2025.07.17
مقالات رأي
المسيحية وُلدت في فلسطين

المسيحية وُلدت في فلسطين


في عالمٍ تتلاشى فيه الحقائق خلف الروايات المصطنعة، حان الوقت لإعادة اكتشاف جذورنا العربية والدينية الأصيلة، وللتأكيد أن فلسطين لم تكن فقط مهدًا للديانة المسيحية، بل كانت وما زالت قلب هويتنا الإنسانية المسيحية العربية، عبر القرون وحتى اليوم، في الصراع والمظالم التي نعيشها.

المسيحية وُلدت في بيت لحم والناصرة والقدس – في قلب فلسطين التاريخية والعالم السامي (الشعوب السامية) الأوسع – ثم انتقلت بسرعة إلى خارج جذورها المحلية القومية والدينية، حيث يذكر سفر أعمال الرسل 11:1 أن هناك 16 قومية وإثنية مختلفة كانت متواجدة في القدس في زمن العنصرة، منهم العرب، وعدة أديان محلية بالإضافة إلى اليهودية.

وعمل الرسل الأوائل، وخصوصًا بولس الرسول، على إزالة الحواجز والحدود بين الشعوب في بشارة السيد المسيح لتشمل غير اليهود، مما سرّع وساعد على انتشار المسيحية في أرجاء الإمبراطورية الرومانية. وساعد ذلك الانتشار العالمي على أن تصبح الديانة المسيحية، في جوهرها، ليست ديانة شعب أو جغرافيا محددة، بل ديانة للإنسانية. هي ليست ملكًا لنا، بل نحن منها، وأول ورثتها.

وبذلك، تكوّنت مراكز جديدة للمسيحية في أنحاء الإمبراطورية الرومانية آنذاك: في الغرب، روما وكل الغرب، وفي الشرق، أنطاكية والقسطنطينية والإسكندرية وغيرها... وتقلّص طابعها المحلي، وهو أمرٌ مفهوم.

الذي أريد أن أقوله في هذا المقال هو أنه، مع اتساع انتشارها بين شعوب غير سامية وتأثرها بالثقافات الهلنستية والرومانية ولاحقًا الأوروبية، فقدت المسيحية تدريجيًا ارتباطها الواضح بجذورها الجغرافية والثقافية الأصلية. وهكذا، ورغم أن فلسطين وثقافتها كانتا أساسيّتين في نشأة المسيحية، إلا أن توسعها العالمي أنسى الكثيرين – وأحيانًا نحن أبناءها – أن يسوع المسيح، هنا في أرضنا، وُلد، وعلّم، وتألم، ومات، وقام من بين الأموات.

في القرون الأولى قبل مجيء الإسلام، كانت فلسطين كلها وبلاد الشام كلها مسيحية، وتعُجّ بالرهبان والأديار. ثم تبدلت الأحوال مع مجيء الإسلام، فأسلم بعضهم، وبقي بعضهم على المسيحية. لكنهم ظلوا شعبًا واحدًا في فلسطين وكل سوريا، ولو بديانتين مختلفتين.

وهذا ما يجب أن يعرفه المسيحيون الفلسطينيون اليوم. نحن ورثة الماضي البعيد والقريب. نحن ورثة الجماعة المسيحية الأولى، بكل لغاتها وقومياتها: الآرامية، واليونانية، والعربية. الآرامية هي اللغة التي كانت سائدة في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، واللغة العربية ظهرت في بلاد الشام مع هجرة بعض القبائل من شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام وبعده، في القرون الأولى قبل الميلاد وبعده. واللغة اليونانية انتشرت كلغة الإمبراطورية الرومانية منذ القرن الميلادي الأول وحتى القرن السابع، والفتوحات الإسلامية العربية.

تؤكد الحقائق التاريخية أن المسيحية ديانة نشأت في فلسطين. وتعاليم السيد المسيح تُظهر بعض المفاهيم الاجتماعية والقيم التي جاءت في الأمثال – مثل الكرم، والضيافة، والروح الجماعية، والتمسك بالأرض، ومقاومة الظلم – وهي سمات جوهرية للثقافة الفلسطينية المحلية.

لكن جاء السيد المسيح، بالإضافة إلى ذلك، بتعاليم جديدة تفوق "الإنسان" وعوائد الشعوب كلها. ولا سيّما وصيّة المحبة، جوهر الأخلاق المسيحية، وكل العقيدة المسيحية بما فيها سر التجسد والفداء، والثالوث الأقدس، وموت المسيح وقيامته من بين الأموات، ما يفوق كل العوائد والتقاليد، ويخلق إنسانًا جديدًا.

دور المسيحي الفلسطيني اليوم هو أن يؤكد وجوده في الأرض، ويُقاوم بالكلمة وبكل الوسائل المشروعة كل محاولة لإلغائه، سواء في وجوده في أرضه وبلده وحريته، أو في شخصيته القومية والدينية.

لإعادة تأكيد انتمائنا الفلسطيني المسيحي، يجب القيام بعدة خطوات أساسية:

1. إحياء السردية الفلسطينية المسيحية بوضوح وثقة، والتأكيد على أن يسوع عاش وعانى ومات وقام في هذه الأرض، وأن الكنيسة الأولى نمت من قلب هذه الثقافة المشرقية.

2.تعزيز حضور الصوت المسيحي الفلسطيني عالميًا، عبر المؤتمرات والكنائس والإعلام.

3. بناء تحالفات مع الكنائس العالمية لتعريف مؤمنيها بالجذور الفلسطينية الحيّة للمسيحية، وليس فقط زيارة الأماكن كآثار دينية جامدة.

4.ربط الإيمان المسيحي المعاصر بقضايا العدالة والحق، وإظهار أن دعم المسيحيين الفلسطينيين اليوم هو استمرار لرسالة المسيح الأصلية في الانحياز للمظلومين والمضطهدين.

إن استعادة ملكية المسيحية فلسطينيًا وعربيًا هي معركة ثقافية، روحية، ومعركة في سبيل العدل في آنٍ واحد. إن استعادة الهوية الفلسطينية والعربية للمسيحية ليست مجرد تصحيح لرواية تاريخية، بل هي دفاع عن الذاكرة الحيّة لشعب لا يزال مؤمنًا بأن الأرض التي أنجبت الأديان قادرة على أن تُعيد للعالم رسالتها الحقيقية: رسالة عدالة ومحبة وحرية.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار