2025.07.17
مقالات رأي
بيان الأزهر اتجاه غزة بين الإنصاف والاعتراض

بيان الأزهر اتجاه غزة بين الإنصاف والاعتراض


في زمنٍ تتداخل فيه المواقف وتُختبَر فيه المبادئ، يبقى لهيئات الأمة ومؤسساتها الأصيلة كلمتها التي لا تخضع لحسابات السياسة، ولا تنحني أمام ضغوط التوازنات. من هنا، جاء بيان الأزهر الشريف حول المجازر الوحشية التي تُرتكب في قطاع غزة ليُجدِّد مكانة هذه المؤسسة العريقة، لا كمجرد مرجعية دينية، بل كصوت أخلاقي وإنساني يُعبّر عن وجدان الأمة، ويقف في وجه الصمت المتواطئ.

ففي قراءة متأنية لبيان الأزهر الشريف الأخير بشأن غزة، يتضح أنه لم يخرج عن جادّة الموقف الديني القويم، بل جاء مُعبّراً بصدق عن ضمير الأمة الحي، ومتسقاً مع ما دعت إليه الشرائع السماوية كافة من ضرورة نصرة المظلوم، والوقوف إلى جانب الضحايا في وجه العدوان، وهي قيم لم تقتصر على الأديان فقط، بل جسّدها العرب في جاهليتهم حين تحالفوا في "حلف الفضول" لنصرة المظلوم وردع الظالم. فقد جاء بيان الأزهر الشريف بمضمونه القوي والمؤثر ليؤكد مجدداً مكانة هذه المؤسسة الدينية الكبرى، باعتبارها صوت الضمير العربي والإسلامي. فالبيان لم يحمل تحيّزاً لفصيل دون آخر.

اعتراض الرئيس الفلسطيني على بيان الأزهر يبدو أنه كان مدفوعاً باعتبارات سياسية، تتعلق بموقع السلطة الفلسطينية وتعقيدات الساحة الفلسطينية، ومخاوف فقدان السيطرة على الخطاب العام، نتيجة الحساسية من الخطاب العام الذي يوحّد غزة والضفة تحت راية واحدة، أو الخشية من تجاوز المرجعيات السياسية، وربما لتقاطع ذلك مع مواقف دولية تتعامل بحذر مع مفهوم المقاومة المسلحة، رغم أن بيان الأزهر لم يشر إلى السلاح، وربما القلق من التأثير الشعبي العربي، فالبيانات القوية من جهات مثل الأزهر تؤثر على الرأي العام العربي والمصري خصوصاً.

كما يُستشف أحياناً أن السلطة الفلسطينية باتت تنظر بعين الريبة إلى كل ما يصدر من الخارج، حتى من أصدقاء تقليديين كالأزهر الشريف، خاصة إن كان الخطاب لا يتناغم تماماً مع رؤيتها السياسية أو يمسّ بـ"احتكار السردية" التي ترغب في فرضها. غير أن كل هذه الدوافع – على أهميتها في ميزان السياسة – تبدو باهتة عند مقارنتها بحجم المأساة الإنسانية التي تتعرض لها غزة. فالدم الفلسطيني واحد، والشهادة لا تُفرّق بين من ينتمي إلى هذا الفصيل أو ذاك، ومن الواجب – دينياً ووطنياً – أن يكون الموقف في هذه اللحظة متجرّداً من الحسابات، منصبّاً فقط على لجم العدوان ونصرة المظلوم. ومن هنا، ومن باب النصح والحكمة: يجب عدم الانسياق إلى ما يروّجه بعض المستشارين ممن قد لا ينقلون الصورة كاملة للرئيس الفلسطيني.

إن بيان الأزهر لم يكن خرقاً سياسياً، بل كان وفاءً لرسالة دينية وإنسانية خالدة، وكان من الأجدر أن يُقابَل بالشكر والتقدير لا بالاعتراض والشكوى، التي قد تُضعف من صورة القيادة الفلسطينية في هذه المرحلة الحساسة، في وقت يتطلب فيه الموقف توحيد الجهود في مواجهة الاحتلال، لا الخوض في خلافات هامشية. من هذا المنطلق، لا يبدو أن الخطوة التي أقدم عليها سيادة الرئيس محمود عباس بشكواه إلى فخامة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ضد الأزهر كانت موفّقة، لا من حيث التوقيت، ولا من حيث مراعاة انعكاسات الخطوة داخلياً وخارجياً. فالشكوى، وإن حملت شحنة من الانفعال السياسي، لا يُنتظر أن تجد لها صدىً في القاهرة، لأسباب تتصل بمكانة الأزهر الراسخة في وجدان الشعب المصري، وما يمثله من سلطة معنوية تتجاوز السياسة، ناهيك عن أن أي مساس به قد يُثير ردود فعل شعبية يصعب احتواؤها.

إن موقف الدولة المصرية – الرسمية والشعبية – لا أراه يتناقض مع مضمون بيان الأزهر، بل ربما ينسجم معه من حيث التأكيد على الوقوف إلى جانب الحق الفلسطيني، ورفض سياسة الإبادة التي تُمارَس ضد المدنيين في غزة. وربما كان ضمن ترتيبات داخلية بين مؤسسات الدولة العميقة في مصر. كما أن البيان لم يكن موجّهاً ضد أي فصيل بعينه أو يُحابي فصيلاً على آخر، بل تناول المأساة من منظور إنساني شامل، يعكس حرص الأزهر على وحدة الصف الفلسطيني، بعيداً عن الحسابات الفصائلية الضيقة.

ما يحدث في غزة ليس نزاعاً فصائلياً، بل مأساة إنسانية بحجم التطهير الجماعي بحق الشعب الفلسطيني بأكمله. وهنا لا بد من وقفة تأمل في أن تُعاد قراءة المواقف بميزان الحكمة، وأن تُغلَّب المصلحة الوطنية الفلسطينية الجامعة على اعتبارات الخلاف السياسي، خاصة في هذه المرحلة الحرجة التي تستدعي رصّ الصفوف، لا تبديد الطاقات في خلافات جانبية. فالأولى أن تُفتح الصدور لكل صوت حرّ، ولكل كلمة تنطق بالحق وتعيد الاعتبار لحرمة الدم الفلسطيني، لا أن تُقيَّد وتُتّهم بالتسييس. وليس من الحكمة – ولا من العدالة – أن تتحكم الاعتبارات السياسية في ميزان الغضب أو الحزن أو النطق بالحق. ففلسطين جسد واحد، إن تألمت غزة نزفت الضفة، وإن سقط شهيد هنا، ارتجّ البيت هناك.

والرئيس الفلسطيني هو رئيس لغزة كما هو للضفة، رئيس لشعب لا يجوز التمييز بين أفراده في المشاعر والدموع والدعاء، فضلاً عن التمييز في المواقف والاهتمام. وموقف الأزهر – إن لم يجد من يُجله ويحتضنه – فأقلّ ما يستحقه هو الاحترام، أو الصمت إن عزّ التقدير.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار