لا مفر من القول إننا ولجنا إلى عصر يسميه الكثير من المنظرين بعصر "ما بعد الحقيقة"، بحيث لم تعد قيمة الحقيقة، متجذرة في الفعل التواصلي الإنساني.
يشير مفهوم ما بعد الحقيقة إلى حالة معينة في عصرنا السياسي الحالي، حيث فقدت الحقائق –العلمية والتاريخية وحتى الدينية والثقافية- أهميتها في الخطاب العام. لقد أعطت وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها منصات تشاركية لا حدود لها بإعطاء الأولوية للمعتقدات الشخصية على الدقة الواقعية. ولنا في أمثلة الموجة العالمية لفايروس كورونا وما صاحبها من تشكيك في دقة الخطاب الطبي والعلمي أكبر مثال على ذلك. وقد تحولت هذه الظاهرة إلى شكل خطابي مثير للقلق حقا. خلال أحداث قريبة منا، مثل استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب دونالد ترامب، اعتمدت الحملات الانتخابية على تصريحات عاطفية وكاذبة في كثير من الأحيان للتأثير على الناخبين. تتجاهل سياسات ما بعد الحقيقة أهمية الحقيقة وتركز بدلاً من ذلك على مناشدة العواطف لتحقيق مكاسب سياسية. وهنا مكمن الخطر.
في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح للجميع إمكانية نشر أي محتوى، بدون الالتزام بأي أطر جدية. المواقع الإخبارية المزيفة شائعة على نطاق واسع، وتنشر الأكاذيب والأخبار الملفقة. إن السياسيين اليمينيين المتطرفين في عصر "ما بعد الحقيقة" يستغلون العواطف ويفرضون وجهات نظر شخصية؛ ويخفون الحقيقة ويقنعون الناس بما هو غير صحيح.
نحن، الصحفيون، نستخدم منصات التواصل الاجتماعي بكثافة منذ ظهورها. ولا نزال نؤكد على دورها المهم في نشر المعلومات. لكن ما شهدناه خلال السنوات الأخيرة، هو كيف تم استغلال وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الأكاذيب (في حرائق الغابات في منطقة القبائل في 2021 مثلا). لقد انقلب السحر على الساحر.
في ضوء المصالح التجارية غير المحكومة بمعايير أخلاقية أو التزامات قانونية، للشركات المالكة للمنصات الرقمية والتي تعتمد على "الترفيه" و"الشحن العاطفي" و"إضفاء الطابع الشخصي على القضايا العامة"، لا تنحو المضامين الإعلامية إلا إلى تفكيك وتجزئة فضائنا العام، إلى مجالات مفككة وقائمة بذاتها على أساس "مبدأ أنشر أولا ثم تأكد ثانيا". هذا ما يدفع ببروز الاستقطاب، والراديكالية ورفض الآخر وإقصائه، وليس إلى القبول، وتداول الحجج الأنسب، للوصول إلى الحقيقة (وللأسف هذا ما نشهده في النقاشات المحتدمة حول قضايا متعلقة بالهوية واللغة والدين).
هناك "عتبة" محددة بين ما يتعلق بالشأن العام وبين ما يرتبط بالآراء الشخصية والخاصة: حماية النسيج الاجتماعي من التفكك، والحفاظ على اللحمة الوطنية، والدفاع عن المصالح السياسية للبلد هي مسؤولية مشتركة، تتعلق بمبادئ المواطنة.
ينبغي الاعتراف أن انهيار قيم الإعلام المسؤول اجتماعيا وأخلاقيات العمل الصحفي، عزز من دور شبكات التواصل الاجتماعي من خلال تسفيه الأفكار وجعل النقاشات الاجتماعية عقيمة، او تستند فقط إلى الترفيه والتبسيط. ورهنا بالسلطة، تشكل وسائل الإعلام خاصة المرئية منها الآن، "أفضل" دعامة لمجتمع المشهدية أو التمشهد (Le spectacle)، من خلال ممارسة الشائعات والمعلومات المضللة، اتجاه مستقبلين يراهم مالكو الوسائل الإعلامية مجرد أفراد جاهلين.
الافتقار إلى المنظور العقلاني والرغبة في خلق الإثارة، والتعتيم الصارخ للأصوات المعارضة من خلال برامج إعلامية تغذي العواطف وتسلب حرية التفكير المنطقي تجعلنا كصحفيين نتحسر على أن الانفجار المعلوماتي لم يصاحبه انفتاح الأذهان في التعامل مع ذلك الكم اللامحدود. وهكذا تم التضحية بالأسس السليمة للاتصال عبر وسائل الإعلام على مذبح الربح والتسابق نحو الاستحواذ على أكبر نسب المشاهدة.
الحديث عن جبهة إعلامية هو أمر لا بد منه، ولو أن السلطات انتبهت متأخرة نوعا ما، إلى أهمية العمل على شحذ استراتيجية إعلامية فعالة لمواجهة كل أشكال التضليل والدعاية والتلاعب ونشر الأخبار المغلوطة.
لقد شهدت الجزائر التوجه نحو استراتيجية متكاملة في سبيل التفكير في رسم معالم الجبهة الإعلامية الفعالة في مواجهة جميع أشكال الدعاية التي تستهدف البلد، خاصة في ظل سياق جيوسياسي جد معقد، مع ما نشهده من تكالب موجه وحملات رعناء تستهدف سلامة البلد واستقرار مؤسساته.
مثلا مشروع بناء المدينة الإعلامية، هو خطوة جبارة في اتجاه تعزيز البنية التحتية لصناعة إعلامية فعالة لبلد هو الأكبر مساحة في افريقيا. يجب العمل على استهداف والتحكم في شبكات الإعلام في المنطقة، ومنصات التجارة الإلكترونية الرئيسية، وتقنيات الأقمار الصناعية، والمنظمات الدولية والإقليمية المتخصصة"، لإشراكها في مشاريع شراكة إنتاجية واعدة في مجالات التكنولوجيا والابتكار والمعرفة.
الجزائريون هم من بين أكبر مستهلكي المحتوى من منصات الوسائط الرقمية. وتتمتع شبكات التواصل الاجتماعي بمعدلات انتشار عالية جدًا، كما تدل عليه أغلب الاحصائيات. مما يجعل الجزائر واحدة من أكبر الأسواق العالمية لشبكات التواصل الاجتماعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في وقت يشهد نموًا هائلاً في مجال المعلومات والاتصالات"، لذلك، من الضروري أن نفكر في أن مشروع المدينة الإعلامية سيفتح أبوابه أمام كل الطموحين، والمشاريع الجادة والإبداعية، التي تستهدف بالدرجة الأولى المحتوى الجزائري وتصدير الإنتاج الثقافي والرمزي للبلد. وذلك أولا من أجل الحفاظ على القيمة الرمزية والتراثية للبلد، وثانيا من أجل الدفع باستهلاك المضامين الإعلامية الوطنية، حتى لا نترك عقول المواطنين الجزائريين للتلاعب عبر وسائل الإعلام الأجنبية.
من جانب آخر يجب العمل على تقوية الأسس الديموقراطية في البلد عبر توسيع مجالات ومساحات التعبير، خاصة أن رئيس الجمهورية كان قد أكد مرارا على أهمية دور الإعلام. وفي هذا الصدد ينبغي التذكير أن إرساء قوانين للحد من خطابات الكراهية، ومحاربة الجريمة الإلكترونية، هي خطوات مهمة نحو تعزيز الجبهة الداخلية وحماية أسس التعايش المشترك.
في سياق آخر يجب أيضا أن تعمل السلطات على تفعيل المنصات الديبلوماسية، وتحقيق التقارب مع الجاليات الجزائرية في الخارج، والعمل على خلق لوبيات للدفاع عن مصالح البلد وتصحيح النظرة المغلوطة، أو مواجهة حملات التضليل التي تستهدف الجزائر خاصة في أوقات الأزمات (مثلما شهدناه خلال الأزمة الجزائرية الفرنسية وطغيان خطاب اليمين المتطرف).