"أنا صار لازم ودّعكن .. وخبّركن عنّي
أنا كلّ القصة لو منكن .. ما كنت بغنّي
غنّينا أغاني عَ وراقْ
غنية لواحد مشتاقْ
و دايماً بالآخر في آخر في وقت فراقْ"
ودّعَنا زياد، هكذا علّمنا أن نقول اسمه، بلا ألقاب، بلا امتيازات، أتى خفيف الظّلّ فعبث بجدائل الموسيقى وطيّرها مع الرّيح، كحّل عينَيْ المسرحيّة بعفويّته، ومَكيَج الواقع بسخريته اللذيذة، فجعلنا نضحك ونحن في قمّة الوجع من الوجع وعلى الوجع.
ودّعنا زياد، خفيفًا ككلماته السهلة، تلك الكلمات التي لملمها عن الوجوه المتعبة، والصرخات الصامتة، ودّعنا كأنّه شبع من هذه الحياة التي تركلنا كلّ يوم وكأنّه من نعشه يصيح قائلًا: حين أملّ "بحمل صوتي وبمشي ع طول".
أيها الراكض شابًّا خلف متاريس الحرب، أيها اليساريّ الذي كفر بكلّ الأنظمة، أيها العارف بكلّ ما كان يُحاك من مكائد، أكانت الحياة بهذه القسوة لترسمك وجهًا عصيًّا على النسيان وصوتًا يردّده الصغار والكبار؟ أيها الحالم بشوارع تفقه لغة الحياة، أيها العازف على أوتار الحبّ الآنيّ، الأسبوعيّ، اليوميّ، أكنت تدرك الحبّ كما يدركه نزار؟ لأسبوعٍ، لأيّامٍ لساعاتٍ، فلم تهتمّ مثله بالأبدِ؟
أيّها الحامل صوتك على أكفّ الغيم، كم من غيمةٍ ركضت لتحملك حين أسلَمت الروح لخالقها؟ أيّها العبقريّ المختلِف، أيّها العنيد المبدع، دع صوتك يصدح الآن وفي كلّ آن، وحتى انتهاء الحياة، قل للجميع بصوت جميع المقهورين والمعذّبين في كلّ بقاع الأرض وفي غزّة: "أنا مش كافر.. بس الجوع كافر.. والفقر كافر.. والذلّ كافر".
قل باسم كلّ الذين لا صوت لهم أنّك باقٍ في موسيقاك وفي كلماتك، قل لهم بأنّك تعبت من الصّراخ في وجه الكاذبين الدجّالين فاخترت الحياة الباقية.
فوق الشرفات بقايا من صوتك، مع نفض الصباح فوق الأسطح الآدميّة بقايا منك، مع قرقعة فناجين بائع القهوة في الزقاق أنت باقٍ، مع كلّ وردةٍ قُطفت لحبيبة، وكلّ قبلةٍ طُبعت على ثغر عاشقةٍ أنت باقٍ، أيها اللحن الأبديّ السرمديّ، كم كنّا تعساء حين عرفناك ولم نعرفك، أيها العظيم الذي هجر العرش وافترش التراب مع العابرين، هل مللت من الحياة لهذه الدرجة؟
ودّعنا الذي حكى باسمي وباسمكم وباسم كلّ الصابرين الغاضبين المهمّشين الثائرين، ودّعنا الصّوت السّاخر في وجه الحياة، اذهب نحو الربيع يا زياد، لا يحتاج أمثالك إلى الرّثاء، وأنت القائل:
"ودايمًا بالآخر في آخر في وقت فراقْ".