2025.07.17
حوارات
57 عامًا على معاهدة منع الانتشار.. الردع النووي على طاولة \

57 عامًا على معاهدة منع الانتشار.. الردع النووي على طاولة "حرّاس الهيكل الأمني"


بنيامين هوتيكوفيرتور هو باحث مشارك في مؤسسة البحوث الاستراتيجية في فرنسا، تتركّز اهتماماته على تحليل الجيوسياسية المتعلقة بتوسّع امتلاك السلاح النووي، وتأثير ذلك على مسار العلاقات الدولية، بعد أكثر من ثمانية عقود على انتهاء الحرب العالمية الثانية.

يقول الباحث: "لقد ذكّرتنا السنوات العشر الماضية بالدور المركزي الذي تلعبه الذرة في العلاقات الدولية." ويتساءل، في ظل سياق الحرب الخاطفة بين دولتين نوويتين – الهند وباكستان: "هل أصبح النظام النووي العالمي، المبني على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية الموقّعة عام 1968، عتيقًا؟ وهل يتعيّن على الدول إعادة التفكير في بنيته؟" ويضيف الباحث: "إننا نمر بلحظة خاصة في تاريخ العالم. وفي الواقع، يصادف شهر يوليو المقبل الذكرى السابعة والخمسين لفتح باب التوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية."ويرى في هذه المناسبة فرصة للمجتمع الدولي برمّته لتقييم مكانة الأسلحة النووية في العلاقات بين القوى، وفي المذاهب والمقاربات الأمنية للدول الكبرى اليوم.

وفي تتبّعه لتاريخ انتشار وتملك السلاح النووي، الذي حقق "نجاحًا ساحقًا" في العلاقات الدولية قبل عقد، يرى الباحث أن الأمر "مثير للقلق"، ويطرح ثلاثة عوامل تفسّر هذا القلق:

تعقيد الحقيقة النووية وسريتها : الحقيقة النووية العسكرية، في كثير من الدول، معقدة وسرية في معظمها. ولذلك فإن معرفة الجميع تكون، في أحسن الأحوال، مجزّأة، وفي أسوئها، خاطئة.على سبيل المثال، يقول الباحث إن "فكرة أن القوة السياسية الصينية قررت تحقيق التكافؤ الاستراتيجي مع الولايات المتحدة هي فرضية غير مؤكدة؛ ومن المستحيل، في رأيه، القول إن الضربة التقليدية ضد البنية التحتية الحيوية هي المسؤولة عن الردع النووي في أي حرب."

المفارقات التحليلية : يرى الباحث أن تحليل انتشار التسلّح النووي هو "مجال للمفارقات والمعضلات التحليلية بامتياز"، لأن العديد من القوى التي تقف وراء الدفاع النووي تعتمد على الإيمان بقوة الردع، وليس المعرفة التامة بنتائج ما قد يحدث. فمن المستحيل، منطقيًا، أن نُثبت أن الدولة المسلحة نوويًا تشكّل رادعًا في نظر خصومها. ولكن قول العكس في هذا البلد نفسه يُعدّ "تدنيسًا للمقدسات"، في نظر "حرّاس الهيكل الأمني"، ولهذا تحرص كثير من الدول النووية على تعظيم ترسانتها وتحقيق تفوقها الإقليمي.

فشل فكرة نزع السلاح النووي: إن فكرة أن العالم يتجه نحو نهاية التسلّح النووي، هي "فكرة خاطئة" في نظر الدكتور هوتيكوفيرتور.ويبدو أن هذا الإدراك قد حرّك بعض الدول أثناء التفاوض على معاهدة الحظر الموقّعة في نيويورك صيف عام 2017. إلا أن السنة التالية، أي عام 2018، شهدت إعادة تفعيل السياسات الأمنية التي ترتكز على الردع النووي في العقيدة العسكرية للدول الحائزة للأسلحة النووية. كما عادت المناقشات بشأن إمكانية إعادة إطلاق سياسات التسلّح النووي في الدول غير المسلحة نوويًا.

ويؤكد الباحث أن هذا الاتجاه يتجلّى في حقيقة أن معاهدة نيويورك لم توقّع عليها الدول الحائزة للأسلحة النووية، وامتنعت دول أخرى كثيرة عن التصويت. أما بالنسبة للدول المئة غير الحائزة للأسلحة النووية، فإن هذا الالتزام بإنهاء الأسلحة النووية يعكس استياءً متزايدًا من تعاظم دور هذا السلاح في العلاقات الدولية.

في تطوّر العلاقات الدولية منذ الحرب العالمية الثانية، يعتقد الباحث أن الأسلحة النووية لا يمكن أن "تستعيد المكانة التي احتلتها خلال الحرب الباردة (1947-1990)" كعامل موازنة للقوة. فالبناء التحليلي المبني على مفاهيم واستراتيجيات الستينيات والثمانينيات لا يكفي، في نظره، "لفهم العالم النووي اليوم"، لسبب وجيه، هو أن العالم "لم يعد ثنائي القطب"، بل نشهد اليوم تزايد بروز الأقطاب المؤثرة وتشكّل عالم متعدد الأقطاب.

ويعني هذا التحوّل، وفقًا للباحث، أن "العلاقات بين الدول أصبحت أكثر تعقيدًا بكثير"، خصوصًا لأن الدول باتت تعتمد على سياسات تحالفات وشراكات أكثر انتهازية، وهيمنة، وبراغماتية مصلحية، مقارنة بما كان عليه الحال سابقًا.وهو ما يعني أيضًا، أن مبادئ السلم والتعاون الدولي التي تنادي بها المواثيق العالمية، "تبقى طوباوية إلى حدّ كبير". غير أن الباحث يرفض اعتبار أن إرادة مكافحة انتشار الأسلحة النووية قد ضعفت أو آلت إلى الزوال. فإذا كانت الفترة ما بين عامي 2000 و2012 قد تميزت بتآكل سياسات منع انتشار التسلح النووي، فقد أصبح من الضروري اليوم، في اعتقاده، "إعادة التفكير في الإطار الذي ينبغي أن يحكم التسلّح النووي"، أي في آليات السيطرة على الانتشار. ويتمثل التحدي، حسب رأيه، في "إعادة التفكير في الميكانيزمات والسياسات والأدوات القادرة على كبح الانتشار والسيطرة عليه بفعالية".

فبعد مرور أكثر من ثمانية عقود على ظهور الأسلحة النووية، تُظهر المراجعة التاريخية أن نظام التسلّح النووي العالمي "شهد دائمًا تفاقمًا في الاهتمام به، نتيجة تصوّر وجود خطر استثنائي من توظيفه في الحروب".

وغالبًا ما يُقترن إبراز الاهتمام بالسلاح النووي بتضخيم التهديدات التي ترافقه. ويُذكّر الباحث بأن الأزمات الكبرى المحدِّدة خلال الحرب الباردة كانت ذات "بُعد نووي كامن أو مُثبت". فاستغلال ما سُمّي بـ "الفجوة الصاروخية" مع الاتحاد السوفييتي، منذ نهاية عام 1957 وحتى الحملة الرئاسية الأمريكية عام 1960، أتاح للمعسكر الديمقراطي الأمريكي إدانة "الضعف المذنب" للمعسكر الجمهوري، الذي اعتُبر عاجزًا عن مواجهة الخصم السوفييتي، القادر حينها على وضع أراضي الولايات المتحدة تحت رحمة الهجمات الباليستية النووية من نطاقات قارية بعيدة.

وفيما يتعلق بالتحوّل في النظر إلى السلاح النووي كعامل يُغيّر موازين القوى العسكرية، يُشير الباحث إلى أن "السنوات الخمس لأزمة برلين، من عام 1958 إلى عام 1963، تُعدّ أبرز مثال على استخدام الاتحاد السوفييتي للابتزاز النووي الموجّه إلى الرأي العام الغربي"، وذلك "بطريقة كانت أوضح بكثير مما تفعله روسيا حاليًا في حربها مع أوكرانيا منذ فبراير 2022".

إن الأزمة الكوبية، المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بأزمة برلين، تُذكَر تاريخيًّا "باعتبارها تتويجًا للخطر النووي الذي مثّلته الحرب الباردة"، في حين كانت أيضًا بمثابة ما يصفه الدكتور هوتيكوفيرتور بـ "الامتحان الحقيقي في هيكلة الحوار الاستراتيجي الثنائي بين القطبين المهيمنين آنذاك".

وفيما بعد، أدّت أزمة الصواريخ الأوروبية—التي مثلت فترة من العلاقات المتوترة بين الشرق والغرب، وتميزت بحدة المناقشات داخل الدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، ونشأت عن أول عمليات نشر لصواريخ SS-20 السوفييتية في عام 1977، وانتهت بتوقيع معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى عام 1987—إلى تفاقم المخاوف من توجيه ضربة سوفييتية أولى. كما سلّطت الأزمة الضوء على خطر الفصل بين المصالح الأمنية الأمريكية والأوروبية، لكنها أكدت أيضًا مكانة الرأي العام، الأوروبي خصوصًا، في القضايا النووية الاستراتيجية، التي أصبحت أكثر عالمية من كونها دولية بحتة.

وفي هذا السياق، يشير الباحث إلى أن الدول الكبرى الحائزة للأسلحة النووية، وهي الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا والصين والمملكة المتحدة، بصدد تحديث قوتها الرادعة. ويتجلى ذلك، على سبيل المثال، في حالة فرنسا، من خلال تقديم قانون البرمجة العسكرية 2019-2025 في فبراير 2018، الذي نصّ على زيادة ميزانية الردع النووي.

ولذلك، فإن عملية عامة لإعادة تقييم الأسلحة النووية في ترسانات الدول الحائزة لها جارية، وهي تعكس أن "دور الأسلحة النووية لم يتضاءل في العقائد الأمنية لهذه الدول"، كما يؤكد الباحث. وفي ظل أزمة الانتشار النووي الراهنة، يبدو من المهم التذكير بأنه "لم يتم، في أي وقت، إخلاء دولة من الأسلحة النووية أو نزع سلاحها أو تفكيك برنامجها النووي، من دون تغيّر عنيف في النظام أو حصول قطيعة تاريخية كبرى".

وهذا ما حدث فقط في جنوب إفريقيا، مع نهاية نظام الفصل العنصري في عام 1991، وفي أوكرانيا، وبيلاروسيا، وكازاخستان، التي أعادت أسلحتها إلى روسيا عقب انهيار الاتحاد السوفييتي في 8 ديسمبر 1991. لهذا السبب، يرى الباحث أنه "ما لم تحدث قطيعة سياسية كبرى، في كوريا الشمالية مثلًا، خلال السنوات المقبلة، فلا يوجد سبب للاعتقاد بأن النظام الكوري الشمالي يسير على طريق نزع السلاح النووي".

وأخيرًا، من أجل فهم أهمية الأسلحة النووية في العلاقات الدولية اليوم، "لا بد من الأخذ في الاعتبار أنها تظل متغيرًا مهمًا في قراءة أساسية للعلاقات بين القوى".

وعلى وجه الخصوص، بمجرد أن يتفاقم الصراع أو التنافس، فإن السلاح النووي وفكرة الردع "تتولى على الفور دور عامل الاستقرار، أو العامل الذي يمنع كسر الجمود في الوضع، أو الذي يسمح بالبقاء في تنافس منخفض الحدة"، كما حصل بين باكستان والهند خلال الأزمة الأخيرة بين الجارتين.وينطبق هذا أيضًا على الأزمة السورية سابقًا، حيث منع الحليف الروسي الغرب من اعتماد الحلول العسكرية أوالتحرك نحو التصعيد النووي.

وبالعودة إلى التاريخ، يفسر الباحث هوتيكوفيرتور بالقول: "إن فترة ما بعد الحرب الباردة جلبت مخاوف انتشار نووي أدى إلى ظهور سباق تسلح كارثي".ويضيف: "إن خطر الإرهاب النووي، الذي وُصف بأنه تهديد وشيك في أعقاب هجمات 11 سبتمبر على أراضي الولايات المتحدة، أعطى زخماً كبيرًا للعودة إلى تحليل تطور العلاقات الدولية من منظور التسلح والانتشار النووي".

كما أدى عدم الاستقرار الاستراتيجي في شمال شرق آسيا، في بداية سنوات الألفينيات، سواء تعلق الأمر بالبرامج النووية والباليستية للنظام الكوري الشمالي، أو التحديث المستمر للنظام الدفاعي الاستراتيجي الصيني، إلى العودة للحديث عن أهمية التهديدات العابرة للحدود الوطنية في مطلع العقد.

ويبدو أن غزو أوكرانيا في عام 2014 أكد هذا الأمر، من خلال البدء في طرح فكرة اللجوء إلى استخدام السلاح النووي، ولكن أيضًا، من جهة أخرى، التشكيك في الردع النووي "كعامل تغيير لموازين الصراعات".

ولا يشكل عقد سنوات 2020 استثناءً. بالنسبة للباحث، "انطلاق الحرب مرة ثانية في أوكرانيا في نهاية فبراير 2022، كان يشير بما لا يدع مجالاً للشك، إلى أن العالم دخل بالتأكيد في عصر من المخاطر غير المسبوقة".وهنا يتأسس ما يصفه الدكتور هوتيكوفيرتور "بالعصر النووي الثالث"، والذي تتكون ملامحه العسكرية من خلال أدوات تتعلق بـ: "القرصنة الاستراتيجية" (كما حصل من خلال استهداف البرنامج النووي الإيراني عبر فيروس "ستاكسنت" الذي طال منشأة تخصيب اليورانيوم الرئيسية في نطنز وسط البلاد)،والتكنولوجيات الناشئة والمدمرة، و"المفاجآت الاستراتيجية" (مثل الحروب الدعائية داخل المنصات الرقمية)،بالإضافة إلى الهجمات الدقيقة والموجهة لتفكيك "البنية الأمنية" في البلدان.

ويرى الباحث أن نهاية سنة 2024، التي شهدت انهيار الأوضاع الأمنية في كثير من المناطق، "كان من الأفضل أن تكون منطلقًا للتفكير في إطلاق حوار استراتيجي، وانتصارًا للنهج البراغماتي للحد من انتشار الأسلحة النووية وتعزيز النظام الدولي القائم على سلطة القانون"، للعمل على وضع حد لسباق التسلح، من خلال تفعيل عملية نزع السلاح المنصوص عليها في المادة السادسة من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، والتعاون في الحد من مخاطر الانتشار.

ويختم الباحث بالعودة مرة أخرى إلى دروس التاريخ، حين أدى اكتشاف البرنامج النووي العراقي في صيف عام 1991 إلى إغراق الوكالة الدولية للطاقة الذرية في "حالة من الحيرة والشك بشأن نظام الضمانات التي تم إنشاؤها من خلال نظام منع الانتشار".

وقد عزز اكتشاف البرنامج النووي العراقي تطبيق ضمانات الوكالة من خلال اعتماد برنامج “93+2”: ففي مايو 1997، وافق مجلس المحافظين على بروتوكول إضافي نموذجي لاتفاقيات الضمانات الشاملة يعزز بشكل كبير قدرة الوكالة على ضمان عدم وجود مواد وأنشطة نووية غير معلنة في الدول غير الحائزة للأسلحة النووية.

وحتى الآن، نفذت 141 دولة والجماعة الأوروبية للطاقة الذرية هذه البروتوكولات الإضافية، فيما وقعت ثلاث عشرة دولة أخرى على الاتفاقية لكنها لم تنفذها بعد. وفي نهاية المطاف، يرى الباحث أن الملف النووي العراقي، يشير، من بين العديد من الأمثلة الأخرى، إلى "أن حدوث الاضطرابات النووية، ليس بالضرورة العسكرية، هو الذي يحدد ديناميكية النظام العالمي".

يتصفحون الآن
أخر الأخبار