بالرّغم من كلّ ما وصل إليه الإنسان من تطوّر معرفي وتقدّم تكنولوجي، ما تزال بعض المعتقدات الراسخة تحتفظ بمكانتها في عقول وقلوب الناس، كالحسد والعين والجن. قد تظنّ أن هذا الإرث سيندثر مع اتّساع دائرة الوعي، لكن الواقع يقول عكس ذلك. فحتّى اليوم، لا تزال تلك المعتقدات تمارس تأثيرًا كبيرًا على سلوك الأفراد وتفكيرهم، وكأنها متجذّرة في الروح الجمعية لا تُمحى بسهولة.
وإذا كان الحسد والجن في نظر البعض من تراث الخرافة والأساطير، فهما في نظر المؤمنين بهما أمران ثابتان، خاصة أنّهما ذُكرا في القرآن الكريم، وهذا بحدّ ذاته كافٍ لأن يُخرجهما من دائرة الخيال إلى دائرة اليقين. فالحسد، كما ورد في قوله تعالى: "وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ" (الفلق، الآية: 5)، لا يُستهان بأثره، إذ يرى كثيرون أنه سببٌ في تعطّل الرّزق، أو المرض المفاجئ، أو تعكّر صفو العلاقات.
ولذلك، بات الخوف من الحسد جزءًا من حياة الناس اليوميّة؛ فكم من شخص يحرص على كتمان نِعمه، ويُخفي فرحه، ويتجنّب مشاركة إنجازاته خشية من عينٍ قد تصيبه وتبدّد ما جمع! وكم من أمّ تُردّد المعوّذات على أطفالها قبل خروجهم من المنزل، وكم من عائلة تعلّق خرزة زرقاء أو تضع يد طفلها على رأسه إن أثنى عليه أحد.
إنها ثقافة الخوف، المتوارثة من جيلٍ إلى جيل، حتى أصبحت جزءًا من الهوية الثقافية. وقد تجلّت هذه المعتقدات حتى في الفنون والأدب، فامتلأت الروايات، والمسلسلات، وحتى الأغاني الشعبية، بصور العين الحاسدة، والجنّ المتربّص، والسحر المدفون. وكثيرًا ما نرى في الأفلام، سواء كانت أميركية، هندية، أو حتّى عربية، حضورًا واضحًا لموضوعَي الجن والعين، يظهر أحيانًا في سياق مرعب يثير الرهبة، وأحيانًا أخرى في إطار تهكّمي ساخر، لكنهما يظلان من الموضوعات المطروحة والتي تلقى رواجًا واسعًا لدى المشاهدين، مما يعكس مدى تجذّر هذه المفاهيم في الوعي الجمعي، رغم اختلاف الثقافات والبيئات.
أمّا في الطفولة، فقد كان الحديث عن الجن وسيلة "تربوية" يلجأ إليها الأهل لضبط سلوك أبنائهم، من منّا لا يذكر ذلك، كُنّا نُحذّر من اللعب ليلاً، أو الاقتراب من أماكن مهجورة، أو النظر إلى المرايا بعد المغيب، خوفًا من "جنّي" يرانا ولا نراه. كانت وسيلة لبثّ الخوف في القلوب، لكنها بقيت محفورة في الذاكرة الجمعية حتّى اليوم.
كلّ هذه المظاهر، رغم بساطتها، تفتح أبوابًا عميقة حول طبيعة الإنسان وخوفه مما لا يُرى. فهل هو ضعف إيمان أم مجرّد بُعد عن المنطق؟ أم أنّ في الأمرِ ما لا يُفسَّر بالعقل فقط؟
ومن التجارب الشخصية، حادثة وقعت لي في صغري، عندما كنت في الثامنة من عمري. ذهبت لأروي الزهور في منزل جيراننا الذين نزحوا إلى بيروت، وفجأة، فتح الباب المقفل بسلسلة حديدية " الجنزير" حوالي 20 سم، ورأيت رجلاً طوله من الأرض حتى السقف، لكن رأسه كان عبارة عن لمبة. هربت مذعورة، ومنذ ذلك الحين لم أستطع النظر نحو ذلك المنزل. قد يضحك البعض من هذه القصة، لكنها كانت تجربة حقيقية حدثت معي.
فأنا، لا أرى أنّ تصديق هذه الأمور مرتبطٌ بالمستوى العلمي أو الثقافي للإنسان، فالمسألة أعمق من ذلك بكثير. هناك حقائق غيبيّة لا تُقاس بالعلم وحده، ولا تُفسَّر بمنطق العقل فقط. نعم، لا بدّ من التمييز بين من يسلّم حياته كلّها لتلك المعتقدات، فيصبح أسيرًا لوهم الجن والحسد، يُرجع كل تعثّر أو ألم أو خسارة إلى "عين" أو "سحر"، فما بالك مثلًا بمن يُرجع أتفه ما يحصل معه من أمور إلى "صَيْبة العين"، إذا تمزّق الفستان، أو إذا انكسر فنجان القهوة، أو إذا ذبُلت الوردة... وغيرها من أمور ممّا لا يُعدّ ولا يُحصى، (صدقوني إنّها موجودة في مجتمعنا حقًّا)، فيعيش هذا الإنسان في دوامةٍ من التوجّس والقلق، يفرّق الحال بينه وبين من يُقرّ بوجود هذه الظواهر، لكنه لا يسمح لها بأن تعطّل مسار حياته أو تنال من سلامه الداخلي.
فالفرق شاسع بين الإيمان بوجودها كجزء من عقيدتنا - لأن القرآن الكريم أشار إليها بصراحة - وبين أن نُسقط عليها كل مصائرنا. فحين يقول الله تعالى: "وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ" (الفلق، الآية: 5)، أو حين يتحدث عن الجن في أكثر من موضع، فإنّ هذا إثبات إلهي لا يحتمل الجدل. ومتى ما كان النصّ القرآني صريحًا، فنحن كمسلمين لا نملك حياله إلّا التصديق، لأنّ ما ورد في كتاب الله هو من الغيب الذي نؤمن به دون حاجة إلى دليلٍ مادي.
وإن سألتني عن الحسد هل هو موجود؟ أقول لك نعم، فقد ذُكر أوّلًا في القرآن الكريم، وهو موجود بين الناس، لكن الحسد يا عزيزي ليس مجرّد شعور عابر، بل هو مرضٌ داخليّ يؤذي صاحبه قبل أن يطال المحسود. هو انعكاس لنقصٍ في النفس، ودلالة على فراغٍ داخليّ يعانيه الحاسد، إذ لا يغبِط بل يحسد من يمتلك ما يفتقده، أو حتّى ما لا يقدّره كما يجب. هو داءٌ خفيّ، دنيء، لا تقف آثاره عند حدود الدنيا فحسب، بل تمتد إلى الآخرة، فقد ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: "إيّاكم والحسد، فإنّه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب".
فعلامَ نحسد بعضنا بعضًا؟! لماذا لا نتمنّى الخير لغيرنا كما نرجوه لأنفسنا؟ إذ إننا لا نعلم حجم ما تحمّله هذا الإنسان في سبيل ما وصل إليه، ولا ندرك ما خسره وما فقده مقابل ما نراه عليه من نِعم، صدقوني في هذه الدنيا لا يوجد شيء بالمجّان، فكل ربحٍ خلفه مئات الخسائر. نحن نرى الصورة الظاهرة، لكننا نجهل كمّ التعب، الغياب، التضحية، والانكسارات التي مرّ بها هذا الشخص. فالماديّات التي نحسد الناس عليها غالبًا ما تُبنى على أعوامٍ من الشقاء.
وما بالك بمن يحسد غيره على محبة الناس له؟! أيّ دناءة هذه؟ أن يُحسد الإنسان على النقاء الداخلي الذي جعل له في القلوب وِدادًا! والأسوأ من كلّ ذلك أنّ الحاسد غالبًا لا يعترف بحسده، بل يختبئ خلف أقنعة المودة والمجاملة، يبتسم لك ويحادثك بكلامٍ معسول، لكنه يضمر لك الكره ويتمنّى لك الزوال.
وأنا شخصيًّا، لم أشعر يومًا بهذا الشعور، لا أقول ذلك تزكية، فقد تربّينا، والحمد لله، على مبدأ "العين الشبعانة"؛ فلا يُغوينا بريق، ولا تستهلكنا الرغبة فيما في أيدي الناس. نرضى بما قسمه الله لنا، ونقنع بما نملك، ونتمنى الخير لغيرنا كما نرجوه لأنفسنا، فهكذا علّمنا الإيمان، وهكذا تربّت نفوسٌ تعرف أن العطاء من الله، وأن البركة في الرضا. ولكنني أدركت معنى الحسد حين اختبرتُ وجوهًا من حولي في ميدان العمل، بعضهم يثني عليك في العلن، ويطعن فيك من الخلف، فقط لأنك نقيّ ويحبك الناس.
وأنا للحقيقة لا أغبِط في هذه الحياة إلّا اثنين: من لا يزال يملك أمّه، إذ إنني فقدت أمي، وأعلم تمامًا حجم هذه الخسارة التي لا تُعوّض، وأتمنى من قلبي ألا يُحرم أحدٌ من والدته، وأدعو بطول أعمار الأمهات جميعًا. والثاني، من اغترف من بحر العلم حتّى فاض به، أتمنى أن أكون مثله، وأحثّ نفسي على اللحاق به، فتلك هي الغِبطة المحمودة التي تدفعك لأن تكون أفضل، لا لأن تحقد على من هو كذلك.
وفي الختام، يبقى الحديث عن الجن والعين والحسد، رغم ما فيه من غموضٍ وهيبة، متجذّرًا في ثقافتنا الشعبية ووعينا الجمعي، لا تمحوه سنوات التقدّم. نعم، لا يجوز أن يُختزل كلّ ما يصيبنا بهذه الأسباب، لكن إنكار وجودها مطلقًا هو إنكار لما جاء في القرآن الكريم. فالعين حق، والحسد داءٌ دفين، والجن خلقٌ من خلق الله. لكن علينا أن نوازن بين الإيمان بهذه الأمور دون الغرق في وساوسها، وأن نُحصّن أرواحنا بالذِّكر، والرضا، وحُسن الظنّ بالله، فهو وحده الحافظ والكافي، وما دونه فزَعٌ زائل.