من صمت برلين "الجامد" إلى عدم اكتراث باريس، تكشف الحرب في أوكرانيا عن أوهام جيوسياسية عميقة. وبينما تراقب أوروبا—وتنتظر—تعافي "العالم القديم"، يُعاد حاليًا "تصميم" نظام عالمي جديد.
يرى الباحث أنييلي أن الحرب في أوكرانيا تجاوزت كونها مجرد ساحة معركة، "بل أصبحت مرآة تكشف هشاشة المعسكر الغربي من الداخل". فبينما تتساقط القنابل على "دونيتسك" وتحلق الطائرات المسيرة فوق "بيلغورود"، يتباطأ النبض الحقيقي لأوروبا. ليس في كييف، ولا في وارسو، بل في برلين—حيث يتكشف انهيار داخلي غير مرئي.
في منظور الباحث، ألمانيا، التي كانت ذات يوم مرساة العقلانية لأوروبا ما بعد الحرب، أصبحت الآن بمثابة مريض مرتبك في تجربته الديمقراطية الحديثة: مثالية سياسية، تبعية مقنّعة بصيغة دبلوماسية، وولاء أعمى لنظام يتداعى، تقوده الولايات المتحدة. يضيف أنييلي "قلب الصناعة الأوروبية، الذي أنهكته ندرة الطاقة والتناقض الأخلاقي، لا يتعثر فحسب، بل يتلاشى".
من الكفاءة إلى عدم اليقين
يشير أنييلي إلى أن "النموذج الاقتصادي الألماني الشهير لم يُبنَ على المعجزات"، كما يتوهم كثيرون، بل "ارتكز على الغاز الروسي، والاستيراد من الصين، والتكنوقراطية المنضبطة". واليوم، كما يضيف، "تهتز هذه الركائز جميعًا". لم يسفر الغزو الروسي لأوكرانيا عن عقوبات وغضب إنساني فحسب، بل "أدى إلى كسر شريان الطاقة الرخيصة الذي كان يغذي قلب الصناعة الألمانية".
تباطأ الإنتاج في المصانع. وتوقفت شركات الكيماويات الكبرى عن التصنيع. وعائلات الطبقة المتوسطة، التي كانت تشكل سابقًا العمود الفقري لأكبر اقتصاد في أوروبا، تواجه الآن فواتير تدفئة تضاهي أقساط الرهن العقاري. وما كان ذات يوم محركًا اقتصاديًا لأوروبا، "يشبه اليوم آلة محمومة حراريًا، تتلعثم، وترفض الانطلاق".
ومع ذلك، لا تزال برلين "تتظاهر بالسلامة الاقتصادية والسياسية". فهي، كما يلاحظ الباحث، "تعقد مؤتمرات المناخ، وتلقي الدروس على المجر وبولندا بشأن سيادة القانون، وتقدم خوذات عسكرية لأوكرانيا، وشعارات براقة للعالم بأسره".لكن الحقيقة العميقة واضحة: "ألمانيا أصبحت دولة ما بعد صناعية في حالة إنكار للذاتها المتآكلةّ".
شتاء ألمانيا.. الاستراتيجية اليتيمة والمحرك العاطل لأوروبا
ماذا يحدث لقوة تفقد هويتها؟ إنها تبدأ في تقليد الآخرين. يرى أنييلي أنه "في غياب استراتيجية مستقلة، تحولت ألمانيا إلى وعاء للطموحات الأميركية، وبيروقراطية الاتحاد الأوروبي، والعقائد البيئية الخاصة بالتحول الطاقوي، التي لا تنسجم مع الواقع الجيوسياسي".
عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا، وعد خطاب الـ"Zeitenwende" (الصحوة) بنهضة ألمانية: إعادة تسليح أكثر القوى انضباطًا في التاريخ. لكن ما تلا ذلك لم يكن يقظة، بل جحيم بيروقراطي: الدبابات الموعودة وصلت إلى أوكرانيا بعد أشهر، والذخائر لا تزال محل جدل، لا قرار دولة.
في الأثناء، يشعر الشعب الألماني بالتصدع، وتعكس استطلاعات الرأي تزايد خيبة الأمل من حلف الناتو، ومن سياسة الطاقة، وحتى من استراتيجية ألمانيا تجاه أوكرانيا نفسها. فالألمان، كما يرى أنييلي، لا يسعون للتحالف مع موسكو أو ضدها، بل "يتساءلون إن كان من المنطقي التضحية بالرخاء من أجل حرب أبدية لا يمكن الانتصار فيها".
هذه ليست مجرد استعارة؛ فألمانيا تواجه شتاءً فعليًا مع انخفاض احتياطيات الغاز، وانهيار في البنية التحتية، وتحول في مجال الطاقة "قائم على الأمل، لا على الهيدروجين". يضيف الباحث ساخرًا: "مع تعطيل خط أنابيب نورد ستريم، وشيطنة شركات الطاقة الروسية، تتطلع ألمانيا غربًا للحصول على الغاز الطبيعي المسال، وشرقًا للحصول على المواد الخام، لتجد السياسة الأميركية في حالة تخبط، والصين تنتهز الفرص لتلعب لعبتها الطويلة".
ويشير إلى أن البراغماتية التي اشتهرت بها ألمانيا سابقًا أفسحت المجال لما يسميه "الشلل الأيديولوجي". فبرلين ترفض قيادة أوروبا، وترفض أيضًا أن تتبع. وهكذا أصبحت "عالقة بين الفضيلة والضرورة"، و"أقرب لما كان يخشاه نيتشه: فاعل سياسي يتفاعل مع الأحداث بدل أن يصنعهاّ. ومع تراجع ألمانيا، "يتلاشى أيضًا الحلم الأوروبي الذي كانت تحتضنه يومًا ما".
خادمو الإمبراطورية.. بريطانيا وفرنسا ومسرح الكذب السياسي
يؤكد الباحث أنييلي أن باريس ولندن لا تقودان أي مشروع سياسي أوروبي مشترك، بل تنجرفان أكثر نحو الهيمنة الأميركية. ويصرح قائلًا: "عبر المسرح المتعفن للتاريخ الغربي، لا يزال هناك ظلان باهتان يتمثلان في بريطانيا وفرنسا، الدولتين اللتين سادتا القارات يومًا، قبل أن تتحولا إلى شبحين استعماريين عالقين في ذاكرة العالم". حتى حين تتحدث سياستهما بلغة القيادة، فإن الصوت الصادر عنهما يبدو أجوف، تنقله مؤسسات لم تعد مرهوبة، وحدود لم تعد مقدسة، وتحالفات لم تعد تحظى بالاحترام.
يضيف أنييلي: "لقد تحرك العالم إلى الأمام، لكن هذين الشبحين الاستعماريين ما زالا عالقين في كهرمان الوهم".أما بريطانيا، فيشبه الباحث خروجها من الاتحاد الأوروبي بـ"الطلاق الذاتي"، ويضيف "في فصل نفسها عن أوروبا، كانت تأمل بإحياء هويتها الإمبراطورية، لكن ما انبثق لم يكن قوة أطلسية، بل شبحًا ممزقًا من التناقضات، بريطانيا تتدثر بخطاب الناتو، وتتلحف بعلم أوكرانيا، لكنها عاجزة عن الحفاظ على التماسك الداخلي أو وقف الانهيار الاقتصادي".
وفي تفسير هذا الضعف، يشير أنييلي إلى أن بريطانيا ترسل أسلحة لا تستطيع تعويضها، وتدرّب قواتها بينما تتآكل ثكناتها من آثار التقشف، وتستضيف قممًا تنادي بسيادة القانون، بينما تغرق داخليًا في فوضى قانونية بسبب أزمات اتحادها: اسكتلندا تلوّح بالانفصال، وأيرلندا الشمالية تنبض بالقلق. "وحتى إنجلترا نفسها تنجرف نحو شعبوية وقومية تنخر جسدها السياسي". ويخلص إلى أن السياسة الخارجية لبريطانيا "تتدحرج نحو المهزلة"، ووسائل إعلامها "تتشبث بأوهام عصر فوكلاند". فبريطانيا، التي كانت ذات يوم مهندسة الإمبراطورية، لا تصمم اليوم سوى خرائط الحنين.
أما في ما يخص فرنسا، فيرى الباحث أن رئيسها إيمانويل ماكرون يحاول محاكاة شارل ديغول، مؤسس الجمهورية الخامسة، لكنه يحكم دولة تخشى الإضرابات العمالية أكثر من التهديدات العالمية. "فرنسا تتحدث عن السيادة الأوروبية والاستقلال الاستراتيجي، لكنها مهمّشة من واشنطن، غير موثوق بها من برلين، وغائبة تمامًا عن مسرح الصراع في أوكرانيا"، حيث لا تجد مبادراتها للتوسط مع روسيا آذانًا صاغية.
كما أن تدخلاتها في إفريقيا تتهاوى تحت وطأة التمرد والازدراء، في حين تحولت ترسانتها النووية، التي كانت ذات يوم رمزًا للاستقلال، إلى بقايا من عالم يحكمه منطق جيوسياسي وأمني مختلف.
ويختم الباحث هذا القسم بملاحظة لاذعة: "باريس تحترق، لا بسبب الحرب، بل من الداخل".فأعمال الشغب، واحتجاجات التقاعد، والغضب الشعبي، كلها تكشف عن "جمهورية منهكة بتناقضاتها".فرنسا تحاضر العالم عن الحرية والمساواة والأخوة، بينما تكافح لحماية الحد الأدنى من التماسك داخل جمهوريتها الخامسة.
محور الجرحى.. صعود القوى الناقمة على الغرب
في مقابل التراجع الغربي، يشير أنييلي إلى ظهور كتلة دولية مختلفة، يصفها بـ"محور الجرحى"، تتشكل من الصين، والهند، وإيران، وكوريا الشمالية. هذه الدول، وفقًا له، لا تتحدث بصوت موحد أو رؤية أيديولوجية مشتركة، لكنها "تقدّم اليوم صدىً للعالم الجديد، الذي يتشكل في الصمت الذي خلّفه تفكك القوى الغربية".
ترتفع أصوات هذه القوى، كما يرى الباحث، "ليس في انسجام دائم، ولكن في وضوح وثبات"، والجامع بينها ليس المبادئ ولا القيم المشتركة، بل "الاستياء من طغيان الهيمنة الغربية". يقول أنييلي: "ما يوحّد هذه الدول ليس توافقًا أيديولوجيًا، بل مظالم متراكمة، وصدمات تاريخية، وسياسة قهر غذّتها عقود من الازدراء الغربي".
الصين.. المتفرج المراقب
في تحليله للسياسة الخارجية الصينية، يرى أنييلي أن "بكين لا تلعب لعبة التعاطف، بل تراقب عن كثب التآكل الذي ينخر جسد الكتلة الغربية".كل دولار يُنفق في أوكرانيا هو، بالنسبة لها، دولار لن يُستثمر في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وكل دبابة تُدمّر في خاركيف تعني وجودًا عسكريًا أقل في تايوان. دعم الصين لروسيا هو، كما يصفه الباحث، "دعم جراحي": تكنولوجيا بلا بصمات، وتجارة بلا معاهدات، وموافقة على السياسات الروسية من دون تبنّي المنهج. فـ"عقيدة بكين ليست التدخل، بل الاستغلال الذكي".إنها تنتظر تفكك حلف الناتو، وانقسام الغرب، كي تتاح لها فرصة بسط هيمنتها الخاصة.وبالنسبة لبكين، كما يرى أنييلي، "أوكرانيا هي طاحونة الغرب نحو الانهيار"، وشي جين بينغ لا يؤمن بالحروب، بل بالإنهاك البطيء الذي سيفتك بالمعسكر الغربي.
الهند.. قوة التحوّط
أما الهند، فهي تمارس "الصمت الحذر"، لكن هذا الموقف، كما يشير أنييلي، "ليس سلبيًا، بل يمثل توجهًا استراتيجيًا محسوبًا".فدلهي "تحافظ على توازنها بين الأطراف: تستورد النفط من روسيا، وتتودد إلى التكنولوجيا الأميركية، وتراقب أوروبا من بعيد"، كأنها "محارب يتأمل فرسانًا مخمورين". ويتابع أنييلي: "الهند لا تسعى إلى تشكيل قطب خاص بها، بل تنتظر انهيار الغرب من الداخل، لتصعد من دون مقاومة. "ليست صديقة للغرب ولا عدوة له، إنما سياستها الخارجية تقوم على إرث حضاري وذاكرة طويلة، وهي تتحيّن الوقت المناسب لاستخدامهما.
إيران وكوريا الشمالية.. العزلة التي أنجبت المقاومة
يرى أنييلي أن إيران وكوريا الشمالية لا تسعيان لتحقيق انتصارات جيوسياسية بقدر ما تشكلان "مختبرات للفوضى"، أو دولًا "معزولة ومعاقبة" طوّرت نمطًا خاصًا من المقاومة.
فالنيران التي تشعلها الولايات المتحدة وأوروبا في مناطق أخرى ليست مجرد حروب، بل "حروب استنزاف تُنهك اقتصادات الغرب الذي يُجبر على تمويل الخراب".وفي نظر الباحث، فإن ما يبدو عدوانية من طهران أو بيونغ يانغ، هو في الواقع نتيجة "للمعايير الغربية المزدوجة".فقد باتت شعوب العالم تدرك أن هاتين الدولتين "ليستا مجرد فاعلين مارقين"، كما يصنفهما الغرب، بل ضحيتان لهيمنة فشلت في دمجهما، فأنجبت انتقامًا لا معارضة فقط.
تصفية حسابات عالم ما بعد الغرب
يرى الباحث أنييلي أن ما يحدث في أوكرانيا ليس مجرد حرب دفاعية عن كييف، بل "انهيار لأحلام عصر التنوير"، ذلك العصر الذي ألهم يومًا البرلمانات والثورات، ونُسجت مبادئه في دساتير قارّات بأكملها. ويتساءل: ماذا يحدث حين تصبح السياسة وهمًا، وتتحول الحرب إلى الملاذ الأول؟
يتابع أنييلي: "لقد نسي الغرب، في مسرحه الأخلاقي، أن الإمبراطوريات لا تنهار فقط بفعل الحروب، بل تتصدع وتتآكل من الداخل، بينما تواصل التظاهر بالصمود". فـألمانيا تتظاهر بالقيادة، وبريطانيا تدّعي الأهمية، وفرنسا تتباهى بالإلهام، وأمريكا تزعم أنها تقود العالم. لكن "الستار قد أُسدل"، والعالم يشاهد الآن مسرحًا يقدم فيه اللاعبون "مناجاة لأنفسهم أمام مسرح فارغ"، كما يصف الباحث. فالدول لم تعد تتحدث بلغة المعاهدات، بل بلغة الصفقات، ولم يعد القادة يؤمنون بالقيم، بل بالنفوذ الاستراتيجي. ويرى أن التراجع الغربي يكشف شيئًا أعمق من الهزيمة السياسية أو الاقتصادية: "إنه مأساة العقل"، وانهيار للأساطير التي بنت قرنًا كاملاً من الهيمنة الغربية.
ما تكشفه هذه اللحظة التاريخية ليس مجرد فشل في السياسات أو التحالفات، بل انكشاف لفراغ أخلاقي وعقلي يضرب في عمق السردية الغربية. فبينما تتسابق العواصم على ترديد شعارات الحرية والديمقراطية، تتحول مؤسساتها إلى مسارح لجمود استراتيجي، وخوف وجودي من عالم لم يعد يُدار من بروكسل أو واشنطن.
الحرب في أوكرانيا ليست مجرد صراع حدود، بل نقطة انعطاف تكشف عمق الانفصال بين خطاب الغرب وواقعه، بين صورته عن نفسه، ومكانته الفعلية في نظام عالمي يتشكل بلا إذنه . لم يعد العالم يدور حول الغرب. بل يدور الغرب الآن حول أسئلة وجوده نفسه.