في عالم يتشكّل من خلال تحالفات متغيّرة وتنافس استراتيجي، تبرز مشاريع البنية التحتية كأدوات رئيسية للهيمنة الاقتصادية والسياسية. لعل أحدث هذه المشاريع هو خط سكة حديد ضخم، يربط الهند بالإمارات والسعودية و"إسرائيل"، واليونان والاتحاد الأوروبي، بميزانية تُقدّر بمليارات الدولارات.
يقول الكاتب والمحلل "علاء غرز الدين" إن هذا المشروع ليس مجرد وصلة نقل، بل هو محور لصراع جيوسياسي بين القوى العظمى، خاصة في ظل تنامي النفوذ الصيني عبر مشروع "الحزام والطريق"، الذي يشكّل بدوره مبادرة احتواء جيوسياسي بأدوات اقتصادية، ومن ثم، محاولات أمريكا لإعادة ترتيب التحالفات الإقليمية.
يتعلق الأمر بالنسبة للمحلل بتداخل مصالح الهند كقوة صاعدة، ودور الاتحاد الأوروبي كفاعل استراتيجي مؤثر، بالإضافة إلى تأثيرات التوترات الحدودية بين الصين والهند، والحرب الخاطفة الأخيرة بين باكستان والهند، مما يجعل تحليل هذه الديناميكيات ضرورة لفهم المستقبل الدولي.
فيما يتعلق بهذا المشروع الجديد، يرى غرز الدين أن تحليل هذا المشروع ينبغي النظر إليه من خلال محور التحولات الاقتصادية والاستراتيجية، بحيث يهدف المشروع إلى خلق ممر تجاري بديل يربط آسيا بأوروبا عبر الشرق الأوسط، متجاوزًا الممرات التقليدية التي تهيمن عليها الصين وروسيا، في اتجاه واضح نحو إعادة رسم الحدود الجيو-اقتصادية. وتمثل الهند المحور الرئيسي، بالإضافة إلى الإمارات، السعودية، "إسرائيل"، اليونان، والاتحاد الأوروبي، مما يعكس، في نظر المحلل، تحالفًا غير تقليدي يجمع بين دول متنوعة سياسيًا.
أما عن الأهداف التي يُراد لها أن تتحقق عبر هذا المحور، فبالإضافة إلى ما هو مُعلن عبر تعزيز التجارة البينية، والعمل على تصدير الطاقة الخضراء، فإن الهدف الجيوسياسي الواضح هو سعي واشنطن إلى تقويض النفوذ الصيني، عبر إضعاف مشاريعها في آسيا الوسطى وأفريقيا، خاصة بعد تعثّر بعضها، بسبب الحرب الأوكرانية التي قطعت خطوط النقل عبر روسيا.
وفي هذا الصدد يرى المحلل أن الولايات المتحدة تدفع باستخدام الهند كحليف استراتيجي لموازنة الصين، مع تعزيز التعاون الدفاعي مثل صفقة طائرات F-35 لتزويد الجيش الهندي، مما يعكس، حسبه، تحولًا في العقيدة العسكرية الهندية من الاعتماد على روسيا نحو التقارب مع الغرب. وبينما تتعاون الهند مع الولايات المتحدة، فإنها بالمقابل، تحافظ على عضويتها في البريكس، مستفيدة من التنافس بين القوى، لتعزيز مكانتها كقطب متعدد الأقطاب.
من جهة أخرى، يعتقد الباحث غرز الدين أن انضمام الإمارات وإيران والسعودية –مع تعليق عضوية هذه الأخيرة– إلى مجموعة البريكس شكّل عنصرًا مرعبًا للهيمنة الأمريكية، خاصة مع تحوّل دول الخليج إلى مراكز اقتصادية مستقلة.
في تحليل العناصر الجغرافية المعقدة في تلك المنطقة من آسيا، يعتقد الباحث أن هناك مجموعة من مناطق الخلاف بين القوتين الصينية والهندية، مثل ولاية "أروناشال براديش" و"أكساي تشين". وقد شهدت هذه المناطق اشتباكات حديثة، كتلك التي وقعت في وادي "جالوان" عام 2020، وخلفت عشرات القتلى. ومع استمرار الحشود العسكرية على الحدود، تكوّنت، حسب الباحث، أسس ما يُسمّيه بـ"الدبلوماسية الفاشلة"، بعد 19 جولة من المفاوضات دون التوصل إلى حل بين البلدين.
من ناحية أخرى، يرى الباحث أيضًا أن التهديدات الأمريكية المشتركة ضد كل من نيودلهي وبكين، تدفع البلدين إلى تقارب اقتصادي براغماتي، رغم استمرار العداء الاستراتيجي، فالصين، حسبه، بحاجة إلى أسواق بديلة، والهند بدورها تسعى لاستقرار حدودها، خاصة مع الأزمة التي انفجرت مع الجارة باكستان، لأجل تركيز جهودها على النمو الداخلي.
أما عن علاقات الهند بالاتحاد الأوروبي، فالباحث لا يتردّد بوصفها شراكة استراتيجية في زمن الاضطرابات، ويذكّر بزيارة رئيسة المفوضية الأوروبية "فون دير لاين" التاريخية إلى الهند، في شهر فبراير الماضي، والتي تمخّضت عن توقيع اتفاقيات ضخمة حول التجارة والتكنولوجيا، بالإضافة إلى تسريع مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة المتوقعة بحلول نهاية 2025، والتعاون في الذكاء الاصطناعي والطاقات البديلة مثل الهيدروجين الأخضر.
ومن بين مجالات الشراكة الهندية الأوروبية، هناك التعاون في مجال الأمن البحري والدفاعي، بحيث تم إجراء أول مناورات بحرية مشتركة في 2023، كان الهدف الواضح فيها تعزيز التعاون في مواجهة النفوذ الصيني في المحيط الهندي. وفي هذا السياق، تريد أورسولا فون دير لاين أن تجعل عام 2025 نقطة تحول في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والعملاق الآسيوي، في وقت تواجه فيه الهند، مثل القارة العجوز، ما يصفه الباحث باضطرابات جيوسياسية. ويرى أن هناك فرصة لإعادة تصوّر الشراكة بين الهنود والأوروبيين، خاصة في ظل ما يراه الجانبان (الهندي والأوروبي) على أنه تهديد محتمل قد يشكّله التَرادُف الأمريكي الصيني، في الجانب الاقتصادي، أو حتى روسيا كفاعل ثالث مفاجئ، "سيكون هذا احتمالًا سيئًا بالنسبة للهند"، كما يقول الباحث.
توجّه الهند نحو تعزيز تحالفها مع الاتحاد الأوروبي رغم تقاربها مع الولايات المتحدة كحليف قوي، ينبع أيضًا من رغبة دلهي، حسب الباحث، في تشجيع تقليل الاعتماد على واشنطن، خاصة في ظل سياسات ترامب الحمائية، بحيث يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز شراكاته مع الهند لضمان أمن الطاقة والتجارة.
وفي نظر الباحث، يُعتبر مشروع ربط الهند بأوروبا مثالًا حيًا على التحولات الجيوسياسية التي يشهدها العالم اليوم، فالأمر لا يتعلق بمجرد مشروع تجاري، بل جزءًا من معركة أكبر بين القوى الكبرى، لإعادة تشكيل مسارات التجارة العالمية والتحكّم في الاقتصاد الدولي.
وبينما يمثّل فرصة لتعزيز العلاقات الاقتصادية بين الهند ودول الخليج وأوروبا، فإنه في الوقت نفسه يفرض تحديات على الدول التي تعتمد على الطرق التقليدية، وعلى رأسها مصر، التي سترى اقتصادها مهددًا حتمًا، إذا انزاحت خطوط النقل والتجارة الدولية عبر قناة السويس.
وفي المحصلة، يبقى نجاح المشروع مرهونًا بقدرته على تجاوز العقبات الجيوسياسية والاقتصادية، ومدى استجابة الدول المنافسة له، بسياسات جديدة، تضمن استمرار مصالحها في الساحة الدولية.
في النهاية، يكمن السؤال المركزي، في رأي الباحث، في قدرة القوى الكبرى على تجاوز خلافاتها لبناء نظام دولي جديد، في حين يُمثّل المشروع الجديد فرصة للهند وأمريكا والاتحاد الأوروبي لخلق بديل عن النفوذ الصيني. غير أن التحديات المالية واللوجستية والتوترات التاريخية كالنزاع الهندي-الصيني تظل عقبات كبرى.