الدكتور “محمد رضا زائري” أكاديمي مُتخصِّصٌ في الإعلام الديني والفلسفة الإسلامية والعلاقات (الإسلامية – المسيحية). وهو كاتب وأديب متميّز له أكثر من ثلاثين مُؤلَّفًا في الأدب والترجمة والكتابة الإبداعية والسّردية، تُرجِم بعضها إلى اللغات الأجنبية: الإنجليزية والفرنسية. وهو إعلاميٌّ بارز تجاوزَت مسيرتُه الإعلامية ربع قرنٍ، أسّس خلالها دوريات ومجلاّت، وشغل رئاسة تحرير جرائد منها “همشهري” وهي أكبر جريدة في العالم باللغة الفارسية. إضافة إلى نشاطاته وأعماله في المجالات الثقافية والفنية والإنتاج السينمائي والتلفزيوني. وله أيضًا نشاطٌ كبير في مجال النشر، حيث أنشأ مؤسسة إعلامية مستقلة يَصدر عنها مجلة شهرية ما زالت مُستمرّة في صدورها منذ 23 عاما.
وهذه المساحة: “بحثًا عن الجيم”، تجربةٌ إبداعية أخرى يخوضها الدكتور “محمد رضا زائري” على صفحات جريدة “الأيام نيوز”، يُوثّق من خلالها وجودَه مُستشارًا ثقافيا لإيران في الجزائر.
حين يتحدث الصدق بلغة الناس البسطاء
في خضمّ صخب وضجيج عيادة الطبيب، توجّهت السكرتيرةُ إلى المرأة التي كانت جالسةً أمام زوجتي وسألتها بالدارجة الجزائرية شيئًا لم نفهمه، وهي تشير إلينا. لم ندرك بالضبط ما قالته السكرتيرة، لكننا فهمنا أنها سألت المرأة: من منكما دورها قبل الأخرى؟
أشارت المرأة إلينا وأجابت بصدقٍ تام أننا جئنا قبلها إلى العيادة، مع أنها كانت تستطيع أن تقول العكس، وكنّا بالطبع لن نفهم ما تقول، ولن نفعل شيئًا لو أنها أخذت دورنا ودخلت إلى الطبيب!
لمّا دخلنا إلى الطبيب، فحص ابنتي ولم يأخذ ثمنًا. وحين رأى الاستغراب بادياً على وجهي، ثم إصراري على دفع ثمن الفحص الطبي، قال: «لا، هذه مراجعة فقط، ولا آخذ شيئًا». مع أنه كان من حقّه أن يتقاضى ثمن جهده والوقت الذي أنفقه في فحص ابنتي.
بعد أيام، كنت أريد أن أشتري الخبز من محلٍّ للمواد الغذائية، وحين أردت دفع الثمن، قال لي صاحب المحل: «لا تأخذ هذا الخبز، فقد انتهت صلاحيته». ورفض أن يبيعه لي، مع أنه كان آخر كيسٍ لديه. وكان في وسعه أن يصمت، وألا يقول شيئًا، ويبيع سلعته ويأخذ ثمنها منّي!
مثل هذا السلوك وجدته وعاينته مرارًا عند الجزائريين، وأعتقد أن التزامهم ونزاهتهم أمران جديران بالثناء.
تكرّر هذا المشهد مرة أخرى في شهر رمضان المبارك، مع الطبيب الشاب الذي قدّم لنا مساعدة كبيرة في إسعاف ابنتي طبيًا. كان من المفترض أن يذهب إلى بيته ليفطر، لكنه بقي حتى تأكد من استقرار الحالة الصحية لابنتي. بعدها، تبادلنا أرقام هواتفنا المحمولة، وتفاجأت به يتصل بي بعد يومين ليسأل عن حالتها الصحية.
وفي مرة أخرى، وجدنا جماعة من الشباب على شاطئ مدينة وهران، كانوا يستمعون إلى الأغاني ويلعبون الورق. وما إن انتبهوا إلينا، ورأوا عائلة قريبة منهم، حتى انتفضوا وبادروا بطلب الاعتذار منا عدّة مرّات. مع أنهم في عمرٍ يُتوقّع فيه من الشباب التنمّر أو قلّة الأدب، إلا أن ما صدر منهم لم يكن سوى السلوك الحسن، والأخلاق الحميدة، والنزاهة في المعاملة.
إنّ مثل هذه التصرفات النبيلة، ونمط السلوك الراقي في الحياة الاجتماعية، هو أمرٌ يستحقّ التنويه والتقدير حقًا.
وقد يسألني القارئ الكريم هنا سؤالًا لطالما وُجّه إليّ من قبل، وهو: «ألم تجد في الجزائر نقاطًا سلبية، فصرتَ تمدح هذا البلد وتذكر دائمًا الإيجابيات فقط؟».
والجواب هو: نعم، هناك نقاط سلبية في كل بلد، وفي كل إنسان، لكنني وجدتُ الإيجابيات في الجزائر أكثر بكثير بالمقارنة مع السلبيات، التي يمكن تجاوزها واعتبارها من الأمور الشائعة بين الناس في كل مكان.
وثانيًا، يتوجّب علينا، باعتبارنا مسلمين ومؤمنين، أن نكون مثل النحل، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: "إنَّ مثل المؤمن كمثل النحلة، أكلت طيّبًا، ووضعت طيّبًا". وأنا أحب أن أكون كذلك، وأفضّل أن يكون تركيزي على الإيجابيات.
نعم، لا شكّ أن لديّ أيضًا تجارب مُرّة خلال فترة إقامتي في الجزائر، من بعض التصرفات والأخطاء التي آلمتني، ومن أحداث تركت لديّ انطباعًا غير جيّد. لكنني لا أرغب في التوقّف عندها، فهي – كما قلت – قليلة جدًّا بالمقارنة مع الكمّ الكبير من الذكريات الحلوة والمشرقة التي ما زالت حيّة في وجداني وذهني وقلبي.
ويقيني أن تبقى ذكرياتي عن الجزائر كمائدة عامرة بالأطباق الشهية والحلويات الطيبة، تفتح صدرها لكل من أراد أن يقرأ أو يسمع عن الجزائر من بعدي.