2025.07.17
حديث الساعة
من سوق أهراس إلى روما.. الروح الأوغسطينية تبث نور الجزائر في قلب الفاتيكان

من سوق أهراس إلى روما.. الروح الأوغسطينية تبث نور الجزائر في قلب الفاتيكان


أعاد البابا الجديد، ليو الرابع عشر، تسليط الضوء على أحد أعظم رموز الفكر المسيحي، القديس أوغستين، معربًا عن رغبته العميقة في زيارة الجزائر، الأرض التي أنجبته واحتضنت تراثه. فخلال لقائه بسفير الجزائر لدى الكرسي الرسولي، رشيد بلادهان، عبّر الحبر الأعظم عن تأثره العميق بالإرث اللاهوتي والفلسفي لهذا المفكر الجزائري الفذ، مؤكّدًا أنه يعتبر نفسه من "أبنائه". ولم تكن كلمات البابا مجرّد مجاملة بروتوكولية، بل جاءت محمّلة بشحنة وجدانية واعتراف صريح بعمق العلاقة الروحية والفكرية التي تربطه بالقديس أوغستين، لا سيما وأن البابا ينتمي إلى الرهبنة الأوغسطينية، التي تُعد الامتداد الطبيعي لتعاليم هذا القديس.

تصريحات البابا الجديد بشأن رغبته في زيارة الجزائر لم تكن مجرد مجاملة دبلوماسية، بل حملت أبعادًا تاريخية وثقافية عميقة، تؤكد ارتباطه الروحي والفكري بالقديس أوغستين، الذي وُلد في مدينة طاغست (سوق أهراس حالياً) وعاش ومات في هيبون (عنابة). ويبدو أن هذا الانجذاب إلى شخصية أوغستين لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة انتماء البابا ليو الرابع عشر للرهبنة الأوغسطينية، التي تُعد امتدادًا فكريًا وروحيًا لهذا المفكر المسيحي الكبير.

وقد أشاد البابا، في أول خطاب له بعد انتخابه، بهذه الشخصية التاريخية، مؤكدًا أنه "أوغسطينيّ المنهج"، ومرددًا كلمات أوغستين الشهيرة: "أنا معكم أنا مسيحي، ومن أجلكم أنا أسقف". وهي رسالة رمزية قوية تستحضر وحدة المصير الإنساني، وتعزز الروابط بين الكنيسة الكاثوليكية والبعد الثقافي والروحي المغاربي.

الجزائر حاضرة في تنصيب البابا الجديد

ولم تغب الجزائر عن مشهد تنصيب البابا، الذي تم يوم السبت في ساحة بازيليك القديس بطرس بروما، حيث شارك وفد رسمي جزائري يتقدمه وزير الشؤون الدينية والأوقاف يوسف بلمهدي، إلى جانب سفير الجزائر لدى الكرسي الرسولي (الفاتيكان)، رشيد بلادهان، وسفير الجزائر لدى إيطاليا، محمد خليفي. وقد جاءت المشاركة الجزائرية لتؤكد عمق العلاقات التاريخية والثقافية بين الجزائر والفاتيكان، خاصة في ظل الدور الذي لعبه القديس أوغستين كجسر ثقافي بين ضفتي المتوسط.

وكان رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، قد بعث برسالة تهنئة إلى البابا الجديد فور انتخابه، عبّر فيها عن تمنياته له بالتوفيق في مهمته الروحية والإنسانية، وهي رسالة لقيت ترحيبًا كبيرًا من الفاتيكان، حيث أعرب البابا عن امتنانه الشديد للرئيس تبون، مؤكداً أنه يتابع باهتمام النهج الذي تتبعه الجزائر على مستوى تعزيز مبادئ "السلام - العدالة - الحقيقة".

من هو البابا ليو الرابع عشر؟

البابا ليو الرابع عشر، الاسم الذي اختاره الكاردينال الأمريكي روبرت بريفوست بعد انتخابه على رأس الكنيسة الكاثوليكية خلفًا للبابا فرنسيس الذي توفي عن عمر ناهز 88 عامًا، هو أول بابا أمريكي في تاريخ الفاتيكان. وقد انتُخب بعد تصويت جمع عددًا قياسيًا من الكرادلة في مجمع مغلق، وسط تكتم شديد حول مجريات العملية الانتخابية.

ومنذ لحظة انتخابه في 8 ماي، حرص البابا الجديد على توجيه خطاب إنساني وشامل دعا فيه إلى إحلال السلام في العالم، وإلى تعزيز القيم الكونية التي تجمع بين البشر على اختلاف أديانهم وأعراقهم، وهو ما أكسبه احترامًا واسعًا داخل الأوساط الكنسية والدولية.

القديس أوغستين.. الجسر الروحي بين الجزائر والفاتيكان

إشارة البابا ليو الرابع عشر إلى القديس أوغستين في خطابه، فجّرت موجة من الجدل والنقاش عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، حيث أعاد الكثيرون التذكير بمكانة هذا المفكر الجزائري في التراث المسيحي والإنساني.

وُلد أوغستين في سنة 354 ميلادية في طاغست (سوق أهراس، حاليا، بشرق الجزائر)، وكان والده ضابطًا في الجيش الإمبراطوري الروماني، فيما كانت والدته مونيكا امرأة متدينة تنتمي للبيئة الأمازيغية المحلية. تلقى تعليمه في قرطاج ثم روما، وتأثر بالفكر الفلسفي الأفلاطوني قبل أن يعتنق المسيحية ويصبح أسقفًا لمدينة هيبون (عنابة)، حيث توفي سنة 430 ميلادية.

عرف أوغستين بمؤلفاته العميقة والمؤثرة، وعلى رأسها “الاعترافات” و”مدينة الله”، واللتان تشكلان إلى اليوم مرجعًا في الفلسفة المسيحية والأخلاق اللاهوتية. ويُعد من أبرز مؤسسي الأفلاطونية المسيحية، وقد جمع في كتاباته بين العقلانية الفلسفية والروحانية الدينية، مؤسّسًا لما يُعرف لاحقًا بـ"اللاهوت المسيحي الغربي".

وبحسب الدكتورة ويزة قلاز، الباحثة في المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتاريخ –في تصريح لها عام 2022- فإن أوغستين "لم يكن مجرد رجل دين، بل مفكر ومصلح روحي ترك بصمته في التاريخ العالمي"، مشيرة إلى أنه من أبرز أعلام الموروث الثقافي والفكري لمنطقة طاغست، إلى جانب شخصيات أخرى مثل أبوليوس المادوري وشهاب الدين التيفاشي.

البابا ليو الرابع عشر.. خطوات نحو الجزائر وصلوات من أجل غزة

الرغبة المعلنة من البابا ليو الرابع عشر في زيارة الجزائر، لا سيما مدينتي سوق أهراس وعنابة، تحمل دلالات رمزية عميقة في سياق التقارب المتنامي بين الفاتيكان ودول المغرب العربي. هذه الزيارة المرتقبة تفتح آفاقًا واعدة للتعاون الثقافي والديني والسياحي، وتسهم في تسليط الضوء على معالم تاريخية وروحية بارزة، على رأسها كنيسة هيبون التي لا تزال شاهدة على إرث القديس أوغستين، أحد أعظم مفكري الإنسانية.

قد تكون هذه الزيارة أيضًا فرصة لإعادة إحياء السياحة الثقافية والدينية في الجزائر، وطرح سردية جديدة حول إسهام هذا البلد في تشكيل الفكر الإنساني، عبر رموزه التاريخية التي تجاوزت حدود الزمان والمكان. وفي مقدمتهم أوغستين، الذي يجعل من الجزائر نقطة التقاء بين الروح والعقل، وبين الماضي والحاضر.

اللحظة الحالية تبدو نادرة، بل ومفصلية، لإعادة قراءة الإرث الروحي والثقافي للجزائر في إطار عالمي جديد. فمع عودة الجزائر إلى الواجهة الدولية كفاعل في السلم والحوار بين الأديان، يأتي اعتراف البابا ليو الرابع عشر بمكانة أوغستين ليضفي عمقًا روحيًا على هذا المسار، ويمنحه شرعية أخلاقية وتاريخية. وربما تحمل الأيام المقبلة بشرى زيارة تاريخية يخط فيها الحبر الأعظم خطوةً على أرض أنجبت مفكرًا خلد اسمه في الذاكرة الكونية.

وفي سياق موازٍ، تتقاطع هذه البادرة مع النزعة الإنسانية التي وسمت عهد البابا منذ بدايته، حيث وجّه أمس الأحد، نداءً مؤثّرًا إلى العالم، داعيًا إلى الصلاة والتضامن مع سكان غزة، في ظل حربٍ متواصلة ومأساة إنسانية متفاقمة. وقال البابا: "علينا أن لا ننسى إخواننا وأخواتنا في غزة، وخصوصًا الأطفال الأبرياء وكبار السن الذين يواجهون الجوع والخوف والحرمان"، مشددًا على ضرورة رفع الصلوات والدعاء من أجل سلام عاجل ينهي هذه المحنة.

كما دعا المجتمع الدولي إلى تكثيف الجهود الإنسانية وتقديم المساعدات العاجلة، مذكّرًا بأن "الكرامة الإنسانية وحق الحياة قيمتان مقدستان، لا يجوز التفريط فيهما تحت أي ظرف". وتؤكد هذه التصريحات استمرار الكنيسة الكاثوليكية في اتخاذ مواقف مناصرة للعدالة والسلام، مركّزة على حماية الضعفاء في مناطق النزاع.

وفي المجمل، فإن اهتمام البابا ليو الرابع عشر لا يعيد فقط إحياء ذاكرة مشتركة، بل يبعث برسالة أمل نحو مستقبل يكون فيه الدين والثقافة جسرًا للتقارب والوئام. وبينما تتجه الأنظار إلى زيارة قد تصبح علامة فارقة، يبقى الرجاء معقودًا على أن تكون هذه الخطوة بداية مسار إنساني جديد، يُعيد الاعتبار للجسور القديمة، ويزرع في أرض الجزائر بذور التسامح والتلاقي، تحت ظلال الكبار من حكماء الفكر وعظماء الإنسانية.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار