2025.07.17
بحثا عن الجيم
بحثا عن الجيم (21)

بحثا عن الجيم (21)


الدكتور “محمد رضا زائري” أكاديمي مُتخصِّصٌ في الإعلام الديني والفلسفة الإسلامية والعلاقات (الإسلامية – المسيحية). وهو كاتب وأديب متميّز له أكثر من ثلاثين مُؤلَّفًا في الأدب والترجمة والكتابة الإبداعية والسّردية، تُرجِم بعضها إلى اللغات الأجنبية: الإنجليزية والفرنسية. وهو إعلاميٌّ بارز تجاوزَت مسيرتُه الإعلامية ربع قرنٍ، أسّس خلالها دوريات ومجلاّت، وشغل رئاسة تحرير جرائد منها “همشهري” وهي أكبر جريدة في العالم باللغة الفارسية. إضافة إلى نشاطاته وأعماله في المجالات الثقافية والفنية والإنتاج السينمائي والتلفزيوني. وله أيضًا نشاطٌ كبير في مجال النشر، حيث أنشأ مؤسسة إعلامية مستقلة يَصدر عنها مجلة شهرية ما زالت مُستمرّة في صدورها منذ 23 عاما.

وهذه المساحة: “بحثًا عن الجيم”، تجربةٌ إبداعية أخرى يخوضها الدكتور “محمد رضا زائري” على صفحات جريدة “الأيام نيوز”، يُوثّق من خلالها وجودَه مُستشارًا ثقافيا لإيران في الجزائر.

سيدي "عبد الرحمن" استضافني بـ "الخفاف"!

كنتُ مشتاقًا جدًّا إلى زيارة مقامات الصالحين والتنفس في أجواء الزوايا، حيث أشعر من جهة بارتقاءٍ روحي، وصفاءٍ قلبي، وشعورٍ سماوي، ومن جهة أخرى أجد فيها لمسات من التاريخ الجزائري العريق، وتراثٍ متجذّر في أعماق القرون.

وذات يومٍ مشرق، اصطحبتُ زوجتي وابنتي الصغيرة إلى مقام "سيدي عبد الرحمان الثعالبي". وعند المدخل، تقدّمت نحونا سيّدة فاضلة وقدّمت لنا نوعًا من الخبز. ويبدو أنها استشعرت استغرابنا من هذه اللّفتة، وأدركت أنها زيارتنا الأولى لهذا المقام، فانطلقت تشرح لنا الأمر قائلة إنه "بركة"، مضيفة أن الزائرين عادةً ما يحملون معهم الهدايا التماسًا للبركة من الله سبحانه وتعالى بشفاعة أوليائه الصالحين.

لم نكن نعلم ما الذي ينبغي علينا فعله بالخبز: هل يُمكننا أكله أم علينا تقديمه لشخص آخر؟ خاصةً وأن رائحة الخبز كانت قوية ومثيرة للشهية. كنتُ متردّدًا في تناوله، استحياءً وخشيةَ أن يكون هذا التصرّف غير مناسب.

بادرتُ السيدة الفاضلة بسؤال صريح: "هل يمكنني أكل هذا الخبز؟" فأجابت: "نعم". تذوّقتُ الخبز، وكان طعمه لذيذًا جدًّا، ومذاقه أعادني خمسين عامًا إلى الوراء، حين كنتُ طفلًا صغيرًا. كانت جدّتي تُعِدّ لنا في البيت خبزًا بالحجم واللون والطعم نفسه. نسمّيه في منطقتنا: "روغن جوشي"، أي الخبز المقلي في الزيت.

حدّثتنا السيدة الفاضلة عن خصوصية المقام، وتاريخ سيدي عبد الرحمان، ومكانته الدينية في الذاكرة المجتمعية الجزائرية. ثم سألتُها عن اسم الخبز الذي قدّمته لنا، فأجابت: "اسمه الخفاف". فقلتُ في نفسي: الشكر لسيدي عبد الرحمان، لقد استضافنا بالخفاف!

