2025.07.17
مقالات رأي
يوم نكبتنا.. يوم استقلالهم

يوم نكبتنا.. يوم استقلالهم


في هذا اليوم – يوم الاستقلال - أعلن أن ذاكرتي ترفض التقاعد، أحاول إدخال ذاكرتي إلى مؤسسة الصمت والتجاهل، لكن ترفض وتعلن العصيان وتقوم بالتحدي، حيث تفتح خلايا الذاكرة وتبدأ بقذف الصور المرتبة فوق بعضها البعض، يا للعجب، الصور ما زالت جديدة، لم يأكلها العث والاصفرار والتمزق، ها هي الصور تخرج.. تهديني عمراً عشته سابقاً!!

اكتشفت أن كلام أبي عن قرية "المجيدل" المهجرة التي أطلق عليها بعد ذلك – مجدال هعيمق – حيث هرب سكان البلدة ليلاً عندما دخلت القوات اليهودية، وعن عمي "جمال" الذي استشهد عندما رجع متسللاً إلى حاكورة البيت كي يقطف بعض حبات البندورة التي كانت قد نضجت، لكن الرصاص كان في انتظاره، فهو لم يتوقع أن يتحول بيته الدافئ إلى لقاء مع الموت الغادر. اكتشفت أن كلام أبي لم يكن حكاية عابرة، كان جمرات تحت الرماد.

في الصف الرابع، تكتب المعلمة عناوين الطلاب في دفتر اليوميات، تسألني ما هو عنوانكم؟ قلت لها: "قرية المجيدل". لا أعرف لماذا قامت المعلمة ونادت مديرة المدرسة التي أخذت تصرخ. أذكر أني بكيت وصمت خوفاً من شكل المديرة الثائر الغاضب. ومن يومها وضعت عنوان "المجيدل" في الذاكرة وأغلقت عليه بالمفتاح وأصبحت أحمل العنوان الجديد "الناصرة".

فوق اللوح الأسود الذي يتوسط جدار الصف، تخرج من المربعات الخشبية وجوهٌ، علينا أن نتصبح بها، نجلس وأمامنا الوجوه المقطبة تنظر إلينا بحدة، كأنها تراقبنا طوال الوقت. المعلمة تؤكد أن هؤلاء من قاموا ببناء الدولة (بن غوريون، غولدا مائير، موشي ديان). كنت أتعجب من هذا الرجل – موشي ديان – الذي يضع على عينه جلدة سوداء، وكان السؤال يحيرني: كيف ينام ويغسل وجهه ويستحم والجلدة فوق عينه؟ ولماذا هو بالذات هكذا؟ وعندما سألت أمي عنه، أجابتني: "يقطعوا ويقطع عينه". ما دامت أمي تكرهه؟ لماذا توضع إذن صورته في الصف؟ وليس فقط في صفنا توضع الصور، بل في جميع الصفوف. أما في غرفة المديرة، فالصور أكبر والملامح أوضح، وصورة موشي ديان تتميز بابتسامة ساخرة تشق شفتيه، كأنه يستهزئ بالمديرة. هكذا تخيلت الابتسامة كلما كنت أدخل غرفة المديرة.

لا أعرف من توسط لجدتي كي تذهب إلى الإذاعة الإسرائيلية وتشترك في برنامج (سلاماً وتحية). وقفت جدتي، وقبل أن تفتح فمها، غصت بالبكاء. أعادوا التسجيل عدة مرات حتى صرخ المسؤول وقال لها مهدداً: "هاي آخر مرة". مسحت دموعها وقالت: "أهدي سلامي لأبني سعيد في لبنان، كيفك يما إن شاء الله منيح؟ ها يما أوعى تتزوج لبنانية، تزوج بس فلسطينية". قام المسؤول بقطع التسجيل وقال لها: "هذا مش وقته"، ولم يقم بإذاعة التسجيل.

قبل يوم الاستقلال، تخرج خلية النحل وتتوزع في المدرسة. نرى البواب المسكين (أبو جابي) وهو يحمل السلم ويتنقل به من زاوية إلى زاوية حيث يثبت شريط الأعلام ويضيف إلى الجدران الشعارات والملصقات التي تؤكد بهجة المدرسة بعيد الاستقلال، وتنطلق أغنية (في عيد استقلال بلادي غرد الطير الشادي) من الجوقة التي تتمرن في البهو الواسع، حيث تصل إلينا في الصفوف. ومما يدفعنا للغيظ أن طلاب وطالبات الجوقة لا يشاركون في الدروس، فهؤلاء يخرجون من الدروس متى شاء معلم الموسيقى.

في يوم الاستقلال، تكون الساحة نظيفة، والكراسي الخشبية مرتبة، والمنصة قد تزينت بصور رئيس الدولة ورئيس الحكومة، وفوقهما العلم يرفرف مدقوقاً على خشبة تهتز كلما اهتز العلم. أما نحن الطلاب والطالبات، علينا البقاء وقوفاً، فالكراسي للضيوف فقط.

عندما كبرت، عرفت أن جميعهم على المنصة كان لهم الثغر الواحد واللسان الواحد، وكانت "إسرائيل" الفتية هي الصبية التي تغزلوا في مفاتنها، والمفتش الذي تعجبت من وجهه الأحمر من شدة ضغطه على مخارج الحروف، والذي طلب منا إنشاد (في عيد استقلال بلادي غرد الطير الشادي)، رأيت صورته بعد سنوات وهو يعانق الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عندما زاره في المقاطعة، مقر إقامته في رام الله.

كانت مديرة المدرسة بعد العرض الرياضي والكشفي وانتهاء الكلمات والقصائد العصماء التي تبدأ بشرح وافٍ عن الدولة من مصانع وحقوق ومزارع وعمال وتنتهي بترحيب دول العالم بها، تتجه المديرة إلى ميدان المبارزة، حيث يتبارز الطلاب والمعلمات والمعلمون من أفضل الصفوف في التزيين، من قدم الأفضل في الإبداع، وجسد فرح يوم الاستقلال. والصف الفائز تكون جائزته لا شيء سوى وضع اسم الصف على لوحة الإعلانات وتقديم التهاني لمربية أو مربي الصف على تفانيه وتفكيره في دمج الإبداع مع الاستقلال، ثم تقوم المديرة بتوزيع حبات "البوظة الثلج" لكل طالب وينتهي الاحتفال.

صور كثيرة تتدفق من الذاكرة كانت تحلم، لكن ما أسوأ من يوم استقلال يحل، والانتظار ما زال في حالة انتظار، تلوكنا السنوات وتبصقنا على رحيل يخرج من رحم رحيل.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار