا يسقط، مهما تكالبت الخيانات والتطبيع.
ومن بين أصواتهم، يعلو صوت عبد العظيم عبد الحق، الذي خرج من الأسر بعد ربع قرن ليجد طفلته سارة قد استُشهدت في قصف غزة. شهادته ليست سردًا شخصيًا فقط، بل صرخة مثقف مقاوم يرى في الوحدة سلاحًا، وفي الذاكرة جبهة، وفي منظمة التحرير بيتًا لا بد أن يُرمّم.
أما داخل الزنازين، فلا شيء يشبه الحياة: تفتيش عارٍ، تعذيب مروّع، تجويع متعمّد، عزل بلا شمس. ومع ذلك، تحوّل الألم إلى مقاومة. هندر البرغوثي، الأسيرة المحررة، تحوّل شهادتها إلى معركة سردٍ نسوي، تستعيد بها ذاتها، وتفكّك فيها منظومة الهيمنة الاستعمارية.
الطفولة الفلسطينية تُسحل خلف القضبان. أيهم ووليد، طفلان اعتُقلا، ضُربا، وهدِّدا بالكلاب. الطفل يوسف الزق، الذي وُلد مكبّلًا داخل السجن، اغتيل مرة أخرى تحت الركام في غزة. موته لا يحكي عن فرد، بل عن جريمة مستمرة: الاحتلال لا يقتل أجسادنا فقط، بل يطارد رموزنا وذاكرتنا.
ناصر اللحام، عاد من سجن عوفر بشهادة مرعبة: أطفال يُعذَّبون، مرضى يُهملون، وأسرى يُتركون للنزيف في الزوايا المعتمة. دخل الإعلامي وخرج شاهدًا على جريمة حرب. الطبيب حسام أبو صفية، خرج بعد 45 يومًا من التعذيب، مكسور العظام، مرفوع الرأس.
منذ 7 أكتوبر، أصبحت غزة سجنًا كبيرًا وساحة إبادة. في معتقل "سدي تيمان" الصحراوي، استُشهد العشرات تحت التعذيب والإخفاء القسري. المحامي علي أبو هلال وثّق هذه الجرائم في كتابٍ صار شاهدًا مكتوبًا على جحيم صامت.
الأسير خيري حسن سلامة يدخل عامه الـ 23 في المعتقل، محرومًا من وداع أمه وشقيقه. أما الموتى، فلا قبور لهم؛ مئات الجثامين تحتجزها "إسرائيل" في مقابر الأرقام وثلاجات الموتى، كأن الكرامة الفلسطينية جريمة يجب أن تُسحق حتى بعد الموت.
ولأن الحق يُزعج القتَلة، عاقبت أمريكا المقرّرة الأممية فرانشيسكا ألبانيز فقط لأنها قالت الحقيقة. أما نحن، فنُعاقَب لأننا نعيش، لأننا نكتب، لأننا لا نصمت.
ومع كل هذا، تبقى الرواية الفلسطينية حيّة. من الأغنية التي كانت طفلة تغنيها دون أن تدري أنها بكاء جدها على ابنه الأسير، إلى رسائل الأسيرات في سجن الدامون التي وثّقها حسن عبادي، هناك من يحوّل الظلام إلى ضوء، والقيود إلى كلمات.

بقلم: محمد شريم - المنسق العام لمنبر أدباء بلاد الشام، رئيس مجلس إدارة المنبر في فلسطين.
مازال الأسرى حراس الجبل!
في الزمن الذي يطغى فيه الطغيان، ويسود فيه الفساد، وتتغير فيه المواقف تغير الفصول، حتى تفقد بوصلة الحكيم قدرتها على التوجه السليم، تجد الأمة نفسها وقد هبطت إلى الدرك الأسفل من الإنجاز في كل مجال، وعلى كل صعيد، سواء أكان ذلك في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي، وغير ذلك من الميادين. وفي حالة كهذه، ليس من المستغرب إن رأيت الكثيرين يهبطون عن الجبل سريعاً، وفي عز المعركة، عندما تكون الأمة في حالة اشتباك، وذلك لأحد أمرين: إما لطمع في الفوز بالغنيمة، أو لخوف من وطأة الهزيمة! ومع ذلك، لتجدن من يبقى على الجبل صابراً صامداً، وكأنه الجبل من تحته جبل، لا يطمع في هذه، ولا يخاف من تلك، وهؤلاء هم الذين شاء لهم قدرهم، ما تمنوه لأنفسهم، وهو أن تسجل أسماؤهم بحروف من ضياء في سجل الخالدين. وهذه الجماعة فئتان، فئة طلبت الموت لتمنح الأمة الحياة، وأخرى دخلت السجن لتهب أمتها الحرية، وصدق من قال:
ففي القتلى لأجيال حياة - وفي الأسرى فدى لهمو وعتق!
بالنسبة للفئة الأولى، والذين سطرت أسماؤهم في سجل الشهادة، فهؤلاء غادروا الدنيا بشقائها ورخائها، ولم يتبق لهم فيها، ومنها، غير الثناء والدعاء. أما الفئة الثانية، فهي تلك التي سطرت أسماء المنضوين تحت لوائها، في سجل الوفاء الدائم، والعناء المستمر، ألا وهي فئة الأسرى، الذين لم يفت من عضدهم وطء سنوات ثقال مرت عليهم، وهم في الغرف المعتمة، خلف القضبان، صامدون في المحنة، صابرون على البعد عن الأهل، وعلى فراق الأحبة، دون أن تهون لهم نفس، أو تضعف لهم عزيمة، أو تلين لهم قناة، مع أنهم ينتظرون الفرج مع إشراقة كل شمس، ويحلمون بالحرية كلما أطلت على المعمورة نجوم السماء التي لم يرها بعضهم منذ زمن بعيد! هؤلاء المنسيون في وطن منكوب، اسمه فلسطين، ومن أمة مستضعفة، شاءت لهم الأقدار أن يتذوقوا بدل المرارة اثنتين: مرارة السجن، وهي متوقعة، ومرارة الخذلان التي لم تخطر لهم يوماً على بال، وهم يرون بعض أبناء الأمة يسارعون إلى مد يدهم إلى السجان، تارة في وضح النهار، وتارة أخرى في الليل من وراء ستار. ومع هذا الواقع الأليم، وبما أن الخير في الأمة إلى يوم الدين، فإننا ـ ولحسن الحظ ـ نرى من أبناء الأمة النجباء النبلاء الخلصاء من يحمل لواء نصرة الأسرى، ويرفع الصوت عالياً للتذكير بقضيتهم، ومن أبناء الأمة هؤلاء الإخوة الصحفيون العاملون في الصحافة الجزائرية، ومنها الصحافة الورقية، فلهم جميل الثناء، وجزيل الشكر، وعظيم الامتنان، من فلسطين الأسيرة التي كانت، ومازالت تنتظر من أبناء أمتها من يؤازرها بيده أو بلسانه أو بقلبه، وهذا أضعف الإيمان!

بقلم: محمد موسى عويسات - كاتب من فلسطين.
الأسرى هم العنوان...
قالوا من قريب وبعيد: تعب الحصان وهذه آخر صهلة، قلتُ: بل كبا الحصان وما ترجّل الفارس، ولا ولى مستدبرا القدس أو يافا أو عكا، قد أقبل واستقبل، زأر الأسد من عرينه، فجال جولة وصال صولة، ودارت عليه دورة خذلان ودالت عليه دولة متجبّر، فكان أن وافى الثّرى تارة أو وافى القيد أخرى، ومن كان نصيبه القيد حفظ العهد وما نسى، تزأر الأسود وإن ضربت عليها الأسوار فيُسمع الصّدى، فأجفل الباغي، وتراجع المتسوّل المهادن، قالوا: صَالَحوا وقضي الأمر، قلت: بل هناك من يبعث الدّم دافقا في الشّرايين الممتدّة مائة عام أو يزيد. هناك عيون تحلّق في سمائها، وأنفاس تحيي غضبها، قال: هم فقرة فيها، قلت: بل هم عمودها والمخّ فيها والعصب. أحصوا من مرّوا بهذه المآسر، فقالوا: مليون وزد عليهم بلا حرج. قلت: أجيال تأبى الضّيم، فعلى القيد نصال العدى تتكسّر.
هم وجه البلاد وقضيتها يوم تلتفت الوجوه، وهم سادتها يوم تلتئم المجامع، مقاعدهم محفوظة مرموقة، وكلّ الخطب دونهم تتقاصر. وكلّ الخطباء عند ذكرهم تغضّ الطّرف إجلالا وهيبة، ملأوا الرّحب فكانوا في كلّ بيت حكاية. فهم مليون حكاية أو أكثر، كيف ومتى وأين، والسّرّ واحد في الجبال والكهوف والوهاد. هم أغنيّة ليوم كبير، وأهزوجة لحادي العيس في الطريق الطويلة والليل البهيم. وفي الوقت نفسه هم جرح لا ينسى، وهمّ لا يُلقى، هم، وما هم إلا أمّ قضت بعد طول انتظار دون أن تضمّ ابنها البطل، أو تقبّل السيف المنتضى، هم ابن يكبر دون سقيا أب أو عين ترعى. هم خطيبة تنسج ثوب الزّفاف في عالم الأحلام. هم عنوان قضيّة تأبى الانمحاء. هم عنوان الصبر والإصرار... هم على البعد والقرب عيون لا تنام. وصوت يقضّ مضاجع العدوّ، فيعيش سجنَهم السّجّان..

السرد كأداة لاستعادة الذات.. قراءة في شهادة الأسيرة المحررة هندر البرغوثي
بقلم: فداء نجادة - وميس أبو غوش
تسرد الأسيرة المحررة هندر رشاد البرغوثي (39 عاماً)، من قرية عابود غربي رام الله، تجربتها بعد اعتقال دام ثمانية أشهر في سجون الاحتلال الإسرائيلي، فامتد من 8 آذار/مارس 2024 حتى 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 حين تم الإفراج عنها. وفي مقابلة أجرتها معها ميس أبو غوش في 25 شباط/فبراير 2025، تحكي هندر حكايتها بتسلسل سردي واضح، فتبدأ بلحظة الاعتقال الوحشي المفاجئ وتمزيق صور شقيقها الشهيد نور الدين البرغوثي، ثم تتصاعد الأحداث مع التفتيش العاري والتحقيق والعزل والتنكيل، وتبلغ الذروة عند التحدي والثبات في مواجهة السجان والمشاركة في الخطوات النضالية الجماعية، وصولاً إلى لحظة الإفراج وأثر التجربة واستعادة الصوت. وتهدف هذه القراءة إلى تسليط الضوء على البعد السردي في شهادتها كأداة لمقاومة الهيمنة الاستعمارية واستعادة الذات، استناداً إلى مقاربات نظرية لِمَا بعد الاستعمار والنقد النسوي.
السرد كأداة لاستعادة الزمن وإنتاج المعنى
السرد عند هندر ليس مجرد "تذكار مؤلم"، بل أيضاً إعادة تملُّك للزمن المسروق؛ ففي السجن، كانت تُجرَّد من الوقت، ولا تعرف النهار من الليل، ولا اليوم من غده، أمّا السرد، فَتُرَتِّبُ عن طريقه الزمن، وتنظم الفوضى، وتربط الأحداث، وتُسمي الأشياء بمسمياتها، لتستعيد سيادتها على الزمن والسياق والذات، فتؤسس لمعرفة سلطة حاولت أن تمحو صوتها وهويتها ومواجهتها، وتتحرر من دور الضحية لتصبح الفاعل وصانع المعنى. ويظهر هذا بوضوح في مقاطع الشهادة التي تستعيد فيها لحظة اقتحام منزلها واعتقالها، فتقول في هذا الصدد: "ما بكيت، بس جواتي كان في نار... أنا طلعت قوية، عشان أولادي ما يخافوا." ولا تكتفي بوصف ما حدث، بل أيضاً تسرده بترتيب زمني ونفسي يُظهر إدراكاً عميقاً لفعل التعرية الممنهج الذي مارسته سلطات الاحتلال؛ تجريدها من أمومتها، وبيتها، وجسدها بصفته حيزاً آمناً، فتُعيد تعريف الخوف والضعف والقوة، بصفتها أفعالاً واعية ضمن شروط القهر.
ولا تقتصر شهادة هندر على كونها توثيقاً لتجربة الاعتقال، بل أيضاً تمثل شكلاً من أشكال انتزاع المعنى من الألم، وبناء الهوية الفردية والجماعية، وأداة من أدوات الممارسة اليومية للمقاومة وتحرير الوعي عبر توظيف اللغة والذاكرة؛ فتتحول التجربة الذاتية إلى خطاب رمزي يمثّل الجماعة، ويعيد إنتاج علاقة الذات بالآخر، والجلاد بالضحية، والتاريخ بالذاكرة الحية. فاللغة هنا ليست وسيلة نقل فقط، بل أيضاً استعادة للذات بإعادة تموضعها كفاعل تاريخي ومعرفي عبر صوت نسوي متمكن، وتفكيك للهيمنة عبر فضح آليات التحقيق والإذلال، وإعادة كتابة للذاكرة الجماعية بصفة السجن جزءاً من التجربة الفلسطينية.
الاحتلال وضبط الحياة اليومية.. من الرقابة إلى التجريم
في خضم واقع الاستعمار الاستيطاني الذي يعيشه الفلسطينيون، وتصاعُد أدواته القمعية إلى مستوى الإبادة الجماعية، يزداد هذا القمع تعقيداً في السياق الذي أعقب 7 تشرين الأول/أكتوبر، والمتسم بـفرْض سياسات الضبط الشامل، إذ يُعاد تعريف كل فعل فلسطيني – حتى منشور شخصي عن عيد زواج – بصفته تهديداً أمنياً، كما حدث مع هندر التي اعتُقلت بسبب منشورات على "فيسبوك"، في تمثيل لسياسة "تجريم الوجود" التي تسعى لتحويل الحياة اليومية ذاتها إلى ساحة اشتباه دائمة، وتُخضِع كل تعبير فردي، مهما يكن عابراً، إلى منطق المراقبة والمعاقبة. وفي هذا الواقع؛ تصبح الشهادة فعلاً مقاوِماً، ويُشكّل السرد النسوي الفلسطيني، بصفته خطاباً مضاداً، وأداةً لاستعادة الصوت والكرامة وإزاحة بنى الخطاب الاستعماري المهيمن.
الجسد كحيز للهيمنة والمواجهة
تمارس المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية ما يمكن تسميته بـ "نزع الخصوصية الجندرية" عن الأسيرات الفلسطينيات، عبر تعميم العنف عليهن بصفتهن أجساداً مجردة من أي اعتبار إنساني أو جندري، وخاضعة أيضاً للضبط والسيطرة، مع استدعاء أنوثتهن فقط حين تكون وسيلة لإذلالهن وإخضاعهن، فيُعاد تشكيل الجسد في موقع الهيمنة، ليس باعتباره يحمل خصائص جندرية تحق له الحماية، إنما كمساحة يمكن انتهاكها بلا عواقب، وتبريرها باسم الأمن، وتُعتبر سياسة التفتيش العاري نموذجاً لهذا النزع المركب. وتروي هندر: "أكثر إشي مستفز خلال رحلة الاعتقال كان التفتيش العاري... كانوا يمسكونا من نقطة الضعف... ما كنا نقدر نرفض، كانوا يجبرونا ندخل على الحمام ونتفتش وإحنا باينين من الشباك، والسجانين بره. " وهذا النمط من العنف يقارب ما تطرحه غاياتري سبيفاك في سؤالها: "هل يمكن للتابع أن يتكلم؟»، [1] إذ يُمارَس إسكات المرأة ليس عبر منع الصوت، إنما عبر تسليط العنف الرمزي والمادي على جسدها، بحيث تصبح الشهادة نفسها فعلاً يعيد إليها القدرة على الكلام. كما يذكّر هذا بطرح المفكر فرانز فانون[2] الذي يرى في الجسد، في سياق الاعتقال بصورة خاصة، ساحة الصراع الأولى، التي يُفرَض عن طريقها النظام الاستعماري على الذات والمجتمع في آن واحد لقد تمكنت هندر، عبر سردها الصريح لتجربة تعرضها للتفتيش العاري والألفاظ النابية، من تفكيك البنى الأيدولوجية التي يعمل الاحتلال عن طريقها على إنتاج الصمت والعار، وتستدعي هذه اللحظات وتسميها بلا مواربة، وتدافع عن رأيها وتقول: "هذا اللي صار"، فتستعيد سلطتها التي لا تسمح باختزال العنف الذي تعرضت له في عبارات محايدة، وبهذا، فإن هذه الشهادة لا تعيد فقط إلى التابع القدرة على "الكلام"، بل أيضاً تُعيد إليه امتلاك أداة التسمية نفسها، وتُخضع المستعمِر للمساءلة عبر استعادة المعنى. كما يتجسد نزع الخصوصية الجسدية والجندرية حين لا يتم الاعتراف بحد أدنى من الحقوق الأساسية المتعلقة بالجسد الأنثوي؛ لا خصوصية، ولا ماء، ولا مستلزمات، إنما يُطلب منها أن "تدبر حالها" على الرغم من القيود والعصابة، وتقول هندر في هذا الصدد: "بحكي لهم بدي أروح أستخدم الحمام... ضلت تحكي لي اخرس شيكت ["اصمتي"] ... بعدين زتتني جوا الحمام وأنا مكلبشة ومغمية، بتحكي لي: يلا استخدمي الحمام. بدي أرفع عيني أشوف، بتحكي لي: دبري حالك." إن هذا الإنكار المتعمد لحاجات الجسد الأنثوي يهدف إلى تفريغ المرأة من أنوثتها كهوية تستوجب حماية، والإبقاء عليها فقط كأداة للعقاب.
التضامن النسوي بصفته ممارسة سياسية
وما تكشفه الشهادة أيضاً، ويتوجب التوقف عنده، هو انبثاق التضامن النسوي داخل المعتقل بصفته استراتيجيا مقاومة داخلية تُعيد إلى الجسد الأنثوي قوته عبر علاقات الدعم والرعاية المتبادَلة بين الأسيرات، وهذا التضامن لا يمثل مجرد تكيُّف نفسي مع القمع، بل أيضاً يُقوض البنية الانضباطية التي يسعى الاحتلال لفرْضها عبر عزل الجسد وتفتيته، فلا يبقى الجسد الأنثوي وِحْدَةً مفردة مُستهدَفة، إنما يتحول إلى شبكة تضامن تُعيد توزيع القوة، وتمنح الأسيرات مساحة لإعادة تعريف ذواتهن كمجتمع مقاوم، لا كضحايا معزولات.
ويتجلى هذا التضامن بوضوح في موقف الأسيرات من نقل الأسيرة عبلة سعدات إلى العزل بلا مبرر، فتروي هندر: "قلنا بدنا نعرف ليش المرأة في العزل... بدناش نوصل عبلة لنفس قصة أم يافا.. خالدة جرار.. وإحنا ساكتين... البنات اتفقنا إنه نرجّع وجبة العشاء كاملة... كل السجن اتفق... حتى البنات اللي عادة ما يشاركوا، هالمرة وقفوا. " ويعبّر هذا الحدث عن لحظة وعي جمعي فوري، وممارسة سياسية جماعية تقلب موقع السيطرة، فقد تحولت أجساد الأسيرات من كيانات منفصلة يمكن السيطرة عليها إلى كيان متصل ومنظَم قادر على فرض إرادته عبر فعل رمزي بسيط (رفض الطعام) لكن عميق الدلالة، فهو إعلان جماعي أن أي استهداف لفرد هو استهداف للجميع. وبهذا، يغدو التضامن النسوي داخل المعتقل فعلاً تفكيكياً للعنف البنيوي، يُعيد إنتاج السيادة من داخل التقييد، ويمنح الجسد الأنثوي قدرة على التفاوض والمواجهة، ليس من موقع الانكسار، إنما من موقع الندية الجماعية. وتُعيد هندر تعريف علاقات القوة من داخل القيد ذاته، فتقول: "البنات كانوا عنجد بيجننوا... أي وحدة مرضت كنا معها، أي وحدة انعزلت كنا معها، أي وحدة انضربت كنا معها، أي وحدة بدها إشي كنا معها... وحدة ما معها أكل، إحنا نعطيها من أكلنا، وحدة إجت جديدة ما معها أواعي، نعطيها أواعينا... عنجد البنات كانوا يساعدوا بعض كثير."
أثر التجربة واكتمال الحرية
في سردها، نسمع التوتر بين الحنين إلى الحرية والتمسك بكرامتها وراء القضبان، فتقول هندر في إحدى لحظات الشهادة: "صح أنا في السجن، بس أنا حرة… انتو اللي محبوسين معنا"، وبهذه الجملة تعيد قلب المعادلة، فهي لا ترى نفسها مأسورة، إنما ترى السجان هو الأسير داخل أدوات قمعه، بينما تملك هي المفتاح، وتعود الأسيرة التي جُردت من كل شيء؛ من أطفالها، وثيابها، والوقت، والماء، والخصوصية، لتؤكد: "أنا حرة. أنا ما رح أعتذر عن نفسي. أنتو اللي لازم تعتذروا." وتنتهي بـ "فلسفة للحرية"، فتعلن أنها لم تُهزم، وأنها ستعود إلى حياتها وأطفالها ومشروعها في الطبخ المنزلي أقوى مما كانت: "كنت أقول لنفسي: هذا السجن مش مكاني، أنا راح أطلع…" وإن كانت هندر قد أعلنت داخل السجن اكتمال حريتها الرمزية ورفْضها دورَ الضحية، فإن التجربة أثبتت لاحقاً أن للحرية وجهاً آخر، لا يكتمل إلاّ بزوال القيد الجماعي ومشاركة الحرية مع الأُخريات؛ فبعد تحرُرها من سجن الدامون، استغرقت هندر شهرين حتى استطاعت استيعاب الإفراج عنها: "بصراحة، كلما أحاول أن أتحرك خطوة في الحياة، أو أن أعود إلى الوضع الذي أعيشه، أتذكر البنات، أتذكر المعاناة التي أعانيها، أتذكر أنهم محبوسين، وأنا أخرج... ظل هذا الشعور ملازمني حتى الإفراج عن الأسيرات... يوم ما أُفرِج عن الأسيرات فعلياً أنا أُفرِج عني... ارتحت صرت أطلع." لم تكن هندر قادرة على الطبخ، أو الضحك، أو التنفس بحرّية، وظلت معلقة في الزنزانة، حيث زميلاتها الباقيات، ولم تستعد كامل حريتها النفسية إلاّ بعد الإفراج عنهن، فعادت إلى عملها في مطبخها الصغير، المسمى بـ "هندر"، واستعادت جزءاً من ذاتها التي حاول السجن محوها.
المراجع
[1] Gayatri Chakravorty Spivak, “Can the Subaltern Speak?” In Marxism and the Interpretation of Culture edited by Cary Nelson and Lawrence Grossberg (Urbana & Chicago: University of Illinois Press, 1988).
[2] Frantz Fanon, The Wretched of the Earth (New York: Grove Press, 1961).
عن الكاتبة:
- فداء نجادة: صحفية وباحثة.
- ميس أبو غوش: أسيرة محررة وصحافية فلسطينية، وتشغل منصب محررة على مواقع التواصل الاجتماعي ومنسقة الفعاليات في مؤسسة الدراسات الفلسطينية. (نقلا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية)

بقلم: د. حسن العاصي - أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا
الجثث المُحتجزة ومقابر الأرقام.. الاحتلال يرتهن جثامين الفلسطينيين
ورث الكيان الصهيوني سياساته الاستعمارية من الانتداب البريطاني البغيض الذي مهّد الطريق أمام قيام دولة الاحتلال. فمنذ الإعلان عن نشأتها مارست «إسرائيل» سياسة السيطرة وإحكام قبضتها على كافة مناحي الحياة في فلسطين. وشملت هذه السياسات البشر والشجر والحجر، وكافة مناحي الحياة، عبر السجون واعتقال الآلاف من الفلسطينيين، وبناء جدار الفصل العنصري، وعبر الحواجز والبوابات، وأبراج المراقبة، والدوريات، ومصادرة الأراضي، والقتل، والإعدامات الميدانية بحق الفلسطينيين. وهناك أساليب أخرى يتبعها الاحتلال للإمعان في ظلم الفلسطينيين، من ضمنها سياسة احتجاز جثامين الشهداء. يقوم الاحتلال الإسرائيلي بسرقة جثامين الشهداء بعد استشهادهم، أو جثامين بعض الأسرى، والاحتفاظ بها لفترات متفاوتة في مقابر الأرقام، أو في ثلاجات الموتى، ومؤخراً في معسكر "سديه تيمان". طما حصل على سبيل المثال عندما أقدمت سلطة السجون الإسرائيلية على احتجاز جثمان الأسير الفلسطيني ناصر أبو حميد، الذي توفي في السجن بسبب مرض السرطان، ورفضت «إسرائيل» تسليم جثمانه. ويهدف الاحتلال من خلف ذلك إلى حرمان العائلات الفلسطينية من حقها الإنساني في وداع أبنائها الشهداء ودفنهم في المكان الذي تختاره، وفق طقوسها ومعتقداتها. وحين يقوم الاحتلال الإسرائيلي بسرقة الجثامين واحتجازها فإنه يحرم العائلات من حق التحقق والتأكد من استشهاد أبنائهم، ومنعهم من رؤية ومعاينة الجثامين. وهو بذلك يهدف إلى ممارسة الضغوط غير الأخلاقية زغير الإنسانية على أهالي الشهداء وعلى المقاومة الفلسطينية. وبذلك هي تعكس الرغبة الإسرائيلية في محاصرة الفلسطيني والسيطرة عليه حياً وميتاً، ووسيلة لردع الفلسطينيين عن مقاومة الاحتلال. ورغم أن هذه السياسة هي وسيلة لمعاقبة عائلات الشهداء، إلاّ إنها أيضاً سياسة استعمارية مركّبة تهدف إلى تحطيم النظم الاجتماعية والقيم الحياتية المرتبطة بالمجتمع، وعلاقته مع جثامين الشهداء وقدسيتها. لقد شهد تاريخ فلسطين النضالي مثل هذه الممارسات الشنيعة في عهد الاستعمار والانتداب البريطاني الذي قام بإعدام الشهداء المناضلين محمد جمجوم، وعطا الزير من مدينة الخليل، وفؤاد حجازي من مدينة صفد، يوم 17 حزيران/ يونيو 1930 في سجن القلعة بمدينة عكا، ودفنهم لاحقاً في مدينة عكا بعيداً عن مدنهم ومقابر عائلاتهم. يحدد القانون الدولي الإنساني خمس قواعد عرفية لمعاملة قتلى الحرب ورُفاتهم ومقابرهم تشمل: القاعدة 112 المتعلقة بالبحث عن الموتى وجمعهم، والقاعدة 113 التي تنص على حماية الموتى من السلب والتشويه، والقاعدة 114 المتعلقة بإعادة رفات الموتى وممتلكاتهم الشخصية، والقاعدة 115 بشأن التخلّص من الموتى، والقاعدة 116 بشأن تحديد هوية الموتى. كما تؤكد اتفاقيات جنيف الأولى لعام 1949 في المادة 17 على أهمية إجراء دفن لائق وكريم، وتنص على أنه ينبغي على أطراف النزاع "ضمان الدفن الكريم للموتى، وإن أمكن وفقاً لطقوس الدين الذي ينتمون إليه، واحترام قبورهم، وتجميعها إن أمكن حسب الجنسية الوطنية، ثم صيانتها وتمييزها بحيث يمكن العثور عليها دائماً. وتنص أيضاً المادة 120 من اتفاقية جنيف الثالثة، والمادة 130 من اتفاقية جنيف الرابعة، والمادة 34 من البروتوكول الإضافي على الالتزام بتسهيل إعادة جثث ورفات الموتى.
الشهداء المحتجزون
يحتجز الاحتلال الإسرائيلي حالياً جثامين 676 فلسطينياً في "مقابر الأرقام" وثلاجات، وفقًا للحملة الوطنية لاستعادة جثامين ضحايا الحرب الفلسطينيين، من بينها رفات 71 معتقلاً و60 طفلاً و9 نساء، و5 أشخاص من أراضي 1948، وستة أشخاص من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. منها 256 في المقابر المرقمة، بالإضافة إلى مئات الجثامين من قطاع غزة. إن ما يُسمى "مقابر الأرقام" هي قبور بلا شواهد، محاطة بحجارة، تحمل كل منها لوحة معدنية تحمل رقماً بدلاً من اسم المتوفى. وتتوافق هذه الأرقام مع ملفات فردية تحتفظ بها أجهزة الأمن الإسرائيلية. ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، صعّد الاحتلال من احتجاز الجثامين، حيث يحتجز 149 جثة، وهذا العدد لا يشمل الشهداء المعتقلين من قطاع غزة. كما احتجز الجيش الإسرائيلي جثامين نحو 200 شهيد فلسطيني قتلهم عام 2024 وهذه البيانات لا تشمل شهداء قطاع غزة، حيث يقدر عدد المعتقلين من غزة لدى الاحتلال بالمئات، لكن لا يوجد بيان رسمي من الاحتلال حول العدد الفعلي لجثامين شهداء غزة المحتجزين حتى الآن. مع العلم أن بعض الجثامين تعود إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. مع ذلك، لا تشمل البيانات الجثث المحتجزة في قطاع غزة لعدم توفر معلومات دقيقة، مع أنه تم توثيق إعادة 325 جثة من غزة من قِبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي سابقاً.
إمعاناً في الانتقام من الفلسطينيين
في سبتمبر/أيلول 2019، قضت المحكمة العليا الإسرائيلية بأنه يحق للقادة العسكريين احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين الذين قُتلوا على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي مؤقتاً لاستخدامها "كأوراق مساومة" في مفاوضات مستقبلية. وذلك بموجب تشريع جديد سنّه الكنيست الإسرائيلي، والمُطبّق مباشرةً في القدس الشرقية المحتلة. إضافةً إلى ذلك، تُطبّق «إسرائيل» ممارسة احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين في جميع أنحاء الأرض الفلسطينية المحتلة. تجدر الإشارة إلى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي لديها تاريخ طويل من هذه الممارسات وممارسات مماثلة، بما في ذلك استخدام الاختفاء القسري و"مقابر الأرقام"، حيث يُدفن الفلسطينيون سرًا ليتم التعرف عليهم فقط، وإهانة إنسانيتهم، من خلال الأرقام. وهذا يرقى إلى ممارسة تمييزية للاختفاء القسري، ومعاملة قاسية ولاإنسانية للأسر المفجوعة، وعمل من أعمال العقاب الجماعي ضد الفلسطينيين. بموجب قرار تاريخي صدر عام 2017، قضت المحكمة العليا الإسرائيلية بأن «إسرائيل» "لم تُشر إلى مصدر سلطة [قانونية] يسمح لها باحتجاز الجثث حتى يتم منح الموافقة على ترتيبات جنازة معينة" من قبل عائلات المتوفى. وأقرت المحكمة بأن "هناك عدداً من الحقوق الأساسية على المحك، وفي مقدمتها الكرامة الإنسانية" التي تنطوي عليها عملية احتجاز الرفات. ومع ذلك، في حين أن المحكمة لاحظت الحق الأصيل في دفن لائق ومحترم، إلا أنها ادعت بشكل متناقض إلى حد ما أن الدولة قد تُشرّع صراحةً للسماح بانتهاك الحقوق الأساسية. ومع ذلك، أمرت المحكمة بإعادة الجثث في غضون 30 ساعة من صدور حكمها، مع إشعار عائلات المتوفين قبل ساعتين. في أعقاب قرار المحكمة، أقرت الحكومة الإسرائيلية، بدعم من مختلف الأحزاب في الكنيست، قانون مكافحة الإرهاب (التعديل رقم 3، 2018)، والذي يسمح لقوات الاحتلال الإسرائيلي باحتجاز الجثث في انتظار قبول عائلات الضحايا قسراً لقيود معينة على دفنهم. ومن أبرز هذه القيود اشتراط أن تتم عمليات الدفن ليلاً فور إعادة الرفات، وهو ما أشار إليه الأقارب مما يجعل الدفن وفقاً للتقاليد وإجراء تشريح الجثة مستحيلاً. إلى جانب إقرار التعديل، طلبت «إسرائيل»، وحصلت على إذن، بتأخير إعادة رفات الفلسطينيين في انتظار جلسة استماع إضافية في ضوء التشريع الذي تم اعتماده. وكما أشارت منظمة عدالة وهيئة شؤون الأسرى والمحررين، فإن المحكمة العليا الإسرائيلية: "أصدرت قراراً يُمكّن «إسرائيل» من مواصلة انتهاكها للقانون الإنساني الدولي. يحظر القانون الدولي الإنساني على القوة المحتلة احتجاز الجثث واستخدامها كورقة مساومة. إضافةً إلى ذلك، يُؤخر قرار المحكمة العليا نقل الجثث للدفن، مما يُعطي الضوء الأخضر للانتهاك الجسيم لحق العائلات والمتوفين أنفسهم في دفن سريع ولائق." وبموجب القانون الإنساني الدولي العرفي، يجب على أطراف النزاع المسلح احترام الموتى، و"يجب التخلص منهم بطريقة محترمة". علاوة على ذلك، يجب إعادة رفات الموتى، كما هو موضح في اتفاقيات جنيف الأربع، إلى عائلاتهم. علاوةً على ذلك، تُعتبر ممارسة احتجاز الجثث بمثابة سياسة عقاب جماعي، وهو أمر محظور صراحةً بموجب المادة 50 من لوائح لاهاي، المادة 33. من اتفاقية جنيف الرابعة، والمادة 75(2)(د) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، وجميعها «إسرائيل» طرف فيها، أو يُعترف بأنها تُشكل جزءًا من القانون الدولي العرفي. كما لوحظ أن هذه الممارسة تتعارض مع حظر التعذيب والمعاملة اللاإنسانية أو المهينة. يستند القرار النهائي لمحكمة العدل العليا الإسرائيلية، الذي صدر بأغلبية الأصوات، إلى إنكار صارخ لأحكام القانون الدولي: ومن المفارقات أن القاضية "إستر هايوت" جادلت بأن "الاحتفاظ بالجثث ينطوي على انتهاك لحقوق الإنسان وكرامة المتوفى وعائلته"، بينما جادلت أيضاً بشكل غير مقنع إلى حد ما بأن "القانون الإنساني الدولي أو القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان الدولية لا تتضمن حظراً على حجب إعادة الجثث أثناء النزاع المسلح". وعلى الرغم من اعتراف البعض بالانتهاك الواضح للقانون الدولي، إلا أن القاضي "باراك إيريز" من الأقلية أقام "تمييزاً غريباً وغير مبرر بين جثث الإرهابيين من غزة، والتي يسمح القانون الدولي لـ «إسرائيل» بالاحتفاظ بها، وجثث الإرهابيين من الضفة الغربية أو المواطنين أو المقيمين الإسرائيليين". لذلك يبدو أن المحكمة غير معنية عمداً بالتزامات «إسرائيل» باحترام الموتى بموجب اتفاقيات لاهاي لعام 1907 واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، بالإضافة إلى القانون الدولي الإنساني العرفي وأحكام العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية واتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية، أو اللاإنسانية، أو المهينة، فيما يتعلق بالسكان الفلسطينيين.
شرعنة الانتهاكات الإنسانية
وفي عام 2024 أقر الكنيست الإسرائيلي مشروع قانون يمنع إعادة جثامين الفلسطينيين إلى عائلاتهم. حيث يهدف القانون إلى دفن الفلسطينيين المتهمين بهجمات في مقابر تسيطر عليها «إسرائيل». ويُلزم القانون بدفنهم في "مقبرة ضحايا العدو" أو "مقبرة الأرقام" الإسرائيلية. جاء هذا التشريع في خضمّ موجة من الإجراءات التي تستهدف الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وداخل حدود «إسرائيل» عام 1948، في ظلّ حكومة تُهيمن عليها أحزاب اليمين المتطرف. ينص التشريع على أن "الأفراد الذين يموتون أثناء تنفيذ هجمات يُدفنون في مقابر مخصصة للعدو داخل «إسرائيل»". ويمنح رئيس الوزراء سلطة تقديرية لتسليم الجثمان لعائلة المتوفى في ظروف استثنائية. ويبرر القانون نفسه بالادعاء بأن "جنازات الإرهابيين (في إشارة إلى منفذي العمليات) تُستخدم للتعبير عن دعم الإرهاب، حيث شهدت العديد من الحالات لافتات وهتافات وخطابات تحرض على المزيد من الأعمال الإرهابية". إن مقبرة ضحايا العدو هي مقبرة تابعة للجيش الإسرائيلي، مخصصة لدفن جثث الأفراد المشاركين في العمليات المسلحة وجنود جيوش العدو. تضم المقبرة مئات الجثث لفلسطينيين ومصريين وعرب آخرين قُتلوا على يد الجيش الإسرائيلي على مدى عقود، ولم تُكشف رفاتهم عن عائلاتهم لأسباب سياسية. تُرقم القبور بدلاً من أسماء المدفونين، بينما تحتفظ «إسرائيل» بمعلومات عن هوياتهم، وفقًا لمصادر حقوقية.
مقابر الأرقام
ما يُسمى "مقابر الأرقام" هي قبور بلا شواهد، مُحاطة بحجارة، يحمل كل منها لوحة معدنية تحمل رقمًا بدلًا من اسم المتوفى. تتوافق هذه الأرقام مع ملفات فردية تحتفظ بها سلطات الأمن الإسرائيلية. إن الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية هم أسرى حرب، مما يستلزم الإفراج الفوري عن جثثهم. وفي هذا الصدد، تؤكد المادة 120 من اتفاقية جنيف الثالثة بشأن معاملة أسرى الحرب، والمادة 130 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في زمن الحرب، على أن "على السلطات الحاجزة ضمان دفن أسرى الحرب الذين قضوا في الأسر باحترام، وإذا أمكن وفقًا لشعائر دينهم، وأن تُحترم قبورهم وتُصان وتُعلّم بشكل مناسب بحيث يسهل العثور عليها في أي وقت". وفي السياق نفسه، تعتبر لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب احتجاز الشهداء شكلاً من أشكال التعذيب والمعاملة القاسية. كما ينبغي اعتباره شكلاً من أشكال العقاب الجماعي. وناقش عادل التدابير الدولية التي يمكن اتخاذها بشأن هذه القضية، مثل تقديم طلبات امتثال فردية إلى لجنة مناهضة التعذيب، والمحكمة الجنائية الدولية، ومن خلال الولاية القضائية العالمية، بالإضافة إلى السعي إلى إصدار قرار في مجلس الأمن، حيث سيكون من المقلق أن تستخدم الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى حقها في عرقلة قرار يطالب بإعادة جثامين الشهداء، والضغط من أجل التحقيق في مزاعم الاتجار بالبشر والسرقة بشكل انتهازي.
لا نهاية لمأساة العائلات الفلسطينية
أسرد لكم ـ على سبيل المثال ـ حكاية الشابين الفلسطينيين يوسف أبو جزر، وإسحاق إشتيوي، يبلغ كل منهما خمسة عشر عاماً واللذان صادرت القوات الإسرائيلية جثمانهما.
عائلة أبو جزر
في 29 أبريل/نيسان 2018، انطلق "يوسف أبو جزر" و"أنيس الشاعر" البالغان من العمر 15 عامًا، نحو السياج الحدودي الفاصل بين غزة و«إسرائيل»، الواقع شرق حي النهضة في رفح، جنوب قطاع غزة. على أمل زيارة عمته التي تسكن على الجانب الآخر من السياج الحدودي داخل «إسرائيل»، أراد يوسف التسلل عبر السياج، وفقًا لأنيس. يُعدّ السياج الإسرائيلي المُجهّز بالأسلحة المحيط بقطاع غزة الحاجز الرئيسي الذي تستخدمه القوات الإسرائيلية لفرض إغلاق عسكري على القطاع منذ عام 2007. تُعتبر سياسة الإغلاق الإسرائيلية بمثابة عقاب جماعي بموجب القانون الإنساني الدولي. في حين تحتل «إسرائيل» قطاع غزة لأنها تُحافظ على "سيطرتها الفعلية" على حدوده، وساحله، ومجاله الجوي، واقتصاده، واتصالاته، وإمدادات الطاقة فيه، وشبكات المياه والصرف الصحي؛ تتجاهل السلطات الإسرائيلية بشكل روتيني التزاماتها بموجب القانون الدولي تجاه السكان الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال. ومن المعلوم يعيش ما يقرب من مليوني فلسطيني في قطاع غزة، وبسبب سياسة الإغلاق الإسرائيلية، نادراً ما يتمكنون من المغادرة إلا في حالات استثنائية، مثل حصول الفرد على إحالة طبية غير متوقعة لتلقي العلاج الطبي في مستشفى إسرائيلي. بدأ جنود الاحتلال الإسرائيلي بإطلاق النار على يوسف لحظة عبوره السياج، وفقاً للمعلومات التي جمعتها الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال. قال أنيس: "كنت مختبئًا على مسافة قريبة، وكنت مرعوباً. عرفت أن يوسف مصاب برصاصة في ساقه لأنني سمعته يصرخ. كان صراخه وصوت إطلاق النار والقنابل المضيئة مرعبين". أخبر أبو جزر الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال أنه كان يعلم أن ابنه يوسف كان مع أصدقائه في 29 أبريل/نيسان، وعلم لاحقاً في اليوم نفسه أنهم على الأرجح بالقرب من السياج الحدودي مع غزة. احتجزت القوات الإسرائيلية أنيس، لذلك لم يتمكن من إبلاغ عائلة يوسف بما حدث. وبحثت عائلة يوسف عن أي أخبار عن ابنها، لكنها لم تعرف ما إذا كان ميتاً أم حياً. بدأوا بالتواصل مع وكالات الأنباء والمسؤولين الحكوميين ومنظمي مسيرات العودة الكبرى، وطلبوا من أقاربهم المقيمين في «إسرائيل» الاستفسار عن مكان يوسف وحالته في المستشفيات الإسرائيلية. يقول ياسر، والد يوسف، للحركة العالمية للدفاع عن الأطفال، متذكراً تلك الليلة الأولى التي لم يعد فيها يوسف إلى المنزل: "لقد كانت ليلة صعبة لن أنساها طوال حياتي. لم تكن هناك أي أخبار عن يوسف. كانت تلك الليلة طويلة جداً. كنت مستيقظاً طوال الوقت، في انتظار أي أخبار عنه". يضيف والد يوسف "أتخيل يوسف واقفًا أمامي يومياً. لا أستطيع نسيانه. لو دفناه، لانتهى الأمر، ولكن مصيره مجهول، إنه لأمر مؤلم، ولكنه يمنحنا أيضاً الأمل بأنه لا يزال على قيد الحياة". لا يزال أبو جزر للآن ينتظر من السلطات الإسرائيلية إعادة رفات ابنه، عقب حادثة عام 2018 التي أطلقت فيها القوات الإسرائيلية النار على يوسف أبو جزر، البالغ من العمر آنذاك خمسة عشر عاماً، مما أدى إلى مقتله. عائلة أبو جزر هي واحدة من عدة عائلات فلسطينية اضطرت، وسط حزنها، إلى النضال من أجل حقها في توديع ودفن طفلها.
عائلة إشتيوي
أدى انكماش الموارد في قطاع غزة المحاصر إلى أزمة بطالة، حيث تكافح العديد من العائلات لتلبية احتياجاتها اليومية. في عام 2019، أفاد الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن معدل البطالة في قطاع غزة بلغ 45.1%، وهو ما يزيد عن ثلاثة أضعاف معدل البطالة في الضفة الغربية البالغ 13.7%. حاول الطفل الفلسطيني "إسحاق إشتيوي" البالغ من العمر خمسة عشر عاماً، واثنان من أصدقائه التسلل عبر سياج غزة الحدودي مع «إسرائيل»، شرق رفح، بحثاً عن عمل داخل «إسرائيل» في 3 مارس/آذار 2019. حوالي الساعة الثامنة مساءً، أطلق جنود الاحتلال الإسرائيلي النار على إسحاق، فأصابوه في ذراعه اليمنى وبطنه، وفقاً لمعلومات جمعتها الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال. وكانت وكالات الأنباء قد نشرت تقارير عن مقتل ثلاثة فلسطينيين مجهولين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي بعد أن عبروا السياج الحدودي. تواصلت عائلة إسحاق مع العديد من منظمات حقوق الإنسان واللجنة الدولية للصليب الأحمر في محاولة للحصول على أي معلومات عن ابنهم. بعد أربعة أيام، وبعد اتصالهم بأحد أقاربهم العاملين في مكتب الارتباط المدني الفلسطيني، تلقى والدا إسحاق تأكيداً بمقتل ابنهما. لم يتلقيا أي معلومات إضافية، مثل وقت وفاته، أو ما إذا كانا سيستلمان جثته ومتى. بعد وفاة إسحاق بفترة وجيزة، قدّم والده "عبد المعطي إشتيوي" بمساعدة مركز الميزان لحقوق الإنسان في غزة، التماساً إلى النيابة العسكرية الإسرائيلية مطالباً بالإفراج عن رفات ابنه. بعد أربعة أشهر، في يوليو/تموز 2019، أُبلغ إشتيوي بإمكانية استلام جثمان ابنه من معبر إيرز الإسرائيلي. وأُبلغ بأنه سيُزوَّد بتقرير طبي مكتوب باللغة العبرية. قال إشتيوي للحركة العالمية للدفاع عن الأطفال: "كان كتلة من الثلج"، متذكرًا لحظة رؤيته جثة ابنه البالغ من العمر 15 عاماً هامدة. "كان في كيس أسود بسحاب، وغطاؤه 15 سم (6 بوصات) من الثلج. عندما انحنيت لأقبله، شعرت وكأنني أقبل كتلة من الثلج".
حتى في الموت يُحرم الفلسطينيون من حقوقهم
تطبق السلطات الإسرائيلية سياسة احتجاز جثث الفلسطينيين في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة. في عام 2019، قضت المحكمة العليا الإسرائيلية بأن للجيش الحق القانوني في احتجاز جثث الفلسطينيين لاستخدامها كوسيلة ضغط في المفاوضات المستقبلية مع الفلسطينيين، وفقاً لمركز عدالة. يُرسّخ هذا القرار تعديل الكنيست الإسرائيلي لعام 2018 لقانون مكافحة الإرهاب رقم 5776، والذي يمنح الشرطة الإسرائيلية سلطة احتجاز جثث الفلسطينيين الذين قُتلوا على يد الجيش أو الشرطة الإسرائيلية. ويُلغي القرار حكماً تاريخياً أصدرته المحكمة العليا عام 2017، والذي اعترف بحق العائلات في الدفن، مُشيراً إلى أن وقف إعادة الجثث يُهدد بانتهاك عدد من الحقوق، وفي مقدمتها الكرامة الإنسانية. يُخول تعديل قانون مكافحة الإرهاب الإسرائيلي لعام 2018 قادة المناطق في الشرطة الوطنية الإسرائيلية بوضع شروطٍ للإفراج عن جثث الفلسطينيين المحتجزة، بما في ذلك وضع قيود على حجم الجثث وموقعها وتوقيتها وعدد الحضور في مراسم الدفن، ويمكن احتجاز الجثمان حتى توافق العائلة على الشروط. كما قد يُطلب من العائلات إيداع مبلغ مالي لدى السلطات الإسرائيلية كضمانٍ لاستيفاء العائلة لأي شروط. يمكن للسلطات الإسرائيلية أن تطلب من العائلات استلام الجثمان المحتجز فقط في الصباح الباكر أو في وقتٍ متأخر من الليل. وتشمل الإجراءات "الاحترازية" التي اتخذتها السلطات الإسرائيلية تقييد عدد الأشخاص الحاضرين في مراسم الدفن، في محاولةٍ مزعومة للحد من الاحتجاجات المحتملة التي قد تنشأ عن الفلسطينيين عقب الجنازة. من أخطر الشروط التي فرضتها السلطات الإسرائيلية عدم تشريح رفات الضحايا. وحتى في غياب هذا الشرط، تحتجز السلطات الإسرائيلية جثث الفلسطينيين المصادرة في ظروف شديدة البرودة لأشهر، مما يُسيء إلى حالتهم، ويُصعّب على الفاحصين الطبيين التحقيق في أسباب الوفاة. يُعيق هذا الشرط إجراء تحقيقات قائمة على الأدلة في عمليات القتل غير المشروع والاستخدام المفرط للقوة ضد الفلسطينيين الذين قتلتهم القوات الإسرائيلية. في عام 2019، قدمت الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال تقريراً مشتركاً إلى لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن احتجاجات عام 2018 في الأرض الفلسطينية المحتلة، يُفصّل فيه قتل القوات الإسرائيلية للأطفال الفلسطينيين خلال احتجاجات عام 2018 في قطاع غزة، وهو سلوكٌ ارتقى في بعض الحوادث إلى جرائم حرب. وخلص التقرير إلى أنه في الغالبية العظمى من الحالات، قتلت القوات الإسرائيلية أطفالاً لم يُشكّلوا أي تهديد وشيك بالموت أو الإصابة.
جرائم ضد الإنسانية عن سابق تصميم
بالنسبة للعائلات الفلسطينية المقيمة في الضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، تُفرض عليها شروطٌ إداريةٌ لا قضائية. هذا يعني أنه لا يوجد سبيلٌ حقيقيٌّ للطعن في الشروط المفروضة على إطلاق سراح أحبائهم. علاوةً على ذلك، تراجعت السلطات الإسرائيلية أحياناً عن الاتفاقات المبرمة مع العائلات لتسليم جثمان أحد أحبائها، وفقًا لمركز عدالة. منذ عام 2018 وثّقت الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال خمس حالات صادرت فيها السلطات الإسرائيلية جثث أطفال واحتجزتها عن عائلاتهم. في حالتين، أُفرج عن الرفات البشرية في نهاية المطاف، ولكن في الحالات الثلاث الأخرى، لا تزال الجثث في عهدة «إسرائيل»، محجوبة عن العائلات. قُتل يوسف وإسحاق أثناء محاولتهما الهروب من منزليهما المحاصرين في قطاع غزة. في الموت، كما في الحياة، حُرموا من الكرامة الأساسية وحقوق الإنسان الأساسية التي يستحقها جميع الأشخاص بموجب القانون الدولي. بالنسبة للعائلات الثكلى، تُعتبر السياسة الإسرائيلية المتمثلة في مصادرة واحتجاز جثامين الفلسطينيين بمثابة عقابٍ جماعي. إنها سياسةٌ تمييزيةٌ وضارةٌ للغاية تُفرض على الفلسطينيين، ولا تنتهك حقوق العائلات في دفن رفات أحبائها فحسب، بل تنتهك أيضاً الحقوق الشرعية والدينية للمتوفى في دفنهم وفقاً لطقوسهم الثقافية والدينية. لقد أصبح الموت ساحة أخرى للصراع والقهر ومحاولة السيطرة، تستخدمه «إسرائيل» وسيلةً للضغط، والعقاب، والمساومة، فيما يبدو أن موت الفلسطينيين ليس نهاية الاضطهاد في العقلية والعقيدة الإسرائيلية. من أبسط حقوق الفلسطيني أن يدفن كاملاً بعد استشهاده غير منقوص في الأرض، وأن يوضع شاهد على قبره، يُكتب عليها اسمه وتاريخ ميلاده، وتاريخ وفاته. ويُكتب عليها أيضاً أنه ابن هذه الأرض منها خُلق وإليها يعود. وأنه ينتمي لهذا الوطن الذبيح. والأهم أن يكون قبره في مقبرة حقيقية، ليس في قبر جماعي، ولا في شارع، ولا على الرصيف، ولا في ثلاجة، ولا في مقابر الأرقام.

صرخة من قلب العتمة.. علي أبو هلال يفضح جرائم "إسرائيل" في معتقل الموت
أطلق المحامي والباحث القانوني علي أبو هلال، يوم الثلاثاء 15/7/2025، كتابه الجديد بعنوان "معتقل سدي تيمان الــ"إسرائيلي" – صفحة سوداء في تاريخ الإنسانية"، وسط حضور نوعي من الكتّاب والنشطاء والمهتمين، وذلك في متحف ياسر عرفات بمدينة رام الله.
يُعدّ الكتاب الأول من نوعه الذي يتناول المعتقل العسكري "الإسرائيلي" سيئ السمعة، المقام داخل قاعدة عسكرية في صحراء النقب، ويُستخدم منذ ديسمبر/كانون الأول 2023 لاحتجاز أسرى فلسطينيين من قطاع غزة، اعتقلهم الاحتلال عقب عدوانه على غزة في أكتوبر/تشرين الأول. وقد لُقّب هذا المعتقل بـ "غوانتانامو "إسرائيل"" نظرًا للشهادات المروعة التي أدلى بها أسرى فلسطينيون بعد خروجهم، موضحين تعرّضهم لتعذيب ممنهج وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
الفعالية التي أدارتها الدكتورة فليتسيا أديب، شهدت مداخلات من شخصيات وطنية وحقوقية قدّمت قراءات قانونية وإنسانية للكتاب.
في كلمته الترحيبية، قال أحمد صبح، رئيس مجلس إدارة مؤسسة ياسر عرفات "هذا الكتاب يقدم لائحة اتهام كاملة لمجرمي الحرب بحق أسرانا البواسل، وجريمة مكتملة الأركان بحق من قدّم أعمارهم لأجل القضية العادلة."
وأضاف أن "الكتاب يوثق شهادات أسرى في معتقل سدي تيمان، الذي سلب الإنسان كرامته، كما يعرض ممارسات العنصرية القاتلة "الإسرائيلية" في استهداف الأرض والإنسان عبر التدمير والتطهير. النضال الفلسطيني بحاجة لترميم الأرشيف الوطني، وهذا العمل يُعدّ مساهمة مهمة في بناء السردية التاريخية الفلسطينية."
أما الكاتب عيسى قراقع، الرئيس الأسبق لهيئة شؤون الأسرى والمحررين، فقال"الاحتلال "الإسرائيلي" يمارس أقسى أشكال التعذيب وانتهاك الكرامة الإنسانية. الكتاب توثيقي بحثي بامتياز، جمع شهادات مباشرة، ويجب توظيفه سياسيًا وقانونيًا فلسطينيًا."
وأشار إلى أن "ما ورد فيه تقشعر له الأبدان، والكتاب يكشف وجهًا آخر من أوجه الإبادة التي تمارسها آلة البطش "الإسرائيلية" في معتقل سدي تيمان."
ومن جانبه، وصف الأستاذ صالح عباسي، ناشر الكتاب عن "مكتبة كل شيء" الحيفاوية، الحدث بأنه "عرس ثقافي"، قائلًا "الكتاب شهادة حيّة، وصرخة ضمير، ووصمة عار في جبين الاحتلال. إنه ليس مجرد كتاب معلومات، بل وثيقة قانونية، ورسالة مقاومة باسم من يُسحقون خلف الجدران." وأضاف "نحن في مكتبة كل شيء نُجدّد العهد بأن نظل أوفياء للكلمة الحرة، ولمن جعلوا من الحبر سلاحًا ومن الكتاب خندقًا للمقاومة."
خلال مداخلته، استعرض المحامي علي أبو هلال أبرز مضامين كتابه، مشيرًا إلى شهادات المعتقلين حول التعذيب الذي أدى إلى استشهاد نحو 40 معتقلًا، لا تزال جثامينهم محتجزة لدى سلطات الاحتلال. وقال"غياب المراجع حول هذا المعتقل دفعني للاعتماد على تقارير إعلامية عربية و"إسرائيلية" وأجنبية، إلى جانب شهادات أسرى محررين. أمضيت عامًا كاملًا في جمع المادة وكتابتها، لتكون وثيقة تُقدَّم للمحكمة الجنائية الدولية."
وأشار إلى أن الكتاب يتضمن مطالبة المجتمع الدولي وهيئات الأمم المتحدة، لا سيما المحكمة الجنائية الدولية، بفتح تحقيق فوري في جرائم التعذيب التي ارتُكبت في معتقل سدي تيمان، والعمل على إغلاق المعتقل وإنصاف الضحايا.
كما قدّم المحامي الحيفاوي حسن عبادي (عضو اللجنة الاستشارية للتحالف الأوروبي لمناصرة أسرى فلسطين) مداخلة تاريخية قيّمة، قال فيها"قامت الوكالة اليهودية بترحيل نحو 49 ألف يهودي من اليمن إلى "إسرائيل" بين عامي 1949 و1950، في عملية سُميت "جناح النسر"، وأُسكنوا في معسكر "سدي تيمان" الذي كان سابقًا للجيش البريطاني. أقيم السجن الحالي على أنقاض تلك المباني، ليكون منشأة لاحتجاز مختطفي غزة." وأضاف"الكتاب يسلط الضوء على فظائع هذا السجن، ويُعدّ بمثابة نظير لـ "أبو غريب" و"غوانتانامو"، ويجب اعتماده مرجعًا، لا سيما فصله السادس (ص. 77-92) الذي يتناول تعذيب الأسرى كجريمة حرب وانتهاك جسيم للقانون الدولي."
وأشار إلى أهمية توصيات الكتاب، خاصة التوصية الخامسة المتعلقة باللجوء إلى المحاكم الوطنية لمحاكمة مرتكبي جرائم التعذيب.
من جهته، قال الحقوقي حلمي الأعرج، مدير مركز الدفاع عن الحريات"الكتاب وثيقة وطنية قانونية توثّق جرائم التعذيب والاختفاء القسري والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها الاحتلال "الإسرائيلي" بحق الأسرى الفلسطينيين في سدي تيمان."
وأضاف"العمل يفتح الباب نحو توثيق جريمة الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الأسرى، نتيجة سياسة التجويع التي يتبناها بن غفير، بحماية من القضاء "الإسرائيلي"، وصمت دولي مخزٍ."
وفي ختام الحفل، شارك عدد من الحضور بمداخلات قيّمة، أثنوا فيها على أهمية الكتاب وما يتضمنه من توثيق ومعلومات، مؤكدين ضرورة تطوير دور المؤسسات الرسمية والحقوقية الفلسطينية في تعزيز التضامن الشعبي لإسناد الأسرى، ودعم نضالهم في مواجهة جرائم الاحتلال "الإسرائيلي".
بقلم: سامي إبراهيم فودة
الجزائر.. صوت الحق وضمير الأمة في زمن الخذلان
من قلب فلسطين الجريحة، ومن عمق الألم الممتد على تراب غزة النازف، نرسل أصدق كلمات الامتنان والعرفان إلى الجزائر الشقيقة، أرض المليون ونصف المليون شهيد، التي لم تكن يوماً إلا إلى جانب الحق، إلى جانب فلسطين، الثورة، والإنسان.
الجزائر، هذه الأمة التي نذرت نفسها قِبلةً للأحرار، ومأوى للثوار، وسنداً لكل مظلوم، كانت وما زالت قلعة العروبة الحقيقية، التي لم تساوم، ولم تخذل، ولم تُبدّل مواقفها كما فعل الآخرون. وقفت معنا يوم كانت الأنظمة تتوارى خلف جدران الصمت، ونادت بأعلى صوتها: "فلسطين ليست وحدها". نوجه تحية شكر ووفاء لفخامة الرئيس عبد المجيد تبون، الذي كان صوته صوت الفلسطينيين في المحافل، وكانت مواقفه مشاعل نور وسط هذا الظلام العربي. تحية لحكومة الجزائر التي احتضنت الألم الفلسطيني، وعبرت عنه بصدق لا تملقه المصلحة ولا تشوبه الحسابات الضيقة. أما الشعب الجزائري العظيم، فما عرفناه إلا شعب النخوة والكرامة، يخرج في المسيرات نصرة لغزة، يجمع التبرعات، يرفع راية فلسطين في المدارس والجامعات والشوارع، كما لو أنها قطعة من الجزائر ذاتها. شعب علّمنا أن الأخوة الحقيقية لا تحتاج إلى بروتوكولات. ولا يمكن أن نغفل عن الإعلام الجزائري الحر، الذي شكّل جبهة متقدمة في معركة الوعي، فضح جرائم الاحتلال، ورفع الصوت بالحق حين صمت الكثيرون. فكل التحية للمواقع الإخبارية، والصحف، والإذاعات، والقنوات التي بقيت تنقل الحقيقة من قلب الجحيم، ووقفت بجانب الصحفي الفلسطيني، والأسير الفلسطيني، والطفل الفلسطيني. وللجيش الجزائري البطل، درع الوطن وأمانه، نقول: أنتم الفخر الذي نعتز به، والرمز الذي نطمئن إليه، وقد كنتم دائماً درع الجزائر، ودرعاً معنوياً لكل أمة تنشد الكرامة والحرية.
شكرًا لكِ يا جزائر الحُب والثورة، يا وطن الرجال والبطولات، يا من بقيت وفية للدم الفلسطيني، ولأحلامه في الحرية والعودة.
فلسطين لن تنسى...
وغزة ترفع لكِ يدها الجريحة وتقول:
"من لم يكن جزائرياً، فليتعلّم من الجزائر معنى العروبة والوفاء."

