صدر حديثًا عن "دار خليفة للنشر والتوزيع" (عمان - الأردن) رواية "لا طائر في هذه المدينة" للكاتبة "صالحة خليفة". وهي رواية تنتمي إلى الأدب الفنتازي الملتزم، تجسّد تداعيات الحرب بأسلوب غير تقليدي. حاولت الكاتبة المزج بين الواقع والخيال، فجاءت الرواية مرآة أدبية تدمج الواقعي بالأسطوري، وقد حرصت الكاتبة أن تضع القارئ في لجٍّ من الأسئلة المزدحمة حول الحرب ومتى تكون نهايتها وكيف لها أن تتوقف؟
إضاءة حول رواية "لا طائر في هذه المدينة"
الشخصية المحورية في الرواية تُدعى "هند" التي تقف أمام الموت والدمار المحيط بها لتنقذ والدها الكبير الذي يلح عليها أن تجلب له الماء كي لا يموت عطشًا، وخلال بحثها عن الماء تجد جارتهم "أم وضّاح" الطاعنة في السن وهي تنادي بصوت يئنّ وجعًا وخوفًا لمساعدتها من الخروج من شقتها المُدمّرة، لتبدأ رحلة الشخصية المحورية في الرواية (هند) وهي تواجه الموت وتتمسك بالحياة وتضعنا في المُتخيّل لكل ما يحدث من جنون الطائر المقاتل وجنوده الذين تمكّنوا بدهاء أن يدخلوا المدينة كفراشة وديعة تتمايل بألوان الربيع فتهبهم حياة ألِقة تبثّ فيهم روح الحياة، وبين أناس لا ذنب لهم في هذه الحرب الشرسة..
فنعيش مع "هند" أحداث الرواية بكل تفاصيلها ما بين الأسطورة والواقع، وما بين الحياة فوق الأرض وتحتها وكذلك وهي جنين لم يكتمل بعد في رحم أمّها، ووصفها لعالم دافئ آمنٍ في بطن أمّها، والذي يعيشه المرء مرة واحدة في حياته، وتمرّسها في سماع ما يحدث خارج بطن أمّها.. العالم الخارجي الذي ينتظر ولادتها وخروجها إليه، بينما هي تتمنّى ألّا تخرج إلى الحياة وتبقى في بطن أمّها على أن تخرج إلى عالم شرس يفتك بالصغار قبل الكبار في حرب لا ذنب لها فيها.
ولا تقف الكاتبة "صالحة خليفة" عند شخصية هند وغيرها من الشخوص التي تحرك أحداث روايتها، بل تتخطّاها إلى تلك الكائنات التي يخافها الإنسان منذ الأزل ويحذر شرّها حتى لا تقضي عليه، لتسقط صفات الإنسانية وتصطبغ تلك الكائنات بدلا عن صفاتها الشرسة والقاتلة للبشرية، فنرى الحيوانات الشرسة تنقذ "هند" الشخصية المحورية للرواية من الموت، بينما الفراشة التي تتميز بجمالها وحبها لربيع الحياة تتحوّل إلى طائر قاتل شرس يدخل في صراع وحرب مع الإنسان..
تحاول الكاتبة في روايتها "لا طائر في هذه المدينة" أن تقلب لنا موازيين الكثير من الأمور المعتادة، لتضع القارئ في صدمة حقيقية تعصف به وتلحّ على القارئ بالسؤال: هل الحرب تُبقي كل شيء على ما هو عليه؟ أم أن موازيين الحياة تتغير بفعل الحرب؟
سؤال: تنتمي روايتك "لا طائر في هذه المدينة" إلى أدب الفنتازيا لِمَ اخترت هذا النوع من الأدب في الكتابة عن الحرب في غزة؟
الجواب: أدب الفنتازيا فضاؤه واسع وأدواته متنوّعة يحلّق به الكاتب بحرية وينطلق في استخدامه لأدواته بحرية وفعاليّة، وهو يدعّمني في تسليط الضوء على الواقع المرير والمعاناة الإنسانية العميقة في الحرب على غزّة، أجسّد من خلاله آثار الحرب على الطفل الغزّيّ والنساء والحوامل والشيوخ ضمن قالب سردي يتجاوز حدود الزمان والمكان.. يساعدني في وضع القارئ في عالم مُتخيّل لطفولة فقدت حقها في التعليم وحُرمت من اللعب في ساحات اللعب الآمنة ونزعت منها الحياة الطبيعية فلم تعد كغيرها من أطفال العالم..
والمدرسة لم تعد مكانا للتعليم بل صارت مكانا للجوء من الوحش الأعمى الذي لا يفرّق بين الأمكنة، فهو يقتل ويدمّر ولا يهتمّ إن كان المكان مدرسة أو مسجدا أو مركز إيواء إنساني، فحيثما هناك بشرٌ يوجّه الموتَ نحوهم.
النساء والحوامل منهنّ بشكل خاص، يعجز العقل البشري على تخيّل حجم معاناتهن. فالمرأة الحامل بقدر ما تخشى على نفسها فإنها تخشى على جنينها الذي لا ترى له أفقا ومستقبلا في لُجج النيران التي تحاصرها من كل الجهات، ولا مكان تضع فيه حملها وإن وُجد فهو عبارة عن خيمة غارقة في الأوحال وتهزّها الرياح ويحاصرها الخوف والرعب.. وأول ما يسمعه المولود هو دوي الانفجارات وصراخ الناس المذعورين وما لا تحتمله طلبة أذنه من أصوات مرعبة لآلات الموت! أما الشيوخ والعجائز فهم تائهون في صحاري النسيان بعد أن فقدوا كل شيء قصاصات ذكرياتهم وذواكرهم..
السؤال: لغة الرواية نجدها لغة مشبعة بالخيال والرمزية، تدمج بين الواقع والأسطورة، وتتميز بأسلوب بلاغي ولغة خيالية مترفة... ما قولك بذلك؟
الجواب: الرواية صرخة أدبية مدوية في وجه الظلم، حرصت على انتقاء اللغة لعتها والتعابير التي تجسّد حجم الألم والدمار الذي لحق بالإنسان الغزّي قبل البيوت وكل ما يحيط به من ظروف.. وحالة الموت التي أخذت رقعته تتّسع، وكثيرًا ما كان هذا الموت يأخذ أشكالا كثيرة ومتنوّعة لم نعتده أو نسمع به من قبل، فربما أصل بروايتي إلى ضمير الإنسانية لإيقاف نزيف الحرب على غزّة.. هذه الحرب التي تجاوزت وحشيتها مقدرة العقل على التخيّل!
السؤال: رسمت شخصيات الرواية بعناية فائقة، وكذلك أسماء شخوصها والأحداث التي تنقلّت بهم في الأزمنة والأمكنة، ثم تناولت كائنات أخرى.. فما هي رؤيتك في هذه النقطة؟
الجواب: هناك مفارقة واضحة ومقارنة في تلك المتغيرات التي حدثت للإنسان والحيوان، وتبدّل الأماكن والصفات، ممّا دفعني إلى رسم تلك الشخصيات بما يخدم الرواية والأحداث التي تمرّ بها، وكذلك الأسماء لها دلالات مرتبطة بالمدينة والأرض، فمدينة غزّة التي تعاني ويلات الحرب ولعنتها، تسكن الظلمةُ مكانَ النور، وتتحوّل أحلامُ الأطفال إلى رماد، وترتجف النساء في أرحام الخوف، والكائنات الأليفة سكنها الوجل والخوف، والنباتات فقدت روحها، والأزهار سُلبت من أريجها وما عادت تحتويها أُصصها، وشرفات البيوت التي كانت تتزيّن بربيع زهورها وثرثرات النساء الصباحية ونسمات صباحهن وفناجين قهوتهن.. تصحّرت المدينة منها وسُلبت الشرفات من هذه الحياة، وما عادت تسمع صيحات الصبية وهم يلعبون الكرة في طرقات المدينة، وجلسات الشيوخ الذين حرموا الجلوس في مقاهيهم، ما عادت المدينة تحتضن جلساتهم ولا ذكرياتهم وأزمنتهم التي وُئدت.. مدينةٌ تصرخ في وجه العالم ولا أحد يسمع فيُجيب بل إن العالم يسمع ويرى ولم يعد يمتلك الجرأة ليجيب!
فكان لا بد من انتقاء شخوص روايتي المؤثرة لمن يتابع الأحداث التي تديرهم وهول المصاب.. وأن تلعب تلك الشخوص الدور الحقيقي للحياة قبل الموت وبعده، وأن اختار الأسماء بعناية والتي تنتمي إلى هذه الأرض وتعبّر عمّا يعانيه الإنسان الفلسطيني في غزة.
السؤال: ما يشدّنا في روايتك هو النمط الجديد في إبراز المتغيّر واللامعقول عندما أكسبتِ الحيوانات الشرسة بصفات الإنسانية، والفأر الجبان بصفة الشجاعة والقوة، والقط الذي اشتهر بغدره بالوفاء لأصحابه حتى بعد مماتهم، والأفعى السامة القاتلة إلى كائن ينقذ البشرية من الموت.
الجواب: أردت أن أعبّر عن صرخة مخنوقة في داخلي لما نشاهده كل يوم من قتل ودمار دون توقف وأمام العالم الذي يدّعي الإنسانية ووقوفه أمام الضعفاء وشعاراته للطفولة وحماية المرأة والحامل وكبار السن، فكانت روايتي مرآة فنتازية تعكس ما آل إليه العالم من فقدانه لإنسانيته ولهويّته الأخلاقية والقيم التي ما عادت تتسع له.. إن الأرض تبكي، تئنّ من حجم الخذلان التي تشاهده من العالم، فجعلتُ الفأرَ الجبان شجاعًا يفدي البطلة بنفسه كي لا تموت، والقط الذي قد يموت من جوعه يأبى أن يعيش على أشلاء أصحاب الأرض الذين كانوا يعتنون به فكان وفيًّا لهم، وكذلك الأفعى السامة كانت منقذة للشخصية المحورية.. فعصفتُ بذهن القارئ كي أثير قضية هامة، أن الموت الذي التهبت الأرض به أماتَ إنسانية العالم وأسقط أقنعته المزيفة وخاصة دُعاة حقوق الإنسان عندما خذلوا أهل غزة.
السؤال: ما رمزية الفراشة والطائر المقاتل في روايتك؟
الجواب: جسّدت قصة الفراشة والطائر المقاتل بحقيقة لا يجب أن تغيب عنا أبدًا، وألّا نُخدع مرة أخرى كي لا نكون ألعوبة بيد الآخرين..
وبخبث ودهاء، خدع الطائرُ المقاتل سكانَ المدينة بطيبة قلوبهم وحبهم للحياة عندما اتخذ هيئة الفراشة لحظة قدومه إليهم.. انتظر حتى قويت شوكته وكُثرت الفراشات التي من سلالته وفرح سكان المدينة بهم واعتنوا بها وبأولادها.. بين ليلة وضحاها، انقلب الحال وتمكّن منهم فتحوّلت الفراشة الجميلة، التي تتراقص مزهوّة بألوان أجنحتها، إلى طائر شرس قاتل، وكذلك بقية الفراشات أصبحت طيور جارحة.
وما زلت أصرّ على ألّا نأمن الغريب الذي لا نعرفه ونتعامل معه، فالتاريخ يعيد نفسه ولا شيء يغيّره، ومن خدعنا بالأمس قد يخدعنا اليوم!
السؤال: إلى أين تأخذينا بروايتك "لا طائر في هذه المدينة"؟
الجواب: أردت من خلال روايتي أن أصل بكم إلى المرآة الحقيقية للعالم بصدق ودون مواربة، وتضعنا أمام حقيقته عندما يفقد ماهيته، ويماهي في الظلم والاستبداد، ويكشف الغطاء عن تناقضه وتحّيزه لمدن عن مدن أخرى، ففي الحروب يفقد العالم العدالة والمساواة ليكون هناك بشر دون بشر وزوايا دون زوايا.. يقع العالم في وحل اللامساواة واللاعدالة بين الشعب الغزّي والشعوب الأخرى.. فتفقد الهيئات الإنسانية والحقوقية والدولية ماهيتها.
السؤال: برأيك، ماذا الذي تطرحه الحرب علينا من أسئلة؟
الجواب: الحرب تطرح أسئلة لا أجوبة لها، وتترك لنا تلوّثا لمبادئ الإنسانية، تقتل الحياة على الكرة الأرضية بجميع كائناتها، وتتصحّر من كل مقوّمات الوجود.. وتخلّف الدمار واعتياد الموت والجوع والعطش، وما يلحق بالإنسان من إعاقات وأمراض جسدية وأخرى نفسية من خوف وهلع وجزع.. كلها تضع العالم أمام سؤال: لِمَ؟
سؤال: رغم الدّمار والموت والأوجاع التي تعصف بنا، ما زلت متمسّكة بالضوء الخافت في ظلمة معتمة.. فمن أين يأتي الضوء؟
الجواب: علينا أن نتمسك بالغد وبحقنا بأن يكون لنا فيه مكانة وحياة كريمة. وعلينا أن نبصر بصيص النور المنبعث من شقوق الجدران المدمرة.. وإن الحرب وإن طالت فلا بد لها أن تتوقف، فنقف هنا عند رمزية أردت بها أن تكون نهاية روايتي التي تحمل الكثير من الرمزية والخيال ليدرك القارئ النهاية التي يجب أن تكون عليها حربه وأن له الحق في الوجود.
سؤال: في ختام هذا الحوار، ما هي أمنيتك؟
الجواب: أتمنّى أن تتوقف الحرب على غزّة، ويعود الفلسطيني إلى أرضه وبيته، ويرجع الأطفال إلى مدارسهم وملاعبهم.. ويعمّ السلام في هذا العالم، وتعمر الأرض بالخير.