حين يلتئم شمل وزراء خارجية الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي في العاصمة البلجيكية بروكسل، لا يكون الأمر مجرد لقاء روتيني أو اجتماع عابر في جدول الأعمال الدبلوماسي، بل هو محطة مفصلية تتقاطع فيها الحسابات الجيوسياسية، وتتكشف فيها توازنات القوى الحقيقية. وفي خضم هذه اللحظة المحورية، لم يكن الحضور الصحراوي مجرد حضور رمزي، بل كان إعلانًا سياديًا مدويًا بأن الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية باتت رقمًا صلبًا، غير قابل للتجاوز أو الحذف من المشهد الإفريقي، مهما حاولت آلة الدعاية المغربية طمس وجودها.
حضرت الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية أشغال الاجتماع الوزاري بين الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي المنعقد في العاصمة البلجيكية بروكسل بصفتها دولة مؤسسة وعضواً كامل الحقوق داخل الاتحاد الإفريقي، في خطوة أعادت التأكيد على واقع سياسي لا يمكن تجاوزه أو إنكاره. لم يكن الحضور الصحراوي مجرد مشاركة رمزية أو نتيجة لترتيبات ظرفية، بل تجسيدا فعليا لحقيقة مفادها أن الجمهورية الصحراوية كيان سياسي قائم بذاته، يحظى باعتراف قاري واسع، ويتمتع بمكانة قانونية ودبلوماسية راسخة لا يمكن التشكيك فيها.
هذا الحضور القوي لم يكن حدثاً عابراً أو عرضاً دبلوماسياً يندرج في سياق المجاملات البروتوكولية، بل جاء ليؤكد مجدداً أن جميع محاولات الاحتلال المغربي لإقصاء الجمهورية الصحراوية من المحافل الدولية قد باءت بالفشل الذريع. إذ أن حضور الوفد الصحراوي لم يكن وليد تسوية أو تنازل، بل جاء كنتيجة طبيعية لمسار نضالي طويل خاضه الشعب الصحراوي وممثلوه السياسيون في أروقة المنظمات الإقليمية والدولية، دفاعًا عن الحق غير القابل للتصرف في تقرير المصير والاستقلال.
وقد عبّر وزير الخارجية الصحراوي محمد يسلم بيسط عن هذا الواقع بوضوح، حين أكّد أن المشاركة الصحراوية في هذا الاجتماع الوزاري، الذي يجمع بين الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي، تمثل دليلاً قاطعًا على أن الجمهورية الصحراوية لم تعد موضوعًا قابلاً للنقاش أو الجدل، بل حقيقة سياسية مترسخة، تتعامل معها الدول والمنظمات باعتبارها عضواً فاعلاً ومؤثراً في العلاقات بين القارتين. وأضاف الوزير أن هذه المشاركة لم تكن نتيجة لضغوط أو مساومات، وإنما جاءت في إطار الشرعية القانونية التي تتمتع بها الجمهورية الصحراوية داخل الاتحاد الإفريقي، وهو ما يمثل صفعة حقيقية للخطاب المغربي الذي ظل يسوّق لعزل الدولة الصحراوية والتقليل من مكانتها.
ولم يكتف الوزير بتسليط الضوء على البعد القانوني للمشاركة، بل أوضح كيف فشلت الآلة الدعائية المغربية، التي طالما سعت إلى الترويج لفكرة أن الجمهورية الصحراوية كيان وهمي، معزول عن العالم، ويفتقر إلى أي دعم دولي أو إقليمي. لقد تبيّن من خلال هذا الاجتماع، كما أشار بيسط، أن تلك الادعاءات لا تعدو أن تكون محاولات يائسة لإخفاء حقيقة واضحة للعيان، وهي أن هناك إجماعاً إفريقياً صلباً على دعم الجمهورية الصحراوية، وأن الشركاء الأوروبيين أصبحوا أكثر وعياً بعدم الخضوع للضغوط المغربية أو التجاوب مع دعاية الاحتلال.
وفي ذات السياق، قدّم ممثل جبهة البوليساريو لدى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في جنيف، أبي بشراي البشير، قراءة استراتيجية لما جرى في بروكسل، مؤكداً أن المشاركة الصحراوية تتجاوز البعد الرمزي، وتحمل في طياتها دلالات سياسية كبرى. وذكّر بأن المغرب، منذ عودته إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017، لم يدخر جهداً في محاولة فرض رؤيته داخل أروقة الاتحاد، مستعيناً بسياسات الضغط، والابتزاز، وشراء المواقف، وحتى توظيف المصالح الاقتصادية لبعض الدول لمحاولة فرض سياسة الإقصاء ضد الجمهورية الصحراوية. غير أن كل هذه المحاولات – بحسب البشير – قد ارتطمت بجدار الصلابة الإفريقية، وبتماسك مؤسسات الاتحاد، ورفضها المطلق لأي انتقاص من سيادة الدول الأعضاء وحقوقها المتساوية.
وأبرز البشير أن ما حدث في بروكسل يشكل استمراراً لمسار إفريقي صلب تم ترسيخه منذ قمة أبيدجان سنة 2017، حين فشل المغرب لأول مرة في إقصاء الجمهورية الصحراوية من الشراكة الإفريقية الأوروبية. ثم جاءت القمة التي تلتها في عام 2022 لتكرّس هذا الاتجاه، وأكدت مرة أخرى أن الاتحاد الإفريقي لا يقبل إقصاء أحد أعضائه، وأنه يقف صفاً واحداً في وجه كل محاولات الالتفاف على مبادئه التأسيسية. واليوم، في الاجتماع الوزاري الثالث، تكرّس هذا التوجه أكثر من أي وقت مضى، ما يعكس أن الجمهورية الصحراوية أصبحت ركيزة لا غنى عنها في أي نقاش إفريقي-أوروبي.
من جانبه، أكّد نائب الممثل الدائم للجمهورية الصحراوية لدى الاتحاد الإفريقي، ماء العينين لكحل، أن اجتماع بروكسل قدّم دليلاً جديداً على التماسك الجماعي الإفريقي في وجه الضغوط الخارجية، وعلى الالتزام العميق بمبادئ المساواة السيادية بين جميع الأعضاء. وبيّن لكحل أن المغرب كان يحاول الترويج لمبررات واهية لتبرير إقصاء الجمهورية الصحراوية، عبر الادعاء بأنها لا تتمتع باعتراف دولي واسع أو أنها "عقبة" أمام التعاون مع الاتحاد الأوروبي. لكن هذه الذرائع سقطت واحدة تلو الأخرى أمام إصرار الدول الإفريقية على احترام مبادئ الاتحاد، وخاصة تلك المتعلقة بعدم السماح لأي طرف خارجي بالتأثير على وحدة مؤسساته أو التدخل في قراراته السيادية.
وتمثلت الرسالة السياسية الأبلغ التي خرج بها الاجتماع الوزاري، وفق المسؤولين الصحراويين، في أن وجود الجمهورية الصحراوية لم يعد مجرد تعبير عن تضامن أو نتيجة لمجاملات دبلوماسية، بل أصبح تتويجًا لمسار تصفية الاستعمار في إفريقيا، تنص عليه مواثيق الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي على حد سواء. إن القضية الصحراوية ليست قضية صراع سياسي، بل قضية تصفية استعمار، تتعلق بشعب له حقه المشروع في تقرير مصيره، وهو حق لا يمكن تجاوزه أو مصادرته تحت أي ذريعة كانت.
وتحظى هذه الرؤية بدعم متزايد في المحافل الدولية، في وقت باتت فيه السياسات المغربية القائمة على التضليل والتشويش تتعرض لنقد متصاعد، سواء من قبل الدول أو منظمات المجتمع المدني. ويبدو أن المخزن المغربي لم يعد قادراً على فرض روايته كما كان يفعل في الماضي، بل أصبح في مواجهة مباشرة مع واقع دبلوماسي متغير، يفرض عليه التراجع عن خطاب العزلة والانغلاق، والاعتراف بحقيقة وجود الدولة الصحراوية كفاعل إقليمي لا يمكن شطبه.
لقد وجّهت المشاركة الصحراوية في اجتماع بروكسل رسالة واضحة وقوية إلى العالم مفادها أن زمن الهيمنة الأحادية قد ولّى، وأن منطق الشرعية الدولية هو من سينتصر في النهاية. إنها لحظة فارقة تعيد ترتيب المشهد الدبلوماسي في القارة الإفريقية، وترسم معالم مرحلة جديدة يكون فيها حضور الجمهورية الصحراوية عنوانًا للشرعية، وركيزة أساسية في الدفاع عن القيم المشتركة بين الشعوب.