بقلم: فراس الطيراوي / شيكاغو - ناشط سياسي وكاتب عربي فلسطيني عضو الامانة العامة للشبكة العربية للثقافة والرأي والإعلام.
الصحفي ناصر اللحام حرًّا من بين أنياب الاحتلال وصرخة الأسرى لا تزال مدوّية
بعد تسعة أيامٍ من الاعتقال الوحشي، أفرج الاحتلال الإسرائيلي عن الزميل الصحفي ناصر اللحام، الذي خرج مرفوع الرأس، لكنه لم يخرج صامتًا. حمل معه شهادته على ما يجري خلف القضبان، وقالها بوضوح:
الأسرى يُعذَّبون ويُجوَّعون داخل السجون الإسرائيلية.
هذا ليس توصيفًا عابرًا، بل صرخة مدوّية من صحفي محنك، يعرف تمامًا ثقل الكلمة حين تُلقى، ويعلم أن قول الحقيقة في زمن الكذب يُعد مقاومة. نُبارك لناصر اللحام حريته، ولكننا نعلم أن هذه التهنئة لا تكتمل، لأن آلاف الأسرى لا يزالون يقبعون في زنازين القمع، تُمارس ضدهم أبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، في ظل صمتٍ دوليّ مُخزٍ ومريب. هناك من يُنتزع من فراشه ليلاً دون تهمة، وهناك من يُحرم من الطعام والدواء، من التواصل مع أهله، من النوم، من النور، ومن الحياة. اعتقال ناصر اللحام لم يكن حدثًا عابرًا، بل رسالة ترهيب موجهة إلى كل صحفي فلسطيني حر، وكل صوت يرفض أن يُصفَّق للجلاد. لكن اللحام خرج، كما عهدناه، أقوى من السجن، أشجع من السجان، شاهداً حياً على أن الاحتلال لا يخاف السلاح بقدر ما يخاف الحقيقة. إننا، إذ نهنئ زميلنا بسلامته، نؤكد أن صوته لن يُسكت، بل سيتردد في كل منصة، وفي كل ساحة، دفاعًا عن الأسرى الذين لا يملكون إلا ضمير شعبهم، وعدالة قضيتهم، ووجعهم المتراكم. المطلوب الآن ليس فقط التهنئة، بل حملة شاملة لكشف جرائم الاحتلال في سجونه، وتحويل ما قاله ناصر اللحام إلى ملف يُقدَّم أمام كل محفل حقوقي ومحكمة دولية. فإن كنا نحتفل بحرية اللحام، فإن الواجب يُحتّم علينا أن نواصل النضال من أجل حرية كل أسير فلسطيني، لأن معركتهم هي معركتنا، ووجعهم وجعنا، وكرامتهم من كرامتنا.
الاحتلال إلى زوال… والكلمة الحرة أقوى من الزنازين.

بقلم الأسير المحرر: محمد التاج
في اليوم العالمي لإسناد الأسرى.. إلى متى يتركون وحدهم؟
في الثالث من أغسطس/آب من كل عام، يمر علينا اليوم العالمي لإسناد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، بينما لا تزال جدران الزنازين تنزف صمتا، ويواصل الاحتلال جرائمه الممنهجة بحق أكثر من 10800 أسيرا وأسيرة، بينهم أطفال ونساء وشيوخ ومرضى، في ظروف لا تمتّ للإنسانية بصلة.
لكن ما يثقل علينا هذا العام أكثر من أي عام مضى هو أن الاحتلال يتسارع في استهداف حياة الأسرى، حيث قتل بدم بارد 74 أسيرا فلسطينيا منذ 7 أكتوبر 2023، عبر سياسة التعذيب والإهمال الطبي المتعمد والتجويع وسحب أبسط مقومات الحياة، وتحتجز جثامينهم حتى اللحظة، دون احترام لكرامة الإنسان أو لمشاعر أمهاتهم وأطفالهم وأحبابهم.. لا محاكمة، لا مساءلة، ولا حتى اعتراف بالمسؤولية.
ماذا نفعل؟ نُدين.. نناشد.. نقف في الميادين.. نصرخ، ثم نصمت. ويستمر العدو في سياساته الإجرامية وكأن شيئا لم يكن.. بل كأننا لم نكن.
إن سياسة الاحتلال في التعامل مع الأسرى ليست انتهاكا عابرا، بل جريمة ممنهجة تهدف إلى تحطيم الإنسان الفلسطيني داخل المعتقل وخارجه، وتمارس بعلم المجتمع الدولي، إن لم نقل بموافقته الضمنية.
في مواجهة هذا الجحيم، لا بد من كسر الحلقة المفرغة من الصمت، لا بد من فعل جديد، وإرادة جماعية تربك الاحتلال، وتحرك المؤسسات الدولية، والمؤسسات الحقوقية والإنسانية، وترغم العالم على الفعل المستدام لوقف الجرائم المتواصلة بحق الأسرى والأسيرات.
لا يكفي أن نقول: الأسرى خط أحمر.. بل يجب أن نجعل من معاناتهم نقطة اشتباك سياسي وشعبي، محليا وعالميا.
ماذا نحتاج؟
- حملة دولية منظمة، لا تتوقف عند المؤتمرات، بل تصل إلى قاعات المحاكم وساحات البرلمانات.
- فعل شعبي يتصاعد الى انتفاضة شعبية، تجعل من إسناد الأسرى قضية نضالية فعلية، وليست موسمية.
- منصة إعلامية ناطقة بلغات العالم، تفضح بالصوت والصورة ما يجري في زنازين العزل والقتل.
- تحرك قانوني منظم، يربط كل شهيد أسير باسم مجرمٍ صهيوني أمام المحاكم الدولية.
نريد أن نربك الاحتلال، لا أن نربِك بعضنا.. نريد أن نخوض معركة الأسرى كقضية تحرر، لا كحالة إنسانية فقط. في يوم إسناد الأسرى، لا نطلب كثيرا، بل نطلب ما هو أقل من واجب: أن نكون في صفهم.. لا خلفهم.. أن نتحرك قبل ان نتكلم.. حتى لا نستقبل كل يوم أسيرا شهيدا ثم نرثيه، وننساه في زحام التحديات ونجعل منه رقما في لائحة الشهداء.

بقلم: ثورة عرفات
سجّان أبوك يا سجن…
وُلدتُ في بيتٍ يُحب البنات، بيتٍ كبيرٍ تحفّه الحكايات، وتُظلّله سكينة العائلة ودفء القلوب. كنت الطفلة الوحيدة بين أولاد عمومتي، مدلّلتهم، زهرة صغيرة تتنقّل بين الأذرع، وكلّهم يحيطونني بالرعاية... لكن أحدهم كان الأقرب إلى قلبي: جدّي. كان يخصّني بركنٍ صغير في البرندة، يرفعني برفق، يضعني على حافّة الشباك، يركن عصاه جانبًا، ويبدأ بالتصفيق والغناء:
"سجّان أبوك يا سجن... ومفارق أحبابي
واللي ما عنده حزن... يبكي على شبابي"
كنت أُردّد خلفه، أتعثّر في الكلمات، أضحك حين يضحك، وأحدّق في عينيه التي كثيرًا ما كانت تلمع دون أن أفهم السبب. لم أكن أعلم أن الأغنية كانت وجعه، وأن صوتي الطفولي كان يُوقظ فيه حزنًا دفينًا اسمه: الأسير… ابنه، عمّي. كان جدي يبتسم لي دومًا، لكنه يخبّئ دموعه حين تقترب منه العيون. لم أكن أفهم، ولم أكن أحتاج إلى الفهم… كنت أغنّي، وأُحبّ تلك الأغنية، أطلبها منه كل يوم، وهو لا يردّني أبدًا، ولو كلّفته دمعًا. ثم كبرتُ قليلًا، ودخلت المدرسة. وفي الصف الأول، أعلنوا عن "اليوم المفتوح"، واختارت المعلّمة أغنية "طيري طيري يا عصفورة"، لنُشارك بها كصفٍ صغير.
لكنني رفضت، وأصررت:
"نُريد أن نُغنّي (سجّان أبوك يا سجن)".
اقتربت منّي المعلمة وقالت بابتسامة حزينة:
"تلك الأغنية نُخصّصها ليوم الأسير الفلسطيني".
أجبتها بعفوية:
"لا بأس، نُغنّيها الآن، وسأغني طيري طيري في المرّة القادمة"
رضيت، وبدأنا نتدرّب، أنا وزملائي. نضحك، نركض، نغني، وكانت أروقة الصفّ تمتلئ بضحكاتنا، لكني كنت أرى شيئًا حزينًا في عيني معلمتي، ظللتُ أجهله. وفي اليوم المنتظر، ارتديتُ فستاني الأبيض، صفّفت أمي شعري الطويل، قبلتُ جبين جدّي، وقلت له بحماسة:
"سأُغني لك اليوم… استمع إليّ".
ضحك، قبّل خدّي، وربّت على رأسي بصمتٍ عميق.
بدأ الحفل. وقفنا جميعًا نُنشد النشيد الوطني:
"فدائي... فدائي...
يا أرضي يا أرض الجدود..."
ثم تحدّثوا عن الأرض، عن الزيتون، عن الأسرى، عن القدس،
وحين حان دور صفّنا، صعدتُ المنصّة.
اقتربت من الميكروفون، وبدأنا نغنّي:
"عمري قضيته بسجن... يا الله ويش الحال
والسجن لي مرتبة... والقيد لي خلخال
والمشنقة معلقة... مشروحة للأبطال"
كنت أُلوّح بيدي، أبتسم، أدور بفستاني الأبيض،
بينما كانت المعلمة وبعض الأمهات… يبكين.
سألت نفسي: "لماذا؟ نحن نغنّي!"
وهم يبكون!!!!
وحين انتهينا، ركضت إلى معلمتي وقلت لها:
"لا تبكي… في المرّة القادمة سنُغني طيري طيري يا عصفورة."
ابتسمت، ومسحت دمعتها، وقالت: "ماشي."
وتمرّ الأعوام…
ويأتي يوم 15 تشرين الثاني 2000
فأُغنّي الأغنية ذاتها،
لكن وحدي… وبدموع لا تنضب.
الآن فقط، فهمتُ معنى الأغنية.
فهمتُ لماذا كان جدي يبكي في صمت،
ولماذا كانت تلك الكلمات تحفر داخله جرحًا لا يُشفى.
فهمت أن خلف كل كلمة،
كان هناك وجهٌ غائب…
اسم لا يُنطق كثيرًا…
عمي الأسير.
عرفت السجن لا ككلمة… بل كقيد.
عرفت أن الأغنية لم تكن لحنًا… بل وجعًا يقطر من حناجرنا.
وأن جدي، المختار القوي،
كان يُخفي ضعف الأب الذي لا يستطيع أن يُحرّر ابنه من خلف الجدران.
"يا رافعين العلم... علوّوا العلم لفوق
وافتل يا شعب الألم... عبّي القلب بالشوق"
كبرت أنا…
وكبرت معي الأغنية، لكن نغمتها تغيّرت.
صارت تُشبهني… صارت تبكيني.
"لأطلع عرّاس الجبل... وأشعل الفانوس
وقع من إيدي وانكسر... لأقضي عمري عبّوس"
انكسر الفانوس يا جدّي…
وانكسرت طفولتي معه.
لكني ما زلت أغنّي،
وأُخفي دمعي كما كنتَ تفعل،
وأحمل وجعي بصوتٍ هادئ،
يشبه الوطن… ويشبهك.
بقلم: عيسى قراقع
عندما كان الصحفي ناصر اللحام مجرد رقم
دخلت على مكتبه في وكالة معا، لفت انتباهي وجود صورة لشاب جميل وصغير في العمر على طاولة المكتب، معلّقة على صدره لوحة تحمل رقم 7014355، وهي صورة التُقطت خلال وجوده في السجون "الإسرائيلية" في سنوات الثمانينات. نظرات حزينة مندهشة تندفع بين عينيه، حوّل ناصر اللحام هذا الشاب المنتفض المندفع الجريء إلى رقم ساكن وجامد في تلك السجون الظالمة، ربما أدرك أنه بين ليلة وأخرى تحوّل من إنسان إلى مجرد رقم، صار الرقم هو اسمه وكوشانه وهويته ومساحة حياته السابقة والقادمة.
اختصروا عمره وحيويته في سبعة أرقام.. السجّانون ينادون عليه برقمِه وعليه أن يحفظه جيدًا، ينهض على نظام العدد اليومي صبح مساء، ألّا يتأخّر، ألّا يخربش، وإلّا فإن هراوة ستضربه على رأسه أو يُعاقب في الزنازين الانفرادية أو يتعرّض للشتائم والإهانات. كل سجين أصبح له رقمٌ مكوّن من عدّة خانات ضمن نظام متسلسل يساوي في النهاية أكثر من مليون أسير وأسيرة اعتُقلوا في سجون الاحتلال منذ عام 1967، وعلى ناصر اللحام أن يحفظه باللغة العبرية بشكل سليم، وإن لم يفعل ذلك يُحرَم من السجائر ووجبة الماء الساخن والقهوة والشاي.
صرت رقمًا لا ملامح لي، لا وجه ولا قلب ولا لسان، أصبحت مجرد رقم، شيء بلا قيمة، نزعوا عني الصفة الإنسانية، لست من بني آدم، صرت مجرد رقم في ملف أو في حياة محشورة متزاحمة الأرقام، الرقم معلّق على صدري على طريقة النازيين في تعاملهم مع المعتقلين في سجونهم، هذا الرقم يقودني إلى الجنون أو القهر أو الموت تعذيبًا أو مرضًا، وفي كل الأحوال أنا مجرد رقم يتغيّر ويُستبدَل ويُسحق، يبهت أو يلمع، رقم ليس له في دنيا المستعمرين أي حساب.
عندما نظرت إلى صورة ناصر اللحام المُرقَّمة، عادت بي الذاكرة إلى الوراء، آلاف الأسرى الذين جُرّدوا من إنسانيتهم وروحهم وصاروا قطيعًا وأرقامًا وإرهابيين ومجرمين يتعرّضون للطمس والهدر والقمع وتشويه صورتهم وسلبهم كل حقوقهم الإنسانية والمعيشية، ليس لهم هوية ولا مكان إلّا بين مجموعة أرقام تحرّكها مكانة القمع "الإسرائيلية" ونظام السيطرة في السجون.
صورة ناصر اللحام توجعنا، تقشعرّ لها الأبدان، كيف يتحمّل أن ينظر إلى صورته طوال هذا الوقت؟ هذا الرقم هو اسمك خلال الزيارة أو لقاء المحامي أو الصليب الأحمر، هذا الرقم هو جسدك خلال عمليات القمع، لا أب لك ولا أم ولا أصدقاء ولا عائلة، أنت رقم متجمّد لا تتحرك في المكان والزمان، أنت رقم لا تتوجّع ولا تتألّم، ليس لك ماضٍ ولا حاضر ولا مستقبل.
أنت يا ناصر رقم، عليك أن تقول للسجّان: يا سيدي، ليس لك قرار، أنت رقم، عليك أن تنام الساعة العاشرة ليلًا بعد إطفاء الكهرباء، ليس لك وقت وأحلام، أنت رقم لا تقرأ كتابًا فليس لك عقل ودماغ، أنت رقم لا تحمل قلمًا لتكتب فليس لك يد، يدك يد السجّان، أنت مجرد رقم لا تشكو ولا تغضب ولا تشعر فليس لك قلب وأحاسيس وشوق وحبيبة وراء الجدران.
الرقم هو سياسة العنف والإرهاب "الإسرائيلية" المستمرة بحق أسرانا في سجون الاحتلال، فهم أرقام، يُقتلون في أقبية التعذيب، لا يُحاسَب أحد لأنهم ليسوا أكثر من أرقام، لا يُقدَّم لهم العلاج والدواء، الأرقام لا تمرض ولا تحتاج إلى رعاية صحية، لا يُقدَّم لهم الغذاء الكافي، الأرقام لا تشبع ولا تجوع ولا تعطش، يكفي أربع حبّات من الفاصولياء ونصف بيضة وبضع غرامات من اللحمة المجمّدة، وثلاثة كسرات من الخبز ورائحة قهوة في كأس ماء.
الرقم هو هذه الهندسة الاستعمارية للبشر بطحنهم وعيًا وفكرًا وإدراكًا، الأرقام ليس لها حقوق، وهي مجرد طلاسم غامضة في مفاهيم حقوق الإنسان، عقرب الاحتلال بكل أجهزته ومستوياته العسكرية والأمنية والسياسية هو الذي يُحرّك هذه الأرقام، غرفتك مُرقّمة، الزنزانة مُرقّمة، مدة حَبسك مُرقّمة، هم لا يعرفونك إلّا رقمًا أو هدفًا، لا يقرؤون أي معنى لهذه الأرقام، أنت مخفيّ، متواري تحت هذه الأرقام.
يُقاس عمر دولة الاحتلال "الإسرائيلي" وبقاؤها بالأرقام، بعدد الحروب التي تخوضها وعدد القتلى الفلسطينيين، أرض أكثر وسكان أقل، تطهير عرقي، مسح الناس جوًّا وبحرًا وبرًّا، تنظيف فلسطين من سكانها من أجل دولة تلمودية يهودية نقية.
أنت يا ناصر مجرد رقم، كان يأتيك الهواء من فتحة ضيّقة لتتنفس، شعاع الشمس في ساحة الفورة له مدة محددة، حبّات البطاطا والرز تأتيك محدودة لا تزيد ولا تنقص، سطور رسالتك على ورق الصليب الأحمر معدودة، كلماتك على شبك الزيارة مع أمك معدودة، أنفاسك واشتياقاتك وسلاماتك معدودة، ابتساماتك معدودة، حركات أصابعك معدودة، لقد انتهى مفعولك بمجرد أن دخلت سجون الاحتلال، هنا الحديد والأبواب والسلاسل والأرقام.
أنت يا ناصر في المحكمة العسكرية مجرد رقم، مدة الحكم بحقك هي مجرد رقم، لا يفهم القضاة أن تحت الرقم إنسانًا يغضب أو يشعر بالظلم، تجديد اعتقالك الإداري هي أرقام لا تُحسب بالشهور والسنوات، ليس هناك من يفهم ماذا يوجد وراء هذه الأرقام، لا يرون بشرًا وتعذيبًا واضطهادًا وعمرًا يضيع بين سنوات هذه الأرقام.
ما هذا الرقم الذي يُسمّى مؤبّد؟ لا يوجد حتى في علم الرياضيات والفلك، مؤبّد، مؤبّدان، خمس مؤبّدات وأكثر، هل هو اسم للجحيم في السجون؟ هل هو الانتظار حتى تتبدّل الأرقام أو يمحوها الصدأ عن الجسد والقضبان؟ لم يقرأوا ما كتبه الأسير ناصر أبو سرور عن هذا المؤبّد عندما قال:
هنا في المؤبد
ترتدي الجدران ظلها متى تشاء
وتخلع من تشاء عن
ظله
تنام زنزانتي قبلي كأني الذي
يحرس
ويشيخ حارسي الجندي لا
أكبر
تتوقف الأيام عن عدها
وأتوقف
مؤبد يعطيك كل الوقت ويأخذ وقتك
كله.
أنت يا ناصر مجرد رقم، أنت ميت كالشهداء الذين يحتجزونهم ويستبدلون أسماءهم بأرقام هناك في الثلاجات الباردة أو ما يُسمّى مقابر الأرقام، وأنت ميت إن مررت عن حاجز عسكري ونرفزت في وجه الجندي، حياتك مجرد رقم واحد يُسمى رصاصة، وأنت ميت إن لم تحفظ الخريطة الجغرافية وتفهم أن حركتك مرقّمة بين المعازل والكنتونات، لا تتجاوز الجدار أو المستوطنة، عليك أن تنتبه أنك رقم، والمسافات مغلّفة، ولست أكثر من رقم يدور في دائرة.
كل شيء صار أرقامًا، اقرأوا تقارير مؤسسات حقوق الإنسان عن هذه الأرقام التي تحصي عدد البيوت المهدومة، عدد الشهداء، عدد الأسرى، عدد المستوطنين والمستوطنات، عدد الاقتحامات والمداهمات، كأنه لا يوجد ما يختفي وراء هذه الأرقام، وأن هناك شعبًا ودمًا ولحمًا وعظمًا وقهرًا وحقوقًا قومية وسياسية ووطنًا ينزف وضحايا يبحثون عن إنسانيتهم وسط المجازر والجرائم الصهيونية المستمرة.
هذا الرقم الذي اسمه ناصر اللحام تمرّد على الرقم، خلعه من اسمه وقلبه ومن على صدره، انتفض الإنسان الأسير، انتزع حقوقه الإنسانية ومكانته وقيمته واستعاد ملامحه في صراع الإرادات والبطولات والمعجزات خلف قضبان السجون، انتزع الرقم وبنى سلطته الثورية بديلاً عن سلطة السجّان، تحرّك الرقم الذي يُسمّى ناصر اللحام، لم يتوقّعوا أن هذا الرقم صار صحفيًّا وأستاذًا يطلّ على دولة الاحتلال من على شاشات الفضائيّات، لم يتوقّعوا أن هذا الرقم انتزع الثقافة والكتاب والقلم وأسس مدرسة وجامعة حتى داخل السجون، تحرّك الرقم، ظهر الوجه الإنساني للشعب الفلسطيني وكشف الوجه البشع لدولة الاحتلال، ظهر الوجه الأخلاقي الحضاري للشعب الفلسطيني، وكشف وجه الخطيئة والعنصرية والتطرّف لوجه الاحتلال، تحرّك الرقم، انتفاضات وهبّات وصلوات وصمود وإعلام وكوفيات، أعراس وأغانٍ وأفراح وزيت وزيتون وحياة.
أُعيد اعتقال الصحفي ناصر اللحام يوم 7 تموز 2025، ليتحوّل من محلل ومذيع للأخبار إلى شاهد على الإبادة الدموية في غزة، وإلى شاهد وضحية على الإبادة المتوارية بحق الأسرى خلف القضبان بعد أن صار هدفًا عسكريًّا لسلطات الاحتلال.
وهناك، وبدون قلم وميكروفون وشاشة، يكتب تقريره بدمه وعذاباته، وهناك، حيث ينقطع الصوت وتُمارَس كل أشكال التعذيب والانتقام، ما زال ناصر يحكي على خط النار بلا درع إلّا الحقيقة، فعندما انطفأت الكاميرا صار ناصر رواية مشتعلة.
استُشهد خلال حرب الإبادة البشعة على غزة أكثر من 230 صحفيًّا، واعتُقل المئات، وهذا لم يحدث حتى في الحربين العالميتين الأولى والثانية، هؤلاء الشهداء ليسوا أرقامًا، إنهم لغات ونبضات وأصوات وعقول وعيون، رأت الجحيم "الصهيوني" فنقلته إلى كل أرجاء الكون، لينكسر الصمت والخوف ويتوقّف نزيف الموت قبل أن يُدفن الشاهد والمشهد، وتحترق الصورة والنص.
نظرتُ إلى صورة ناصر المُرقّمة، وتذكّرتُ أنه قال لي يومًا إن أسوأ ما في الحياة: الجنون والسجن، فكيف الآن وقد اجتمع كل مجانين تل أبيب الشاذين مع ناصر في السجن؟ وقد أصبح السجن ساحة للإعدام، ولإشباع غرائز وشهوات الجلّادين ونزعاتهم المجنونة.
ناصر، يا صاحب العينين المتعبتين كالمخيم...
أنت الآن في الزنزانة
لكن صوتك يمر في الحارات
وفي شاشات الجوال
خبر عاجل
ناصر يتكلم
غزة بخير رغم الألم

