كما خلق الله الجنة والنار، وميّز بين الخير والشر، ووهب العالم توازنًا بين النور والظلمة، وضع في حياةٍ موازية لحياتنا مخلوقات من نار؛ منها ما لا يؤذي ومنها الخبيث الذي يتسلل إلى العقول والأجساد فيكون للإنسان كما تكون الظلال. وكما أودع الله في قلب الإنسان نية طيبة خالصة، تدعو للخير وتفرح لنجاح الآخرين هناك نوايا أخرى حاقدة تحزن لوجود النعمة عند الغير فتطلق نظرة حسد وخبث تطفئ به نور الصحة وتعطّل عبره مسار الرزق وتفتح أبوابًا خفيًّة للأذى ولو من نظرة. فما هي هذه الحيوات التي تحيا بالتوازي معنا؟ ومن هم سلاطينها؟.
الجن والعين والحسد ثلاث مفاهيم متداخلة تحمل الحقد والأذيّة عندما تدخل حياة الإنسان، فبأيّ شكل يتداخل دور الجن في تفسير ظاهرة العين والحسد في الثقافة الشعبية وغيرها من الثقافات؟ وإلى أيّ حدّ ممكن أن تؤثر هذه المعتقدات على الصحة النفسية والسلوك الاجتماعي؟ وهل هناك فرق بين النظرة الدينية والنظرة الشعبية لكل منهم؟
حين نفتح كُتب التراث ونصغي إلى الحكايات التي رُويت على ألسنة أجدادنا، نجد أن الجن لم يكن غريبًا عن المخيّلة العربية بل قد نما في زواياها وتحوّل إلى ظلّ يرافق الحكايات، وإلى جانبه تترصّد الإنسان العين الحاسدة التي لا تُرى ولكن، يُحسب لها ألف حساب.
فتلك القوى التي تتحرك في العالم الموازي لعالم البشر آمن بها العرب منذ القدم وكانت دومًا حاضرة في الروايات والأساطير، متنقّلة على الألسن عبر العصور، وكان الجن من أبرز هذه القوى، يتربّص بالبشر ويودي بحياتهم إلى الهاوية في لحظات الغفلة والضعف، وفي الجانب الآخر تُعتبر العين والحسد قوتين خفيّتين تُخلق إحداهما من نظرة إعجاب لا يُستعاذ منها وأخرى من قلب تغلي فيه مرارة الحقد والغيرة، فالحسد يستدعي الجن، والعين تكون سببًا لضرر غير مرئي.
عندما نتعمق في هذه المعتقدات، التي لم تكن مجرد خرافات في نظر الناس، نجد بأنها أدت إلى حفظ الروابط الإجتماعية، فالحذر من الحسد يدفعهم إلى ستر النِّعم وعدم المبالغة في إظهارها، غير أن الإلتزام بالأدعية والتحصينات الشرعية يعزز الروابط الدينية خاصة عند المسلمين ويذكّر الفرد بضعفه أمام قدرة الخالق.
فقد ذُكر الجن والعين والحسد في مواضع متعددة في الأحاديث النبوية وفي القرآن الكريم، مثل سورة الجن وسورة الناس، باعتبارهم قوى غيبية قد تصيب الإنسان بأذى، ولكن رغم قدرتها على الإضرار إلا أنها لا تتجاوز إرادة الله وحكمه وأن الحماية الحقيقة منها تكون باللجوء إليه. إذ إنّ وسائل الحماية الدينية تتمثّل في المداومة على الأذكار والصلاة وقراءة المعوذتين وغيرها من الواجبات والعادات الدينية، إضافة إلى تجنّب الغلوّ في الحديث عن النِّعم أمام من يُخشى حسده، مع شكر الله عليها.
في النهاية يبقى موضوع العين والحسد والجن مزيجًا بين الموروث الشعبي في الأدب العربيّ والاعتقاد الديني والمجتمعيّ وبين الخيال والواقع. فقد تنوّعت واختلفت الآراء حياله، بين من يراه حقيقة ثابتة تؤكدها النصوص الشرعية وبين من يعتبره مجرد إرث ثقافي يعكس تصورات الأجيال التي مضت، ولكن ما لا يمكن الاختلاف عليه هو أن التحصين بالذِّكر وحُسن النية ونقاء القلب يبقى أكثر العوائد التي لا يملكها إلّا من آمن بأن الخير أقوى من الشر وأن الله هو الحافظ من كل مكروه. فهل الحماية الحقيقة تكمن في العبادات الدينية والأدعية وحدها أم هي صفاء القلوب قبل كل شيء؟ وإلى أيّ مدى يمكن للتعاليم الدينية أن تظل حصنًا لنا أمام هذه العوالم الغامضة؟
وهل سننسى كعربٍ القشورَ التي نحسد بعضنا عليها ونفتّش على شيء ذي قيمة يحسدنا الغرب عليه؟ أم أنّه كنت لو ناديت أسمعت حيًّا ولكن لا حياة لمن تنادي!