ظل اسم الشيخ الدكتور يوسف جمعة سلامة راسخًا في ذاكرة الشعب الفلسطيني، خاصة في مدينة غزة، حيث كان له دور محوري في العديد من الجوانب الدينية والتعليمية والاقتصادية. شهدت فترة عمله ما بين عامي 1994 و2005م، تغيرات مهمة في مجالات الأوقاف التي كان له فيها بصمة واضحة، إذ عمل على إحداث نهضة شاملة تخدم الشعب الفلسطيني في ظل الظروف الصعبة التي كان يمر بها القطاع.
ولد الشهيد يوسف جمعة سلامة بتاريخ 16 أكتوبر سنة 1954م، واستشهد في 31 ديسمبر سنة 2023م في حرب طوفان الأقصى. وهو من مواليد مخيم المغازي وتعود أصوله إلى قرية بيت طيما في قطاع غزة. عمل في مجال التربية زهاء عشرة أعوام (1974 – 1984م)، ثم أصبح مديرًا للعلاقات العامة في جامعة الأزهر من عام 1984 وحتى عام 1990م، ثم أصبح مسؤولًا عن المجلس الأكاديمي في جامعة الأزهر لمدة عامين. عمل مديرًا للوعظ والإرشاد الديني في جامعة الأزهر سنة 1992م، ثم محاضرًا (1993 – 1994م).
وفي فترة مجيء السلطة الوطنية الفلسطينية، شغل منصب وكيل مساعد في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية لمدة عامين (1994 – 1996م)، ثم نائب الوزير الشيخ حسن طهبوب من سنة 1996 – 2000م. كما تم تعيينه خطيبًا وإمامًا في المسجد الأقصى عام 1997م، وتقلد منصب نائب رئيس الهيئة الإسلامية العليا، بعدها عُيِّن وزيرًا للأوقاف بالوكالة لمدة خمسة أعوام (2000 – 2005م)، واستمر وزيرًا للأوقاف منذ سنة 1998 – 2006م.
أكمل دراسته العليا متخصصًا في الوقف الإسلامي في فلسطين، وحصل على شهادة الماجستير من الجزائر سنة 2001م، وكان موضوع أطروحته الوقف الإسلامي، وعلى شهادة الدكتوراة عام 2005م، وكانت أطروحته بعنوان: "التكافل الاجتماعي في الوقف الإسلامي وآثاره في فلسطين". انتُخب ممثلًا للجنة الإسلامية العليا في القدس، وكان عضوًا في المجلس الاستشاري لكلية القرآن والدراسات الإسلامية في جامعة القدس، وعضو مجلس أمناء جامعة الأزهر في غزة. نشر عدة كتب عن البعد الإسلامي للقضية الفلسطينية سنة 2002م، والحرية الدينية في الإسلام سنة 2004م.
الشيخ يوسف سلامة كما عرفته: أيقونة العمل المؤسساتي في فلسطين
أذكر أنني تقابلت معه في أواخر سنة 1994 في مقر الأوقاف الإسلامية في مدينة غزة، وكانت المقابلة بغير موعد، حيث كان الشيخ – رحمه الله – قد تولى منصب الوكيل المساعد لوزارة الأوقاف الإسلامية في عهد الحكومة الفلسطينية الجديدة. وكنت قد عزمت على الاستقالة وقتها، وكان الزملاء يعرفون ذلك، فما كان من الشيخ إلا أن سأل عني وعرف بأني سأغادر الوظيفة، فما كان منه إلا أن جاء إلى مكتبي مع بعض الموظفين، وجلس معي، وقال لي: "سمعت عن إنجازاتك، ومن المهم أن تكون معنا، وسأتحدث مع معالي الوزير بخصوصك". ولما سمعت منه هذا الكلام، عدلت عن الاستقالة وبقيت معه في الوزارة، وبالأخص في بدايات التأسيس، وكان عملي الأساسي هو رئيس قسم المخطوطات والمكتبات.
كان مبدعًا في استثمار الطاقات ورعاية المهارات، وقد تجسدت هذه الرؤية فيما بعد بشكل أكبر حينما اتخذ قرارًا فوريًا بالبدء في مشروع كتاب "المساجد الأثرية في مدينة غزة"، ومشاريع أخرى علمية وبحثية وعمرانية واجتماعية واقتصادية، كلها أثرت مؤسسة الوقف وأعادت لها مكانتها ودورها التاريخي عبر التاريخ الإسلامي. لم يترك صغيرة ولا كبيرة بهذا الصدد، وكان جل تركيزه على التعليم الشرعي بمختلف مراحله من الابتدائي وحتى التعليم الجامعي، حيث أنشأ كلية الدعوة والعلوم الشرعية، وتخرج منها العشرات من طلبة العلم الشرعي.
■ دور الشيخ سلامة في تأسيس التعليم الديني:
• أنشأ المدارس والكليات في مدينة غزة وجميع المحافظات، ولم يقتصر دور التأسيس على مدينة غزة المركز بل امتد لشمالها وجنوبها.
• في هذه العجالة، لا أريد أن أؤرخ لحياة الشيخ رحمه الله، فذاك موضوع آخر، وهو يستحق كل عناية، والوثائق والمنشورات والإصدارات تنم عن اهتمامه الكبير بتطوير مؤسسة الأوقاف، لتضاهي بذلك وزارات الأوقاف الكبيرة في عالمنا العربي والإسلامي، رغم قلة الموارد والإمكانيات.
كان الشيخ يوسف سلامة – رحمه الله – من العاملين للإسلام، ومن دعاته وخطبائه منذ السبعينيات، وقد لازم الشيخ سليم شراب والشيخ عبد الكريم الكحلوت وغيرهما. وكان خطيبًا مفوهًا فصيحًا، يطرق القضايا الحساسة التي لها علاقة مركزية بالقضية الفلسطينية والمسجد الأقصى المبارك، وكان من أجدر الخطباء على مستوى العالم العربي والإسلامي في تبيان وإيضاح الحق الفلسطيني في أرض فلسطين والمسجد الأقصى، وقد تناولها في جميع كتبه ومقالاته، إضافة إلى نشاطاته الدعوية.
وقد قام بإصدار كتاب في بدايات حياته الدعوية عن تحريم الخمر، وآخر عن تعليم الصلاة، وكان إمامًا وخطيبًا للمسجد الكبير في المغازي، مسقط رأسه. وقد تميز الشيخ بالأخلاق الرفيعة ودماثة الخلق، وكان يجيد توظيف وتشبيك القدرات والإبداعات لدى موظفي الوزارة، وكان يقدّر المهارات ويقدّر العلماء.
■ علاقة عضوية وروحية بين الشيخ والمسجد الأقصى – أولى القبلتين:
كرّس حياته لخدمة المسجد الأقصى، وكانت مواقفه واضحة تجاه القضية الفلسطينية، يرفض دوما ما تفعله قوات الاحتلال "الإسرائيلي" في بلده، وينادي بأعلى صوته بضرورة تحرير الأقصى من العدوان الغاشم. إذ ظل لآخر نفس يؤكد أنه لا قيمة لفلسطين بدون القدس، فهي لؤلؤة فلسطين، وأن الأقصى هو قلب فلسطين النابض، حتى اغتالته يد الاحتلال، هو الشيخ يوسف سلامة خطيب المسجد الأقصى السابق.
■ أعماله وإنشاءاته وتعميراته:
• جمعيات تحفيظ القرآن الكريم
• المدارس الشرعية
• كلية الدعوة الإسلامية
• مسابقة الأقصى الدولية والمحلية في حفظ القرآن الكريم وتفسيره
• ديوان الحفاظ
• إذاعة القرآن الكريم
• جائزة ياسر عرفات للدراسات والبحوث الإسلامية
• صاحب فكرة طباعة "مصحف بيت المقدس"، وتنفيذها
• مؤتمر الوعظ والإرشاد السنوي
• لجنة زكاة المغازي
■ مؤلفاته وكتبه:
• إرشادات دينية في بدع المآتم – الطبعة الأولى 1975م
• إرشادات دينية في الطريق إلى الزواج الإسلامي السعيد – الطبعة الأولى 1977م
• مناسك الحج والعمرة – الطبعة الخامسة 2005م
• دليل النجاة في أحكام الطهارة والصلاة – الطبعة الثالثة 2010م
• ملخص عام عن أحكام الأضحية – الطبعة الثانية 1990م
• أحكام الصيام في شهر رمضان – الطبعة الثانية عشرة 2010م
• المعجزات والحقائق الكونية في القرآن الكريم – الطبعة الثانية 2002م
• الحوار في الإسلام – 1997م
• الوسطية في الإسلام – 1999م
• إنجازات وزارة الأوقاف – سنة 2000م
• حقوق الإنسان في الإسلام – 2001م
• التسامح في الإسلام – 2001م
• البعد الإسلامي للقضية الفلسطينية – 2002م
• مكانة فلسطين في الكتاب والسنة – 2003م
• دور المسجد ورسالته ومكانته وآدابه – 2004م
• حقوق المرأة في الإسلام – 2004م
• دور جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في نشر العلم والنور – 2005م
• دليل الأئمة والخطباء – 2006م
• إسلامية فلسطين – الطبعة الثالثة 2010م
• معالجات إسلامية (الجزء الأول) – الطبعة الثانية 2010م
• دليل المسجد الأقصى المبارك – 2011م
• كتاب "إسلامية فلسطين"
إسلامية فلسطين تعني: الأرض المقدسة – أرض الرباط – أولى القبلتين – ثاني المسجدين – ثالث الحرمين الشريفين – مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – منها عرج إلى السماء، الأرض التي بارك الله فيها وحولها – أرض المحشر والمنشر – الأرض التي ورد بخصوصها لفظ البركة سبع مرات، جميع هذه المعاني نجدها في هذا الكتاب الذي نحن بصدد عرضه على القراء الكرام.
الكتاب من الحجم المتوسط، احتوى على مائة وعشرين صفحة، في إطار بابين، وكل باب احتوى على عدة فصول، مع مقدمة وعرض للدراسات السابقة، ثم اختتم الكاتب بفصل هام وهو "واجب المسلمين تجاه فلسطين والمسجد الأقصى" مع خاتمة قصيرة مُلخَّصة لما في الكتاب. نُشر الكتاب في سنة 2007 منذ شهر تقريباً، وصدر عن "مركز قدس نت للدراسات والإعلام والنشر الإلكتروني".
مؤلف الكتاب: هو الشيخ الدكتور يوسف جمعة سلامة، خطيب المسجد الأقصى ووزير الأوقاف والشؤون الدينية الأسبق. والأخ الشيخ قام بكتابة وبحث هذا الموضوع -في تصوري- لعدة أسباب: منها انشغال الجميع دون استثناء بالسياسة والحاجات اليومية الآنية، وقد مرت فترات لم يذكر أحد في خطاباته ولا مطالبه "مدينة القدس"، وقلما سمعنا دعوة منفردة هنا أو هناك تحذّر من تهويد المدينة وطمسها والانقضاض عليها. فجاء هذا الشيخ ليقول للجميع: "إن فلسطين وبيت المقدس إسلامية، لذلك فواجب على المسلمين جميعاً في جميع أنحاء العالم – واجب ديني وعقدي – عليهم أن يحرروها، كما حررها صلاح الدين الأيوبي من الصليبيين"، كما أراد هذا الشيخ أن يصدع في آذان الجميع: إن إسلامية فلسطين تلك البقعة المباركة، لها خصوصية استمدّتها من كتاب الله وسنة رسوله، فتحريرها والتمسك بها هو من عقيدة المسلم، والمسلم الذي يقصر فيها كأنما قد قصّر في عبادة الله عز وجل، مما يقتضي خللاً في عقيدته. كما أراد شيخُنا أن يقول للجميع بصوت عالٍ: "لا تنشغلوا بمطالبكم الآنية القصيرة المدى – عن تحرير فلسطين".
لذلك افتتح الكاتب كتابه بالآية الأولى من سورة الإسراء بقوله تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" الإسراء (1)، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ورد في الجامع الصحيح للإمام البخاري: "لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى". يقول الكاتب ص6: "تحتل فلسطين مكاناً مميزاً في نفوس العرب والمسلمين، حيث تهفو إليها نفوس العرب والمسلمين، وتُشدّ إليها الرحال من كل أنحاء المعمورة، ففيها: المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين الشريفين، وفيها التاريخ الإسلامي العريق الذي يزرع نفسه بقوة في كل شارع من شوارعها، وكل حجر من حجارتها المقدسة، وكل أثر من آثارها". كما يبيّن الكاتب أهمية موقع فلسطين فيقول: "هذا الموقع الفريد الذي أعطى فلسطين تلك المكانة الحضارية الخاصة عبر التاريخ، أعطاها أيضاً في العصر الراهن أهمية سياسية بالغة على المستويين العربي والدولي" ص10.
بعد أن اختتم الكاتب حديثه عن موقع فلسطين الجغرافي وأهميته، بدأ بفصل: "فلسطين في أدب الفضائل"، حيث بيّن أهمية فلسطين ودرتها مدينة القدس، وأهم ما جاء فيه: رواية عن مقاتل بن سليمان أوردها مجير الدين الحنبلي في كتابه الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل، ونص الرواية هو: "ما فيه شبر إلا صلى عليه نبي مرسل أو قام عليه ملك مقرب... وتاب الله على زكريا وبشره بيحيى في بيت المقدس، وكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقرّبون القرابين في بيت المقدس، وأوتيت مريم عليها السلام فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء في بيت المقدس، وُلد عيسى عليه الصلاة والسلام وتعلّم في المهد صبياً في بيت المقدس، وأعطى الله البراق للنبي صلى الله عليه وسلم – لتحمله إلى بيت المقدس" ص14.
ثم عرّج الكاتب على ناحية مهمة، حيث عرض علينا في هذا الفصل أسماء الكتب المخطوطة التي كُتبت حول فضائل بيت المقدس، وهذه ناحية مهمة نحن اليوم بحاجة ماسّة لنشر هذه المخطوطات الهامة والفريدة، لقد كُتبت تلك المخطوطات أثناء الجهاد المقدس مع المحتل الغاصب الصليبي، وكانت بمثابة الزاد والقوت والمحرّك لتوحيد الأمة بمختلف تياراتها، جميعها اتحدت لما عرفت فضل ومكانة تلك البقعة المقدسة، وما أحوجنا اليوم للتعرف على تلك الكتب، فقد أورد الكاتب خمسة وعشرين عنواناً من عناوين تلك المخطوطات الهامة (ص15-17).
الباب الأول من الكتاب:
هو بمثابة دراسة تأصيلية لمكانة القدس وفلسطين في الإسلام، لذلك بدأ الكاتب بالفصل الأول بعرض مكانة فلسطين في القرآن الكريم، مرتكزاً بالدرجة الأولى على الآية الأولى من سورة الإسراء – هذه السورة نستطيع أن نقول إنها جوهر القضية ولبّ الصراع – فقد ورد من أسمائها سورة بني "إسرائيل"؛ صراع الوجود الجوهري في تلك البقعة المقدسة بين المسلمين وبين بني "إسرائيل" في أرض الرباط – فلسطين. وقد بيّن الكاتب الرابط المقدس بين المسجدين – المسجد الحرام والمسجد الأقصى، ثم قام باستحضار وإيراد جميع الآيات التي وردت بصدد فلسطين والتي جاء فيها لفظ البركة، وهي سبع آيات، مع تفسيرها وبيان معانيها وأهميتها، مستشهداً بما جاء في التفاسير المعتمدة لدى علماء أهل السنة كالطبري، وابن كثير، وابن عطية، والآلوسي، والقرطبي، وغيرهم. وهو مبحث تأصيلي مهم جداً، ولعله القاعدة التي بنى نظريته حول إسلامية فلسطين – فالمصدر الأول من مصادر الشريعة ينبهنا إلى أن هذه الأرض لها من الفضائل والخصوصية ما لم يكن لغيرها، فلفظ البركة والطهارة، التقديس كله "عن فلسطين الحبيبة".
■ الفصل الثاني : "فلسطين في السنة النبوية الشريفة"
وهو تكملة مهمة لتعزيز مكانة فلسطين، وذلك ببيان ما جاء في المصدر الثاني بعد القرآن الكريم، ألا وهو السنة النبوية، حيث ارتكز الكاتب على مجموعة مهمة من الروايات الصحيحة التي وردت في كتب السنة المعتمدة مع شرحها وأقوال علمائنا الأفاضل فيها. بدأ الشيخ بما رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك، قال عمير: فقال مالك بن يخامر: قال معاذ "وهم بالشام"، فقال معاوية: هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول: "وهم بالشام"، والرواية الأخرى عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا: وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس". وبين الشيخ الفاضل كيف أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على أهل بيت المقدس وأن الخير باقٍ فيهم إلى يوم القيامة وأنهم ثابتون على العقيدة والمبدأ، وهم الذين تخرج منهم الطائفة المنصورة – إن شاء الله تعالى – وأن بيت المقدس هو حصن الإسلام، وهو القضية الأم والمركزية للمسلمين جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها إلى يوم القيامة، على الرغم من كل ما تعصف به من محن، ومؤامرات، وتهويد. "راجع ص32 بتصرف".
ومن الروايات الهامة في هذا الفصل: الحديث الذي ورد عن أبي ذر – رضي الله عنه – أنه قال: قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: المسجد الحرام، قال: قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصله، فإن الفضل فيه.
وعن أهمية المسجد الأقصى وكيف كان قبلة المسلمين: ما ورد عن البراء بن عازب – رضي الله عنه – قال: "صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم – نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ثم صرفنا نحو الكعبة". لقد كانت القدس القبلة الأولى للمسلمين منذ فرضت الصلاة في ليلة الإسراء والمعراج، حتى أذن الله بتحويل القبلة إلى بيت الله الحرام.
وكذلك نقرأ الرواية المهمة بشد الرحال والصلاة في بيت المقدس حيث روى عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى". وهذا يدل على الاهتمام الكبير الذي أولاه الرسول – صلى الله عليه وسلم – للمسجد الأقصى المبارك، حيث ربط قيمته وبركته مع قيمة وبركة شقيقه المسجد الحرام. "ص23".
في هذا الفصل الهام استوفى الكاتب جل الروايات والأحاديث الواردة في بيت المقدس وفلسطين والمسجد الأقصى، وفضله وبركته وفضل زيارته وأهميته. هي مبثوثة في الصفحات من (32-45)، فلتراجع لأهميتها وتنوعها.
■ الفصل الثالث : "فلسطين أرض الأنبياء"
وقد بين المؤلف في هذا الكتاب كم من الأنبياء كانت فلسطين محط رحال الكثيرين منهم، وكفى أرض فلسطين شرفاً أن تكون مأوى ومهاجرًا لسيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولوط عليه الصلاة والسلام، ومحط رحال ليعقوب ويوسف -عليهما الصلاة والسلام-، كما صلى رسولنا محمد – صلى الله عليه وسلم – إمامًا بالأنبياء في المسجد الأقصى المبارك، وما من شبر في أرض فلسطين إلا وكانت له حكاية مع نبي من أنبياء الله تعالى. وهذا ما عززه أيضًا في الباب الثاني الفصل الأول تحت عنوان "فلسطين محط أنظار المسلمين" وأما الفصل الثاني "فلسطين للمسلمين وليست لليهود"، وفيه يناقش المؤلف فرية الحق التاريخي، ويفند مزاعم اليهود حول هذه القضية. وأول فرية من تلك الافتراءات هي فرية الحق التاريخي حيث يزعم اليهود أنهم كانوا في هذه الأرض قبل العرب والمسلمين بعدة قرون، فيرد عليهم الكاتب فريتهم بالأدلة التاريخية التي استعرض من خلالها تاريخ فلسطين منذ العصر الحجري وحتى عصرنا الراهن بصورة موجزة ومكثفة، ثم يقرر أخيرًا: "أن الحق التاريخي لليهود في أرض فلسطين افتراء باطل لا أصل له، ولا يقوم على أي أساس" ص73-80. ثم ينتقل الكاتب كالفارس في ميدان مواجهة أو ساحة حرب، لينتقل إلى فرية الحق الديني، حيث إن داود وسليمان أنبياء اليهود كما يزعمون، وأن الله عز وجل قد أعطى إبراهيم عليه السلام أرض فلسطين له ولنسله "أرض الميعاد"، فكيف تكون هذه الأرض للمسلمين؟! يفند شيخنا هذه المزاعم الباطلة، مستعرضًا لها أولًا كما هي، أو كما زعموا بلغتهم وتفكيرهم وعنجهيتهم، ويبين أننا لو قرأنا القرآن الكريم لوجدنا أن الآيات القرآنية تتحدث عن الإسلام رسالة السماء إلى العالمين منذ خلق الله آدم عليه الصلاة والسلام حتى نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها مثل قوله تعالى: "ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا" وقوله تعالى: "إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين" وقوله تعالى: "ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، أي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وصى بهذه الملة وهي ملة الإسلام الحنيفية. ثم يكمل الكاتب نظريته حول هذه الفكرة الهامة – التي تجرد من سموا أنفسهم بني إسرائيل "نسبة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" – أنبياء بني إسرائيل السابقين – فجميع الأنبياء والمرسلين - عليهم الصلاة والسلام - حسب ما يورد لنا الكاتب، هم الأساس واللبنة التي بني عليها الإسلام الحنيف، مستشهداً في ذلك بحديث الرسول – صلى الله عليه وسلم: "أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى"، وتقريره - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الشريف "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بيتًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: "هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"، وقد تسلم الراية من إخوته الأنبياء – في المسجد الأقصى المبارك ليلة الإسراء والمعراج – حيث صلى بهم إمامًا، فهذا يعني أنه صلى الله عليه وسلم – قد تسلم قيادة البشرية، ومن بعده أمته وأتباعه إلى يوم القيامة. ص84-85 وما بعدها. ثم يوضح لنا شيخنا فكرة هامة وهي: أن الله عز وجل يعطي الأرض ويورثها للمؤمنين الصالحين من عباده "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" و"إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه"، أي أن أحق الناس بالانتساب إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أتباعه الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره وبعده "وهذا النبي" أي محمد – صلى الله عليه وسلم –، "والذين آمنوا" أي المؤمنون من أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – فهم الجديرون بأن يقولوا نحن على دينه لا أنتم "والله ولي المؤمنين" – أي حافظهم وناصرهم". والمسلمون هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. والخلاصة من كل ما سبق: "أنه لا يوجد حق ديني لليهود في فلسطين حيث إن هذا الزعم لا يقوى أمام التحقيق العلمي". ص89-90، ثم يعرج الكاتب إلى خصوصية فلسطين – حيث إنها أرض وقف إسلامي، ومن ثم فهي ملك عام للمسلمين عامة، كما أنهم مرتبطون بها ارتباطًا وثيقًا فهي مهد الرسالات، وموطن العلماء حيث احتضنت فلسطين عددًا كبيرًا منهم. لذلك كان ارتباط المسلمين بهذه الأرض الطاهرة ارتباطًا عقديًا وتعبديًا وسياسيًا وتاريخيًا وحضاريًا، وقد دلل الكاتب على ذلك بمختلف الأدلة والحجج الناصعة، ومن ثم خلص الكاتب إلى نتائج هامة بهذا الصدد وهي:
• أن أرض فلسطين والمسجد الأقصى المبارك ملك عام للمسلمين وليس لليهود فيها أي حق.
• أرض فلسطين أرض وقف، وهي أرض الإسراء والمعراج، وحادثة الإسراء من المعجزات، والمعجزات جزء من العقيدة الإسلامية، فارتباط المسلمين بفلسطين هو ارتباط عقدي، وليس ارتباطاً موسمياً مؤقتاً، ولا انفعالياً عابراً.
• أرض فلسطين هي أرض المحشر والمنشر، وقبلة المسلمين الأولى، وواجب عليهم أن يستعيدوا أرضهم المفقودة، وخيراتهم التي استولى عليها أرباب الشر والمكر.
ثم ينبه الكاتب أمة الإسلام والشعوب الإسلامية إلى واجبهم تجاه فلسطين والمسجد الأقصى المبارك، حيث إنه وبما تم معرفته من الأدلة الناصعة على أهمية فلسطين وقدسيتها، حيث تعتبر فلسطين درة بلاد الشام، وهذا ما بينه ووضحه بصورة جيدة في الفصل الثالث الذي جعل عنوانه "واجب المسلمين تجاه فلسطين والمسجد الأقصى". وقد وضع الكاتب أيضاً حلولاً إستراتيجية كما أطلق عليها "طويلة الأمد"، وذلك بأن يعود المسلمون إلى دينهم عوداً حميداً صحيحاً لأن هذه العودة هي سنة الله تعالى في التغيير إلى الأصلح والأقوم في حياة الأمة، قال تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" الرعد – 11. وهكذا يضعنا الكاتب أمام الحل الرباني لهذه القضية الربانية العقائدية، بما لهذه الأمة من طاقات وإمكانات متعددة ومختلفة لو أحسنت استغلالها لكانت الرائدة دائماً ومن هذه الطاقات:
• القوة البشرية من حيث قوة العدد والعنصر البشري.
• القوة المادية والاقتصادية: حيث تمتلك الأمة الإسلامية الكثير من الخيرات التي حباها الله بها من سهول وجبال ووديان وزرع ومياه ونفط، ومعادن وغيرها، مما لا يتوفر للأمم الأخرى.
ثم يضع الكاتب حلولاً فورية ومنها:
• التعريف بفلسطين والقدس والمسجد الأقصى المبارك وقيمتها وأهميتهما بالنسبة للإسلام والمسلمين، والتركيز على العهدة العمرية وذلك من خلال وسائل الإعلام المختلفة.
• التبرع لصالح القضية الفلسطينية، وضرورة دعم ومساندة الشعب الفلسطيني بصفة عامة، وأهالي مدينة القدس بصفة خاصة، من تجار، ومواطنين، وحراس للمسجد الأقصى، ومؤسسات تعليمية وصحية وخدمية.
• مقاطعة المنتوجات التي يعود مردودها لسلطات الاحتلال "الإسرائيلي" حيث تساهم في قتل أهل فلسطين سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
• مناشدة الرأي العام وخاصة الأوروبي – المسيحي للوقوف على الحقائق عن كثب، ومساندة الحق الفلسطيني والمشاركة في الدفاع عن المقدسات المسيحية في فلسطين.
• فضح المخططات الصهيونية من تهويد للمقدسات، ومصادرة للأراضي، وإقامة الجدار العازل....... الخ.
• العمل المؤسساتي وتفعيل دور المؤسسات الإسلامية في جميع أنحاء العالم لمساندة الحق الفلسطيني ونصرة القضية الفلسطينية.
وفي الختام لابد أن نبين للقارئ كم فائدة هذا الكتاب الذي تميز في أسلوبه السهل الممتنع، وحججه الناصعة، وكثافة معلوماته.
وفق الله الكاتب لإصدار المزيد، وجعله في ميزان حسناته.
وفاته:
استُشهد نتيجة غارة "إسرائيلية" استهدفت منزله في مخيم المغازي وسط قطاع غزة يوم الأحد 18 جُمادى الآخرة 1445هـ الموافق 31 ديسمبر 2023، وقد ناهز التاسعة والستين.