بقلم: وسام زغبر - عضو الأمانة العامة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين
يوسف الزق... حين يُغتال الرمز مرتين
لم يكن يوسف الزق مجرد طفل وُلد في الظلال الداكنة للزنازين الإسرائيلية، بل كان اسمه نفسه قصيدة مقاومة، وسيرة نضال لا تكتب إلا على جدران الوجع الفلسطيني المتجدد. يوسف، الذي عرفه الفلسطينيون والعالم كـ "أصغر أسير في العالم"، استُشهد يوم الجمعة 11 تموز/يوليو 2025، في مجزرة صامتة ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بقصف شقة عائلته في شارع الثورة وسط مدينة غزة. ولد يوسف عام 2008 داخل سجون الاحتلال، في ظروف لا تصلح لبقاء بشر، فكيف لطفل؟ لم يكن ميلاده مجرد حدث بيولوجي، بل كان تحديًا سافرًا لجبروت السجان. والدته، المناضلة الأسيرة المحررة فاطمة الزق، أنجبته مكبّلة اليدين، تحت تهديد البنادق، وفي ظل صمت دولي مريب، لتسطر واحدة من أكثر حكايات التحدي الفلسطيني عنفوانًا وألمًا. يوسف لم يختر أن يُولد في السجن، تمامًا كما لم يختر أن يُستشهد تحت الركام. لكنه وُجد ليكون رمزًا، ثم غاب ليصبح ذاكرة حيّة في ضمير شعبه. لقد قُدّر له أن يكون شاهدًا على النكبة المتواصلة، من زنزانة الميلاد إلى قبر الحرب. استشهاد يوسف ليس فقط جريمة حرب جديدة تضاف إلى سجل الاحتلال الدموي، بل هو اغتيال للمعنى، لرمزية الحياة التي وُلِدت رغم القيود، واغتيال لطفولة لم تعرف طعم الحرية يومًا. يوسف لم يعش كالأطفال، لم يعرف المدارس ولا الحدائق، بل عاش مطاردًا بين رمزية سجنه وواقع حصاره، ثم قُتل في حضن أمه كما وُلِد بين يديها. والدة يوسف، فاطمة الزق، لم تفقد ابنها فقط، بل فقدت جزءًا من الحكاية التي كانت ترويها للعالم عن إرادة الفلسطيني الذي يزرع الحياة في أرضٍ لا تعترف بها آلة القتل. كان يوسف بالنسبة لها – ولنا – شاهدًا حيًا على القهر والإرادة معًا، والآن أصبح شاهدًا شهيدًا على جريمة مستمرة بحق غزة وأهلها. يا يوسف، لم تكن بحاجة إلى شهادة ميلاد كي نعرفك، كنت ابن القضية، المولود في الظلام، والشهيد في عزّ الضوء، قُتلت لأنك تمثل ما يخشاه العدو: الولادة من رحم السجن، والنمو في حقول الكرامة، والموت واقفًا على أنقاض الوطن.
نم قرير العين يا يوسف، فالأحرار لا يموتون، بل يورثون الحكاية.

بقلم: سامي إبراهيم فودة
أسرى المخيمات.. المارد الفلسطيني الذي لا تُقيّده السلاسل
من بين الأزقة الضيقة، ومن بيوت الصفيح التي لا تقي حرًّا ولا بردًا، من رحم المعاناة والحرمان، وُلد المارد الفلسطيني. هناك، في المخيمات التي أرادها المحتل خنادق بؤس، خرج أبناء لا يشبهون إلا الوطن، آمنوا أن القضية لا تُحل إلا بالنضال، فكانوا وقود الانتفاضات، وروح المقاومة، وأيقونات الصمود خلف القضبان. هم الأسرى الذين لم يُرهبهم القيد، ولم تُحنِهم السياط، بل جعلوا من الزنازين منابر كرامة، ومن القضبان سلالم إلى المجد. في قلب السجون يعيش الآلاف من أبناء المخيمات، رجالًا ونساء، شيوخًا وأطفالًا، تُسرق أعمارهم يومًا بعد يوم، في معركة لا تنتهي بين الجلاد والضحية. لكنهم، على الدوام، هم المنتصرون بالكرامة والإرادة.
أولًا: الأسير ابن المخيم: حالة خاصة من النضال
الأسير الفلسطيني ابن المخيم ليس مجرد رقم في إحصائيات الأسرى، بل هو خلاصة تجربة نضالية متكاملة. وُلد على أطراف وطن مسلوب، ونشأ وسط الحصار والقهر والحرمان، وتشرّب الوعي الوطني مع كل لقمة خبز ومشهد شهيد.
حوالي 70% من الأسرى الفلسطينيين هم من أبناء المخيمات، من كافة محافظات الضفة الغربية وقطاع غزة، مما يدل على أن المخيم ظلّ خزانًا لا ينضب للثورة.
ثانيًا: تصنيفات الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال
1. حسب الفئة العمرية:
الأطفال (دون 18 عامًا): يُعتقلون بوحشية، يتعرضون للضرب والتهديد، يُحرمون من التعليم والرعاية، ويُزج بهم في زنازين البالغين.
الشباب (18–35 عامًا): يشكّلون النسبة الأكبر، وهم نبض الحركة الأسيرة ووقود المعارك داخل السجون.
كبار السن (فوق 60 عامًا): يعانون أمراضًا مزمنة، ويُحرمون من العلاج والرعاية في ظلّ إهمال طبي متعمد.
2. حسب الجنس:
الرجال: يشكلون الغالبية الساحقة من الأسرى، موزعين على كافة السجون.
النساء: ما يزيد عن 80 أسيرة، بينهن أمهات، قاصرات، ومريضات. يُمارَس بحقهن التحقيق القاسي، العزل، الإهمال الطبي، والتحرش المعنوي.
ثالثًا: الحياة الاعتقالية للأسرى
الاعتقال: غالبًا ما يتمّ عبر اقتحامات ليلية عنيفة، كسر للأبواب، واعتداء على العائلات أمام أعين الأطفال.
التحقيق: يمتد لأيام أو أسابيع، يُستخدم فيه التعذيب الجسدي والنفسي، الحرمان من النوم، التهديد والشتائم.
المحاكمات العسكرية: صورية، بلا أدلة، تُدار بلغة عبرية، أمام قضاة عسكريين، وتنتهي غالبًا بأحكام جائرة.
رابعًا: الحياة المعيشية داخل السجون
الطعام: سيئ الجودة، قليل الكمية، ويكاد يخلو من أي قيمة غذائية.
الملابس: لا تكفي، ولا تناسب فصول السنة، خاصة في الشتاء القارس.
الزنازين: ضيقة، مكتظة، سيئة التهوية، تغزوها الحشرات، وتغمرها الإضاءة المُرهقة.
الكتب والتعليم: ممنوع في كثير من الأحيان، والتعليم النظامي مفقود.
خامسًا: الوضع الصحي
الإهمال الطبي: سياسة ممنهجة، لا أطباء متخصصين،
مرضى السرطان والأمراض المزمنة: يتعرضون لقتل بطيء، بحرمانهم من العلاج، أو تقديمه بعد فوات الأوان. يُستخدم الإهمال الطبي كأداة عقاب جماعي تهدف لكسر الإرادة.
سادسًا: الحالة النفسية والإنسانية
الحرمان من الزيارات: مئات الأسرى لم يلتقوا ذويهم منذ سنوات، وبعضهم يُحرم حتى من مكالمة هاتفية.
العزل الانفرادي: سلاح نفسي فتاك، يُمارس لشهور وسنوات، يهدف لعزل الأسير عن محيطه وكسر معنوياته.
التفتيش العاري والإذلال: سياسة ممنهجة تُمارس لإهانة الأسرى، خاصة قبل الزيارات أو النقل بين السجون.
قمع الأقسام: اقتحامات مفاجئة، مصادرة للأغراض، ضرب للأسرى، وقطع للكهرباء والماء كنوع من العقوبة الجماعية.
سابعًا: المرأة الفلسطينية في الأسر: أسطورة صمود
الأسيرة ليست مجرد رقم ولا ضحية، بل أيقونة نضال.
اعتُقلت وهي أم، أو طالبة، أو مناضلة في الميدان.
تحمّلت العزل، والتحقيق القاسي، والحرمان من العلاج، لكنها بقيت شامخة.
من بين الأسيرات من أنجبت داخل السجن، ومن خرجت بعد سنوات لتكمل رسالتها النضالية.
هي مرآة فلسطين الصابرة والمكافحة في وجه الاحتلال والظلم المزدوج.
ثامنًا: أسرى الأطفال: البراءة المسلوبة
يُختطف الطفل الفلسطيني من بين لعبه وأحلامه، يُزج به في الزنازين، ويُحرم من التعليم والحياة الطبيعية.
في عمر الزهر يُمارَس عليه العنف الجسدي، والضغط النفسي، والإذلال اليومي، ظنًّا من الاحتلال أنه سيكسرهم.
لكن هؤلاء الأطفال يخرجون من السجن رجالًا، أكثر وعيًا، وأشد انتماءً، وكأن كل وجعهم شَحَن قلوبهم بالإصرار.
تاسعًا: ملاحم الصمود والكرامة
معارك الأمعاء الخاوية: أداة نضال مشرّفة، يخوضها الأسرى لانتزاع حقوقهم. يصومون عن الطعام أيامًا وأسابيع، يضحّون بأجسادهم سلاحًا في معركة الكرامة.
القيادات داخل السجون: كثير من قادة الشعب خرجوا من رحم المخيم إلى زنازين الاحتلال، فصاروا رموزًا، أمثال:
مروان البرغوثي، أحمد سعدات، عبد الله البرغوثي، وليد دقة، كمال أبو وعر (الذي استُشهد بسبب الإهمال الطبي)، وغيرهم من الأبطال الذين يرسمون خارطة الوعي الوطني من خلف القضبان.
خاتمة: الأسرى... ضمير القضية وراية النضال
الأسرى الفلسطينيون، خاصة أبناء المخيمات، ليسوا مجرد أرقام في سجلات الاحتلال.
إنهم المرآة الحقيقية للقضية الفلسطينية، وضميرها الحي.
هم منارات العزة، وروافد الحرية، وسيوف الكرامة التي لم تُغمد رغم ظلمة الزنازين.
قضيتهم ليست قضية إنسانية فحسب، بل قضية تحرر وطني بامتياز.
إن شعبًا لا يُحرر أسراه، لا يُمكن أن يُحرر أرضه.
وما دام في المخيمات طفل يعرف أن الاحتلال ظالم، فستظل السجون ممتلئة بأبطال لا يخشون الموت، لأنهم على يقين أن الحرية قادمة، لا محالة.

مؤسسات الأسرى: واشنطن تعاقب العدالة بمعاقبة ألبانيز
أدانت مؤسسات الأسرى العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على المقرّرة الأممية الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، واعتبرتها خطوة غير قانونية ومخالفة للقانون الدولي والمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان.
وأكدت المؤسسات أن هذه العقوبات تمثّل رسالة تهديد واضحة لأركان المنظومة الحقوقية الدولية، وتشكل محاولة خطيرة لتقويض دورها الأساسي في حماية حقوق الإنسان ومحاسبة منتهكيها.
وأضافت المؤسسات في بيانها أن المقرّرة الأممية ألبانيز تخوض نضالًا حقوقيًا شجاعًا، وأظهرت التزامًا مهنيًا وأخلاقيًا في فضح الانتهاكات والجرائم التي يرتكبها الاحتلال، في ظل استمرار حرب الإبادة الجماعية ضد شعبنا في غزة، والعدوان الشامل على الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما كشفت بشكل واضح تورّط بعض القوى الدولية في دعم هذه الجرائم.
وشدّدت المؤسسات على أن العقوبات المفروضة على ألبانيز تعكس بوضوح دعم الولايات المتحدة لـ "إسرائيل"، ومساعدتها في مواصلة عدوانها على غزة، ما يكرّس دورها كخصم مباشر للعدالة الإنسانية.
وأكدت مؤسسات الأسرى دعمها الكامل للمقرّرة الأممية، التي شكّلت صوتًا وسندًا حقيقيًا للفلسطينيين في ظل العجز الدولي المتعمَّد، الذي مكّن "دولة" الاحتلال من الاستمرار في ارتكاب جرائمها على مدار عقود.
وطالبت المؤسسات المجتمع الدولي، بما يضمه من هيئات ومنظمات، إلى التحرّك الفوري والجاد لإلغاء العقوبات المفروضة على ألبانيز، واتخاذ خطوات حاسمة لحماية النظام الدولي الإنساني من محاولات تقويض دوره ومصداقيته.

الأسير خيري حسن سلامة يدخل عامه الـ 23 في سجون الاحتلال
- يُعدّ من قادة كتائب شهداء الأقصى خلال الانتفاضة الثانية، وحُكم عليه بالسجن المؤبد مدى الحياة.
- تعرّض للاعتقال أول مرة وهو في سن 13 عامًا، وقضى حينها قرابة عامين في الأسر.
- طارده الاحتلال وهدم منزله بعد اندلاع انتفاضة الأقصى، ونجا من عدة محاولات اغتيال.
- ترك خلفه طفلًا وحيدًا أصبح شابًا اليوم، يترقب لحظة لقائه بوالده.
- يُعد من القيادات البارزة في الحركة الأسيرة، وله دور تنظيمي وتعليمي واجتماعي داخل السجون.
- حصل على درجة البكالوريوس في الخدمة الاجتماعية، ويعمل حاليًا على إنهاء رسالة الماجستير.
- فقد والدته يوم 21 آذار 2019 (يوم الأم)، وشقيقه بتاريخ 1 كانون الأول 2023، وحرمه الاحتلال من وداعهما.
- بعد 7 أكتوبر، تعرض لتعذيب شديد وتهديدات متكررة بالاغتيال، وكاد أن يفقد حياته.
- وجّه رسالة في الذكرى الـ 23 لاعتقاله يؤكد فيها تمسكه بالأمل والإيمان بقرب الحرية.

بقلم: أمجد النجار – مدير عام نادي الأسير الفلسطيني
ربّ ضارّة نافعة... شهادة الإعلامي ناصر اللحام من قلب الجريمة في سجن عوفر
كثيراً ما نكتب عن الأسرى، عن معاناتهم، عن تجويعهم وإهمالهم الطبي، عن الأشبال الذين يسلب الاحتلال طفولتهم، عن النساء اللواتي يبعن الحنين والصبر داخل الزنازين، ولكن حين يصبح أحد الشهود على هذه الجريمة إعلامياً كبيراً كـ ناصر اللحام، فإن القصة تأخذ أبعادًا إنسانية وأخلاقية ووطنية عميقة. تسعة أيام قضاها الإعلامي المقدسي البارز، ناصر اللحام، في زنازين الاحتلال، بعد أن اعتقلته قوات الاحتلال دون ذنب سوى كلماته الحرة. تسعة أيام تحوّلت من تجربة اعتقال إلى شهادة حية، نقلت للعالم وجهاً آخر من المعاناة اليومية التي يتعرض لها أكثر من خمسة آلاف أسير فلسطيني داخل سجون الاحتلال، من بينهم مئات الأطفال والنساء والمرضى.
ليس الاعتقال الأول... لكن الألم هذه المرة مختلف
اللافت في تجربة ناصر اللحام، أن هذه ليست المرة الأولى التي يعتقل فيها؛ فهو أسير سابق، اعتُقل شابًا يافعًا (شبلاً) في سنوات النضال الأولى، وقضى سنوات طويلة في سجون الاحتلال، لكنه يؤكد أن ما شاهده في تسعة أيام فقط، فاق كل ما عاشه في سجونه السابقة. هي رسالة من مناضل حرّ وإعلامي كبير، خبر السجن والمواجهة، لكنه صُدم اليوم من هول ما رآه، ومن شراسة الحرب اليومية التي تُدار بحق الأسرى، خاصة الأشبال الذين يُقذفون في الزنازين بلا رحمة ولا قانون.
حين يصبح الألم شهادة، والكلمة مقاومة
لقد شاء القدر أن يضع هذا الصوت الحر، هذا القلم الوطني، داخل جدرانٍ لطالما نقل عنها تقارير وتحقيقات. لكن هذه المرة لم يكن ناقلاً فقط، بل شاهداً حياً على الجريمة. رأى ناصر اللحام بعينيه ما كنّا نحاول إيصاله منذ عقود:
• الإهمال الطبي المتعمد الذي يهدد حياة المئات من الأسرى المرضى.
• التنكيل الوحشي اليومي الذي يتعرض له الأسرى، من مداهمات واعتداءات وقمع جماعي.
• أشبال بعمر الزهور يقبعون خلف القضبان، يتعرضون للتعذيب الجسدي والنفسي، تُسرق منهم طفولتهم ويُقذفون في مواجهة الاحتلال دون أدنى حماية.
الحرية حلمٌ لا ينكسر
ما نقله ناصر اللحام من بين جدران سجن "عوفر"، كلمات تثلج الصدور ولكنها تُغلي الدم في العروق. نقل صوت الأشبال الذين تحدثوا عن آمالهم البسيطة: حرية، دفء عائلة، مقعد دراسي، وسماء دون قضبان. نقل لنا كيف يصمد هؤلاء الصغار وكأنهم جبال، وكيف يحلمون رغم الألم، ويبتسمون رغم القيد. قال ناصر اللحام في لقائه عبر قناة الميادين بعد الإفراج عنه: "دخلت إلى السجن إعلاميًا، وخرجت شاهدًا على جريمة حرب بحق الإنسانية."
رسالة إلى القيادات الفلسطينية والعالم
لعل ما رواه الإعلامي ناصر اللحام يُحرّك هذا الصمت المريب. رسالة إلى كل الضمائر الحية، إلى القيادة الفلسطينية، إلى المؤسسات الدولية، إلى الإعلام الحر:
أسرانا في خطر!
وكل دقيقة تمر دون تحرك فعلي، هي خيانة لصبرهم وصمودهم.
ختامًا... شكراً ناصر اللحام
شكرًا لأنك لم تصمت. شكرًا لأنك نقلت الحقيقة من قلب الجحيم. شكرًا لأنك أثبتّ مرة أخرى أن الكلمة أقوى من الرصاصة، وأن الشهادة الحيّة تُشعل ما لا تستطيع ألف قصة أن توصله.
ألف حمد لله على سلامتك، وتسعة أيام كانت كافية لتُحدث ما عجزت عنه سنوات.
ويبقى الأمل، ويبقى النضال، ويبقى الأسرى عنوان كرامتنا.

تقرير: إعلام الأسرى
حين يصبح الطبيب أسيرًا... والضمير شاهدًا
في زمن الحرب والمجازر، وبين صرخات الجرحى وأنين الأطفال، ينهض اسم الطبيب الفلسطيني حسام أبو صفية كرمز نقيّ للوفاء الإنساني، بعد أن أعلنت مؤسسة محامون من أجل العدالة منحه جائزة نزار بنات لحماية المدافعين عن حقوق الإنسان لعام 2025، تكريماً لشجاعته وإصراره على حماية الحياة تحت القصف والاعتقال.
من هو حسام أبو صفية؟
الدكتور حسام إدريس أبو صفية، مواليد 1973 في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، طبيب متخصص في طب الأطفال وحديثي الولادة.
شغل منصب مدير مستشفى كمال عدوان، وبقي في المستشفى أثناء القصف الإسرائيلي المكثف على شمال القطاع، معالجاً مئات الأطفال رغم فقدانه نجله إبراهيم بقصف مباشر على مدخل المستشفى، ورغم إصابته بشظايا طائرة مُسيّرة. في صباح 27 ديسمبر 2024، اقتحمت القوات الإسرائيلية المستشفى، واعتقلته من بين المرضى، لتنقله إلى المجهول.
أبو صفية بين الضلوع المكسورة والحصار الإداري
لم تكتف سلطات الاحتلال بقصف المستشفى واغتيال ابنه، بل اختطفته من غرفة العمليات، وحولته إلى رقم في سجون العزل والتنكيل.
داخل السجون، خضع أبو صفية لتحقيقات قاسية في "سدي تيمان" ثم "عوفر"، منها جلسات امتدت 13 يومًا بلا توقف، تعرّض خلالها لـ: الضرب بعصي وأدوات صاعقة كهربائية، إجباره على الجلوس مكبلًا على حصى مدببة لساعات، الحرمان من الطعام والنوم، الإغماء بسبب الاختناق وضعف التنفس. ووفق ما أكده محاموه ومركز الميزان لحقوق الإنسان: كُسرت أربعة من أضلاعه، تورمت إحدى عينيه وبدأ يعاني من اضطرابات في الرؤية، فقد 12 كغم من وزنه خلال أسابيع قليلة، بدأت تظهر عليه أعراض تضخم عضلة القلب، ارتفاع الضغط، وفقدان الوعي المتكرر. رغم ذلك، مددت محكمة بئر السبع اعتقاله الإداري في مارس 2025 لستة أشهر إضافية، بموجب "قانون المقاتل غير الشرعي"، وهو تصنيف قانوني إسرائيلي يُستخدم لتجريد المعتقل من أي ضمانات قانونية أو محاكمة. هذه ليست مجرد انتهاكات... هذا نموذج حي للتعذيب البطيء الممنهج"، قالت محاميته غيد قاسم. منظمات دولية مثل العفو الدولية، أطباء من أجل حقوق الإنسان، المرصد الأورومتوسطي، وفرونت لاين ديفندرز، طالبت بالإفراج الفوري عنه، واعتبرت استمرار احتجازه تهديدًا مباشرًا لحياته.

تحت القيد... أطفال بلا تهم خلف قضبان "إسرائيل"
تقرير: إعلام الأسرى
في المعتقلات المظلمة، لا يُسمع سوى صوت أنفاس متقطعة وقلق لا يهدأ. طفل في السابعة عشرة من عمره، أُعتقل في الليل، اقتيد معصوب العينين، ولم يُخبر لماذا. لم يُمنح حق الاتصال بعائلته، ولم يُقابل محاميه. ستة أشهر مرت، ثم توقف قلبه في سجن مجدو... بهدوء، كما تُسلب الحياة من ظل.
حكاية الطفل وليد خالد عبد الله أحمد، والذي من المرجح أن يكون سبب وفاته هو مزيج من الجوع والجفاف بسبب الإسهال الناجم عن التهاب القولون والمضاعفات المعدية، التي تفاقمت جميعها بسبب سوء التغذية لفترات طويلة والحرمان من التدخل الطبي المنقذ للحياة. هكذا تنتهي القصة قبل أن تبدأ، ولا تُشكل استثناءً، بل جزءًا لا يتجزأ من سياسة ممنهجة تمارسها "إسرائيل" بحق الأطفال الفلسطينيين.
تُوثّق مؤسسة "الدفاع عن الأطفال الدولية – فلسطين" أن نحو 37% من الأطفال الفلسطينيين المعتقلين يُحتجزون دون تهم رسمية، فيما يُعرف بـ "الاعتقال الإداري". هذا النوع من الاحتجاز يتم بموجب ملفات سرية لا يمكن للمعتقل أو محاميه الاطلاع عليها، ويُمدّد لفترات مفتوحة دون محاكمة أو لائحة اتهام.
وبموجب المادة (37-د) من اتفاقية حقوق الطفل، يحق لكل طفل الطعن في قانونية اعتقاله، والحصول على تمثيل قانوني فوري، كما يُمنع احتجازه بمعزل عن العالم الخارجي. لكن الاحتلال "الإسرائيلي"، حسب التقارير الحقوقية المتطابقة، يمنع بشكل ممنهج الأطفال المعتقلين من التواصل مع عائلاتهم، ويرفض السماح بزيارات المحامين خلال الأيام الأولى الحرجة للاعتقال، حيث يجري التحقيق المكثف في ظروف قاسية، غالبًا ما تشمل العزل والحرمان من النوم والطعام الكافي.
وما يزيد المشهد وجعًا، هو أن الاحتلال يتعامل مع الأطفال كما يتعامل مع البالغين، في نفس غرف التحقيق، ونفس الزنازين، ونفس المحاكم العسكرية، في انتهاك صارخ لكل الأعراف الدولية. وفي كثير من الأحيان، يُنتزع الاعتراف منهم بالقوة أو بالتهديد، ثم يُستخدم كدليل وحيد ضدهم في المحكمة.
بحسب توثيقات منظمة "بتسيلم" و"هيومن رايتس ووتش"، فإن نحو 500 إلى 700 طفل فلسطيني يُعتقلون سنويًا، ويمر معظمهم بنفس الحلقة المفرغة: اقتحام ليلي، احتجاز دون تهمة، غياب للتمثيل القانوني، وحرمان من رؤية الأسرة. أما النتيجة فهي غالبًا أحكام بالسجن، أو تجديد اعتقال إداري لا يعرف الطفل متى ينتهي.
مكتب إعلام الأسرى يؤكد أن ما يتعرض له الأطفال الفلسطينيون داخل سجون الاحتلال من اعتقال تعسفي، وحرمان من الحقوق الأساسية، وتعذيب نفسي وجسدي، يمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني واتفاقية حقوق الطفل. ويُطالب المجتمع الدولي والمؤسسات الحقوقية بتحمّل مسؤولياتهم القانونية والأخلاقية تجاه هذه الجرائم، والعمل الجاد من أجل حماية الطفولة الفلسطينية من غطرسة الاحتلال وإرهابه المنظم.
ما يُرتكب بحق أطفال فلسطين في السجون "الإسرائيلية" هو انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، يرقى إلى وصفه عقابًا جماعيًا ممنهجًا، واستهدافًا للبراءة كأداة لردع مجتمع بأكمله.
أيهم السلايمة أصغر أسير مقدسي
في ظل واقع مرير تعيشه مدينة القدس المحتلة، لا يسلم حتى الأطفال من بطش الاحتلال "الإسرائيلي". ومن بين هؤلاء يبرز اسم الطفل أيهم السلايمة، الذي تحوّلت طفولته إلى معاناة داخل الزنازين، ليُصبح شاهدًا حيًّا على جرائم الاحتلال بحق الطفولة الفلسطينية.
وُلد الطفل أيهم السلايمة في حي رأس العامود جنوب المسجد الأقصى المبارك، في قلب مدينة القدس المحتلة. نشأ أيهم وسط أزقة الحي العتيق، محاطًا بأصدقائه، وكان يتميّز بروحه المرحة وحبّه الكبير للحياة. من هواياته المفضّلة كانت لعب كرة القدم، وكان يقضي ساعات طويلة يركض خلف الكرة ويضحك مع أقرانه في الحي، متطلّعًا لحياة بسيطة مليئة بالأمل والطموح.
زُجّ به قسرًا في الحبس المنزلي لمدة عام ونصف وهو في الثالثة عشرة من عمره، حُرم خلالها من حقه في التعليم واللعب والتنقل. ثم أجبر الاحتلال ذويه على تسليمه للسجن الفعلي لمدة عام كامل، ولا يزال حتى اليوم معتقلًا في ظروف صعبة في أقسام الأشبال داخل سجن مجدو.
قضية أيهم السلايمة تسلّط الضوء على الانتهاكات "الإسرائيلية" بحق الأطفال الفلسطينيين، وتُعد شاهدًا حيًّا على الظلم الذي يعاني منه أطفال القدس، الذين يُحرمون من أبسط حقوقهم، كالتعليم، واللعب، والحياة الكريمة.
تبقى قصة أيهم السلايمة مثالًا مؤلمًا على الطفولة المسلوبة في فلسطين. فبينما ينعم أطفال العالم بالحرية واللعب، يعيش أطفال القدس تحت سطوة الاحتلال، محرومين من أبسط حقوقهم.
الحرية لأيهم... ولكل أطفال فلسطين القابعين خلف القضبان ظلمًا.

مقابر الأحياء".. استشهاد سمير الرفاعي يفضح آلة القتل البطيء في سجون الاحتلال
استفاق الفلسطينيون على فاجعة جديدة من فواجع منظومة الاحتلال الإسرائيلي، بعدما أبلغت هيئة الشؤون المدنية رسميًّا عن استشهاد المعتقل سمير محمد يوسف الرفاعي (53 عامًا)، من بلدة رمانة في محافظة جنين، بعد مرور سبعة أيام فقط على اعتقاله. هذه الجريمة الجديدة، التي تضاف إلى السجل الأسود لـ "إسرائيل"، تسلط الضوء مجددًا على ما تشهده السجون من جرائم ممنهجة تمارسها سلطات الاحتلال بحق الأسرى، في ظل صمت دولي خانق ومنظومة حقوقية مشلولة تمامًا أمام آلة الإبادة التي لم تتوقف يومًا.
الشهيد الرفاعي، وهو أب لخمسة أبناء، اعتُقل فجر العاشر من تموز/يوليو الجاري من منزله، وكان من المفترض أن تُعقد له أولى جلسات المحاكمة في محكمة "سالم" العسكرية صباح يوم استشهاده. إلا أن جسده المنهك لم يصمد أمام التعذيب والإهمال الطبي، بعد أن حُرم من الرعاية الصحية رغم معاناته المسبقة من أمراض في القلب، بحسب ما أكدته عائلته للهيئات الحقوقية.
إن استشهاد الرفاعي، لا يمكن فصله عن سياق القتل البطيء الذي يتعرض له آلاف الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، لا سيما منذ بدء الإبادة الجماعية في 7 أكتوبر 2023. وتؤكد إحصائيات نادي الأسير الفلسطيني وهيئة شؤون الأسرى والمحررين أن عدد الشهداء من الأسرى منذ ذلك التاريخ ارتفع إلى 74 شهيدًا ممن تم التعرف على هوياتهم، في ظل استمرار جريمة الإخفاء القسري، ما يجعل هذه المرحلة الأكثر دموية في تاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية. وباستشهاد الرفاعي، يرتفع عدد شهداء الحركة الأسيرة المعروفين منذ عام 1967 إلى 311 شهيدًا.
استشهاد لؤي نصر الله.. اعتقال إداري يتحوّل إلى حكم بالإعدام
ما يجري داخل السجون ليس مجرد "إهمال طبي" أو "تقصير إداري"، بل سياسة قتل ممنهجة تستخدم أدوات متعددة، أبرزها التعذيب الجسدي والنفسي، التجويع، التكديس في الزنازين، العزل الطويل، والحرمان من الدواء. وتشير تقارير متعددة إلى انتشار أمراض خطيرة ومعدية بين الأسرى كـ "الجرب"، نتيجة تكديس المعتقلين في ظروف لا إنسانية وغياب تام للمعايير الصحية.
وفي هذا السياق المظلم، لم يكن استشهاد الشاب لؤي فيصل نصر الله (22 عامًا) من جنين، إلا حلقة أخرى من حلقات هذا الاستهداف الممنهج. فقد استشهد نصر الله في مستشفى "سوروكا" الإسرائيلي بعد اعتقاله إداريًا منذ مارس 2024، دون توجيه تهمة أو محاكمة. وتم نقله إلى المستشفى بشكل مفاجئ وسط تعتيم كامل، ما يعزز احتمالية تعرضه لتعذيب أو إهمال طبي أدى إلى وفاته.
قضية الأسرى باتت جرحًا نازفًا يتوسع كل يوم في جسد الشعب الفلسطيني، في وقت لا تزال فيه مؤسسات العدالة الدولية تكتفي ببيانات القلق. وتتحمل "إسرائيل" المسؤولية الكاملة عن هذه الجرائم، بدءًا من سياسات الاعتقال الإداري دون محاكمة، مرورًا بالإهمال الطبي، ووصولًا إلى التصفية الجسدية للأسرى، في ظل إفلات كامل من العقاب، وغياب أي مساءلة دولية جدية.
حملات اعتقال جماعية.. سياسة ممنهجة لردع أي حراك مقاوم
من جهته، كشف مركز فلسطين لدراسات الأسرى عن أن الاحتلال نفّذ أكثر من 18 ألف عملية اعتقال في الضفة الغربية خلال أقل من عامين، تركزت غالبيتها في جنين ونابلس وطولكرم. وأشار إلى أن الاعتقالات اليومية الجماعية تهدف إلى كسر إرادة الفلسطينيين، وخلق حالة ردع ومنع لأي حراك مناهض للاحتلال، عبر ترويع العائلات وتحطيم الممتلكات واستخدام المعتقلين كدروع بشرية.
حرّ الصيف يزيد المعاناة.. الأسرى بين الجفاف والأمراض والعزل
وبالتوازي، تتفاقم معاناة الأسرى مع دخول فصل الصيف، حيث تنعدم وسائل التهوية والتبريد داخل الزنازين، وتنتشر الأمراض الجلدية والتنفسية، بينما تصر إدارة السجون على تجاهل هذه الظروف المتدهورة. ويُحرم الأسرى من المياه الباردة والزيارات العائلية، في سياسة عزل شاملة تهدف إلى كسر الروح المعنوية داخل المعتقلات.
لقد باتت السجون الإسرائيلية تمثل نموذجًا مركزيًا لسياسة الإبادة التي تمارسها "إسرائيل" ضد الشعب الفلسطيني، ليس فقط في ميادين القصف والهدم، بل في الزنازين التي تحولت إلى مقابر للأحياء. وإن استشهاد سمير الرفاعي ولؤي نصر الله يحمّلان المجتمع الدولي مسؤولية قانونية وأخلاقية لم تعد تحتمل التأجيل.
فالوقت لم يعد يسمح بالاكتفاء بالمطالبات والنداءات. هناك حاجة ملحّة لتدويل قضية الأسرى، وتحويلها إلى أولوية على أجندة مجلس حقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية، وفرض عقوبات ملموسة على دولة الاحتلال. لأن الصمت على القتل البطيء، هو اشتراك في الجريمة.

الأسير المحرر القائد عبد العظيم عبد الحق حسن لـ "الأيام نيوز": "حريتي مغمسة بالدم ومشفوعة بالألم... وافقت سقوط آلاف الشهداء من أطفال ونساء غزة"
أجرى الحوار: سعيد بن عياد
تحرر الأسير عبد العظيم عبد الحق حسن قبل شهور من سجون الاحتلال ضمن صفقة تبادل أسرى وتم أبعاده الى مصر هو من بلدة قصرة جنوب نابلس اعتقل عام 2000 وحكم عليه بالسجن 34 عاما أمضى منها 25 عاماً داخل سجون الاحتلال واعتقل مرتين إبان انتفاضة الحجارة ليبلغ مجموع سنوات اعتقاله 30 عاما.. طفلته "سارة" ابنة العامين استشهدت خلال انتفاضة الأقصى – أطلق الأسير عبد العظيم عبد الحق كتابه "ماهية العلاقة بين الدين والعلمانية وآثارها على المجتمعات العربية والإسلامية". الأسير الكاتب عبد العظيم عبد الحقّ ابن قرية قصرة، أحد قادة حركة "فتح"، قرر أن يكون في طليعة المنتفضين منذ انتفاضة الأقصى عام 2000، ومن أوائل معتقليها، إذ اعتقل بتاريخ 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2000، وحكم بالسجن لمدة 34 عاماً، وكان هذا الاعتقال الرابع، وأمضى ما مجموعه 28 عاماً في الأسر. هو المثقف الواعد والناقد الفذ، والكاتب المحصن بالمعرفة والإصرار، حاصل على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة القدس، والماجستير في الدراسات الإسرائيلية. اهتماما بنضالات الأسرى ودورهم في ديناميكية المقاومة أجرت الأيام نيوز حوارا مع الأسير عبد العظيم عبد الحق حسن يتحدث من خلاله عن معاناة الأسرى في سجون الاحتلال ودرجة صمودهم في مواجهة مختلف أنواع التعذيب النفسي والجسدي مبرزا تضحيات الأسرى الشهداء الذين سلموا مشعل الصمود للأجيال لتبقى القضية في قلب كل فلسطيني الى أن تتحرر الأرض ويتخلص الإنسان من أغلال الاحتلال الذي مآله الزوال حتما وهي ذات القناعة الراسخة في وجدانه في رحلة الإبعاد من أرض الآباء والأجداد ليواصل الرسالة المقدسة عنوانها فلسطين حرة مستقلة.
1 - بعد ثلاثة عقود من الاعتقال، جاء الإفراج مصحوبًا بالإبعاد القسري عن فلسطين. كيف عشت لحظة الحرية المشروطة بالنفي؟ وهل يشكّل الإبعاد انتقاصًا من نضالك أو من رسالتك الوطنية؟
تلقيت خبر الإفراج كما يتلقاه العطشان بشارة المطر، ولكن على نفس هذه البشارة، وعلى ذات لحظة الفرح، خيّم حزن ثقيل، لأن حريتي جاءت مغمسة بالدم، ومشفوعة بألم لا يُحتمل، فقد وافق خروجي من السجن سقوط آلاف الشهداء من أطفال ونساء غزة، تحت نيران حرب مجنونة لا تفرق بين بيت وملجأ، بين رضيع ومقاتل. ثم جاءت الغصة الثانية، غصة الإبعاد. سرعان ما اختلطت فرحتي بغصة النفي، حين أدركت أن قدري لم يكن الحرية التامة، بل حرية مشروطة بالاقتلاع من أرضي، من حجارة سجن نفحة، وعسقلان، وجلبوع، وسجن النقب، وهداريم... تلك الجدران التي حفرت فيها سنوات عمري، وتلك الزنازين التي حفظت فيها ملامح الوجع، وأسماء الرفاق، وأحلام الحرية. لكن، لا... لا ينال ذلك من إرادة المناضل شيئًا. فالإبعاد لا يُقصي الانتماء، والغربة لا تُطفئ جذوة الإيمان بالقضية. إنهم يظنون أن الإبعاد يُسكت الصوت، أو يُفرغ القلب من حبه الأول، ولكنهم لا يعلمون أن المناضل لا يقيمه المكان، بل تُقيمه الفكرة التي يحملها. وقد علّمتني السجون أن الوطن ليس حدودًا فقط، بل هو ذاكرة وموقف وشرف الانتماء. وإن غُيّبتُ عن الأرض، فلن أغيب عن حقها، ولن أصمت عن وجعها، ولن أكون إلا ابنًا لها، حتى وإن حملتني المنافي بعيدًا.
2 - الإبعاد، القسري، رحلة مؤلمة أخرى في حياة المناضل عاشق للقضية الفلسطينية، كيف تتصور المستقبل.؟
الإبعاد القسري ليس نهاية الحكاية، بل فصل مؤلم آخر في كتاب النضال الفلسطيني. هو لحظة فُرضت على الجسد، لكنها لم تُخضع الروح، ولم تُغيِّب البوصلة. فالمناضل الذي عشق قضيته لا ينكسر بالغربة، بل تتجذر فيه الأرض كلما ابتعد عنها، ويتجدد العهد كلما طال الطريق. والمستقبل؟ أراه واضحًا في قلبي وعقلي ووجداني، لا غموض فيه ولا تردد. أراه في العودة إلى القدس، ليس حلمًا بعيدًا، بل يقينًا يسكن قلبي. أعود إليها لا زائرًا، بل ابنًا عاد إلى حضن أمه. أعود إليها مع شعبٍ آمن بحقّه، وناضل من أجل كرامته، وصبر على الجراح، فاستحق الحياة.
أنا لا أرى المنفى إلا سحابة صيف،
وسينقشع الظلم،
وسنصلي في الأقصى،
ونمشي في شوارع القدس كما يليق بأصحاب الأرض.
3 - صف لنا مشاهد عن حياة الأسير في زنازين الاحتلال.. وما هي الممارسات التي بقيت راسخة في ذهنك بالرغم من معانقة الحرية في انتظار حرية الوطن.؟
الحياة في الزنازين لا تُروى، بل تُعاش بأعصاب مشدودة، وقلب يتعلم كيف ينبض رغم الضيق. الزنزانة الضيقة ليست مجرد غرفة، بل عالم مغلق على الألم والصبر. جدران رمادية صماء لا تعرف الشمس، نافذة صغيرة لا تكشف إلا طرف السماء، فرشة مهترئة لا تليق بجسدٍ أنهكه التحقيق، ورائحة رطوبة تسكن في الأنفاس. الليل فيها طويل، يمرّ بطيئًا كأنه لا يريد أن ينتهي، يتخلله صوت المفاتيح في الأقفال، أو صراخ سجان، أو أنين رفيق يتقلب على أوجاعه. ومع الفجر، يبدأ الأسير يومه بنداء يؤذن من أعماق القلب، بدعاء جماعي يعلو على الصمت، بتمارين في مساحة لا تتسع لجسدين، وبكلمات تحفظها الجدران من كتاب الله أو من رسالة مهربة بين الزنازين. هكذا كان الوقت يُقتسم، لا كما يُقتسم الخبز فحسب، بل كما تُقتسم الروح في زمن المحنة. ومن الممارسات التي لا تُنسى في الأسر، تلك التفاصيل التي كانت تبدو بسيطة لكنها كانت تحمل الحياة كلها: تبادل الرسائل خلسة بين الزنازين كأنها أنفاس الحرية، دق الجدران بلحنٍ يحمل في نغماته نبض الرفاق، شرب الشاي معًا كطقسٍ يومي يمنح الدفء في عالمٍ بارد، والاستماع إلى حكايات الأسرى القدامى وكأنها دروس من مدرسة الصبر والثبات والصمود.
4 فقدت الحركة الأسيرة المئات من الشهداء نتيجة الإهمال الطبي والتعذيب الممنهج. ما أبرز الشهادات الحيّة التي لا تزال عالقة في ذاكرتك؟ وهل ترى ضرورة لتوثيق هذه التجارب من أجل الأجيال القادمة والتاريخ؟
نعم، فقد استشهد فقط بعد السابع من أكتوبر وحتى الأن داخل السجون الصهيونية، اربع وسبعون شهيد، وكيف لي أن أنسى؟ لقد عرفتهم لا كأسماء، بل كأرواح نذرت عمرها لفلسطين، وعشت معهم تفاصيل الصبر والمقاومة. أتذكر الشهيد القائد الكبير وليد دقة، صاحب الفكر والوجع، وناصر أبو حميد الذي قاوم المرض كما قاوم الاحتلال، ورفاقهم خالد الشاويش، محمد الخطيب، كمال أبو وعر، وسامي أبو دياك، الذين ارتقوا شهداء في معركة قاسية مع الإهمال الطبي والتعذيب. لقد قدمت الحركة الأسيرة أكثر من 300 شهيد داخل السجون، قضوا في صمت مدوٍّ، كلٌّ منهم قصة لا تُنسى ووجع لا يزول، وحكاية بطولة تتوارثها الأجيال. نحن لا نكتب عنهم، بل نكتب بهم، ولا نوثق فقط، بل نحمل الرسالة. هؤلاء ليسوا ماضينا فقط، بل نور مستقبلنا… ولهذا نروي ونسجل، كي لا يُقال يومًا إنهم رحلوا بصمت.
5 - بعد 7 أكتوبر، تصاعدت الإجراءات الانتقامية بحق الأسرى بإشراف مباشر من إيتمار بن غفير. كيف تصف واقع السجون بعد ذلك التاريخ؟ وما مدى صمود الأسرى نفسيًا وسلوكيًا في وجه هذه الحملة، وهل لذلك أثر على عقلية السجّان وسلوكه؟
منذ السابع من أكتوبر 2023، تحوّلت السجون الإسرائيلية إلى ساحات انتقام جماعي بإشراف مباشر من السفّاح المتطرف إيتمار بن غفير، الذي أطلق العنان لحقده الدفين ضد الأسرى الفلسطينيين. تمثّلت هذه الهجمة في التضييق الشديد على الأسرى: قطع الكهرباء والماء، حرمان من العلاج والزيارة، مصادرة الملابس والأغطية، منع الطعام الكافي، ونقل جماعي تعسّفي داخل السجون، فضلًا عن الاعتداءات الجسدية والنفسية. ورغم هذا الجحيم اليومي، فقد تجلّت المقاومة بأبهى صورها، إذ قابل الأسرى هذه الانتهاكات بصبر وثبات وإرادة لا تلين. قاوموا بالعزلة والصمت، وبالإضرابات الفردية والجماعية، وبتمسكهم بهويتهم الوطنية وروحهم الجماعية. تحوّلت الزنازين إلى مدارس صبر، وكل لحظة قهر إلى وقود جديد في معركة الكرامة.
الأثر النفسي كان بالغًا، لكن بدل أن تنكسر النفوس، صقلها الألم فازدادت صلابة. لقد حاول السجان أن يكسر الإرادة، فخرج بأسير أكثر وعيًا، وأشد بأسًا، وأقرب إلى الحرية التي باتت تنبض في كل خلية من جسده.
6 - في ظل الحصار الإعلامي داخل السجون، كيف كنتم تتابعون تطورات حرب الإبادة في غزة والانتهاكات في الضفة؟ وما الأثر النفسي لهذه الصور على الأسرى؟
بالرغم من الحصار والمنع الإعلامي الصارم الذي يُفرض علينا كأسرى في سجون الاحتلال، كنا نتابع مجازر الإبادة في غزة وعمليات القتل والهدم في الضفة من خلال بعض السجّانين الذين، وفي لحظات نادرة، كانوا يسربون لنا أخبارًا أو صورًا عبر هواتفهم خلسة، وكأنهم - دون قصد - يكشفون لنا وجع شعبنا وألمه. كانت تلك الأخبار تصلنا كالخناجر، تهزّ أرواحنا ولا نجد ما نواجه به سوى الصبر والدعاء. ومع ذلك، لم نطلب يومًا أن تُشن الحروب أو أن تراق الدماء من أجل حرية الأسرى، فنحن لم ندخل السجون إلّا لأننا اخترنا أن نضحي من أجل شعبنا واستقلال وطننا، لا أن نحمّله عبء حريتنا.
7 - مع كل هذا فقدت طفلتك شهيدة ذات 3سنوات اغتالها المستوطنون العنصريون، ماذا يمثل ذلك لما تشاهد ذات الجريمة تتواصل في غزة والضفة، ماذا تقول لأطفال فلسطين.؟
استشهدت طفلتي سارة، وكانت في عمر الزهور، لم تبلغ بعدُ الرابعة من عمرها، اغتالها مستوطنون مجرمون عام 2000، ومع كل جريمة جديدة أراها تُرتكب بحق أطفال غزة أو الضفة، أشعر أن سارة تُقتل من جديد. لم تكن تلك الرصاصة فقط التي اخترقت جسدها الصغير، بل ما زال الجرح ينزف منذ ذلك اليوم حتى الآن، لأن القاتل ما زال حراً، والسلاح ذاته يُوجه لصدور أطفالنا. أقول لأطفال فلسطين، أنتم النور الذي لا ينطفئ، أنتم الحلم الذي يحمله الشهداء على أكتافهم الصغيرة. لا تخافوا، فأنتم لستم وحدكم، دموعكم في أعيننا، وصرخاتكم في قلوبنا، وذكراكم ستبقى تسكن وجداننا حتى يتحقق العدل، وتشرق شمس الحرية فوق أرضنا. كونوا كما أنتم... ناصعي القلب، أقوياء رغم الألم، واجعلوا من براءتكم رايةً لا تنكسر، فأنتم جيل العودة، جيل الحق الذي لا يُهزم.
8 - في ظل التحولات الكبرى التي فرضتها حرب الإبادة، هل باتت الحاجة لوحدة الصف الوطني أكثر إلحاحًا؟ وكيف تنعكس ذهنية الانقسام داخل السجون؟ وما رسالتك للفصائل الفلسطينية لاستثمار تضحيات الشعب وتعزيز رصيد المقاومة؟
لا شك أن المشهد الفلسطيني بعد حرب الإبادة على غزة يفرض علينا وقفة وطنية صادقة، لكن ما نحتاجه اليوم ليس "مقاربة جديدة" بمقدار ما نحتاج إلى مراجعة حقيقية لمسار الانقسام الذي بدأ منذ أن رفضت حركة حماس منذ نشأتها أواخر عام 1987 الانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية، أو الدخول في إطار القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة الأولى. ومع قدوم السلطة الوطنية إلى أرض الوطن بمشروع السلام عام 1994، صعّدت حماس من نهجها بالعمليات داخل دولة الاحتلال، لا في سياق استراتيجي لتحرير الأرض، بل في سياق تنافسي استهدف إضعاف المنظمة أمام العدو وأمام المجتمع الدولي، وهو ما أسهم في صعود اليمين الإسرائيلي على حساب معسكر السلام. وتوّجت هذا المسار بانقلابها الدموي عام 2007، الذي خلّف مئات الشهداء الفلسطينيين وأدخل القضية الوطنية في انقسام ثنائي مرير طال حتى الحركة الأسيرة داخل سجون الاحتلال. إن ما نعيشه اليوم لا يحتاج إلى تنظيرات جديدة بقدر ما يحتاج إلى صدق في الاعتراف بالأخطاء، خصوصًا أن الإخوة في حركة حماس عادوا وقبلوا بما أعلنت عنه منظمة التحرير منذ العام 1988، من إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967، وذلك بعد عام 2014، بعد أن أُهدرت سنوات طويلة من الشكّ والطعن والاتهام. ثم ها هم اليوم يفاوضون على إدخال المساعدات والخبز، في وقتٍ أصبحت فيه غزة، التي قيل إنها "محررة"، تحت الاحتلال من جديد. ولعلّ السؤال الذي لا بد أن يُطرح بجرأة وصدق: كيف تُخاض حربٌ كبرى في 7 أكتوبر ونحن منقسمون؟ وكيف نغامر في ظل انكشاف الأمة العربية، وتراجع التأثير الإسلامي، وواقع دولي منحاز بالكامل لإسرائيل؟ الوحدة ليست أمنية، بل قانون نصر في كل الثورات، بل في ديننا الذي ننتمي إليه. فلا انتصار بدون وحدة، ولا مقاومة فاعلة بدون صف وطني واحد.
ورسالتنا اليوم إلى شعبنا، بكل أطيافه وفئاته، أن نبتعد عن الشعارات البراقة، وعن استغفال الناس واستغلال عواطفهم الدينية والوطنية. فالقيادة مسؤولية، والسياسة ليست مساحة للمزايدات أو المغامرات، بل هي فن الممكن، وتحقيق أكبر المكاسب بأقل الخسائر. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية – ممثلنا الشرعي والوحيد – ولا تزال الطريق الأكثر واقعية نحو تحقيق أهدافنا الوطنية.
وعماد هذه المنظمة هي حركة فتح، التي لم تكن يومًا إطارًا أيديولوجيًا مغلقًا، بل تيارًا وطنيًا عريضًا يتسع لكل الفلسطينيين، بغض النظر عن انتماءاتهم الفكرية أو الدينية. فتح رفعت دائمًا راية الوطن فوق كل راية، ولم تُقصِ أحدًا، بل فتحت أبوابها للحوار، والتنوع، والشراكة. وهي التي جسّدت معنى المسؤولية الوطنية، لا بالمزايدات، بل بالفعل السياسي والنضالي والإنساني المتوازن. وقد تبنّت على الدوام شعارًا واقعيًا: لنصطاد الدب أولًا، ثم نتقاتل على جلده إن أردنا.
9 - على الصعيد الشخصي ما الفرق بين شخصية السجين قبل الاعتقال وخلاله وبعد الإفراج والإبعاد؟
قبل الاعتقال كنتُ أرى النضال عملاً فدائياً مباشراً؛ تشتعل فيه العاطفة والاندفاع، ويقوده إيمانٌ راسخ بأن التضحية الجسيمة هي أقصر الطرق لانتزاع الحرّيّة. حملتُ السلاح وقلمي معاً، وأحسستُ أنّ كلّ لحظةٍ خارج الفعل الثوري هي لحظةٌ مهدورة من عمر الوطن.
خلال الاعتقال وداخل السجن أُجبرتُ على إعادة ترتيب أولويّاتي الروحيّة والفكريّة. تحوّل الزمن من ساحة اشتباكٍ إلى مدرسةٍ داخليّة: تعلّمتُ الانضباط، وأدركتُ أنّ المقاومة لا تتوقّف عند أسوار الزنازين بل تتشكّل فيها، بالوعي أوّلاً ثم بالفعل الجماعي ثانيًا. في الزنزانة اكتشفتُ قيمة الاستماع، قوة الكلمة، وقدرة الصبر الطويل على صنع معجزةٍ صغيرة كلّ يوم.
بعد الإفراج والإبعاد، الخروج لم يكن عودةً إلى الحياة السابقة، بل ولادةً ثالثة مشوبةً بمرارة النَّفي. أصبحتُ أحمل على عاتقي أمانةَ مَن ظلّوا خلف القضبان، وأتصرّف بوَعْيٍ أعمق لمسؤوليّة تمثيلهم وصون تضحياتهم. الإبعاد وسّع رؤيتي للعالَم وأكّد لي أنّ مكانَ المناضل الحقيقي هو بين أهله وقضيّته، وإن باعدت بيننا المسافات؛ لذلك أعمل اليوم بالكلمة والتنظيم والتواصل الإنساني كي أبقى لصيقًا بفلسطين مهما تناءت.
جوهرُ الإنسانِ فيّ ما تبدَّل،
لكنّ التجربةَ صاغتْني من نارٍ وماءْ،
صارتْ خطايَ أكثرَ وَعياً،
وصمتي أبلغَ من آلافِ النداءاتْ.
أحملُ الحُلُمَ لا كطيفٍ عابر،
بل كزيتونةٍ تشبّثَتْ بجذرِها في العاصفة،
وأمضي بثباتِ الجبل،
لا أغراني ضوءٌ، ولا أطفأني ظلامْ.
ما زلتُ ذلكَ الفدائيَّ القديم،
لكن بعيونٍ رأتْ سجونًا وأحلامًا تنهضُ من رُكامْ،
وإيماني أن النصرَ يولدُ
حين ننتصرُ على اليأسِ فينا،
قبل أن نُمسِكَه في الميدانْ.
10 شهدنا خلال الحرب الأخيرة موجة تضامن شعبي عالمي واسعة مع الشعب الفلسطيني. كيف تلقيتم هذه المشاهد من خلف القضبان؟ وما الذي مثّله لكم هذا الدعم الإنساني وأثره داخل السجون؟
من خلف القضبان، ونحن نتابع موجة التضامن العالمي الجارف مع شعبنا الفلسطيني في غزة والضفة والشتات، تفيض مشاعرنا بتقدير عميق لهذا الصوت الإنساني الحرّ الذي ارتفع من شوارع العالم، من طلاب الجامعات وحرّاس العدالة في النقابات، ومن شعوب هزّها الدم الفلسطيني المسفوح على مرأى العالم. نثمّن هذا التضامن عاليًا، ونشعر أنه يضمّد جراح العزلة ويكسر القيد الرمزي المفروض علينا. لكن في الوقت ذاته، ومن موقعنا كمقاومين نعيش تجربة الصراع من أقسى زواياه، ندرك أن هذا التضامن وحده، مهما كان نبيلًا، لا يُغيّر المعادلات على الأرض، لأن الخلل الحقيقي يكمن في بنية النظام الدولي نفسه. هيئة الأمم المتحدة التي تأسست عام 1945 على أنقاض حرب كبرى بهدف حفظ السلم والأمن الدوليين، أثبتت فشلها الذريع في وقف الإبادة الجارية بحق شعبنا، والسبب ليس في غياب الإرادة الأخلاقية، بل في خلل بنيوي عميق. فكيف يعقل أن قارة كاملة كإفريقيا، أكبر من أوروبا وأمريكا، لا يوجد لها ممثل دائم واحد في مجلس الأمن، المجلس الذي تُتخذ فيه أخطر القرارات؟! وكيف يقبل العالم بنظام قائم على ما يُسمى بـ"الفيتو"، حيث تُجهَض عشرات القرارات لصالح شعبنا، بلمحة رفض واحدة من دولة واحدة، غالبًا ما تكون الولايات المتحدة؟! هذا ليس فقط ظلمًا، بل سخرية من فكرة العدالة ذاتها. نحن لا نقلل من شأن التضامن، بل نقدره ونعتز به. لكنه لن يصبح قوة تغيير حقيقية ما لم يُكسر هذا النظام الدولي الأعور، ويُعاد تأسيسه على مبدأ المساواة بين الشعوب، لا على امتياز الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.
11 - ما هي رسالتك إلى الشعب الفلسطيني وأحرار العالم ؟
إلى شعبي العظيم في كل أماكن وجوده…تمسكوا بسلطتكم الوطنية الفلسطينية، فهي ليست تفصيلاً عابرًا في تاريخ كفاحنا، بل هي الشوكة الحقيقية في حلق الاحتلال، والعنوان السياسي الأبرز لحقنا في تقرير المصير. قد تعتري المسيرة أخطاء أو مظاهر فساد، كما يحدث في كل التجارب البشرية، لكن علينا أن نمتلك الوعي الذي يُفرق بين الكيان الوطني الجامع، وبين الأخطاء التي يمكن إصلاحها. فالهدم ليس شجاعة، والضياع ليس بديلاً عن الغضب. فلنحمل مسؤوليتنا الوطنية بأمانة، ولنرمم بيتنا من الداخل، بدل أن نتركه نهبًا لرياح الانقسام والتيه.
وإلى أحرار العالم…
نحن لا نقاتل فقط من أجل فلسطين، بل من أجل العدالة على هذه الأرض. نحن شعبٌ يرى الإنسان أخًا للإنسان، أينما كان، وأيًا كان دينه أو لونه أو عرقه. نؤمن بأن الحرية لا تتجزأ، وبأن كرامة الإنسان لا تُصان إلا إذا صينت كرامة الجميع. في كل معركة نخوضها ضد الاحتلال، نرفع راية أوسع من حدود الوطن، راية الحق الإنساني، الذي لا يزدهر إلا إذا سقطت أنظمة القمع والعنصرية والتمييز من العالم كله. فإن كنتم تبحثون عن العدالة في هذا العالم، ستجدون فلسطين واقفةً في مقدمتها، بدمها وصبرها وحلمها العنيد.
وفي الختام، أتوجه بجزيل الشكر والامتنان لجريدة "الأيام نيوز" الجزائرية، التي منحتني هذه المساحة الكريمة لإيصال صوت الأسرى، وتسليط الضوء على معاناتهم وآمالهم. كل الاحترام لهذا المنبر الحر، ولكل قلم صادق يقف إلى جانب الحق والكرامة.

بقلم: حسن عبادي| حيفا
متنفَّس عبرَ القضبان (127)
بدأتُ مشواري التواصليّ مع أسرانا الأحرار رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019 (مبادرة شخصيّة تطوعيّة، بعيداً عن أيّ أنجزة و/أو مؤسّسة)؛ ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة بعد كلّ زيارة؛ أصدرت كتاباً بعنوان "زهرات في قلب الجحيم" (دار الرعاة للدراسات والنشر وجسور ثقافيّة للنشر والتوزيع) وتناولت تجربتي مع الأسيرات حتى أواخر شهر آذار 2024، حين تمّ منعي من الزيارات، وتم لاحقاً إبطال المنع بعد اللجوء إلى القضاء. ونشرت في حينه خاطرة بعنوان "صفّرنا الدامون"... وخاب أملي. عُدت لزيارة الدامون لمواكبة وضع حرائرنا كي لا تستفرد بهنّ سلطة السجون؛ وجدت الوضع مأساويّاً تقشعرّ له الأبدان، شهادات حول التفتيش العاري الذي صار نهجاً، والتجويع الممنهج، والتركيع المهين، ونحن صامتون صمت أهل القبور. عقّب المحامي عبد القادر أبو فنّه: "أحييك على زيارة الأسيرات ورفع معنوياتهنّ وكشف المعاملة الوحشيّة واللا إنسانيّة لسلطات السجون والاحتلال. هذا عمل وطني وإنساني من الطراز الأوّل." وعقّبت فاطمة جوهر من الشتات: "لا بدّ لليل أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسر. ألف تحيّة إجلال وإكبار وامتنان للمجاهد الأستاذ حسن عبادي لجهوده المضنية في هذا الحقل، الحريّة للأسيرات الوطنيّات، هذه ضريبة العشق للوطن. الحريّة لكنّ يا حفيدات الخنساء وخولة وسمية - قريباً إن شاء الله". وعقّبت الأسيرة المحرّرة شروق شرف: "الله يفرج عنها يا رب. طلبنا منهم مشّاطات قالوا ممنوع... كنا نمشّط بشوكة بلاستيك… والمرايا صادروهم ممنوعين. وأواعي الصلاة طالبنا فيهم 8 شهور، واللي ست شهور مروحة وهي كماهم، ما جابوا. الله يعينهم يا رب ويفرجها عليهم. الله يجزيك الخير ويعطيك الصحة والعافية يا أستاذ، وكل عام وأنت بخير". وعقّبت الأسيرة المحرّرة آلاء شاهين: "يسعد صباحك، كل يوم بغسل وجهي بدموع، أستاذ حسن. ما أصعب الدامون! وما أحقر القمعات فيه! كانوا الفجر قمعاتهم وضرب وصراخ طول القمعة اللي مدّتها ممكن تكون ساعتين متتاليتين. وأم خليل، الله يعينها، دايماً ماسكة القرآن وتقرأ بالغرفة، وكانت دايماً تحكيلي: بس أحفظ، بنسى. بطلت أذكر شي وبضل تفكّر بأحفادها طول الوقت. الله المستعان. وإحنا في الدامون، كانوا البنات دايماً يذكروك ويحكوا: الله يرحم أيامك يا أستاذ حسن".
وعقّبت المحامية أماني رضوان (أخت الأسير المحرّر إياد): "اللهمّ الفرج لجميع أسرانا وأسيراتنا عاجلاً غير آجل يا رب. أستاذنا الرائع حسن عبادي، وصاحب البصمة الإنسانيّة والحنونة لكلّ الأسرى. شهادتنا فيك مجروحة. دائماً أهالي الأسرى ما بنسوا وقفاتك الجدعة معهم، وما بنسوا كلماتك المؤنسة والمطمئنة لقلوبهم. كنت وما زلت السند للجميع. الله يعطيك الصحة والعافية، وربنا يبارك لك في أهلك وعيلتك وأحبابك، ويديمك عوناً وسنداً لكل الأسرى. سلام خاص جداً إلك من الأسير المحرّر إياد رضوان الطبنجة، ودايماً بذكرك بكلّ الخير". وعقّبت أمال شيخة (والدة الأسيرة كرمل): "كلّ الامتنان للمحامي حسن عبادي، الذي لم يحمل رسالتنا إلى ابنتنا في سجن الدامون فحسب، بل حمل معها دفء قلوبنا وصدق مشاعرنا، وأوصلها بأمانة ووفاء يستحقّان كلّ التقدير".
بفائِل البنات
زرتُ عصر الأربعاء 04 حزيران 2025 سجن الدامون في أعالي الكرمل السليب لألتقي بالأسيرة ماسة عمار حسن غزال (مواليد 16.08.2002)، جامعيّة، خرّيجة علاقات عامّة واتصال، من نابلس. حدّثتني عن زميلات الزنزانة رقم 4 (ريهام موسى، بشرى قواريق، تسنيم عودة، ولاء حوتري وسارة همشري) وباقي الأسيرات. حدّثتني بتفاصيل الاعتقال؛ الواحدة والنصف بعد منتصف ليلة 28.04.2025، "15-20 مجنّداً، ترافقهم مجنّدتان، فتّشوني وربّطوني بوحشيّة وعصّبوا عينيّ، وأخذوني لحوارة، ومنها إلى أريئيل، إلى سجن هشارون، ومنه إلى الدامون". الوضع في سجن الدامون سيّئ جداً، معاملة السجّانات دِفشِة، ضرب وصياح كلّ الوقت، الأكل بقوليات، أحياناً بيض/ بندورة/ خيار خربانين، والحليب طالعة ريحته، وكميّات قليلة جداً، غيارات قليلة، نقص أواعي الصلاة مأساوي، وما في خصوصيّة. كانت مكلبشة بالإيدين وقت الزيارة (تشديدات وتنكيل ما بعد السابع من أكتوبر) الإهمال الطبّي صارخ، والعلاج: "اشربي ميّة، وبأحسن الحالات حبّة أكامول". فش معنا ساعات يد، بخربشوا أوقات الصلاة بشكل متعمّد، مصحفين لكل البنات، وفي غرف بدون مصحف. صابونتين للغرفة لكلّ الأسبوع، فش مشاطة شعر وفش مراية، عقابات عالطالع والنازل، وكلّ الوقت مسبّات وشتائم من السجّانين. تخبر والدها "كل يوم بنصلّي قيام ليل قبل صلاة الفجر، بنقرأ أذكار الصباح"، تقرأ سورة البقرة يومياً، وكذلك 7 منجيات؛ الدخان، السجود، الرحمن، الواقعة، ياسين، المُلك والحشر. خبّر الكل: "نفسيّتي كثير منيحة وبفائِل البنات". طلبت إيصال رسائل ومعايدات للعائلة، ولحليمة "رحت على غرفة 5 وشفت شو كانت تكتب ع الحيط"، ولصديقاتها ماسة وأسيل ونور ونهلة، وغادة وسجود، وخالتها نيفين. وكذلك رسائل طمأنة لأهل تسنيم عودة، ريهام، آية وولاء الحوتري.
أنت شوكة بحلقهم
بعد لقائي بماسة مباشرة التقيت بالأسيرة كرمل محمد شاكر الخواجا (مواليد 23.01.2004)، جامعيّة، طالبة سنة رابعة إدارة عامة في جامعة بير زيت، من نعلين/ رام الله. حين دخلت غرفة لقاء المحامي، ابتسمت قائلة: خبّر الكل، هيّاتني زي برّا، "خولِيا"، (كلمة عبريّة تُطلق على الأسيرة التي تقوم بتوزيع الطعام بين غرف القسم داخل السجن)، بخاوز مع الحوامل ومريضات السرطان، وسلّم على إمّي وخلّيها قويّة، أنا دشّرت وراي قائد. حدّثتني عن زميلات الزنزانة رقم 2 (سامية جواعدة، سالي صدقة، زهراء كوازبة، وسناء دقة – وصلت اليوم وهي منيحة) وباقي الأسيرات في المعتقل. بدأت بإيصال رسائل ومعايدات للعائلة، لا يوخذنا الوقت، لأخوالها خليل ورامز "اشتقت أشرب قهوة مع خوالي وأتقاتل مع خالي خليل واشتقت لطوَشُه، وخلّي الماما تشتري هديّة باسمي لخطيبة خالي رامز"، سلام خاص لستّها "بسفّط غسيل القسم وبوزّع أكل على 11 غرفة". طلبت إيصال سلاماتها لعهد ولخالاتها "كونوا قويّات وترنّوش على إمّي تعيّطوا"، ومقبولة البرغوثي، ولزميلات الجامعة، وتبارك لكلّ من ناقشت مشروع التخرّج "خلّيكوا جدعات"، وتبارك لأحمد صدقة الخطوبة. وسلامات لأبوها ولأخوها طارق "حلمت مرتين بمحمد ابن طارق"، قالتها مع بكاء مرير، ولآدم وشاكر ويافا وحيفا ولوسين ومحمود ومحمد، وعمها سامي. حدّثتني بتفاصيل الاعتقال؛ ليلة 02.03.2025 من منزل جدّتها في قرية "دير قديس"، وعن الوضع السيّئ في سجن الدامون، عقابها 19 يوماً، نصّه عقاب والباقي عزل انفرادي. (مكلبشة طيلة وقت الزيارة - تشديدات ما بعد السابع من أكتوبر)، الفورة أقلّ من ساعة "بسرقوا منها"، بطلّعونا ع الفورة مكلبشات، وهناك سجّانة لئيمة بتتحرّكش وبتضرب كل الوقت. حلمت بدالية حناتشة "بلبس إغراضها اللي كانت تلبسهن بالسجن، وإن شالله بطلع قريب ونرجع زي قبل وأحسن". صرت منيحة، لا تقلقوا، القسم بقول "أنت شوكة، شوكة بحلقهم". سلام لوعد وعهد صبار، وكل عام والكل بخير. لكن عزيزتيّ ماسة وكرمل/ كراميلا/ كوكو/ كرمولة، أحلى التحيّات، والحريّة لكنّ ولجميع أسرى الحريّة.