2025.07.17
سياسة
الهوية في مرمى الأخبار الزائفة.. لا مكان للحياد المزيّف

الهوية في مرمى الأخبار الزائفة.. لا مكان للحياد المزيّف


في عالم تحكمه الصورة وتُصاغ فيه الحقائق على وقع الدعاية العابرة للحدود، تتعرض الجزائر لحملات إعلامية متكرّرة، تتجاوز النقد إلى محاولات منظمة للتشويه والتشكيك. هذه الحملات لا تأتي بمعزل عن مواقفها السيادية، ولا عن موقعها المتوازن في محيط إقليمي ودولي مضطرب. ففي كل مرة تؤكد الجزائر ثباتها على مبادئها، تشتد الهجمات، وتتجدد محاولات ضرب مصداقيتها في عيون مواطنيها وشركائها، لكن، وفي ظل هذا التحدي المتصاعد، يبرز سؤال محوري: هل آن الأوان لترسيخ جبهة إعلامية وطنية قادرة على نقل صوت الجزائر كما هو، بعيدًا عن الوسائط المُضللة؟

الحديث عن تشكيل جبهة إعلامية وطنية جاء نتاجًا لتراكمات طويلة من التحديات التي فرضتها بيئة إعلامية دولية غير متوازنة، تتحكم فيها أجندات وقوى نافذة تسعى لإعادة صياغة وعي الشعوب وتوجيه الرأي العام وفق مصالحها. الجزائر، بما تمثله من خصوصية سياسية وتاريخية وثروات طبيعية ومواقف مبدئية، لم تكن بمنأى عن هذا الاستهداف، وأصبحت في السنوات الأخيرة ضمن قائمة الدول التي تُستهدف بشكل ممنهج عبر تقارير مغلوطة، ومضامين مشبوهة، و"حقائق" مُفبركة تتناقلها مواقع إلكترونية ووسائل إعلام مدفوعة بأجندات خارجية.

الحرب الإعلامية ضد الجزائر عرفت تصعيدًا ملحوظًا، خاصة منذ شهر أوت من السنة الماضية، حيث تصاعدت وتيرة الهجمات الإعلامية التي طالت مؤسسات الدولة ومواقفها السيادية ورموزها الوطنية. ومع تسارع التطورات الجيوسياسية في المنطقة، تحوّلت بعض وسائل الإعلام الأجنبية إلى أدوات ضغط حقيقية، تتقن التوظيف الانتقائي للمعلومات، وتستغل سرعة تداول الأخبار على مواقع التواصل لبثّ الشك وخلق البلبلة. هذه الحرب الناعمة، رغم اختلاف أدواتها، لا تقلّ خطورة عن الصراعات التقليدية، لأنها تستهدف تماسك الجبهة الداخلية، وتُضعف الثقة بين المواطن ومؤسساته.

هذه الحرب الإعلامية وخلفياتها، كما أشار إليها وزير الاتصال محمد مزيان، أضحت واقعًا موثّقًا بالأرقام والمعطيات. فقد أعلن الوزير بشكل صريح عن وجود أكثر من 9 آلاف صحفي حول العالم يعملون على تشويه صورة الجزائر، وهو رقم يعبّر عن حجم المنظومة الإعلامية المضادة التي تُسخَّر موارد بشرية ومادية معتبرة لخدمة أهداف غير بريئة. هذه التصريحات تعكس قناعة راسخة لدى السلطات الجزائرية بأن الاستهداف الممنهج للبلاد هو امتداد لمخططات تسعى إلى إضعاف المواقف السيادية للجزائر، والنيل من صورتها الإقليمية والدولية عبر أدوات إعلامية ناعمة تعمل تحت غطاء الحياد المهني.

في مواجهة هذا الواقع المعقّد، أدركت الدولة الجزائرية، بقيادة رئيس الجمهورية، أهمية خوض المعركة الإعلامية بنفس الروح التي خاضت بها معارك الاستقلال والتصدي للإرهاب: بوحدة الصف، وتكامل المؤسسات، وتوجيه الموارد نحو بناء إعلام وطني محترف وفاعل. من هنا، جاءت دعوة وزير الاتصال إلى تشكيل جبهة إعلامية وطنية موحَّدة، لا فرق فيها بين عمومي وخاص، بين تقليدي ورقمي، بين مركزي وجهوي. هذه الجبهة، كما صوّرها الوزير، هي مشروع وطني مستدام، يحمل في جوهره وعيًا جماعيًا بضرورة مواجهة تحديات الحاضر بأسلحة المستقبل.

لقاءات وطنية.. حصن إعلامي ضد الهجمات العالمية

وفي هذا السياق، بادرت الدولة الجزائرية إلى تفعيل خطوات عملية ميدانية هدفها تحصين الجبهة الإعلامية الداخلية وتعزيز مناعتها في مواجهة هذه التهديدات المتصاعدة. وقد تجسّد ذلك من خلال سلسلة اللقاءات الجهوية التي أطلقتها وزارة الاتصال، والتي وُصفت بأنها أولى اللبنات التنظيمية نحو بناء جبهة إعلامية وطنية متماسكة. هذه اللقاءات، تحوّلت إلى فضاءات تفكير جماعي ومراجعة شاملة لأدوار الإعلام الوطني في المرحلة الراهنة، بما يضمن استنهاض طاقاته وتوجيهها نحو خدمة القضايا الاستراتيجية للدولة والمجتمع.

اللقاءات الجهوية جمعت صحفيين وإعلاميين من مختلف ولايات الوطن، شُكّلت خلالها أربع ورشات عمل رئيسية، كان الهدف منها وضع اللبنات الأساسية لجبهة إعلامية وطنية موحَّدة. هذه الورشات انطلقت من قناعة رسمية بأن الدفاع عن صورة الجزائر في الفضاء الإعلامي الدولي لا يمكن أن يتم إلا من خلال خطاب إعلامي متجانس ومؤسسات مهنية متطورة. اللقاء الأول احتضنته مدينة وهران، تلاه لقاء في قسنطينة ثم ورقلة، لتُختتم هذه الجولة بالعاصمة، وهي لقاءات وُصفت بالناجحة على مستوى التفاعل والمخرجات، وأكّدت أن الصحافة الوطنية قادرة على مواكبة الرهانات الكبرى للمرحلة.

وقد تميّزت هذه اللقاءات بطرح عميق للإشكاليات التي تعترض تطوير الأداء الإعلامي، وبتشخيص دقيق للفجوات التي يعاني منها القطاع، سواء من حيث التأطير القانوني أو أدوات العمل أو التأهيل المهني. وقد أجمعت تدخلات المشاركين على ضرورة مراجعة آليات الضبط والمرافقة وتكريس بيئة إعلامية شفافة تُشجّع على إنتاج المضامين الهادفة، وتُمكِّن من استعادة ثقة الجمهور في وسائل الإعلام الوطنية. كما طُرحت مقترحات عملية تتعلّق بإعادة تفعيل دور المؤسسات التكوينية، وتوسيع مجال الصحافة المتخصصة، وتعزيز الإعلام المؤسساتي كجسر فعّال بين المواطن والإدارة.

وفي ختام كل لقاء جهوي، صدرت توصيات تحمل طابعًا تنفيذيًا، ركّزت على ضرورة تعزيز العمل الشبكي بين مختلف الفاعلين في القطاع، وتكثيف التنسيق بين المؤسسات الإعلامية العمومية والخاصة، ووضع منصات رقمية لمواجهة التضليل، وتوحيد الخطاب المهني عند التعاطي مع القضايا الوطنية الحساسة. وتم التأكيد على أن توحيد الجهود لا يعني فرض خطاب رسمي موحَّد، بل التوافق على أولويات وطنية، وتحصين المجال الإعلامي من الاختراقات، مع فسح المجال للنقد البنّاء في إطار احترام الثوابت الدستورية ومقوّمات الهوية الوطنية.

عمومي وخاص... إعلام واحد في خندق الوطن

وقد كشفت هذه اللقاءات، بمخرجاتها وتوصياتها، عن حقيقة محورية مفادها أن معركة الدفاع عن الجزائر إعلاميًا لا يمكن أن تخوضها جهة واحدة بمعزل عن الأخرى، بل تقتضي توحيد الصف الإعلامي الوطني بكل مكوناته، سواء كانت عمومية أو خاصة. ففي مواجهة التهديدات المشتركة، تذوب الفوارق المؤسسية، وتعلو مصلحة الوطن على كل اعتبار. ومن هنا، برزت قناعة جماعية بضرورة تجاوز الانقسامات المهنية، وتكريس منطق التكامل والتنسيق بين مختلف وسائل الإعلام، في إطار مشروع وطني موحَّد يرتكز على إعلام واحد... عمومي وخاص في خندق الوطن.

وقد تجسدت هذه القناعة بشكل واضح في الخطاب الرسمي لوزارة الاتصال، الذي شدّد على أن بناء الجبهة الإعلامية الوطنية لا يمكن أن يتحقّق دون انخراط فعلي لجميع الفاعلين، من مؤسسات عمومية إلى قنوات خاصة، ومن صحافة مكتوبة إلى منصات إلكترونية. فالرهان، كما عبّر عنه الوزير محمد مزيان في أكثر من مناسبة، خلق منظومة إعلامية وطنية موحّدة في رؤيتها، متنوعة في أدواتها، متكاملة في أدوارها، تسند فيها المؤسسة العمومية نظيرتها الخاصة، وتتقاسم المسؤولية الوطنية في الدفاع عن صورة الجزائر ومصالحها العليا.

وفي هذا الإطار، تم التأكيد خلال مختلف اللقاءات الجهوية على أن الإعلام العمومي والخاص يواجهان التحديات ذاتها، ويقع على عاتقهما الدور نفسه في مواجهة حملات التشويه والتضليل، وهو ما يستوجب تنسيق الجهود وتبادل الخبرات وتكامل الأدوار بدل التنافس السلبي. كما دعت وزارة الاتصال إلى تسخير الإمكانيات المتاحة لكلا الطرفين لإنجاح هذا المسعى، مع توفير فضاءات حوار دائمة بين المهنيين من مختلف المؤسسات، وتثمين التجارب الناجحة، بما يُفضي إلى خلق مناخ إعلامي أكثر تماسكًا، قادر على الصمود في وجه الأزمات، والتفاعل بذكاء مع التحولات المتسارعة في المشهدين الوطني والدولي.

المؤسسات الإعلامية الثقيلة... من الدفاع إلى الهجوم في معركة الصورة والمعلومة

وفي سياق هذا التوجّه نحو تكامل الجهود وتوحيد الصف الإعلامي، برزت الحاجة الملحّة إلى استنهاض دور المؤسسات الإعلامية الكبرى التي تمثّل عماد الجهاز الإعلامي الوطني، لما تملكه من بُنى تحتية بشرية وتقنية وتجربة تراكمية واسعة. فمعركة الدفاع عن الجزائر في الفضاء الإعلامي الإقليمي والدولي تتطلب أن تتقدم "المؤسسات الثقيلة" إلى الصفوف الأمامية، وتضطلع بدور قيادي في رسم معالم خطاب إعلامي وطني موحَّد وفعّال. ومن هنا، جاءت دعوة وزارة الاتصال لهذه المؤسسات إلى الارتقاء إلى مستوى التحديات، والتحلّي بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقها في هذه المرحلة الدقيقة.

وقد أكّد وزير الاتصال محمد مزيان، في أكثر من مناسبة، على أن مؤسسات الإعلام العمومي، وفي مقدمتها التلفزيون الوطني، الإذاعة الجزائرية، وكالة الأنباء الجزائرية، وقناة الجزائر الدولية، مطالَبة بأن تتبوأ موقع الريادة لما تحوزه من مصداقية وتأثير في المشهد الإعلامي الوطني والدولي. فالرهان اليوم، كما شدّد الوزير، هو الانتقال من الدور الإخباري التقليدي إلى الأداء الاستراتيجي، عبر إنتاج مضامين نوعية تواكب التطورات الجيوسياسية، وتُعبّر بوضوح عن مواقف الجزائر، وتُفنّد حملات التشويه بحُجج مهنية قوية، وخطاب إعلامي راقٍ ومتماسك.

هذا التوجه نحو تموقع المؤسسات الإعلامية الثقيلة في واجهة المعركة الاتصالية، يعكس تحولًا واضحًا في استراتيجية الدولة تجاه الإعلام العمومي الذي أصبح يُنظر إليه كفاعل محوري في رسم السياسات الاتصالية للدولة والتأثير في الرأي العام الداخلي والخارجي. ومن هذا المنطلق، دعت وزارة الاتصال هذه المؤسسات إلى استثمار قدراتها البشرية والتقنية واللوجستية في بلورة محتوى إعلامي احترافي قادر على مجاراة المنافسة الإقليمية والدولية، مع الحرص على تقديم صورة دقيقة، متوازنة ومشرّفة للجزائر في مختلف المحافل والمنصات.

الفضاء الرقمي... جبهة جديدة لحرب الجيل الخامس

وفي خضمّ هذا التحدي الوطني الذي تتقاسمه المؤسسات الإعلامية بكل أطيافها، تبرز جبهة جديدة لا تقلّ أهمية عن باقي الجبهات، وهي الفضاء الرقمي بكل امتداداته وتأثيراته. فإذا كان الإعلام التقليدي مطالبًا بالريادة والتحليل الرصين، فإن المعركة الأشد ضراوة اليوم تُخاض على منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، حيث تتحرك حملات التضليل والدعاية المضادة بسرعة هائلة وبتقنيات متطورة. من هنا، انتقل تركيز الدولة إلى تحصين هذا المجال الحيوي، باعتباره ساحة مركزية في حرب الجيل الخامس، وركيزة أساسية في المعركة المفتوحة على الوعي الجمعي والانتماء الوطني.

وقد شدد وزير الاتصال، محمد مزيان، في أكثر من مناسبة، على أن الفضاء الرقمي أصبح الميدان الأكثر حساسية في معادلة الصراع الإعلامي، بل إنه تجاوز دوره كوسيلة لنقل المعلومة، ليصبح أداة فعّالة في صناعة الرأي العام وتوجيه السلوك المجتمعي. ومع تنامي تأثير شبكات التواصل الاجتماعي واتساع رقعة الأخبار الزائفة، أكد الوزير أن هذا المجال بات يستدعي يقظة دائمة واستراتيجية استباقية، تقوم على إنتاج محتوى وطني نوعي ومضاد، قادر على الصمود أمام التضليل المتقن والتلاعب المنهجي بالحقيقة.

وقد أثبتت الوقائع أن الهجمات الإعلامية التي تستهدف الجزائر، غالبًا ما تجد منفذها الرئيسي عبر المنصات الرقمية، مستغلة سرعة التداول وغياب الرقابة، لترويج الأخبار المفبركة والتقارير المشبوهة. وفي ظل هذا الوضع، تحوّلت مواقع التواصل الاجتماعي إلى جبهات مفتوحة لحرب الجيل الخامس، حيث تُستخدم الخوارزميات والحملات الإلكترونية الممنهجة للتأثير على استقرار الدول وضرب وحدتها الوطنية. ولمواجهة هذا التحدي المتصاعد، شددت وزارة الاتصال على ضرورة امتلاك أدوات فعّالة لمجابهة هذه الحرب الناعمة، تبدأ بتكوين الصحفيين وتمكينهم من تقنيات التعامل مع الإعلام الرقمي، ولا تنتهي بتفعيل منصات وطنية قادرة على استيعاب النقاش العام وتوجيهه بوعي ومسؤولية.

وفي هذا الإطار، دعت وزارة الاتصال إلى تعزيز حضور الإعلام الوطني في الفضاء الرقمي، عبر إنشاء منصات جديدة وتحديث المواقع الإلكترونية، وتطوير المحتوى الرقمي بمضامين دقيقة وموثوقة تعكس صورة الجزائر الحقيقية وتُحصّن وعي المتلقي من حملات التضليل. وقد تم التأكيد على أن المعركة في الفضاء السيبراني تتطلب استباقًا وذكاءً إعلاميًا واستراتيجية رقمية متكاملة، تجعل من الإعلام الوطني رقمًا فاعلًا في البيئة الرقمية العالمية، بدل الاكتفاء بدور المتلقي أو المُعلّق على ما تنشره الأطراف المعادية.

وعليه، تعوّل الدولة على الصحافة الإلكترونية الوطنية لتكون رأس الحربة في هذه المعركة الرقمية، نظرًا لقدرتها على الوصول السريع والواسع إلى الجمهور، خصوصًا فئة الشباب التي تُعدّ الأكثر تفاعلاً مع المنصات الإلكترونية. وفي هذا السياق، سعت وزارة الاتصال إلى دعم هذا النمط الإعلامي من خلال إدماجه في الاستراتيجية الوطنية، سواء عبر فتح المجال أمامه للاستفادة من الإشهار العمومي المرتبط بالصفقات، أو من خلال التأطير القانوني الذي يضمن له نشاطًا احترافيًا ضمن بيئة شفافة ومنظمة. كما تم التأكيد على أهمية تكوين صحفيي المنصات الإلكترونية في مهارات التحقق من المعلومات، والتعامل مع تقنيات الذكاء الاصطناعي، واستيعاب أدوات تحليل المضامين الرقمية، بما يؤهلهم للتصدي لمحتوى التضليل وصناعة خطاب إعلامي وطني موجّه بفعالية عبر الفضاء الافتراضي.

الإعلام المتخصص... معركة العمق الاستراتيجي

وفي ظل هذا التحول المتسارع نحو الرقمنة، والتوسع اللافت في استهلاك المحتوى عبر المنصات الإلكترونية، لم يعد كافيًا الاكتفاء بخطاب إعلامي عام، بل بات من الضروري التوجه نحو الإعلام المتخصص القادر على معالجة القضايا الدقيقة والمعقدة بعمق واحترافية. فالتحديات المرتبطة بالاقتصاد والبيئة والصحة والتكنولوجيا، تتطلب أصواتًا مهنية متمكنة، تملك أدوات التحليل والمعرفة الدقيقة بالمجالات التي تخوض فيها. ومن هنا، تنبع الحاجة إلى محور جديد لا يقل أهمية عن الفضاء الرقمي، يتمثل في الإعلام المتخصص كأداة مركزية لتعزيز السيادة المعلوماتية وحماية الرأي العام من التضليل المعرفي والتوجيه الدعائي المغرض.

وقد أدركت وزارة الاتصال هذه الحاجة المُلِحّة إلى التخصص الإعلامي، فأكدت في مختلف اللقاءات الجهوية على ضرورة ترقية الصحافة المتخصصة في مجالات حيوية كالصحة والاقتصاد، والبيئة... إلخ. ويأتي هذا التوجه ضمن رؤية ترمي إلى بناء إعلام نوعي يواكب تحولات المجتمع، ويزود المواطن بمعلومات دقيقة وموجهة، قادرة على إحداث أثر إيجابي في سلوكياته وخياراته. فالإعلام المتخصص يشرح الخبر ويحلله ويربطه بسياقه العام، ما يجعله حليفًا أساسيًا في دعم السياسات الوطنية وتوجيه النقاش العام نحو أولويات التنمية الحقيقية.

وفي السياق ذاته، يُنظر إلى الإعلام المتخصص كأداة لتقليص الفجوة المعرفية بين المؤسسات والمجتمع، خاصة في المجالات التقنية والعلمية التي تتطلب وسطاء إعلاميين يمتلكون ناصية اللغة التخصصية ويفهمون تفاصيل القطاعات التي يعالجونها. وقد تم التأكيد، خلال أشغال الورشات الوطنية، على أهمية إدراج هذا النوع من الصحافة ضمن مسارات التكوين الجامعي والمهني، مع توفير الدعم المادي واللوجستي للمؤسسات التي تراهن على التخصص كخيار استراتيجي في إنتاج المحتوى.

كما أن تعزيز الصحافة المتخصصة يُعد خطوة أساسية في تمكين الجزائر من فرض روايتها الخاصة حول ملفاتها الوطنية الكبرى، بدل ترك المجال للمنصات الأجنبية التي غالبًا ما تتناول هذه الملفات بسطحية أو بخلفيات غير محايدة. ومن هنا، تصبح السيادة المعلوماتية هدفًا قابلًا للتحقيق عبر الاستثمار في الكفاءات الصحفية المتخصصة، وتوفير بيئة مهنية محفزة للإبداع والتحليل العميق.

الدعم والتكوين... مقوّمات السيادة الإعلامية

وفي ظل هذا المسار المتكامل، الذي يقوم على تعبئة الطاقات الإعلامية العمومية والخاصة، وتعزيز حضور المؤسسات الثقيلة، ومواجهة التحديات الرقمية، وترسيخ التخصص، يبرز الدعم والتكوين كمرتكزين محوريين في معادلة بناء الجبهة الإعلامية الوطنية. فمواجهة الحروب الناعمة تتم بإعلام متمكن، ومهني، وذو كفاءة عالية. لهذا، لا يمكن لأي منبر إعلامي أن يؤدي دوره كاملاً في الدفاع عن صورة الجزائر ومصالحها، دون منظومة دعم فعّالة تُوفر له الإمكانيات المادية والتكوينية اللازمة، وتمنحه الحصانة المهنية لمواجهة التضليل، وتحقيق الريادة في صناعة المعلومة الموثوقة.

وقد سار هذا التوجه في سياق حزمة من الإجراءات العملية التي أطلقتها الدولة لتعزيز البنية التحتية للإعلام الوطني، وفي مقدمتها إعادة بعث صندوق دعم الصحافة، الذي تحوّل إلى أداة استراتيجية لتقوية المؤسسات الإعلامية، لا سيما تلك التي تلتزم بأخلاقيات المهنة وترافع لقضايا الوطن. كما توسعت مظلة الاستفادة من هذا الصندوق لتشمل مختلف أنواع الصحافة، المكتوبة والسمعية البصرية والإلكترونية، بما في ذلك دعم التكوين، واقتناء المعدات التقنية، وتطوير الصحافة المتخصصة، بهدف تمكين الصحفيين من مواكبة التحولات العميقة في عالم الإعلام وتحديات الذكاء الاصطناعي.

وفي السياق نفسه، تم فتح باب الإشهار العمومي أمام الصحافة الإلكترونية، كخطوة إصلاحية طال انتظارها، تهدف إلى تحقيق نوع من العدالة في توزيع الموارد، وتمكين هذه الوسائط الرقمية من أداء دورها ضمن المنظومة الوطنية للاتصال. وقد حرصت وزارة الاتصال على إدراج الصحف الإلكترونية المُصرّح بها في مسار الصفقات العمومية، سواء على المستوى الوطني أو المحلي، بما يعزز مكانتها كمكوّن أساسي في الجبهة الإعلامية الوطنية، ويمنحها هوامش أوسع للابتكار والمهنية، في ظل اشتداد المنافسة داخل الفضاء الرقمي.

وفي جانب التكوين، شددت الوزارة على أولوية اعتماد استراتيجية وطنية للتكوين المستمر محليًا ودوليًا، تشمل مجالات الإعلام الرقمي، التحقق من المعلومات، الذكاء الاصطناعي، والصحافة المتخصصة. وتم الإعلان عن تخصيص جزء معتبر من صندوق دعم الصحافة لتمويل الدورات التكوينية في الجزائر وخارجها، بما يسمح للصحفيين باكتساب مهارات جديدة، ومواكبة التحولات التكنولوجية والمهنية. كما أُدرجت هذه الاستراتيجية ضمن مخرجات اللقاءات الجهوية باعتبارها أحد الأعمدة الأساسية لبناء جبهة إعلامية وطنية تمتلك الكفاءة والمعرفة والاحترافية.

معركة الإعلام... دفاع عن الوعي وسيادة القرار

وفي ضوء كل ما سبق، يتضح أن المعركة الإعلامية التي تخوضها الجزائر تحوّلت إلى مسار وطني استراتيجي متكامل، يجمع بين التكوين والدعم، وبين الإعلام العمومي والخاص، وبين تطوير البنية الرقمية وتعزيز التخصص المهني. فالتحولات الكبرى التي يشهدها العالم، وتزايد حجم الحروب الناعمة، تفرض على الدولة والمجتمع تحصين الجبهة الإعلامية بالمعرفة، والتقنيات، والخطاب الموحد المدافع عن السيادة والمصلحة العليا. إنها معركة بوسائل جديدة، تتطلب جاهزية عالية، ووعيًا جماعيًا، وإعلامًا وطنيًا محترفًا يقف سدًّا منيعًا أمام محاولات الاختراق والتشويه، ويعيد تقديم الجزائر للعالم كما هي: دولة مستقلة، واثقة، وصامدة في وجه التحديات.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار