تتبع جميع الإمبراطوريات النمط التاريخي نفسه: إمبراطورية تبلغ أوج مجدها فتثير "الحسد"، فتتحد ضدها الإمبراطوريات الأخرى لإسقاطها. هكذا يصف البروفيسور غلين دايسن ما نعيشه اليوم في الساحة الدولية.
"الغرب، الذي يرفض مبدأ التعايش السلمي، ينتقل من كونه إمبراطورية إمبريالية إلى إمبراطورية متفككة"، على حد قوله. وعادةً ما يتّسم هذا الانتقال، كما يضيف، بـ"الإنكار المتعنت لدى قادة الإمبراطورية الآخذة في الانحطاط"، وتتخلله "محاولات لإبطاء هذا التراجع عبر منع صعود القوى البديلة". ويتحدث الباحث عن "إسرائيل" بوصفها "مفارقة تاريخية"، مذكرًا بأن المئة وخمسين عامًا الماضية شهدت نضالات ضد الاستعمار وإنهاء الكولونيالية، متسائلًا: "كيف يمكن لـ ‘إسرائيل’، وهي كيان استيطاني استعماري، أن تستمر في القرن الحادي والعشرين الذي يُفترض أنه مناهض للاستعمار؟"
الغرب المتفكك ومفارقة ‘إسرائيل’"
يؤكد البروفيسور دايسن أن "إسرائيل" تمثل امتدادًا لمشروع أمريكي يائس يسعى إلى التمسك بهيمنة عالمية آخذة في التآكل من جميع الجهات. فمنذ قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قصف المنشآت النووية الإيرانية، بدأت تتعالى أصوات من كلا الحزبين في واشنطن تقول: "لقد سددنا ديننا لـ ‘إسرائيل’". وهو ما يعبّر، حسب دايسن، عن نزعة متنامية داخل الولايات المتحدة نحو الانسحاب من التزاماتها تجاه "إسرائيل".
ويشير إلى أن هذا الكيان لم يكن يواجه سابقًا عداءً حادًا، لكن يبدو اليوم أن حتى أشد الأمريكيين تطرفًا، لا يظهرون رغبة حقيقية في التورط مجددًا في نزاعات الشرق الأوسط. فالبيئة السياسية والشعبية الأمريكية، كما يرى، لم تعد مستعدة لتحمل تكاليف ذلك، لا ماليًا ولا أخلاقيًا، خاصة في ظل انكشاف تناقضات السياسات الإمبريالية.
تفكك داخلي… من سحق العمّال إلى صعود الشعبوية
يواصل الباحث تحليله، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة، في ذروة تفوقها الإمبراطوري، أسست اقتصادًا ليبراليًا قائمًا على مبدأ السوق الحرة وحرية تنقل الأفراد ورؤوس الأموال، وهي المبادئ التي نظّر لها ديفيد ريكاردو واعتُمدت كمسلمات في الجامعات الغربية الكبرى.
وقد مكّن هذا النموذج الولايات المتحدة من امتصاص ثروات العالم، لكون صناعاتها وتقنياتها كانت الأكثر كفاءة وابتكارًا. إلا أن الأمور انقلبت اليوم، إذ باتت الليبرالية الجديدة تُحمَّل مسؤولية تراجع الغرب، وبدأت تلقى الرفض في معظم بقاع العالم.
لم يعد ترامب يتحدث عن "الأسواق الحرة"، بل عن "الأسواق العادلة"، وهو مفهوم مستوحى من الخطاب اليساري الذي صاغ فكرة التجارة العادلة دعماً للدول النامية. لكن المفارقة أن ترامب يستخدم هذا المفهوم ليبرّر فرض الحواجز في كل الاتجاهات: اقتصاديًا عبر الرسوم الجمركية، اجتماعيًا ببناء الجدران الشائكة "لمكافحة" الهجرة، وسياسيًا من خلال العقوبات والحروب ضد كل من يُعتبر منافسًا.
بنبرة لا تخلو من التهكم، يتحدث البروفيسور دايسن عن مسيرته الأكاديمية، مشيرًا إلى أن العديد من طلابه، الذين أصبح معظمهم أساتذة في جامعات أخرى، إما عاجزون حاليًا عن العثور على وظيفة أكاديمية، أو مضطرون للجمع بين العمل الأكاديمي ووظائف أخرى "من أجل البقاء على قيد الحياة".
يستند الباحث إلى هذا المثال لتسليط الضوء على إغلاق الجامعات وتقليص البرامج الاجتماعية لصالح تضخيم ميزانية التسليح، مضيفًا أن أحدًا لا يربط بين هذه التحولات وبين الانهيار البنيوي الذي تعيشه الإمبراطورية الأمريكية، رغم وضوح الترابط.
ويشير إلى أن العقود الأربعة الماضية شهدت عملية إعادة توزيع هائلة، وغير عادلة، للثروة داخل الولايات المتحدة، حيث انتقلت من القاعدة والطبقة الوسطى إلى القمة، لا سيما نحو الـ1% الأكثر ثراءً، مثل إيلون ماسك وجيف بيزوس، الذي "خصخص" مدينة البندقية لإقامة حفل زفافه.
الضحايا الرئيسيون لهذا التراكم التصاعدي للثروة هم عمال المصانع البيض المنتمون إلى النقابات، الذين خسروا كل شيء بسبب نقل المصانع إلى دول أخرى، أو نتيجة إلغاء التصنيع والتوجه نحو اقتصاد الخدمات.
يشير البروفيسور دايسن إلى أن "الساحل الشرقي والساحل الغربي للولايات المتحدة احتفلا بانتصار الليبرالية الجديدة، بل واعتبرا تحطيم الفئات العمالية إنجازًا ضروريًا"، مشددًا على أن هذا السلوك كان مدفوعًا بغطرسة طبقية وازدراء صريح للفقراء.
لقد أُقنع هؤلاء "التعساء" بأن الاقتصاد الأمريكي يزدهر، وأن كل شيء يسير على ما يرام، وأن المشكلة الوحيدة تكمن في عجزهم عن التأقلم أو الكفاءة أو حتى مجرد "الجدارة". ويتحدث دايسن عن ما يسميه "تعذيبًا نفسيًا حقيقيًا"، حيث يدفع هذا الإيهام المنهجي عشرات الآلاف من الأمريكيين سنويًا نحو الانهيار الذاتي، فيُقدم نحو 100,000 شخص على تدمير أنفسهم عبر تعاطي المواد الأفيونية.
هذا الانهيار الاجتماعي العميق، بحسب دايسن، هو ما يفسر نجاح ترامب في كسب أصوات أعداد متزايدة من الأمريكيين المتمسكين بحلم لم يعد قابلًا للتحقق، لكنه لا يزال يمنحهم وهمًا بالكرامة والانتماء في واقع شديد القسوة.
وفي الوقت نفسه، شهدت العقود الثلاثة الماضية بروز حركة اجتماعية متصاعدة من الأمريكيين السود، واللاتينيين، والنساء، الذين لم يعودوا يقبلون بأن يُعاملوا كمواطنين من الدرجة الثانية. ويشير الباحث إلى أن ساسة انتهازيين، مثل ترامب، سعوا إلى استغلال هذا التحول من خلال إقناع الفقراء البيض بأن تدهور أوضاعهم المعيشية سببه سياسات الديمقراطيين، الذين فتحوا الأبواب أمام المهاجرين.
ويؤكد دايسن أن عدد سكان الولايات المتحدة يبلغ نحو 330 مليون نسمة، من بينهم فقط ما بين 10 إلى 12 مليون مهاجر غير موثق، وهم في الغالب يعملون بجدّ، ومعدلات الجريمة في صفوفهم أقل من المعدلات المسجلة لدى الأمريكيين المولودين داخل البلاد.
لكن، رغم هذه الحقائق، يستمر الخطاب السياسي في تجاهل الأسباب البنيوية الحقيقية لانهيار الطبقة العاملة البيضاء، وعلى رأسها هيمنة النظام الرأسمالي، وأصحاب رؤوس الأموال الذين يفضلون نقل استثماراتهم إلى بلدان منخفضة الكلفة، أو استقدام عمال مهاجرين بأجور زهيدة لملء قطاعات لا يمكن ترحيلها مثل المطاعم، والخدمات، والمتاجر الصغيرة.
في السياق ذاته، يذكّر البروفيسور دايسن بأن الولايات المتحدة ركزت، خلال تسعينيات القرن الماضي، على قطاعي التمويل والتكنولوجيا، وقررت تحويل قاعدة التصنيع إلى الصين، بهدف تحقيق أرباح أكبر للمستثمرين. هذا الخيار، الذي اتُّخذ بتوافق بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ساهم في تعميق تبعية الاقتصاد الأمريكي للمضاربة المالية، على حساب الإنتاج الحقيقي.
ويشير الباحث إلى أن أياً من الحزبين لا يجرؤ حتى اليوم على مساءلة هذه القبضة الخانقة التي تمارسها القوى المالية على الاقتصاد، أو على مراجعة نموذج النيوليبرالية الذي فَرض هيمنة رأس المال على السياسة.
ونتيجة لذلك، يُترك أولئك "التعساء"، الذين تحطمت أوهامهم، بلا خيار سوى التعلق بشخصيات مثل ترامب، التي تقدّم لهم خطابًا شعبيًا غاضبًا، يُوهمهم بالتمرد على النخبة، بينما يعيد إنتاج البنية نفسها التي أدّت إلى تهميشهم.
حين تصبح الإمبراطورية عبئًا على العالم... وعلى نفسها
حتى تتمكّن سردية الساسة الأمريكيين من حشد المزيد من التأييد الشعبي، يرى البروفيسور دايسن أن اليمين الأمريكي سيندفع نحو مزيد من الانحرافات الدراماتيكية، لافتًا إلى أن ما قامت به إدارة بايدن تجاه إيران لن يكون كافيًا لضمان استمرار تلك السردية.
ويعتقد دايسن أن الوضع الحالي سيتواصل "حتى يصبح غير قابل للاحتمال"، متسائلًا عن كيفية تفاعل دول البريكس، وخصوصًا الصين وروسيا وإيران، مع هذه المناورات الأمريكية المتكررة.
ويشير الباحث إلى تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي أفادت بأن إيران ربما أرسلت اليورانيوم المخصّب إلى دولة أخرى قبل تعرّض منشآتها للقصف، محذرًا من أن صحّة هذه المعلومات قد تدفع طهران إلى اتخاذ قرار استراتيجي باقتناء سلاح نووي.
أما بالنسبة إلى الصين وروسيا، فيؤكد دايسن أن قادتهما باتوا يدركون، بشكل متزايد، أنه لم يعد هناك في الولايات المتحدة من يمكن وصفه بـ"العاقل" القادر على خوض مفاوضات مسؤولة بشأن القضايا الدولية الحساسة.
يرى البروفيسور دايسن أن الأوضاع ستستمر على هذا المنوال، وأن العالم يشهد تراجعًا مطّردًا في التسامح مع دعاة الحروب الغربيين، خاصة مع استمرار الإبادة الجماعية في غزة، وتصاعد الحرب في أوكرانيا. كلما طال أمد هذه النزاعات، ازدادت الكراهية تجاه الولايات المتحدة و"إسرائيل"، وتفاقمت مشاعر الرفض للغرب بوجه عام، لا فقط على المستوى السياسي، بل أيضًا الأخلاقي والإنساني.
وفي مواجهة هذا الواقع، يعتبر دايسن أن الأمل الوحيد القابل للبناء عليه يتمثل في تقوية الجناح الشعبي داخل الحزب الديمقراطي، الذي يمثله سياسيون مثل بيرني ساندرز وألكسندريا أوكاسيو-كورتيز وآخرين ممن يسعون إلى إعادة تعريف العلاقة بين السياسة الأمريكية والمصالح الشعبية، بعيدًا عن الولاءات المطلقة لأصحاب رؤوس الأموال ومراكز النفوذ.
يشير البروفيسور دايسن إلى الحراك الانتخابي في نيويورك، حيث يتواجه في الانتخابات البلدية مرشحان من الحزب الديمقراطي، أحدهما هو "زهران ممداني"، الذي يصف نفسه صراحة بأنه اشتراكي، ويخوض حملته ضد "أندرو كومو"، أحد رموز التيار الوسطي داخل الحزب. ويرى الباحث أن هذا التنافس يمثل إشارة فارقة إلى التحول الجاري داخل البنية السياسية الأمريكية، تحول لم يحدث بمثل هذا الوضوح منذ أكثر من 75 عامًا.
وفي قراءته لهذا التحول، يعتقد دايسن أن الجناح اليساري داخل الحزب الديمقراطي قد يجرؤ أخيرًا على التحرر من وصاية المانحين المليارديرات، الذين يديرون النظام السياسي وفق مصالحهم الاقتصادية الضيقة، ويملون على الساسة البرامج والتوجهات التي تضمن استمرار احتكارهم للثروة والسلطة.
يستحضر البروفيسور دايسن مشهد تنصيب دونالد ترامب رئيسًا، ملاحظًا أن من ظهروا خلفه على المنصة لم يكونوا قضاة ولا سياسيين تقليديين، بل أصحاب رؤوس الأموال مثل إيلون ماسك، ومارك زوكربيرغ، وجيف بيزوس وخطيبته. ويقرأ دايسن هذه الصورة بوصفها تعبيرًا صارخًا عن واقع جديد: ترامب لم يكن رئيسًا لحكومة تمثل الشعب، بل لحكومة تمثل مالكي رأس المال، الذين لا ينتجون شيئًا بأنفسهم، ولكنهم يموّلون السياسات التوسعية وخطط الهمنية للولايات المتحدة، بما في ذلك الحروب والعقوبات والابتزاز الاقتصادي.
وبحسب دايسن، فإن هذه الطبقة المالية ليست فقط شريكة في القرار السياسي، بل باتت تمثل بنيته التحتية الفعلية، وتتحكم في مساراته وتوجهاته الكبرى، محولة الدولة إلى أداة لخدمة مصالحها العابرة للحدود.
يرى البروفيسور دايسن أن الإمبراطورية الأمريكية في حالة تراجع واضح، وعلى ساستها الاعتراف بذلك ومواجهة الواقع كما هو. فالحقيقة، في نظره، أن الولايات المتحدة باتت مضطرة للجلوس مع الإيرانيين والصينيين والروس، للتفكير الجماعي في كيفية التعايش السلمي على هذا الكوكب، دون هيمنة أو استعلاء.
ويستحضر الباحث النموذج البريطاني-الأمريكي من القرن التاسع عشر لتسليط الضوء على المسار البديل الممكن. فعندما قررت الولايات المتحدة الاستقلال، خاضت الإمبراطورية البريطانية حربًا ضدها في عام 1776، وهي الحرب التي يحيي الأمريكيون ذكراها كل عام في الرابع من يوليو. وبعد هزيمة بريطانيا، عاد الطرفان، بحلول منتصف القرن التاسع عشر، إلى صيغة تعايش وتقاسم للنفوذ: هيمنت الولايات المتحدة على أمريكا اللاتينية، فيما احتفظت بريطانيا ببقية العالم. ولم تقع بينهما حرب أخرى منذ ذلك الحين.
ويرى دايسن أن هذا ما ينبغي فعله اليوم إذا أراد العالم الخروج من دائرة الرعب التي تفرضها المغامرات العسكرية الأمريكية. ويعني ذلك، كما يقول، التحرر من السياسات التي تضعها واشنطن، وبناء منظومة اقتصادية وسياسية وعسكرية بديلة، تبدأ بتخفيض الإنفاق العسكري الأمريكي، الذي يعادل حاليًا مجموع إنفاق الدول التسع التالية لها مجتمعة.
إعادة تنظيم السياسات الأمريكية، على هذا الأساس، هي في رأي دايسن السبيل الوحيد نحو إعادة ترسيخ علاقات دولية عادلة، متوازنة، وغير قائمة على الهيمنة أو القسر.
من هو غلين دايسن؟
غلين دايسن، أستاذ في جامعة جنوب شرق النرويج (USN)، وباحث متخصص في الجغرافيا السياسية والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على السياسة الخارجية الروسية ومنطقة أوراسيا الكبرى. تتناول أعماله التحولات في النظام الدولي، وتفكك الهيمنة الغربية، وصعود التعددية القطبية.