2025.07.17
مقالات رأي
 تعويذة \

 تعويذة "الحاج عمر".. وأشباح بيت جدّي


في أيام آب/ أوت الملتهبة، الشبيهة بهذه التي نعيشها الآن، كنا نحمل حقائبنا الصغيرة ونشدّ الرّحال لأيام متتالية إلى حضن بيت الأجداد، بعيدًا عن ضجيج المدن وزحام المجاملات، كنّا كالبدوِ الرُّحّل، نسير على وقع شارة مسلسل "الزير سالم"، لكن بفارقٍ بسيط هو أنّنا أطفال هناك، ولا "جسّاس" بيننا أو "جحدر" وكانت أكبر "حرب بسوس" تقوم بيننا من أجل قنينة "عرق سوس"، كان كل شيء نقيًّا وصحيًّا؛ الهواء نقي، والطعام والشراب من خيرات الأرض، وكانت الكلمات صادقة خالية من شوائب التملّق.

في بيت الأجداد، كنّا نفعل ما لا نجرؤ على فعله في بيوتنا. نقفز، ونلهو، ونصرخ، ونطرق أبواب الجيران ونهرب، من دون أن يلاحقنا أحد. أذكر جيدًا ذاك العجوز الملقب بـ "الحاج عمر" رحمه الله، كلما جئتُ إلى بيت جدي، كنت أتسلل إلى حديقته، أعبث بشجرة التوت، أتسلّقها، وأقطف حباتها الحلوة أنا و"العصبة" من أخوالي وخالاتي، الذين لا يكبرونني إلا بعام أو ثلاثة، بل وبعضهم يصغرني ببضعة أشهر.

كان "الحاج عمر" يخرج من بيته متكئًا على عصاه، مسبحة زرقاء في يده، وعلى باب منزله "كفّ العبّاس"، ويبدأ بالصراخ حين يسمع ضحكاتنا المتناثرة. لم أكن أشعر بوجوده، لأن تركيزي كان منصبًّا إما على شجرة التوت أو على عناقيد العنب النائمة قرب النهر الصغير الذي يصل بيته ببيت جدي. كنت أهرب قبل أن يصلنا بثوانٍ، فيتعجب الجميع: "كيف عرفتِ أنه قادم وأنتِ لم تريه؟" فأردّ مازحة: "الله خلق لي عيونًا خلف رأسي".

لكن الحقيقة أنني كنت أتعرّف على قدومه من رائحة البخور التي تسبقه، ولم أخبرهم بهذا السرّ كي لا يسبقني أحد في الهرب، وحتى تكون لسعة العصا من نصيبي وحدي. ثم يذهب إلى جدّي ليشكونا، بينما نحن نقف بعيون بريئة ونقول: "لن نعيدها". فيحاول جدّي إغراءنا بشجرة توت أكبر، وثلاث شجرات عنب، وشجرة جوز ضخمة، لكننا نهزّ رؤوسنا صامتين، لأن المتعة الحقيقية لم تكن في التوت أو العنب، بل في الهروب من ذاك العجوز والضحك بأعلى صوت.

في إحدى المرّات، نصب لنا فخًا ليمسك بنا. وضع ثلاث حبّات طماطم صغيرة وأربع جوزات قرب النهر، وجلس يراقب. فضولنا جرّنا نحو الطعم، وفجأة انقضّ علينا صارخًا، وأمسك بي، بينما فرّ الجميع. يومها لم أشمّ رائحته؛ فقد كنت أعاني من زكام الصيف الذي سرق مني حاسة الشم.

أخبرني الأولاد بعدها أن "الحاج عمر" قرأ عليّ "تعويذة" جعلت العيون التي في مؤخرة رأسي تختفي. وبالطبع لم أخبرهم أن العيون لم تكن موجودة أصلًا، لكنني صدّقت الكذبة مع الوقت، خاصة بعدما بدأوا يهددونني بأنه يستطيع إرسال الجن والأشباح ليمسكوني، خصوصًا في الليل.

والحقيقة أنني كنت أرى الأشباح فعلًا في بيت جدي، تحديدًا عند النوم في تلك الغرفة التي كنت أهرب منها كل ليلة إلى غرفة المعيشة، رغم أن فيها شبحًا آخر عريض الكتفين يقف على الباب. لكن الغريب أنه لم يكن يخيفني مثل الأشباح الثلاثة الذين كانوا يقفون خلف باب غرفة النوم، شامخين، يحدّقون بي بصمت طوال الليل. وعندما أخبرت أمي، نصحتني بقراءة آيات التّحصين قبل النوم، ومنذ ذلك الحين لم يقترب مني شيء.

كنت أتحصّن بشدّة، أغطّي جسدي بالكامل حتى أطراف أصابعي، رغم الحرّ الشديد وكل هذا كي يتعذّر على الجن سحبي، وأغمض عيني بقوة عندما ينطفئ النور رغم أن نتيجة الظلام واحدة وفي الحقيقة ما زلت إلى الآن إن ذهب النور من دون إنذار أغمض عينيّ ريثما يعود.

وفي أحد الأيام، لعبت كثيرًا حتى غلبني النعاس ولم أتحصّن. وفي منتصف الليل، شعرت بالأشباح الثلاثة تنقضّ عليّ، فصرخت حتى استيقظ الجميع. وكانت المفاجأة أن تلك الأشباح لم تكن سوى سجّاد جدتي، تضعه خلف الباب في شهر آب/ أوت حتى الشتاء، وإذا فتح أحدهم الباب دفعة واحدة سقطت السجّادة على الأرض ومعها أوهامي.

ضحك الجميع، لكنني أسررت لهم أن هناك شبحًا حقيقيًّا، وأشرت إلى باب غرفة المعيشة. عندها قال جدّي مبتسمًا: "هذا معطفي الصيفي، أرتديه وأنا ذاهب إلى المسجد".

ساد الصمت، وشعرت أن قصّتي انتهت، لكنني قررت أن أفشي سرّ "الحاج عمر". وقبل أن أتكلم، قال جدّي: "إنه رجل تقي، والكلمات الغريبة التي يتمتم بها ما هي إلا دعاء لنا أن يهدينا الله إلى أحسن حال". كانت تلك صدمة كبيرة، لكنها حملت معها دفء الحقيقة.

ليتها تعود تلك الأيام… أيام الأشباح المزعومة، والضحكات الصادقة، والهروب الذي كان بطعم الحرية، والأمان الذي كان يسكن حتى في قلب الخوف.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار