2025.07.17
حديث الساعة
من \

من "إي1" إلى غزة.. " إسرائيل" ترسّم نهاية " السلام المزيف"


منذ عقود تواصل "إسرائيل" محاولاتها لفرض وقائع استعمارية على الأرض، وقرار لجنتها الاستيطانية الأخير برئاسة المجرم بتسلئيل سموتريتش لا يخرج عن هذا النهج، فقد أقرّت اللجنة خطة لبناء 3400 وحدة استيطانية في منطقة "إي1" شرق القدس المحتلة، في خطوة تتجاوز حدود التوسع العمراني التقليدي لتكشف عن مشروع سياسي واستعماري متكامل. فالمخطط الجديد لا يقتصر على بناء مستوطنة إضافية، بل يستهدف تمزيق جغرافيا الضفة الغربية، وقطع أوصالها بين شمال وجنوب، بما يحسم عمليا استحالة قيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة. وهكذا تتحول هذه الخطوة إلى ضربة قاضية لكل من ظلوا يراهنون على إمكانية تحقيق حل سياسي "عادل" أو تسوية قائمة على ما يُسمى "حل الدولتين".

إن ما تسميه سلطة الاحتلال "الحي الاستيطاني الجديد" لا يعكس سوى مشروع استعماري خبيث يستهدف ربط مستوطنة "معاليه أدوميم" بمدينة القدس المحتلة، ليحوّل الجغرافيا الفلسطينية إلى جزر معزولة و"بنتوستانات" محاصرة بالأسوار ونقاط التفتيش، بحيث تُقطع أوصال الضفة الغربية ويُسحق أي أمل في إقامة دولة فلسطينية متواصلة وقابلة للحياة. هذا المشروع يضع الفلسطينيين أمام واقع خانق لا يسمح لهم حتى بممارسة الحد الأدنى من السيادة الوطنية، ويحوّل أرضهم إلى خرائط ممزقة تتحكم بها المستوطنات والطرق الالتفافية ومعسكرات الاحتلال.

لم يخفِ المجرم سموتريتش نواياه، بل أعلنها بوقاحة حين قال إن "محو الدولة الفلسطينية يكون بالأفعال لا بالشعارات"، كاشفا بذلك العقلية الفاشية التي تقود حكومة الاحتلال. هذه العقلية الاستعمارية تعتبر الأرض ملكا حصريا للمستوطن، وترى في الفلسطيني مجرد عقبة يجب اقتلاعها أو محاصرتها أو دفعها إلى المنافي. وبذلك يتحول الاحتلال إلى مشروع قائم على الإلغاء والإحلال، لا على التعايش أو حتى على إدارة صراع.

ورغم التحذيرات المتكررة من مختلف القوى الدولية، فإن "إسرائيل" تواصل خططها بلا تردد. فقد شدد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على أن البناء في "إي1" يقضي نهائيا على آمال ما يُسمى (حل الدولتين)، فيما وصفت وزارة الخارجية الألمانية المشروع بأنه انتهاك صارخ للقانون الدولي، وأكد الملك عبد الله الثاني رفض الأردن الحازم لهذا المخطط الذي يقسم الضفة إلى نصفين ويقوّض (فرص السلام)، حسب تعبيره. أما فرنسا، فقد بعثت برسالة لغوية خالية من أي موقف حاسم، معلنة نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، إدراكا منها لخطورة الاستيطان على الاستقرار الإقليمي والعالمي.

ومهما يكن، فإن سلطة الاحتلال تجاهلت كل هذه المواقف وواصلت المضي في مخططاتها، معتمدة على تراخي المجتمع الدولي وانشغاله بأزماته الداخلية. فهي تراهن على الصمت الدولي كضوء أخضر، وتستند إلى سياسة ممنهجة تقوم على فرض الأمر الواقع بالقوة، ثم دعوة العالم لاحقا للتكيّف مع نتائجه، في استمرار لنهج استعماري يرفض كل منطق عدالة أو قانون.

الاستيطان والأبارتهايد.. وجهان لعملة واحدة

ما يجري في منطقة "إي1" لا يقتصر على بناء وحدات استيطانية جديدة، بل يشكل ترجمة عملية لنظام فصل عنصري متكامل، حيث يحظى المستوطنون بكل الحقوق إلى الحماية والتشجيع خلال تنفيذ أعمالهم العدائية، بينما يواجه الفلسطينيون حصارا شاملا يمنعهم من البناء فوق أرضهم ويقيد حركتهم ويحرمهم من أبسط مقومات الحياة الكريمة. هكذا تتجسد سياسة الأبارتهايد بملامحها الصارخة، إذ تتحدى القيم الإنسانية أولا قبل أن تنتهك القوانين الدولية.

وإذا كان مشروع "إي1" يهدف إلى ابتلاع الضفة الغربية وتفكيك جغرافيتها، فإن غزة تواجه اليوم خطرا موازيا في فداحته. فقد أعلن "الجيش" الصهيوني، بعد مصادقة وزير الدفاع يسرائيل كاتس، بدء المرحلة التمهيدية لاحتلال مدينة غزة عبر خطة عسكرية حملت اسم "عربات جدعون الثانية". وتشمل هذه الخطة شن عمليات عسكرية مكثفة في حي الزيتون ومخيم جباليا، واستدعاء عشرات الآلاف من الجنود، من بينهم نحو خمسين ألفا من قوات الاحتياط، لدعم القوات الموجودة في الميدان.

ويصر قادة الاحتلال على تبرير هذه الخطة بأنها تهدف إلى "تهيئة الظروف لإنهاء الحرب" من خلال نزع سلاح المقاومة وإجبار مئات الآلاف من سكان غزة على النزوح نحو الجنوب. لكن جوهر الأمر يكشف مشروع تهجير جماعي جديد يعيد إلى الأذهان مشاهد النكبة عام 1948 ونكسة 1967، في سياق خطة استعمارية أوسع تسعى إلى السيطرة الكاملة على غزة وطمس هويتها الوطنية.

ورغم خطورة هذا التوجه، ارتفعت أصوات إسرائيلية تحذر من مغبة المضي فيه. فقد وصف رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك الخطة بأنها "فخ مميت"، موضحا أنها تمنح حركة حماس نصرا سياسيا وتعرض حياة المحتجزين الإسرائيليين في غزة للخطر. كما عبّرت عائلات الأسرى الإسرائيليين عن رفضها القاطع للمغامرة العسكرية، وأكدت أن الحل يكمن في إبرام صفقة تبادل تعيد أبناءها، لا في اقتحام دموي يعقد الأزمة أكثر.

هذه التحذيرات لم تصدر عن تعاطف مع الفلسطينيين، بل عن إدراك واضح بأن الاحتلال المباشر لمدينة غزة سيجرّ كارثة استراتيجية على "إسرائيل" نفسها. ومع ذلك، يواصل قادة الاحتلال اندفاعهم نحو تنفيذ هذه الخطة، متجاهلين دروس تجاربهم السابقة وفشلهم المتكرر في كل حرب ضد القطاع.

وحدة المشهد.. من الضفة إلى غزة

ما بين مشروع الاستيطان في "إي1" وخطة احتلال غزة يتضح خيط واحد يجمع المشهد بأكمله: "إسرائيل" تعلن بوقاحة أنها لا تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني، ولا تؤمن بما يُسمى (حل الدولتين)، ولا تعبأ بالقانون الدولي. كل ما تسعى إليه هو فرض سيطرة شاملة على كامل أرض فلسطين التاريخية، عبر الضم الزاحف في الضفة الغربية من جهة، والاحتلال العسكري المباشر لمدينة غزة من جهة أخرى. إنها ليست مجرد معارك متفرقة على بقاع محدودة من الأرض، بل مشروع استعماري ممنهج يرمي إلى محو الهوية الوطنية الفلسطينية وإغلاق الباب نهائيا أمام أي أفق سياسي يمكن أن يقود إلى حل عادل وشامل.

أما البيانات الدولية المنددة، فقد تحولت إلى مجرد أوراق جوفاء لا تسمن ولا تغني، بل صارت في كثير من الأحيان غطاء ضمنيا للكيان كي تواصل مخططاتها بلا رادع. إن الشجب اللفظي والاستنكار الإعلامي لا يكفيان، وما تحتاجه القضية الفلسطينية اليوم هو فعل سياسي وقانوني جاد يترجم إلى خطوات ملموسة تفرض على الاحتلال ثمنا باهظا لجرائمه. فالمطلوب أن يواجه العالم "إسرائيل" بعقوبات سياسية واقتصادية حقيقية، وأن يُنهى كل تعاون عسكري وأمني معها، وأن تتعزز التحركات أمام المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة قادتها بوصفهم مجرمي حرب، إضافة إلى الاعتراف الفوري والفعلي بالدولة الفلسطينية على حدود الرابع من جوان 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

إن مشروع الاستيطان في "إي1" وما يترافق معه من خطة احتلال غزة ليسا سوى إعلان حرب مفتوح، لا على فلسطين وحدها، بل على القانون الدولي وعلى الضمير الإنساني جمعاء. وما لم يتحرك العالم بجدية ويمتلك الإرادة السياسية لوقف هذه الجرائم، فإن التاريخ سيسجل أن المجتمع الدولي تواطأ بصمته وترك شعبا أعزل يواجه آلة استعمارية غاشمة وحده.

لقد آن الأوان لرفع الصوت عاليا والاعتراف بالحقيقة: الاحتلال الصهيوني هو أصل كل المآسي في المنطقة، واستيطانه وعدوانه جرائم لن تسقط بالتقادم. وعلى المجتمع الدولي أن يحسم خياره؛ فإما أن يقف إلى جانب العدالة وحقوق الشعوب، أو أن يتورط في حماية نظام أبارتهايد دموي يقيم كيانه على أنقاض الأرض الفلسطينية ودماء أبنائها.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار