2025.07.17
مقالات رأي
من وادي عبقر إلى جوّالاتنا.. قراءة في فنجان الجن.. والعين المسكونة

من وادي عبقر إلى جوّالاتنا.. قراءة في فنجان الجن.. والعين المسكونة


يقولون إن وراء كل شاعر عظيم "جنّيًا عبقريًّا"، يجلس عند رأسه كمدير إبداعي متفرّغ. لا يتأخّر عن موعده، يوقظه قبل الفجر ويهمس له: "هيا استيقظ، فالبحر الطويل بانتظارك. هو جنّي من "وادي عبقر"؛ ذلك المكان الذي لا نعرف له بابًا ولا خريطة، لكنه في خيال العرب كان أكاديمية الفنون الأدبية للعالم الآخر. هناك، حسب الروايات، كانت الشياطين تعقد اجتماعاتها على صخور ناعمة، وتكتب أشعارًا بالرّمل قبل أن تسرقها الرياح وتُلقيها في حجر شاعر مسكين فيظن نفسه عبقريًّا.

ولم يكتفِ العرب بالحكاية، بل أعطوا لكل شاعر جنّيًا باسمه: امرؤ القيس وصديقه "لافظ بن لاحظ"، والأعشى مع "مسحل".. أسماء تبدو كأنها خرجت من مسلسل أسطوري، لكنها بالنسبة لهم كانت أصدق من الضوء. والغريب أن أحدًا لم يرَ هؤلاء، لكن حضورهم في القصائد كان أقوى من أيّ دليل، حتى صار الجن جزءًا من تعريف الموهبة. فالشاعر في نظرهم لا يولد عبقريًا، بل يوقّع عقد شراكة مع شيطان موهوب.

مرّت القرون، ولم يخرج الجن من حياتنا. لم يختفوا في الضباب ولم يذوبوا في أساطير الماضي… فقط بدّلوا عناوين سكنهم. من وادي عبقر إلى زوايا الكتب المهجورة، حيث الغبار أكثر وفاءً من القرّاء. تلك الكتب التي إذا فتحتها شعرت أن غبار القرون العتيقة يزحف إلى صدرك مع أول نفس. خذ مثلًا كتاب "شمس المعارف الكبرى" لـ "البوني"؛ مجرد اسمه كفيل بأن يغيّر مسار أيّ جلسة. لا تحتاج حتى إلى قراءته؛ فذكره وحده يجعل البعض يبتسم بتوتر، والآخرين يتهامسون وكأنك استدعيت شيئًا من عالمٍ آخر. يُقال إنه مليء بالطلاسم والتعاويذ التي تفتح أبوابًا… وأبواب الغيب، كما نعلم، ليست من النوع الذي تحبّ أن تُطرق فجأة. الغريب في الأمر أن هذه الكتب لم تكن يومًا دخيلة على ثقافتنا؛ إنها جزء أصيل من تاريخ طويل اعتاد أن يجعل الماورائيات مفتاحًا لتفسير كل ما استعصى على العقل… أو على الكسل.

في طفولتنا، لم يكن الخوف من الجن مجرد حكاية نسمعها قبل النوم، بل كان جزءًا من منهج التربية غير المعلن. الأمّهات والجدّات كنّ يعرفن جيدًا كيف يستعنّ بالخيال لضبط سلوكنا: "لا تخرج بعد المغرب، الجن بيخطفوك"، "نم قبل ما يجيك أبو رجل مسلوخة"، "إياك تروح عالنهر لحالك، بيطلع لك الغول". كنا نصدق ببراءة، نرتجف بصدق، ونبقى في أماكننا كما أردنَ تمامًا.

وكان لكل بلدٍ عربي حكاياته المرعبة. ففي لبنان، كان شبح "أم الشعور" يطلّ من بين الظلال، بشعر طويل مبلل يتدلّى كالأفعى، تخطف الأطفال من أقدامهم إذا تجرّأوا على اللعب قرب المياه. وفي المغرب والجزائر، عاشت "عيشة قنديشة" في الذاكرة الشعبية؛ امرأة فاتنة تظهر للرجال ليلًا لتغويهم قبل أن تقودهم إلى نهايات لا تُحمد. أما في الشام، فهناك "الطنطل" الذي يظهر في الطرقات المهجورة، و"أبو لبده" الذي يسكن الخرائب وكأنه حارس عقّارات مسكونة.

لكن الجن لم يبقوا أسرى الحكايات الشفوية؛ لقد انتقلوا معنا إلى الشاشة الكبيرة والصغيرة. في أفلام الأبيض والأسود ظهروا في صورة كوميدية: يرقصون، يختفون فجأة، يطلقون دخانًا ويغنّون على إيقاع الطبلة. ثم تطوّروا في السينما الحديثة ليصبحوا أكثر ذكاءً ورعبًا؛ في "الفيل الأزرق" مثلًا، لم يعودوا يكتفون بتخويف الأطفال، بل صاروا يغزون النفس البشرية نفسها، يتقمّصون وجوهًا بشرية، ويتسللون إلى التفاصيل التي لا نراها. أما في الأدب، فقد منحنا "أحمد خالد توفيق" تجربة مختلفة: قرأنا عنهم بين رغبة حقيقية في التصديق وابتسامة ساخرة تخفي خلفها سؤالًا أكبر: وماذا لو كان كل هذا حقيقيًّا؟

ورغم أن الجن فقدوا بعض سطوتهم في المدن الحديثة، إلا أن العين والحسد بقيَا أقوى من أيّ زمن مضى. الحسد، ذلك الضيف الثقيل الذي يتّهمه الناس بإفساد الأفراح وكسر القلوب وتعطيل المشاريع. في ثقافتنا، العين أسرع من الرصاصة، وأفتك من أيّ وباء عالمي، ولا تحتاج حتى إلى ذخيرة… مجرّد نظرة تكفي. لذلك اخترعنا طقوس الحماية: الخرزة الزرقاء على الأبواب، رشّة الملح على العتبات، وعبارة "ما شاء الله" التي نكرّرها بحماسة في كل حديث عن نجاح أو جَمال حتى صارت بمثابة كلمة مرور اجتماعية. هذه كلها طقوس بِتنا نمارسها حتى لو كنا نضحك عليها أحيانًا. ومع وسائل التواصل، تطورنا أكثر. أصبحنا نخفي وجهتنا قبل السفر، نقتطع الصور حتى لا يظهر شيء فاخر، نعيش في صراع يومي بين الرغبة في مشاركة الفرح والخوف من أن ندفع ثمنه بنظرة عابرة.

ربما نفعل ذلك لأن هذه المعتقدات تمنحنا تفسيرًا مريحًا لكل ما لا نحتمله. فبدل أن نلوم أنفسنا على فشل أو خسارة، نرمي التّهمة على عين حاسدة أو جنّ متربص، فيرتاح الضمير قليلًا. لكن المشكلة أن المبالغة في هذا الاعتقاد تجعلنا أسرى له؛ سجناء خوف دائم من نظرة، أو كلمة، أو حتى فكرة. وكأننا نعيش حياتنا تحت تهديد "التصويب البصري" أكثر من أي شيء آخر.

والدين نفسه أقرّ بوجود الجن والعين، لكنه رسم لهما حدودًا واضحة ومعاني دقيقة. غير أن الطبيعة البشرية لا تُقاوم الإضافات؛ فالنص الصريح يختلط بالموروث الشعبي حتى يصبح الحذر خرافة، وأحيانًا… تجارة رابحة. كم من "راقي" أو "شيخ" يحوّل خوف الناس إلى مصدر رزق مضمون، يبيع ماءً مقروءًا عليه وكأنه إكسير الحياة، أو يَعِد بطرد الجن مقابل جلسات لا تنتهي، وكأن الأرواح الشريرة تعمل بنظام الاشتراكات الشهرية.

ومع ذلك، لا يبدو أن الجن والعين والحسد سينتهون يومًا. الجن غيّروا وجوههم فقط: تركوا الخرائب ليظهروا في رواية تشدّك، أو فيلم يثير أعصابك، أو مقطع مرعب على "تيك توك" يُشعرك أن هاتفك مسكون. أما الحسد، فلا يحتاج حتى إلى التخفّي؛ إنه يعيش بيننا بلا أقنعة: في البيت، في العمل، في السوق، وربما في قلب أقرب الناس.

الفرق أن زمننا الحديث لم يكتفِ بالحسد التقليدي؛ بل ضاعف سرعته وانتشاره. فالشاشات جعلت المقارنة عادة يومية، وجعلت حياتنا معروضة بالكامل أمام عيون الغرباء، حتى صار كل نجاحٍ، وكل فرحة، وكل قطعة حلوى نشارك صورتها، هدفًا مفتوحًا على احتمالات الغيرة… أو ما نحب أن نسمّيه: العين القاتلة.

ربما لا نرى ما رآه الأجداد، وربما لم نعد نفسّر كل حدثٍ بالغيب كما كانوا يفعلون، لكن شيئًا فينا ما زال يقفز قلبه حين تُروى حكاية عن جنّي يزور البيوت، أو عينٍ أسقطت عروسًا في يوم فرحها. نحن مزيج من المنطق والخوف، من الإيمان والدهشة؛ نعيش في عالم حديث، لكننا نحتفظ في زوايا قلوبنا بباب صغير لا نجرؤ على إغلاقه تمامًا. ومن خلف ذلك الباب، لا نعرف ما ينتظرنا: ربما هو جنٌّ يبتسم، وربما نظرة حاسدة، وربما صمت المكان نفسه يحمل شيئًا يراقبنا. نغلق أعيننا لوقتٍ قصير، ونعتقد أننا آمنون… لكن أحيانًا، في خضم الليل، وفي همس الريح بين الجدران، نشعر أن شيئًا ما لا يزال هناك، يراقبنا، يضحك لنا بخفاء، وكأن الغيب لم يغب أبدًا.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار