2025.07.17
مقالات رأي
\

"قواعد" بلا ميثاق ونظام بلا توازن.. الوجه الحقيقي للأممية الليبرالية


غلين ديسن هو أستاذ في جامعة جنوب شرق النرويج (USN). تتركز أبحاثه على الجغرافيا الاقتصادية، والسياسة الخارجية الروسية، ومنطقة أوراسيا الكبرى.

إن إرساء ما عُرف سابقًا بـ"النظام الدولي القائم على القواعد"، الذي فرضته الدول الغربية المنتصرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، استلزم –في سعي هذه القوى إلى فرض هيمنتها– إزاحة القانون الدولي، والدوس على المواثيق الأممية، أو على الأقل تجاوز مبدأ احترامها. ففي حين يقوم القانون الدولي على احترام السيادة المتساوية لجميع الدول، فإن النظام الدولي القائم على القواعد يدعم فرض الهيمنة، ومبدأ عدم المساواة في السيادة.

لقد أصبح مصطلح "النظام الدولي المبني على القواعد" شائعًا في البيانات الحكومية والبيانات المشتركة. وبالنسبة للكثيرين، فإن الرسالة الموجهة هي أنه من الضروري تعزيز هذا النظام للحفاظ على الظروف اللازمة للسلام والازدهار. ويرى آخرون أن النظام الدولي القائم على القواعد ليس أكثر من أداة تستخدمها مجموعة معينة من الدول الكبرى لتعزيز طموحاتها في الهيمنة والاستغلال. والقاسم المشترك الوحيد بين الجانبين اللذين يقدمان هذه الحجج، هو أن كليهما لا يميل إلى تحديد ماهية النظام الدولي القائم على القواعد فعليًا، أو سبب أهميته.

يُقدَّم النظام الدولي القائم على القواعد عادة على أنه يشمل القانون الدولي، بالإضافة إلى الأعراف الدولية والمواثيق المتعلقة بالتنمية الاقتصادية وحماية حقوق الإنسان، وهو أمر يبدو، نظريًا، مقبولًا وتقدميًا. لكن رغبة الدول المهيمنة في فرض نموذج قانون دولي يخدم مصالحها –كما هو واضح– تستلزم الدفع بترسيخ مبادئ وقواعد متناقضة. والنتيجة هي نظام دولي خالٍ من القواعد الموحدة، حيث "القوة تصنع الحق"، كما يظهر في التدخلات العسكرية في كثير من مناطق العالم، التي تتم خارج إطار تفويض الأمم المتحدة.

يُقدِّم القانون الدولي لحقوق الإنسان مجموعة من القواعد التي تهدف إلى رفع حقوق الأفراد والجماعات، إلا أن الأمن المرتكز على الفرد يتناقض في كثير من الأحيان مع الأمن المرتكز على الدولة، الذي يُعد أساسًا في القانون الدولي.

في هذا الصدد، يمكن للولايات المتحدة، باعتبارها الدولة المهيمنة، أن تختار بين الأمن المرتكز على الإنسان (الفرد)، والأمن المرتكز على الدولة، في حين يتعين على الخصوم الالتزام الصارم بالأمن المرتكز على الدولة، بسبب افتقارهم المزعوم إلى المؤهلات الديمقراطية الليبرالية. على سبيل المثال، يصر الأمن المرتكز على الدولة، باعتباره أساس القانون الدولي، على السلامة الإقليمية للدول، في حين يسمح الأمن المرتكز على الإنسان بالانفصال بموجب مبدأ تقرير المصير. وعلى هذا، فإن الولايات المتحدة ستُصرّ على سلامة الأراضي في الدول الحليفة، مثل أوكرانيا، أو جورجيا، أو إسبانيا، في حين تدعم تقرير المصير داخل الدول التي تعارض سياساتها، مثل صربيا، والصين، وروسيا، وسوريا.

يمكن للولايات المتحدة أن تتدخل في الشؤون الداخلية للخصوم باسم تعزيز القيم الديمقراطية الليبرالية، ومع ذلك لا يحق لخصوم الولايات المتحدة التدخل في شؤونها الداخلية. ولتسهيل إقامة نظام دولي مهيمن، لا يمكن أن تكون هناك سيادة متساوية لجميع الدول.

وفي سعيها لفرض الهيمنة تحت هذا المسمى الجديد "النظام الدولي القائم على القواعد"، بدأت عملية بناء مصادر قانونية بديلة للشرعية، لتسهيل عدم المساواة في السيادة، كما حدث في الغزو غير القانوني الذي شنه حلف شمال الأطلسي ليوغوسلافيا في عام 1999، دون تفويض من الأمم المتحدة، ومثله غزو العراق سنة 2003.

إن انتهاك القانون الدولي يُبرَّر بالقيم الليبرالية. وحتى شرعية مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أصبحت محل نزاع، من خلال القول إنه ينبغي التحايل عليها، حيث يُزعم أن استخدام روسيا والصين لحق النقض ضد التدخل الذي سمّته القوى الغربية "إنسانيًا"، كان ناتجًا عن افتقارهما إلى القيم الديمقراطية الليبرالية.

وتواصلت في عام 2003 الجهود الرامية إلى إنشاء مصادر بديلة للسلطة، من أجل إضفاء الشرعية على الغزو غير الشرعي للعراق. دعا سفير الولايات المتحدة السابق لدى حلف شمال الأطلسي، إيفو دالدر، إلى إنشاء "تحالف الديمقراطيات" كعنصر أساسي في السياسة الخارجية الأمريكية. واقترح اقتراح مماثل إنشاء "محفل للديمقراطيات"، حيث يمكن للديمقراطيات الليبرالية أن تتصرف بروح الأمم المتحدة، دون أن تكون مقيدة بحق النقض، الذي تتمتع به الدول التي توصف بأنها استبدادية. خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2008، دافع المرشح الرئاسي الجمهوري السيناتور جون ماكين عن إنشاء "رابطة الديمقراطيات".

في ديسمبر 2021، نظّمت الولايات المتحدة أول "قمة من أجل الديمقراطية"، لتقسيم العالم إلى ديمقراطيات ليبرالية مقابل دول استبدادية. لقد صاغ البيت الأبيض مبدأ عدم المساواة في السيادة بلغة الديمقراطية: يصبح تدخل واشنطن في الشؤون الداخلية للدول الأخرى "دعماً للديمقراطية"، في حين أن دعم سيادة الغرب يستلزم الدفاع عن الديمقراطية.

أصبحت المبادرات المذكورة أعلاه، والسائرة تحت مظلة "النظام الدولي القائم على القواعد"، متماهية مع العقلية الإمبريالية، بحيث ستكون هناك مجموعة واحدة من القواعد لـ"المتمدنين"، ومجموعة أخرى لـ"المتوحشين"، بنفس منطق "نحن" و"هم" خلال الحرب الباردة.

لقد خلق هذا النظام الدولي المبني على القواعد نظامًا مزدوجًا للدول "الشرعية" مقابل الدول "غير الشرعية". إن المفارقة في الأممية الليبرالية، هي أن الديمقراطيات الليبرالية غالبًا ما تطالب بالسيطرة على المؤسسات الدولية، باسم الدفاع عن القيم الديمقراطية من "سيطرة الأغلبية". ومع ذلك، فإن وجود نظام دولي دائم ومرن، قادر على تطوير قواعد عيش مشتركة، أمر ضروري للحوكمة الدولية وحل النزاعات بين الدول.

يعتمد القانون الدولي، وفقًا لميثاق الأمم المتحدة، على "مبدأ وستفاليا" للمساواة في السيادة، حيث "جميع الدول متساوية". وعلى النقيض من ذلك، فإن النظام الدولي المبني على القواعد هو نظام هيمنة، يرتكز على عدم المساواة في السيادة. يتبع نظام عدم المساواة في السيادة من نفس مبدأ "مزرعة الحيوانات" للروائي جورج أورويل، الذي كتب قائلاً: "جميع الحيوانات [الدول] متساوية، ولكن بعض الحيوانات [دول أخرى] أكثر مساواة من غيرها".

في كوسوفو مثلًا، روّج الغرب لتقرير المصير باعتباره حقًا معياريًا للانفصال، ولابد من إعطائه الأولوية فوق السلامة الإقليمية والوحدة الترابية في تلك المنطقة. أما في أوسيتيا الجنوبية وشبه جزيرة القرم، فقد أصرّ الغرب على قدسية السلامة الإقليمية مقابل أولوية حق تقرير المصير. وهذا ما يكشف التناقض والنفاق الصارخ للمعسكر الغربي في تفسيره للقواعد القانونية.

فبدلًا من حل الصراعات من خلال الدبلوماسية والقواعد الموحدة، هناك حافز للتلاعب والتلفيق والدعاية، حيث يتم البت في النزاعات الدولية من قبل "محكمة الرأي العام" (عبر وسائل الإعلام وعمليات سبر الآراء)، عندما تكون هناك مبادئ متنافسة بين القوى المهيمنة في رقعة جغرافية ما. وهكذا أصبح الخداع الإعلامي والخطابات المتطرفة أمرًا شائعًا. ففي عام 1999، قدّمت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، على وجه الخصوص، اتهامات كاذبة بشأن جرائم الحرب، لجعل التدخل مشروعًا في قضية كوسوفو. أخبر رئيس الوزراء البريطاني توني بلير العالم أن السلطات اليوغوسلافية كانت "عازمة على إبادة جماعية على طراز هتلر، تعادل إبادة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. وليس من المبالغة القول إن ما يحدث هو إبادة جماعية عنصرية".

إن النظام الدولي المبني على القواعد يفشل في إرساء قواعد موحدة مشتركة لكيفية إدارة العلاقات الدولية، وهي الوظيفة الأساسية للنظام العالمي. وقد نددت كل من الصين وروسيا بالنظام الدولي القائم على القواعد، باعتباره نظامًا مزدوجًا لتسهيل فرض المعايير المزدوجة. وأكد نائب وزير الخارجية الصيني، شيه فنغ، أن النظام الدولي القائم على القواعد يقدم "قانون الغاب"، بقدر ما يتم استبدال القانون الدولي المعترف به عالميًا بالأحادية. وبالمثل، انتقد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، النظام الدولي القائم على القواعد، لأنه أنشأ إطارًا قانونيًا موازيًا لإضفاء الشرعية على الأحادية.

لقد توصل الغرب إلى أشكال متعددة، مثل التحالف الفرنسي-الألماني من أجل التعددية، والشراكة الدولية ضد الإفلات من العقاب على استخدام الأسلحة الكيميائية، والشراكة العالمية لحماية حرية الإعلام، والشراكة العالمية للذكاء الاصطناعي، والدعوة إلى العمل لتعزيز احترام القانون الإنساني الدولي. وتتناول كل هذه المبادرات مواضيع مدرجة بالفعل على جدول أعمال الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة. وتوجد هذه الشراكات خارج الهياكل المعترف بها عالميًا، وذلك للاتفاق على ما يريده الغرب، في دائرة محدودة دون أي معارضين. وبعد ذلك، تتخذ الدول المهيمنة قراراتها عبر الأمم المتحدة، وتقدمها بطريقة ترقى في الواقع إلى مستوى الإنذار النهائي (أي ضرورة العمل بها أو التعرّض لعقوبات). وإذا لم توافق الأمم المتحدة، لأن فرض أي شيء على الدول التي لا تتقاسم نفس "القيم" ليس بالأمر السهل على الإطلاق، فإن الغرب يواصل اتخاذ إجراءات أحادية الجانب.

إن النظام الدولي المبني على القواعد لا يتكوّن، في الحقيقة، من أية قواعد محددة، ولا يتم قبوله دوليًا، ولا يمكن أن يحقق توازن النظام الدولي. ولهذا يجب النظر إلى "النظام الدولي المبني على القواعد" باعتباره تجربة فاشلة للنظام العالمي أحادي القطب، والذي يجب تفكيكه لاستعادة القانون الدولي كشرط للاستقرار والسلام.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار