2025.07.17
بحثا عن الجيم
بحثا عن الجيم (24)

بحثا عن الجيم (24)


الدكتور “محمد رضا زائري” أكاديمي مُتخصِّصٌ في الإعلام الديني والفلسفة الإسلامية والعلاقات (الإسلامية – المسيحية). وهو كاتب وأديب متميّز له أكثر من ثلاثين مُؤلَّفًا في الأدب والترجمة والكتابة الإبداعية والسّردية، تُرجِم بعضها إلى اللغات الأجنبية: الإنجليزية والفرنسية. وهو إعلاميٌّ بارز تجاوزَت مسيرتُه الإعلامية ربع قرنٍ، أسّس خلالها دوريات ومجلاّت، وشغل رئاسة تحرير جرائد منها “همشهري” وهي أكبر جريدة في العالم باللغة الفارسية. إضافة إلى نشاطاته وأعماله في المجالات الثقافية والفنية والإنتاج السينمائي والتلفزيوني. وله أيضًا نشاطٌ كبير في مجال النشر، حيث أنشأ مؤسسة إعلامية مستقلة يَصدر عنها مجلة شهرية ما زالت مُستمرّة في صدورها منذ 23 عاما.

وهذه المساحة: “بحثًا عن الجيم”، تجربةٌ إبداعية أخرى يخوضها الدكتور “محمد رضا زائري” على صفحات جريدة “الأيام نيوز”، يُوثّق من خلالها وجودَه مُستشارًا ثقافيا لإيران في الجزائر.

هل سأفتقدك أيتها الجزائر الحبيبة؟

إحدى الأخوات الجزائريات سألت زوجتي: "هل ستفتقدين الجزائر؟"

أجابتها: "نعم، بالطبع. سنفتقد البرّ والبحر، سنفتقد الأشجار والمباني، وسنفتقد النسيم والهواء. سنفتقد كل هذه الأجواء، لكن، أكثر من كل ذلك، سنفتقد الناس الطيّبين. سنفتقد أُناسًا لا يعرف التكبّر والتفاخر طريقًا إلى سلوكهم وأخلاقهم، أُناسًا لا يتسابقون لإثبات من هو الأفضل أو الأهم أو الأعلى مرتبة من غيره!".

هكذا وجدنا الناس في الجزائر، ولمسنا أن الأغلبية الساحقة منهم طيّبون جدًّا. وكما أقول دائمًا: تشعر أن قلوبهم في أعينهم، وأن في نفوسهم طيبة فيّاضة، وفي قلوبهم رحمة كبيرة.

وكيف لا أفتقد هذا البلد، وأنا الذي أبحرتُ في عصور مختلفة من تاريخه، وطُفتُ في أرجاء متنوّعة من جغرافيّته!

وكيف لا أفتقده، وقد عشتُ مع كبار شخصياته من المجاهدين والمفكرين، والأدباء والعلماء!

كانت تجربتي في تأليف كتاب "أشهر شخصيات جزائرية" باللغة الفارسية كفيلة بأن تجعلني أفتقد الجزائر. فعندما نويتُ التعرّف على سبعين شخصية جزائرية وتعريف القارئ بها، كان ذلك بالتزامن مع الذكرى السبعين لثورة الفاتح من نوفمبر. وبدأتُ أُطالِع وأقرأ وأبحث وأسأل، حتى تعرّفتُ، من خلال هذا المشروع، على الكثير من عظماء الجزائر.

وقد تأكّدتُ، يقينًا – كما قلتُ في أحد الحوارات الصحفية – أن ثروة الجزائر لا تكمن في النفط والغاز، ولا في المعادن وما تحت الأرض، بل في ما هو فوق الأرض: في القامات الإنسانية الكبيرة والشخصيات العظيمة التي أنجبتها هذه الأرض.

لقد كانت تجربة بحثية رائعة وممتعة للغاية، أتاحت لي أن أتوقّف عند كل صغيرة وكبيرة في الكتب وبين الأوراق، وأن أفتّش في كل مكتبة وخزانة، متطلّعًا إلى كل تفصيل مما جرى في هذا البلد عبر عصوره المختلفة.

بكيتُ مع اعترافات القدّيس "أوغسطين"، وشربتُ كوبًا من القهوة مع "ميغيل دي سيرفانتس" (صاحب رواية دون كيشوت) في مغارته بقلب العاصمة "الجزائر".

بدأتُ الرحلة مع خلوات "سيدي بومدين الغوث"، وأنهيتُ المشوار مع الشيخ "عبد الرحمن الثعالبي". بايعتُ "الأمير عبد القادر" تحت شجرة الدردار، وشعرتُ بالفخر والاعتزاز أمام بسالة المجاهدة "لالّة فاطمة نسومر".

أنشدتُ مع الشيخ "عبد الحميد بن باديس": شعب الجزائر مسلم، وقرأتُ مع الشيخ "البشير الإبراهيمي" أرقى القصائد. جلستُ عند المفكر "مالك بن نبي"، فتعلّمتُ منه، وأجابني عن سؤالي: لماذا نحن مسلمون؟

همستُ مع "مفدي زكريا" في ظلام الزنزانة، حين كان يخطّ كلماته بالدّم على جدرانها:

قسما بالنازلات الماحقات -- والدماء الزاكيات الطاهرات

تجوّلتُ في الأزقّة والشوارع مع "جميلة بوباشا"، باحثًا عن مصائد للمحتلّ الفرنسي الغاشم، وتألمتُ مع "مصطفى بن بولعيد" في مسيرته وجهاده، وشعرتُ بالوجع مع "العربي بن مهيدي" وهو يسجّل أعظم البطولات تحت التعذيب.

قرأتُ قصص "عبد الحميد بن هدوقة" و"الطاهر وطار"، وفرحتُ وصرختُ مع "هواري بومدين" بانتصار ثورة التحرير الوطني.

جلستُ في سهرة طويلة مع المفكّر والكاتب "مولود قاسم نايت بلقاسم"، فشرح لي الكثير مما يحدث في العالمين العربي والإسلامي.

عشتُ ظروف الجزائر المختلفة، في خيالي وقراءاتي وتأمّلاتي وكتاباتي.

واليوم، أحمل معي قلبًا ينبض بالحب، وجسدًا يتوق إلى الرجوع، وروحًا تشتاق إلى التحليق في سماء هذا البلد.

أحمل عقلًا مليئًا بالأفكار الإيجابية حول مستقبل الجزائر، وحول ترابها الذي لا يخضع، ذاك التراب الذي يجذب القلوب ويشدّ الأرواح إليه... ولا عجب، فهو مرتوٍ بدماء الشهداء الزكيّة!

يتصفحون الآن
أخر الأخبار