تجوّلنا في أنحاء المقام، ووقفنا عند أضرحةٍ عديدة، وقرأنا الفاتحة على أرواح من دُفنوا فيها. وعند مغادرتنا المقام، لفت انتباهنا مبنى كبير، فأخبرتنا السيدة الفاضلة بأنه أكبر ثانوية في الجزائر، لكنه كان في زمن الاستعمار مقرًّا للجيش الفرنسي. وقد كنا محظوظين بهذه السيدة، إذ كانت مُتعمقة في التاريخ، وتمتلك إجاباتٍ وافية على كل أسئلتنا.

ثم دخلنا مقام سيدي عبد الرحمان الثعالبي، وكنتُ قد سمعت وقرأتُ عنه الكثير، وعن مؤلّفاته ودوره في ترسيخ الهويّة الدينية في الجزائر.

كان الجو مشحونًا بعبق الروح، وكان الناس مستغرقين في صمتٍ عرفاني، يجلسون في أطراف الضريح. بدأتُ أنظر إليهم بلهفة وفضول.

قرأتُ ما كان مكتوبًا على قطع الزّليج والرسوم، ورأيتُ قصيدة "البُردة" للإمام البوصيري، الذي يُقال إنّ أصوله جزائرية، من مدينة "دلّس". كنتُ قد حفظتُ من "البُردة" أبياتًا كثيرة في سنّ المراهقة، ورحتُ أقرأ:

أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمِ -- مَزَجْتَ دَمْعًا جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ

تخيّلتُ نفسي في الروضة النبوية الشريفة بالمدينة المنورة، أخاطب رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلّم) مع الإمام "البوصيري" وسيدي "عبد الرحمن الثعالبي"..

مُحَمَّدٌ سَيِّدُّ الْكَوْنَيْنِ وَالثَّقَلَيْـ -- ـنِ وَالفَرِيقَيْنِ مِنْ عُرْبٍ وَمِنْ عَجَمِ

نَبِيُّنَا الآمِرُ النَّاهِي فَلَا أَحَدٌ -- أَبَرَّ فِي قَوْلِ "لَا" مِنْهُ وَلَا "نَعَمِ"

هُوَ الحَبِيبُ الذِي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ -- لِكُلِّ هَوْلٍ مِنَ الأَهْوَالِ مُقْتَحَمِ

كان للجوّ الروحي والنفسي للمكان أثرٌ في تطهير عقلي وقلبي من تعب العمل اليومي واضطرابات الحياة المادية، ومنحني الكثير من السلام والهدوء. كما ذكّرني بذكرياتي في مقامات الأولياء والصالحين في إيران، إذ إنّ قلوب الأولياء واحدة، وأرواحهم تحلّق في سماءٍ واحدة.

كنتُ أتمنّى لو كان لديّ وقت أطول لأجلس هناك في صمتٍ واسترخاء، لكن ابنتي الصغيرة كانت ترغب في الخروج واللعب، فغادرنا المكان. بدأت، كعادتها، تجمع أوراق الشجر من شدّة حبّها للطبيعة.

في تلك الأثناء، اقتربت منها سيّدة مسنّة وقدّمت لها برتقالة بكلّ محبّة وحنان. فشكرناها، أنا وزوجتي، على لطفها. لم نتفاجأ كثيراً، فقد أدركنا أن البرتقالة كانت "لِلبركة".

 أما ابنتي، فقد تصرّفت بعفويّتها المعهودة، وقدّمت للسيّدة ورقة خضراء التقطتها من تحت شجرة.

كان تصرّفها مفاجئاً، وأحسست بقلقٍ من ردّة فعل السيّدة، خشيت أن تعتبر ذلك إهانة أو قلّة احترام، أو أنّها قد لا تتفهّم الأمر. لكنّ السيّدة ردّت بأدبٍ ولباقة وإنسانيّة عالية، وقالت لابنتي مبتسمة: "ما أجملها من ورقة، برافو، شكراً جزيلاً!"

في تلك اللحظة، قلتُ في نفسي: أنظر! سيدي عبد الرحمن استضافنا بـ"الخفاف" والبرتقال، وابنتي ردّت الجميل بورقة خضراء من شجرة! مجرّد ورقة، رغم بساطتها، إلا أنّها حملت في طيّاتها محبّةً صادقة من طفلةٍ أرادت أن تردّ الإحسان وتعبّر عن امتنانها بطريقتها البريئة.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار