2025.07.17
سياسة
\

"في زمن الوحوش".. من يحمي العالم من نفسه؟


يقول الفيلسوف والسياسي والمنظر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي: «العالم القديم يحتضر، والعالم الجديد يناضل من أجل أن يولد، بين هذا وذاك الآن هو زمن الوحوش». غرامشي، الذي عبّر عن هذه الكلمات قبل قرن من الزمان، كان يشير إلى الطبيعة المؤلمة لعمليات التغيير الاجتماعي والسياسي في العالم، كاشفًا الصراعات والتغيرات بين قيم وأعراف ومثل العالم القديم، في عملية إنهاء هذا النظام وبناء النظام الجديد.

عبارة «الآن هو زمن الوحوش» التي قالها غرامشي، تمثل العناصر الخطيرة والمظلمة التي تظهر في هذه الفترة الانتقالية، ووفقًا له، فإن بيئة الغموض والفوضى تخلق فراغات وفجوات في النظام الاجتماعي، تصبح عرضة للاستغلال. الوحوش تمثل التطرف والانحلال الأخلاقي، أو القوى الخبيثة التي تظهر في هذه الفجوات. يؤكد غرامشي أنه لا مفر من الفوضى الأيديولوجية والأخلاقية في مثل هذه الفترات التي تمر بها المجتمعات أثناء تحولها إلى نظام جديد، لكن من الضروري أن ننتظر بأمل النظام الجديد الذي سينبثق من هذه المرحلة.

قبل ثمانين عامًا، كان "انتصار" الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ضد الفاشية بمثابة نقطة تحول في تاريخ البشرية، وفتحًا لفصل جديد في بناء نظام دولي أفضل والسعي إلى تحقيق السلام الدائم، أو هكذا تقول سرديات المنتصرين في الحروب. أليس المنتصر هو من يكتب التاريخ؟

في ليلة 8 مايو 1945، وُقعت وثيقة استسلام ألمانيا في كارلشورست ببرلين، معلنةً نهاية الحرب العالمية الثانية في أوروبا. وفي الوقت نفسه، وصلت المعركة الحاسمة في حملة الصين الكبرى ضد اليابان في آسيا — معركة هونان الغربية — إلى ذروتها.

انتهت الحرب العالمية الثانية فعليًا مع استسلام اليابان على متن السفينة "يو إس إس ميسوري" في خليج طوكيو بتاريخ 2 سبتمبر 1945. هذه الحرب، التي كانت من أكثر الصراعات دموية في تاريخ البشرية، اشتعلت نيرانها في جميع أنحاء العالم، حيث شاركت فيها أكثر من 80 دولة، وانخرط فيها نحو ملياري شخص. تجاوزت الخسائر البشرية فيها 100 مليون، فيما تجاوزت الخسائر الاقتصادية 4 تريليونات دولار أميركي. وفي مواجهة العدوان الفاشي، شكلت أكثر من 50 دولة، منها الصين والاتحاد السوفييتي، جبهة موحدة.

ورغم ذلك، فإن السرديات الأوروبية غالبًا ما تغفل ذكر الدور المحوري للصين، التي كانت المسرح الرئيسي للحرب في شرق آسيا، والتي قدمت تضحيات وطنية جسامًا تجاوزت 35 مليون ضحية في مواجهتها لغالبية قوات الجيش الياباني. خلال 14 عامًا من قتال شرس ضد الفاشية، واجهت الصين أكثر من ثلثي الجيش الياباني، وألحقت به نحو 70% من خسائره العسكرية خلال فترة الحرب، مساهمة بذلك بشكل جوهري في انتصار الحلفاء على الفاشية.

ولا تقل أهمية الجبهة الصينية عن تلك التضحيات الجسام التي قدمها الاتحاد السوفييتي ومساهمته الحاسمة في المسرح الأوروبي للحرب العالمية الثانية. من معركة موسكو إلى معركة ستالينغراد ثم معركة كورسك، تحملت الشعوب السوفييتية مصاعب هائلة ولعبت دورًا مفصليًا في هزيمة القوات النازية.

خلال الحرب العالمية ضد الفاشية، كان الدعم المتبادل بين الصين والاتحاد السوفييتي حاضرًا بقوة. قاتل متطوعون من القوات الجوية السوفيتية إلى جانب الجنود الصينيين، وفقد أكثر من 200 منهم حياتهم على الأراضي الصينية. كما شارك العديد من الصينيين، بينهم ماو أنينغ، الابن الأكبر للزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ، في القتال ضد القوات النازية خلال أصعب مراحل الحرب الوطنية العظمى للاتحاد السوفييتي. هذه التضحية المشتركة رسخت رابطة عميقة بين الجانبين.

لقد حطم انتصار الحرب ضد الفاشية محاولات الفاشيين والعسكريين للسيطرة على العالم، وأنهى الانقسامات الاستعمارية التي فرضتها القوى الإمبريالية، ووضع الأساس لرؤية جديدة للسلام والتعاون العالميين. وربما لا يزال هذا الطرح يشبه حديث جمهورية أفلاطون أو المدينة الفاضلة للفارابي.

في احتفالات الانتصار على النازية، برزت أمام العالم صورتان مختلفتان: الأولى لقادة أوروبا مجتمعين حول الرئيس الأوكراني زيلينسكي أمام النصب التذكارية لضحايا الحرب في كييف، والثانية للرئيس الصيني وهو يرافق نظيره الروسي في موسكو، مع قادة دول أخرى لا تسير في طريق الهيمنة الغربية. قد يكون هذا مؤشرًا جديدًا على أن العالم اليوم لم يعد "تقسمه" خطوط الطول والعرض كما في دروس الجغرافيا، بل تفصله حدود أعمق بين الهيمنة والانعتاق، بين شمال يسعى لترسيخ سيطرته، وجنوب يطمح للحرية، بين نظام آفل وعالم جديد.

إذا كانت خطوط الطول والعرض ترسم خطوطًا عمودية وأفقية على الخرائط الجغرافية، فإن خطوط الحدود الإيديولوجية، وكذلك خطوط الصراعات والحروب، تنزاح باستمرار، ويصعب "تثبيتها" على خرائط التحليل الجيوسياسي.

يشهد العالم اليوم تحولات جذرية. فقد ربطت التكنولوجيا بين مناطق متباعدة من الأرض، بدءًا من الأقمار الصناعية التي حَلَّقت في السماوات المفتوحة خلال سبعينيات القرن الماضي، والتي شبّهها المنظر الكندي مارشال ماكلوهان بـ"القرية الكونية"، وصولاً إلى رقائق الذكاء الاصطناعي وروبوتات المصانع المأتمتة بالكامل. كما أن العولمة قربت الدول من بعضها أكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك، إلى جانب هذه التطورات، برزت تحديات جديدة ومعقدة. فحتى مع تقارب وسائل الاتصال بين البلدان ومحو التكنولوجيا للحدود السياسية، فإن الجدران الثقافية والإثنية والعقدية، ومخلفات التاريخ وإرث الحضارات التي تشكل هوية وانتماء كل شعب، لا تزال تمنع التواصل الإنساني العميق الذي طال انتظاره.

إن حالة عدم اليقين العالمية اليوم في تصاعد مستمر، إذ تتسم بسياسات القوة، الأحادية، والانقسامات المعقدة والممتدة.

يصادف هذا العام الذكرى الثمانين لتأسيس الأمم المتحدة. تقول الكلمات الافتتاحية لميثاق الهيئة:

"نحن شعوب الأمم المتحدة، وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي جلبت على الإنسانية مرتين، خلال جيل واحد، أحزاناً يعجز عن وصفها، وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان، وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال والنساء والأمم، كبارها وصغارها، من حقوق متساوية، وأن نبين الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي، وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدمًا، وأن نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح."

تشكل هذه العبارات شهادة قوية على الدروس التي "استُخلِصت" بشق الأنفس من حربين عالميتين كارثيتين.ولكن، هل استفاد العالم حقًا من هذه الدروس؟ هل اختبر العالم إنسانيته، حين يصف مسؤول سياسي أفراد شعب آخر بـ"الحيوانات الآدمية"؟ هل تعلمنا شيئًا من حروب الماضي، حين تقصف طائرات كيان غاصب مستشفىً يعج بالمرضى والجرحى، الذين لا حول لهم ولا قوة؟ وهل تحرك ضمير العالم، حين يوقع مسؤولون أوروبيون وأمريكيون بأسمائهم على صواريخ وقنابل تُرمى فوق رؤوس الأبرياء؟

علينا أن ننظر إلى التاريخ برهبة وضمير إنساني. الماضي لا يمكن تغييره، لكن المستقبل يمكن تشكيله.

إن الأخذ بالتاريخ في الاعتبار لا يعني إدامة الكراهية، بل يجب على البشرية أن لا تنسى دروسها. تذكر التاريخ لا يعني الهوس بالماضي.لقد أصبحت أوروبا بحق العالم «الثالث»، وبالمعنى الحرفي؛ ثلثا بلدان العالم يديرون ظهرهم للقارة العجوز. الأميركيون والروس لا يعيرون اهتمامًا لما تقرره حمالة الحطب "أورسولا فون دير لاين" رئيسة المفوضية الأوروبية، التي تزعم أن القارة "تتشبع بجذور الفكر التلمودي"، في حين تطالب بمعاقبة دول - من بينها الجزائر - لم تصوت لصالح قرار يدين روسيا، على خلفية اندلاع الحرب على الحدود الأوكرانية في 2022.

الإيرانيون والسعوديون يتحدثون مع بعضهم البعض، والهنود والصينيون ما زالوا في حالة "لا حرب ولا سلم" رغم انتمائهم منذ 2009 إلى نفس المجموعة الاقتصادية "البريكس". وأفريقيا، التي تحررت مرتين من "فرنستها"، تتقدم بسرعة رغم محاولات القوى الاستعمارية السابقة إعاقة مسيرتها.

تتصاعد الهجمات على القانون الدولي، ويتواصل الدوس على المعاهدات والمواثيق والعهود الدولية. بعد بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب، جاء الآن دور رئيس الوزراء الهندي القومي لوضع القوة فوق التشاركية، والتخلص من المعاهدات القائمة. وحتى وإن كان "ناريندرا مودي" يخاطر بمواجهة مباشرة مع جيرانه الباكستانيين، فقد انقلبت الأمور سريعًا في حرب خاطفة استمرت ثلاثة أيام.

ماذا لو كنا عاجزين، أو ببساطة غير مستعدين، لمواجهة التغييرات العميقة التي يشهدها النظام العالمي "الجديد"؟

ماذا لو أصبحت المعايير التي كانت توجه فهمنا للعالم سابقًا — من تحالفات ونماذج اقتصادية وتوازنات جيوسياسية — عتيقة وغير صالحة اليوم؟ هل نجرؤ على طرح أسئلة جديدة، وإعادة صياغة السرديات، وقبول حقيقة أن عدم اليقين، أو ما يسميه فلاسفة عصرنا "مابعد الحقيقة"، أصبح الآن القاعدة؟

لعل الشجاعة الحقيقية اليوم لا تكمن في امتلاك الإجابات، بل في القدرة على صياغة الأسئلة الصحيحة.

وبينما يتأمل العالم دروس التاريخ، يتوجب على البشرية مواجهة بعض الأسئلة الملحة: كيف نحمي السلام الذي تحقق بشق الأنفس؟ كيف نتصدى بشكل جماعي للتحديات العالمية المستعجلة؟ والأهم، كيف نبني مستقبلًا مشتركًا للجميع؟

قدمت الجزائر جزءًا من الحل؛ حيث نادت بإرساء نظام دولي جديد، ودعت إلى "العيش معًا بسلام"، غير أن الدعوة إلى السلام وحدها لا تكفي، إذا ظل العالم يُدار بمنطق القوة والمصلحة بدلًا من العدالة والمصير المشترك. فالتاريخ يعج بمواثيق لم تُحترم، ونوايا حسنة أُفرغت من معناها، وشعوب دُفعت إلى هامش النظام الدولي لأنها رفضت أن تكون تبعًا أو مجرد رقم في معادلات الآخرين.

في خضم هذا كله، تبقى مبادرات كالمبادرة الجزائرية بمثابة صوت نادر في عالم يضج بالصخب والتناقضات.

لكن السؤال الجوهري يبقى معلقًا: هل لا يزال العالم يملك متسعًا من الحكمة والضمير ليسمع هذا الصوت؟

يتصفحون الآن
أخر الأخبار