في المغرب، لم تعد السلطات تمارس القمع كاستثناء، بل تبنّته كقاعدة حكم، فقد تحوّلت المملكة، إلى مختبر مفتوح للتسلّط الأمني والإخضاع السياسي، حيث تلتقي يد البطش الداخلي مع ذلّ الارتهان الخارجي. فبينما يُسجَن الصحفي لأنّه قال الحقيقة، وتُختطف ناشطة لأنّها رفضت الصمت، تمدّ سلطة المخزن يدها إلى قاتل الأطفال في غزة، بلا خجل ولا تردّد. إنّه مشهد يتقاطع فيه خنق الحريات مع احتقار السيادة الوطنية، في نظام رجعي يفضّل إرضاء الكيان الصهيوني على الاستماع لصرخات شعبه. وفي هذا السياق، تصاعدت نداءات الإدانة من منظمات حقوقية مغربية ودولية، مستنكرة حملة القمع المسعورة التي تستهدف كل من تجرّأ على رفع صوته: من سعيدة العلمي، إلى حميد المهداوي، إلى نشطاء حراك الريف... أسماء تتحوّل إلى رموز في معركة متواصلة ضد سلطة قررت أن تجعل من القمع عقيدة ومن التطبيع خيارا وحيدا.
أصدرت "تنسيقية الجمعيات في أوروبا من أجل حقوق الإنسان في المغرب"، وهي إطار يضم أكثر من عشرين جمعية حقوقية تنشط في القارة الأوروبية، بيانًا شديد اللهجة نددت فيه باستمرار القمع الممنهج الذي تمارسه سلطات المخزن ضد الأصوات الحرة والمعارضة، مطالبة بالإفراج الفوري عن الناشطة سعيدة العلمي، وكل المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي الذين يرزحون في سجون المملكة، فقط لأنهم عبروا عن آرائهم أو كشفوا سوءات النظام.
وأوضحت التنسيقية أن قمع حرية الرأي والتعبير في المغرب لم يعد يقتصر على الناشطين الحقوقيين، بل طال فئات واسعة من المواطنين الذين انتقدوا السياسات الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة، وكذلك المواقف الرسمية التي تدعم جرائم الكيان الصهيوني. كما ذكّرت بالتوقيت الخطير لاعتقال الناشطة سعيدة العلمي، التي تم اختطافها يوم الثلاثاء الماضي من طرف عناصر أمن بزي مدني، واقتيادها إلى مركز الشرطة القضائية بعين السبع بالدار البيضاء، في خطوة أعادت إلى الأذهان الممارسات الأمنية التي كانت سائدة في زمن الرعب السياسي.
ويأتي هذا الاعتقال الجديد بعد أقل من عام على الإفراج عنها، ما يكشف – بحسب المتابعين – عن رغبة ممنهجة لدى السلطات المغربية في ملاحقة الناشطين حتى بعد خروجهم من السجن، ومواصلة استعمال القضاء كأداة انتقامية لتكميم الأفواه الحرة. ويظل السبب القانوني لاعتقالها غامضًا حتى الآن، غير أن منشوراتها الأخيرة التي كشفت فيها عن فضائح الفساد وسوء التسيير وتغوّل الأجهزة الأمنية قد تكون السبب الحقيقي الكامن وراء استهدافها من جديد.
من جهتها، أصدرت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وهي أكبر هيئة حقوقية في البلاد، بيانًا شديد النبرة عقب اجتماع مكتبها التنفيذي، أعربت فيه عن "استنكارها الشديد لتزايد وتيرة المحاكمات السياسية التي تطال المواطنين والمدافعين عن حقوق الإنسان بسبب آرائهم السلمية ومواقفهم المعارضة"، معتبرة أن هذا المسار الخطير يمثل "انتهاكًا صارخًا لحرية التعبير وتكريسًا لسياسة الترهيب وتكميم الأفواه".
كما نددت الجمعية بما يتعرض له محاموها من مضايقات أثناء قيامهم بواجبهم المهني في الدفاع عن ضحايا الانتهاكات الحقوقية، وهو ما اعتبرته "مساسًا خطيرًا بحقوق الدفاع وخرقًا سافرًا لسيادة القانون". وأضافت أن المحاكمات الجائرة لم تعد تقتصر على نشطاء الداخل فقط، بل تشمل أيضًا أفراد الجالية المغربية المقيمة بالخارج الذين يجرؤون على رفع الصوت انتقادًا للسياسات الرسمية أو تضامنًا مع القضية الفلسطينية.
وفي السياق ذاته، شددت الجمعية على أن استمرار النظام المغربي في التعاون مع الكيان الصهيوني، رغم حرب الإبادة التي يشنّها على قطاع غزة، يمثل خيانة كبرى للمبادئ الإنسانية وانتهاكًا للقانون الدولي لحقوق الإنسان. كما استنكرت الجمعية ما كشفته وثائق مسرّبة حول مقتل جنديين مغربيين في مواقع عسكرية تابعة للجيش الصهيوني، ما يؤشر – حسبها – إلى "تورط مباشر في جرائم الإبادة التي يقترفها الكيان الصهيوني بحق المدنيين الفلسطينيين".
ودعت الجمعية إلى إسقاط جميع اتفاقيات التطبيع "المشؤومة"، وإغلاق مكتب الاتصال الصهيوني في الرباط، مطالبة بوقف هذا المسار الذي يتنافى مع تطلعات الشعب المغربي في الحرية والكرامة والتضامن مع الشعوب المضطهدة.
ولم تغفل المنظمات الحقوقية الإشارة إلى الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتدهور في المغرب، حيث تتواصل موجة الغلاء التي تطال المواد الأساسية والخدمات، نتيجة ما وصفته الجمعية بـ"فشل السياسات العمومية"، وخوصصة العديد من القطاعات الحيوية، ورفع الدعم عن المواد الأساسية، مقابل تفشي الفساد وغياب الرقابة. وقد أدى هذا الوضع إلى انهيار القدرة الشرائية للمواطنين، في وقت تنشغل فيه الدولة بتحصين التحالفات الأمنية والسياسية مع الكيان الصهيوني على حساب الأولويات الوطنية.
ومن بين أبرز النماذج التي استشهدت بها الجمعيات الحقوقية، قضية الصحفي حميد المهداوي الذي تم تأييد حكم سجنه لمدة 18 شهرًا، إلى جانب الغرامة المالية، بسبب مواقفه الصحفية وانتقاداته الحادة للسياسات الرسمية، بالإضافة إلى قضية نقيب المحامين السابق محمد زيان (83 عامًا) الذي يعاني من اعتقال طويل الأمد رغم تدهور صحته، والمدون رضوان قسطيط الذي أدين بالسجن لسنتين بعد أن نشر منشورات تنتقد المجازر المرتكبة في غزة.
ولا تزال قضية حراك الريف تطارد الدولة، حيث يقبع عدد من نشطاء الحراك في السجون، وسط صمت رسمي مطبق. كما تم التذكير بحالات تعذيب ووفاة مشبوهة، مثل وفاة ياسين شبلي تحت التعذيب في أحد مراكز الشرطة، ومنع المؤرخ والحقوقي المعطي منجب من مغادرة البلاد رغم حالته الصحية الحرجة.
أما الناشطة سعيدة العلمي، فقد باتت رمزًا للمقاومة المدنية ضد عسكرة الفضاء العام، إذ سلطت الضوء في منشوراتها على مختلف الانتهاكات التي تتعرض لها النساء داخل السجون، وتحدثت عن ممارسات تعذيب نفسي وجسدي مروعة، فضلاً عن استهدافها المستمر حتى بعد خروجها من السجن عبر المضايقات البوليسية واستخدام "البلطجية" لترهيبها.
في ضوء هذه المعطيات، يبدو أن المغرب يعيش على وقع أزمة حقوقية خانقة، تتغذى من احتكار السلطة، وتوظيف القضاء كأداة للانتقام السياسي، وتزايد الارتهان إلى الخارج، في ظل صمت دولي مريب. وقد طالبت "تنسيقية الجمعيات في أوروبا من أجل حقوق الإنسان في المغرب" المجتمع الدولي بتحمل مسؤوليته الأخلاقية والسياسية، والضغط على نظام المخزن من أجل احترام التزاماته الدولية ووقف آلة القمع.
وهكذا، فإن ما يجري في المغرب اليوم يتجاوز مجرد انتهاكات متفرقة، ليشكل بنية متكاملة من القمع والترهيب، تعكس أزمة عميقة في بنية الحكم، وانفصامًا بين السلطة والمجتمع، وانحرافًا خطيرًا في الأولويات الوطنية. ولا يمكن الحديث عن استقرار حقيقي أو تنمية مستدامة في ظل استمرار الاعتقالات التعسفية، وتكميم الأفواه، والتواطؤ مع الاحتلال. فالشعوب لا تُقهر إلى الأبد، والتاريخ لا ينسى.