2025.07.17
حديث الساعة
أسانج يلبس وجع 4986 طفلًا.. دماء غزة تُطفئ أضواء \

أسانج يلبس وجع 4986 طفلًا.. دماء غزة تُطفئ أضواء "كان"


ليس من المألوف أن يختلط دم الأطفال برماد السجادة الحمراء، ولا أن يتحوّل مهرجان سينمائي إلى مرآة للضمير الإنساني. لكن جوليان أسانج، الخارج تواً من ظلمة الزنازين إلى وهج الكاميرات، قرّر أن يقلب المشهد، فهو لم يأتِ إلى "كان" كأي نجم تُغريه الأضواء، بل كناقلٍ لمشهد جثامين صغيرة محمولة على قميص أبيض، كُتبت عليه أسماء 4986 طفلًا فلسطينيًا، سقطوا تحت القصف الصهيو-نازي على غزة

في حضرة الصور البراقة، رفع أسانج لائحة الشهداء لا كوثيقة من "ويكيليكس"، بل كحقيقة دامغة لا تحتاج إلى تسريبات، بل إلى صرخة. حضوره كان أشبه بكسر بروتوكولي للمهرجان: مشهد مناقض للصمت، دخيلٌ على الماكياج، يوقظ في الحضور ما دفنوه تحت تصفيق الجوائز. ولم تكن لفتته مجرّد فعل رمزي، بل إعلان تمرّد على العالم الذي يصنّف القتل حسب الجغرافيا، ويمسح دماء الضحايا من على عدسات كاميراته.

على كتفيه، قميص أبيض بسيط، كُتبت عليه أسماء 4,986 طفلًا فلسطينيًا قضوا تحت نيران القصف الإسرائيلي. وفي اللحظة التي كان فيها المصورون يستعدون لالتقاط صور النجوم، رفع أسانج هذا القميص كمن يرفع كفنًا في جنازة جماعية. لم تكن لفتته استعراضًا بلاغيًا ولا صرخة احتجاج عابرة، بل إعلانًا جريئًا بأن السينما ليست بمنأى عن الألم، وأن السرد البصري لا يكتمل إن تجاهل مجازر الشعوب المنسيّة.

ففي قلب مشهد احتفالي مترف، حيث تُصفّق الجماهير لأبطال الخيال، ظهر أسانج ككائن خارج السياق، متشحًا بحزن الجماعات المسحوقة، وكأنه جاء من رحم المجازر لا من بلاط المشاهير. لقد أصرّ على أن تكون عودته إلى الحياة العامة ليست لحظة فردية يستعيد فيها مجده، بل مناسبة للوقوف مجددًا في خندق الحقيقة، حيث لا مكان للمساومة أو المهادنة.

جوليان أسانج لم يتكلم كثيرًا، لكن ظهوره الصامت كان أبلغ من آلاف الخطب. كانت صورته على السجادة الحمراء، وهو يرتدي قميصًا يحمل أسماء الأطفال الشهداء، تحمل في طياتها قسوة التناقض: فخامة الاحتفال تقابلها دماء الأبرياء، وأضواء الكاميرات تتقاطع مع ظلال الطائرات التي أمطرت غزة بالموت. وعلى ظهر قميصه، كُتبت عبارة صادمة: "أوقفوا إسرائيل – Stop Israel"، عبارة واضحة لا تحتمل التأويل، وصرخة أخلاقية تتحدى جدار الصمت الغربي المتواطئ.

هذا التداخل ما بين الترف البصري والوجع الأخلاقي هو ما منح لحظة أسانج في "كان" كل هذا العمق والفرادة. لقد حول لحظة استعراض إلى مشهد كفاحيّ، وحوّل منصة الفن إلى مساحة للنضال. وفي عالم يُسخّر أدوات السرد لخدمة الأقوياء، قرر أسانج أن يعيد سرد القصة من منظور الضحايا، أن يمنح أسماء الشهداء حياة جديدة، لا من خلال القصائد أو المراثي، بل عبر حضورهم في أماكن لم يكن يُسمح لهم بالوصول إليها.

وفي زمن باتت فيه الفنون تُستخدم لتزييف الوعي أو تلميع الجلادين، يأتي أسانج ليعيد الاعتبار لوظيفة الفن كأداة مقاومة، وكنافذة للحقيقة. لم تكن رسالته موجهة فقط إلى صنّاع السينما أو الصحفيين، بل إلى العالم بأسره: إلى أولئك الذين يظنون أن بالإمكان تجاهل الدم الفلسطيني دون أن يلوث هذا التجاهل ضميرهم، إلى الأنظمة التي تتواطأ بصمتها، وإلى المؤسسات الثقافية التي ما فتئت تبرّر الظلم تحت شعارات الحياد والاحتراف.

لقد أراد أسانج أن يُسجّل، من خلال هذا الظهور الرمزي، موقفًا أخلاقيًا يتجاوز اللحظة، ويُحفر في ذاكرة العالم كسابقة نادرة: صحفي خرج من الزنزانة، ولم يذهب إلى راحته المستحقة، بل إلى مسرح المذابح، ليقول كلمته حيث كان يُنتظر منه أن يلوذ بالصمت أو النسيان.

صحيفة Humanité الفرنسية التقطت هذا البعد بدقة، معتبرة أن ظهور أسانج في "كان" لم يكن مجرد فعل احتجاجي، بل استمرار لنضاله ضد القمع والتضليل. الصحفي الذي هزّ عروش السياسة بكشفه وثائق "ويكيليكس"، لا يزال وفيًا لرسالته، لم ترهبه سنوات العزلة، ولم تُغره العودة إلى الأضواء. عاد حاملًا وجع الآخرين، ومُصرًا على أن حرية التعبير لا تساوي شيئًا إن لم تُوظّف للدفاع عن أولئك الذين يُذبحون خارج العدسات.

واللافت أن أسانج حضر المهرجان بمناسبة عرض فيلم وثائقي حول حياته بعنوان "The Six Billion Dollar Man – الرجل الذي كان يساوي ستة مليارات دولار"، وهو عنوان يحيل إلى القيمة السياسية والرمزية التي أصبحت تُمثلها شخصيته في عالم تتداخل فيه الصحافة بالسياسة، وتتحوّل فيه المعلومة إلى سلاح. ومع ذلك، لم يجعل من هذا الظهور فرصة للترويج لذاته، بل اغتنمه ليعيد تسليط الضوء على مذبحة غزة، ويضعها في صدارة المشهد، في لحظة ثقافية يحاول فيها كثيرون دفن المأساة تحت رماد الفن.

ويُذكر أن جوليان أسانج، مؤسس موقع "ويكيليكس"، بدأ مسيرته كمبرمج عبقري ومخترق موهوب، قبل أن يتحوّل إلى أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل في التاريخ الحديث للصحافة. أطلق موقعه عام 2006، ولم تمرّ سنوات قليلة حتى بدأت تسريباته تهزّ أركان الأنظمة، وتكشف جرائم الحرب والفساد والفضائح الدبلوماسية، خصوصًا تلك المرتبطة بالحروب في العراق وأفغانستان.

أشهر هذه التسريبات، بلا شك، كان تسجيلًا مصورًا عام 2010 يظهر طائرة أمريكية تقتل مدنيين عراقيين في بغداد، بينهم صحفيان من وكالة رويترز. كانت تلك اللحظة الفارقة التي دفعت المؤسسة الأمنية الأمريكية إلى إعلان الحرب على أسانج، وإطلاق حملة مطاردة دولية بحقه.

ومنذ ذلك الوقت، دخل أسانج نفقًا طويلًا من الملاحقات القانونية. لجأ إلى سفارة الإكوادور في لندن عام 2012، حيث قضى سبع سنوات في عزلة، قبل أن يُسحب منه اللجوء الدبلوماسي ويُعتقل عام 2019. ثم بدأ صراعه مع القضاء البريطاني والأمريكي، وسط حملة تضامن عالمية غير مسبوقة، اعتبرت أن استهدافه يمثل سابقة خطيرة ضد الصحافة الحرة.

في جوان 2024، وبعد سنوات من العزلة والسجون والمطاردات القانونية، تم التوصل أخيرًا إلى اتفاق قانوني مع السلطات الأمريكية أتاح الإفراج عن جوليان أسانج دون أن يُضطر إلى قضاء عقوبة طويلة. هذا الاتفاق أنهى فصلاً دامياً من حياته، امتد لعقود، وكان مليئًا بالحصار والملاحقة والتشهير. ومع أن كثيرين اعتبروا خروجه تسوية مع الواقع، إلا أن أسانج لم يخرج منهكًا ولا مكسورًا، بل خرج كما دخل: صلب القناعة، متشبثًا بمبادئه التي لم تُقهر.

هذا الإفراج لم يكن تنازلًا، بل كان امتدادًا لنضال طويل من أجل حرية التعبير، شارك فيه نشطاء وصحفيون ومحامون ومنظمات حقوقية من شتى أنحاء العالم، سعوا جاهدين لكسر جدران العزل التي أُحيط بها الرجل الذي هزّ أركان أكبر القوى العالمية. وما إن خرج إلى العلن حتى بدا واضحًا أن جوليان أسانج لم يغادر المعركة، بل غيّر فقط موقعه فيها؛ من زنزانة ضيقة إلى منبر مفتوح، من الدفاع عن نفسه إلى الدفاع مجددًا عن الحقيقة والضحايا المغيبين.

ولذلك، لم يكن ظهوره في مهرجان "كان" السينمائي مجرد عودة إعلامية أو لحظة شخصية عاطفية، بل كان إعلانًا واضحًا أن حرية الصحافة لا تزال في خطر، وأن الوقوف مع المظلومين لا يرتبط بظرف أو شهرة أو حسابات سياسية. فهذا الرجل الخارج من ظلمة الزنازين، لم يختر الصمت ولا راحة المحررين، بل اختار أن يجعل من منصة "كان" منبرًا عالميًا لتذكير الضمير الإنساني بما يجري في غزة، مؤكدًا أن الموقف الأخلاقي لا يُقاس بحجم المنابر ولا بعدد المتابعين، بل بمدى الجرأة على قول الحقيقة في وجه العاصفة.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار