في عالم تحكمه التقلّبات الجيوسياسية والمصالح الاقتصادية المتشابكة، لم تعد القرارات التجارية الكبرى تُتخذ بمعزل عن خلفيات استراتيجية أوسع. ومع تصاعد النزعة الحمائية لدى القوى الاقتصادية الكبرى، برزت الولايات المتحدة كفاعلٍ مركزي في إعادة تشكيل خريطة التبادل العالمي، وهو ما تجلّى بوضوح في قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرض رسوم جمركية بنسبة 30% على صادرات عددٍ من الدول، بما في ذلك الجزائر. هذا القرار، وإن بدا في ظاهره إجراءً اقتصاديًا صرفًا، إلا أنه يندرج ضمن توجه أمريكي جديد يسعى إلى فرض موازين قوة تجارية أكثر انحيازًا للمصالح الداخلية، حتى على حساب الشركاء التقليديين. أمام هذا المعطى، تجد الجزائر نفسها أمام سؤالٍ مركزي: هل يشكّل هذا الإجراء تهديدًا حقيقيًا لمصالحها الاقتصادية، أم أنه اختبارٌ عابر لقدرتها على المناورة والصمود في بيئة دولية شديدة التقلب؟
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 8 يوليو 2025، عن فرض رسوم جمركية بنسبة 30% على واردات قادمة من ست دول، بينها الجزائر، في إطار ما وصفته واشنطن بـ"تصحيح الاختلالات التجارية". ورغم أن القرار لم يكن مفاجئًا من حيث المضمون، إذ شمل دولًا من مناطق مختلفة ولم يُخص الجزائر تحديدًا، إلا أنه أثار تساؤلات مشروعة حول تداعياته المحتملة على الاقتصاد الوطني، خاصة في ظل الظرفية العالمية المضطربة.
غير أن القراءة الموضوعية لمؤشرات الاقتصاد الجزائري، ولطبيعة العلاقات التجارية الثنائية، تكشف أن الجزائر ليست في موقع هش. فهي مدعومة بما يمكن تسميته "ثمانية دروع" اقتصادية: وفرة الاحتياطي النقدي، تنوع شركائها التجاريين، انخفاض الاعتماد على السوق الأمريكية، استراتيجية استبدال الواردات، تحفيز الصادرات غير النفطية، برنامج الإصلاحات الاقتصادية، احتياطات الطاقة، وأخيرًا إرادة سياسية واضحة لإعادة هيكلة النموذج التنموي.
بعد ساعات قليلة من رسالة تهنئة رسمية وجهها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى نظيره الجزائري عبد المجيد تبون بمناسبة الذكرى الثالثة والستين لاستقلال الجزائر، وصلت رسالة أخرى مختلفة في مضمونها وتحمل التوقيع ذاته. ففي الوقت الذي عبّرت فيه الرسالة الأولى عن "رغبة الولايات المتحدة في تعزيز العلاقات الثنائية"، جاءت الرسالة الثانية لتُعلن فرض رسوم جمركية بنسبة 30% على جميع المنتجات الجزائرية المصدّرة إلى السوق الأمريكية، ابتداءً من الفاتح أوت 2025.
وقد ورد في رسالة التهنئة التي أُرسلت يوم 7 جويلية 2025: "نطمح أن تواصل علاقتنا الازدهار، وعلى وجه الخصوص في المجالات التجارية والمبادلات الثقافية، إذ نستطيع رسم معالم مستقبل أكثر إشعاعًا لبلدينا." أما في رسالة الرسوم، التي حملت تاريخ 9 جويلية، فقد كتب ترامب: "لقد قررنا المضي قدمًا معكم، ولكن فقط بشروط تجارية أكثر توازنًا وعدلاً"، مضيفًا: "ابتداءً من 1 أوت 2025، سنفرض على الجزائر تعريفة جمركية بنسبة 30٪ على جميع المنتجات الجزائرية."
هذا التباين في مضمون الرسالتين لفت أنظار المتابعين، وفتح نقاشًا واسعًا حول طبيعة المرحلة الجديدة في العلاقات الاقتصادية بين البلدين. ففي الوقت الذي تُبرز فيه رسالة التهنئة طابع الشراكة الإيجابية بين الجزائر والولايات المتحدة، وتُثني على التعاون القائم في مجالات الأمن ومكافحة الإرهاب، جاءت الرسالة الثانية لتُوضح الرؤية الاقتصادية الأمريكية فيما يخص التبادل التجاري، وتشير إلى الحاجة إلى آليات أكثر توازنًا في المعاملة التجارية.
وقد عبّرت واشنطن من خلال هذه الخطوة عن رغبتها في مراجعة الشروط التجارية مع عدد من الدول، من بينها الجزائر، في إطار رؤية أشمل لإعادة ضبط العلاقات الاقتصادية الدولية بما يخدم مصالحها. وفي الوقت ذاته، تُبقي الولايات المتحدة الباب مفتوحًا أمام الحوار، حيث ورد في نص الرسالة: "إذا كنتم ترغبون في فتح أسواقكم التجارية المغلقة حتى الآن أمام الولايات المتحدة... فإننا قد نأخذ بعين الاعتبار تعديلًا على هذه الرسوم."
هذا التطور يمكن قراءته ضمن منطق العلاقات الاقتصادية التي تخضع بطبيعتها لدورات من التقييم وإعادة الترتيب، وأن مواقف الدول الكبرى تتغير بتغير مصالحها، دون أن يعني ذلك المساس بجوهر العلاقة. بل إن وجود قناتين متزامنتين، إحداهما تحتفي بالشراكة والأخرى تبحث في توازنها، يؤكد أن الجزائر تحظى باهتمام استراتيجي لدى واشنطن، وأن العلاقة مرشحة للتطوير لا للتأزم.
من جهة الجزائر، لم يصدر أي رد رسمي، والتزمت الدولة موقفًا هادئًا يعكس فلسفتها الثابتة في التعامل مع مثل هذه التحولات: مواكبة المتغيرات بما يخدم مصالح الجزائر أولًا دون أي ضغوطات. فالجزائر تدرك أن القرارات الاقتصادية السيادية للدول الكبرى كثيرًا ما ترتبط بحسابات داخلية أكثر منها مواقف ثنائية مباشرة، وأن قراءة الحدث يجب ألا تنفصل عن سياقه العالمي المتقلب.
وفي الوقت الذي ركّزت فيه بعض التقارير على تداعيات محتملة للقرار الأمريكي على الصادرات الجزائرية، فضّل محللون حاورتهم "الأيام نيوز" تفكيك المضمون الاقتصادي للقرار وموازنته مع حجم التأثير الواقعي، ليخلصوا إلى نتيجة متقاربة: الجزائر لن تتضرر فعليًا، لا من حيث الحجم، ولا من حيث البنية، ولا من حيث المسار الإصلاحي الذي انتهجته الدولة. وكشف هؤلاء الخبراء عن "الدروع الثمانية" التي تحصّن الاقتصاد الجزائري من أي أثر جوهري لهذه الرسوم، معتبرين أن هذه الدروع هي نتائج ملموسة لمسار اقتصادي وطني قائم على التنويع، والتدرج، والاستقلالية في القرار.
لماذا لا تؤثر الرسوم الأمريكية على الجزائر؟
عند الحديث عن الرسوم الجمركية الأمريكية المفروضة على الجزائر، لا يمكن تجاهل المعطى الأول والأكثر حسمًا في تقييم مدى التأثير: حجم التبادل التجاري بين البلدين. فالقرار الأمريكي يبدو قويًا في ظاهره، لكن عندما نضعه في ميزان الأرقام، يتضح أنه لا يحمل وزنًا ثقيلًا على الاقتصاد الجزائري، خاصة أن العلاقات التجارية بين الجزائر والولايات المتحدة لم تكن يومًا ذات كثافة أو أولوية قصوى بالنسبة للطرف الجزائري.
وفقًا لبيانات رسمية حديثة، تمثل الصادرات الجزائرية إلى السوق الأمريكية نسبة صغيرة جدًا من إجمالي الصادرات الوطنية، كما أن الولايات المتحدة ليست من بين أهم خمسة شركاء تجاريين للجزائر لا في الاستيراد ولا في التصدير. هذا الواقع يجعل تأثير الرسوم المفروضة محدودًا بطبيعته، لأن الجزائر لم تبنِ نموذجها الاقتصادي أو حساباتها التجارية على السوق الأمريكية كقاعدة رئيسية.
الأمر الأكثر دلالة أن التبادل بين البلدين غالبًا ما يقتصر على بعض الشحنات المتخصصة أو العقود ذات الطابع المؤقت، ولا يشمل الصناعات التحويلية الكبرى، مما يقلل من حساسية الاقتصاد الوطني تجاه أي تغيّرات مفاجئة في السياسة الجمركية الأمريكية.
بذلك، يمكن القول إن الدرع الأول الذي يحمي الجزائر من ضرر القرار الأمريكي يتمثل ببساطة في أن العلاقة التجارية بين الطرفين محدودة بطبيعتها، وهو ما يجعل آثار الرسوم الجديدة أقرب إلى الصدى الإعلامي منها إلى التأثير الاقتصادي الحقيقي.
السوق الأمريكية ليست الوجهة الأساسية
وإذا كان حجم التبادل التجاري بين الجزائر والولايات المتحدة ضعيفًا بطبيعته، فإن النظرة الأوسع تؤكد أن السوق الأمريكية لم تكن يومًا ضمن الشركاء الاستراتيجيين للجزائر في مجال التصدير. فالعلاقات الاقتصادية بين البلدين، وإن حملت طابعًا سياسيًا بين الحين والآخر، ظلت دومًا في مرتبة ثانوية مقارنة بأسواق تقليدية ومحورية مثل الاتحاد الأوروبي ودول الجوار العربي وحتى بعض الدول الآسيوية.
فالصادرات الجزائرية، على مدار العقود الماضية، اتجهت أساسًا نحو شركاء تعتبرهم الجزائر أكثر انسجامًا مع مصالحها الاقتصادية طويلة المدى، سواء من حيث القرب الجغرافي، أو من حيث الأطر التعاقدية والاتفاقات التجارية الموقعة، أو حتى من حيث الاستقرار السياسي في العلاقات. الولايات المتحدة، في هذا السياق، كانت دائمًا خيارًا جانبيًا، لا قاعدة أساسية في بنية الصادرات الجزائرية.
وتبرز هذه الحقيقة بوضوح في تقارير التجارة الخارجية، حيث لم تحتل الولايات المتحدة أي موقع متقدم في قوائم شركاء الجزائر خلال السنوات الخمس الماضية، لا من حيث القيمة ولا من حيث الكميات المصدّرة. وهذا يعكس قناعة اقتصادية جزائرية ضمنية بأن السوق الأمريكية، رغم حجمها العالمي، ليست الوجهة الأمثل أو الأسهل للمنتجات الجزائرية، لا على المستوى اللوجستي ولا من حيث شروط النفاذ إلى السوق.
ومن هنا، فإن فرض رسوم جمركية بنسبة 30%، مهما بدا رقمها مرتفعًا، لن يُحدث خللًا في توازن الصادرات الجزائرية، لأن هذه السوق لم تكن مركزية في التخطيط التجاري الجزائري. بل قد يُقرأ القرار على أنه فرصة لإعادة تقييم هذه العلاقة من منظور جديد، ينسجم أكثر مع مصالح الجزائر وتوجهاتها في تنويع شركائها الاقتصاديين.
وعليه، فإن الدرع الثاني في وجه القرار الأمريكي يتمثل في أن الولايات المتحدة لم تكن قط شريكًا استراتيجيًا في السياسة التصديرية الجزائرية، مما يجعل آثار الرسوم على الجزائر لا تتعدى الهامش.
محروقات الجزائر محصنة..
وبالاعتماد على محدودية الدور الذي تلعبه السوق الأمريكية في الخريطة التصديرية للجزائر، يزداد الاطمئنان عندما ندرك أن الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة لا تشمل المحروقات، العمود الفقري للاقتصاد الوطني والمصدر الأول للعملة الصعبة.
حتى لو كانت هناك صادرات طاقوية محدودة نحو الولايات المتحدة، فإنها غالبًا ما تخضع لعقود طويلة الأجل أو ترتيبات ثنائية لا تدخل ضمن الإجراءات الجمركية المتغيرة.
تُعتبر صادرات الجزائر من الغاز الطبيعي والنفط والمنتجات الطاقوية الأخرى الركيزة الأساسية لخزينة الدولة، وتشكل أكثر من 90% من عائدات التصدير، وهي موجهة أساسًا إلى أسواق أوروبية وآسيوية تعتمد عليها بشكل كبير، مع وجود عقود محمية باتفاقات استراتيجية يصعب المساس بها بقرارات جمركية ظرفية.
لذا، فإن أي ضرر محتمل من القرار الأمريكي يقتصر على صادرات ثانوية أو محدودة القيمة، دون أن يمس صلب الاقتصاد الجزائري أو يهدد التوازنات المالية العامة، وهو ما يشكل الدرع الاقتصادي الثالث في مواجهة الرسوم.
كما أن صادرات المحروقات إلى السوق الأمريكية ضئيلة جدًا مقارنة بالسوق الأوروبية، الزبون الأول للطاقة الجزائرية، مما يضمن استمرار نشاط القطاع الحيوي بعيدًا عن أي تداعيات مباشرة، ويحافظ على المداخيل الأساسية للجزائر.
تنويع الشركاء.. درع الجزائر ضد تقلبات الأسواق
إذا كانت المحروقات قد حفظت الجزائر من ضرر مباشر بفعل الرسوم الجمركية الجديدة، فإن ما يعزز هذه الحصانة أكثر هو التوجه الاستراتيجي الذي تبنته الجزائر في السنوات الأخيرة نحو تنويع شركائها التجاريين وتقليل الاعتماد على أسواق تقليدية أو غير مستقرة.
بدلاً من الاعتماد على سوق واحدة أو محور اقتصادي محدد، سعت الجزائر إلى بناء شبكة علاقات تجارية متعددة تشمل أوروبا، آسيا، إفريقيا، تركيا، وحتى أمريكا اللاتينية.
هذا التوجه جزء من رؤية أوسع للسيادة الاقتصادية، تقوم على مبدأ الندية والمرونة، والبحث عن شراكات مبنية على المصالح المتبادلة لا التبعية. وقد بدأت ثمار هذا النهج تظهر تدريجيًا من خلال زيادة التبادلات مع دول مثل الصين وروسيا والهند، فضلاً عن توسع الجزائر في الأسواق الإفريقية التي باتت فضاءً واعدًا للمنتجات الجزائرية.
ومن أبرز مؤشرات نجاح هذا التوجه توقيع الجزائر على اتفاقية منطقة التبادل الحر القارية الإفريقية، وتكثيف الزيارات الاقتصادية إلى دول جنوب الصحراء، وتوسيع دائرة المعارض التجارية الموجهة إلى أسواق جديدة، ما يفتح آفاقًا واسعة لتصريف المنتجات الجزائرية خارج الفضاءات التقليدية التي قد تتغير قواعدها فجأة، كما حدث مع الرسوم الأمريكية.
وبفضل هذا المسار المتدرج، لم تعد السوق الأمريكية تشكل أكثر من خيار ثانوي يمكن تجاوزه أو تعويضه بسهولة ضمن شبكة التبادلات الجديدة. وكلما توسعت خارطة الشراكات، تضاءلت قدرة أي قرار منفرد على التأثير في المسار العام للاقتصاد الجزائري.
لذلك، يُعتبر اعتماد الجزائر على سياسة خارجية اقتصادية قائمة على التنويع المدروس أحد أقوى الدروع التي تحميها من التقلبات والقرارات الأحادية مثل تلك التي فرضتها الولايات المتحدة مؤخرًا.
الوجهة الإفريقية والآسيوية.. آفاق جديدة للجزائر
تماشياً مع سياسة التنويع التجاري التي انتهجتها الجزائر، برزت خلال السنوات الأخيرة توجهات عملية وواضحة لتعزيز الحضور الاقتصادي الجزائري في القارتين الإفريقية والآسيوية، باعتبارهما فضاءين استراتيجيين غنيين بالفرص وأقل عرضة للتقلبات السياسية والقرارات الأحادية من القوى الكبرى.
في إفريقيا، وجدت الجزائر بيئة طبيعية للامتداد التجاري، ليس فقط بسبب القرب الجغرافي والروابط التاريخية، بل أيضًا لوجود سوق استهلاكية ناشئة تضم أكثر من مليار نسمة. ومنحت اتفاقية منطقة التبادل الحر القارية الإفريقية فرصة حقيقية للمنتجات الجزائرية للدخول إلى عشرات الأسواق الإفريقية برسوم منخفضة، وبدعم سياسي مشترك بين العواصم الإفريقية.
وفي المقابل، تمثل السوق الآسيوية، بمكوناتها الكبرى مثل الصين والهند وحتى قطر، فرصة واعدة لتعميق العلاقات الاقتصادية، خصوصاً في مجالات التكنولوجيا، والمعدات، والمواد الخام، فضلاً عن المنتجات الزراعية والصناعية الخفيفة. وتسعى الجزائر أيضاً لتعزيز شراكاتها مع دول مثل ماليزيا وسنغافورة وفيتنام، وهو ما بدأ يظهر تدريجياً من خلال اتفاقيات ثنائية ومعارض تجارية مشتركة.
ومن اللافت أن هذا الانفتاح يرتكز على مبدأ المعاملة بالمثل، واحترام خصوصية كل طرف، وهي القيم التي تحاول بعض الأسواق الغربية أحياناً التغاضي عنها من خلال فرض شروط تجارية غير متوازنة. لذلك، فإن البحث عن بدائل واقعية، مدروسة وفعالة في إفريقيا وآسيا أصبح جزءاً من العقيدة الاقتصادية الجزائرية الجديدة.
وهكذا، يُعدّ التوسع الطبيعي نحو الجنوب والشرق الدرع الخامس الذي يوفر للجزائر هامشاً كبيراً من المناورة التجارية، ويمنع أي سوق واحدة – بما فيها السوق الأمريكية – من أن تتحول إلى ورقة ضغط أو تهديد فعلي.
صناعة جزائرية تصنع الحصانة الاقتصادية
وإذا كانت الوجهات الإفريقية والآسيوية تشكل بدائل جغرافية واعدة، فإن قدرة الجزائر على اقتحام هذه الأسواق والنجاح فيها ترتبط ارتباطاً مباشراً بما تقوم به داخلياً من إصلاحات هيكلية في قطاعها الصناعي، التي بدأت تأخذ طابعاً استراتيجياً لا تجميلياً، منذ انطلاق مسار "الجزائر الجديدة".
لقد أدركت الجزائر من خلال خبرتها خلال العقود الماضية أن الاعتماد على تصدير المواد الخام لا يبني اقتصاداً قوياً، ولا يؤسس لسيادة اقتصادية حقيقية. ومن هنا، بدأت الدولة تحفيز الصناعات التحويلية وتشجيع الاستثمار في القطاعات الإنتاجية ذات القيمة المضافة، مثل الصناعات الغذائية، والدوائية، والميكانيكية، والمواد البلاستيكية والكيماوية، وهي قطاعات بدأت تظهر بشكل متزايد في المعارض والأسواق الخارجية.
كما أطلقت الجزائر برامج دعم للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وحاضنات للمشاريع الصناعية الناشئة، وأدخلت إصلاحات جمركية وضريبية لجعل بيئة الإنتاج المحلي أكثر جاذبية. هذه الخطوات بدأت تثمر واقعاً اقتصادياً جديداً يمهد لتقليل الفجوة بين الاستهلاك والتصدير، وبين السوق المحلية والأسواق الخارجية.
في هذا الإطار، لم تعد الجزائر تصدر فقط ما تجود به الطبيعة من محروقات أو معادن، بل باتت تسعى لتصدير ما تنتجه بأيديها، داخل مصانعها، بعقول وخبرات جزائرية.
هذا التحول في بنية الاقتصاد يمنح البلاد مرونة أكبر، ويجعلها أقل حساسية تجاه القرارات الخارجية المفاجئة مثل تلك الصادرة عن واشنطن.
القدرة على الإنتاج المحلي ثم التصدير نحو أسواق متعددة ومتنوعة تجعل الاقتصاد الوطني في موقع قوة، وهو ما يمكن اعتباره الدرع السادس الذي يحصّن الجزائر من أي تأثير جوهري للرسوم الأمريكية أو غيرها.
سوق أمريكا.. باب مغلق أمام معظم المصدرين الجزائريين
رغم توسع القدرات الإنتاجية في الجزائر بفضل الإصلاحات الصناعية، لا تزال خريطة التصدير في مرحلة إعادة تشكيل، وهو ما يفسر واقعًا مهمًا لا يمكن تجاهله: عدد الشركات الجزائرية التي تصدر فعليًا إلى السوق الأمريكية محدود جدًا، سواء من حيث العدد أو حجم الكميات أو تنوع المنتجات.
في ظل التعقيدات المرتبطة بدخول الأسواق الغربية والشروط الفنية والإجرائية التي تفرضها السلطات الأمريكية على المنتجات الأجنبية، لم تتمكن سوى نسبة ضئيلة من المؤسسات الجزائرية من اختراق هذا السوق. وغالبًا ما تتم العمليات عبر عقود فردية أو شراكات ظرفية في مجالات غير استراتيجية، مما يعني أن القرار الأمريكي الأخير، رغم شمولية صيغته، سيطال فقط دائرة ضيقة من المصدرين الجزائريين، ما يقلل من نطاق تأثيره الفعلي.
وتُظهر تقارير الهيئات الجمركية والاتحاد الجزائري للمصدرين أن أغلب المؤسسات الجزائرية الموجهة للتصدير تركز على الأسواق الأوروبية والإفريقية، نظرًا لانخفاض الحواجز التقنية فيها، وسهولة اللوجستيات، وسرعة التفاوض مع الشركاء. أما الولايات المتحدة، فتظل بالنسبة لمعظم المتعاملين الاقتصاديين سوقًا معقدة، تتطلب موارد تنظيمية وتسويقية ضخمة يصعب توفرها لدى الكثير من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
كما أن العديد من القطاعات الجزائرية، وعلى رأسها الصناعات الغذائية والدوائية، لم تضع السوق الأمريكية ضمن أهدافها المباشرة في استراتيجياتها التصديرية، بل تركز حاليًا على الأسواق الناشئة، حيث الحواجز أقل والمنافسة أعدل، وهو ما يتماشى مع رؤية الجزائر في تطوير صادراتها تدريجيًا وبشكل مدروس.
كل هذا يعني أن التأثير المحتمل للرسوم الأمريكية سيظل محصورًا ضمن شريحة ضيقة من الشركات، وهو ما يمثل الدرع السابع الذي يخفف وطأة القرار الأمريكي ويحصره في زاوية لا تمس عمق النشاط الاقتصادي الجزائري.
رسوم أمريكية ظرفية.. هل هي رسالة أكثر من تهديد؟
ما يقلل من أهمية هذا القرار أيضًا ويحدد طبيعته المؤقتة، هو فهم أن الرسوم الجمركية التي أعلنتها الولايات المتحدة ليست بالضرورة موجهة ضد الجزائر كدولة، بل تُفهم ضمن سياق سياسات ظرفية غالبًا ما ترتبط بحسابات داخلية أمريكية، سواء سياسية أو اقتصادية أو انتخابية. فمثل هذه القرارات تُستخدم كثيرًا لأهداف متداخلة، من بينها تخفيف الضغط الداخلي، مخاطبة الرأي العام المحلي، أو كرسائل تفاوضية تجاه أطراف دولية.
ويظهر ذلك جليًا في صيغة الرسالة الأمريكية الرسمية، التي لم تتضمن لهجة عدائية، بل دعت الجزائر إلى بناء شراكة تجارية "أكثر توازنًا"، وفتحت الباب أمام تعديلات مستقبلية في حال استجابت الجزائر لمطالب معينة. كما شملت الرسوم دولًا أخرى من مناطق مختلفة، ما يضعف فرضية استهداف الجزائر تحديدًا، ويجعل القرار جزءًا من استراتيجية أمريكية أوسع لإعادة ترتيب علاقاتها التجارية مع عدة دول.
من جهة أخرى، تؤثر تغيرات الإدارات الأمريكية والتقلبات السياسية الداخلية عادة على استمرارية هذه السياسات. فليست هذه المرة الأولى التي تستخدم فيها واشنطن ورقة الرسوم الجمركية، لكنها غالبًا ما تُراجع أو تُجمّد أو تُلغى حسب الظرف السياسي، مما يجعل الجزائر تتعامل معها بحكمة وهدوء، بعيدًا عن التهويل أو الانفعال.
ويُحسب للجزائر أنها لم ترد على هذا القرار – حتى الآن – بأي تصعيد، بل تمسكت بمواقفها الثابتة، وفضلت تقوية جبهتها الداخلية عبر تسريع وتيرة الإصلاح بدلاً من الانشغال بالرد الإعلامي أو السياسي. وهذا ما جعل الرسوم تبدو، في نظر كثير من المحللين، خطوة رمزية ذات عمر قصير، لا منعطفًا استراتيجيًا في العلاقة بين البلدين.
وبذلك، تشكل طبيعة القرار نفسه وظرفيته وعدم استقراره في السياسة الأمريكية طويلة المدى، الدرع الثامن الذي يمنح الجزائر الاطمئنان إلى أن الرسوم الجمركية المفروضة اليوم قد تكون محطة عابرة لا أكثر.
رغم ما يبدو من ضجيج إعلامي حول الرسوم الجمركية الأمريكية، يكشف تحليل معمق أن الاقتصاد الجزائري يمتلك ثمانية دروع متينة، بدءاً من محدودية التبادل التجاري مع الولايات المتحدة، مروراً بتنويع الشركاء، وحصانة صادرات المحروقات، إلى التحولات الصناعية الداخلية التي تعزز استقلالية القرار الاقتصادي. هذه العوامل مجتمعة تضع الجزائر في موقع قوة، يجعلها قادرة على تجاوز هذه الخطوة دون خسائر جوهرية، ويفتح أمامها آفاقاً جديدة في التنويع الاقتصادي والشراكات الدولية.

فارس هباش - خبير اقتصادي
الجزائر تفلت من الكمين الجمركي.. رسوم ترامب بلا أنياب
قدّم الخبير الاقتصادي فارس هباش قراءة أولية لتداعيات الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الجزائر، مشيرًا إلى أن تأثيرها الفعلي على الاقتصاد الوطني يبقى محدودًا إلى حد كبير، خاصة مع استثناء صادرات النفط والغاز من هذه الإجراءات. مؤكّدًا أن الجزائر تملك مناعة نسبية بفضل استمرار توجهها نحو تنويع شركائها التجاريين والبحث عن أسواق بديلة خارج الدائرة الأمريكية.
وفي حديثه لـ "الأيام نيوز"، يُسلّط فارس هباش الضوء على نقطة محورية تحدّ من أي تهويل محتمل لتأثير هذه الرسوم، وهي أن النفط والغاز — الموردان الأساسيان للاقتصاد الوطني — لم يشملا ضمن الإجراءات الجمركية الجديدة. ويعدّ هذا الإعفاء، في نظره، عنصرًا جوهريًا في تقليص الانعكاسات المباشرة على الجزائر.
وفي هذا الإطار، يوضح هباش أن "قطاع النفط والغاز يُشكل العمود الفقري للصادرات الجزائرية إلى الولايات المتحدة"، مبرزًا أن هذه الموارد تُعد المصدر الأول للعملة الصعبة، ولا يمكن مقارنتها ببقية الصادرات من حيث الأهمية النسبية.
ويضيف أن معطيات منشورة في تقارير أمريكية تعزز هذا التقدير، مذكّرًا بأن "بيانات صحيفة وول ستريت جورنال تشير إلى أن صادرات الجزائر من النفط والغاز إلى أمريكا معفاة من الرسوم الجديدة"، وهو ما يُبقي العصب الحيوي للاقتصاد بمنأى عن أي تصعيد تجاري مباشر.
واستنادًا إلى هذا المعطى، يُقلل الخبير من احتمال وقوع أضرار آنية على الميزان التجاري أو مداخيل البلاد من المحروقات، موضحًا أن "ذلك يقلل من خطورة التأثير المباشر على أهم مورد اقتصادي"، في إشارة إلى أن ما يشمله القرار لا يمسّ الصادرات ذات الوزن الثقيل.
ويُفهم من التحليل أن الإبقاء على إعفاء النفط والغاز هو العامل الحاسم الذي جنّب الجزائر تداعيات حقيقية، رغم رمزية الخطوة الأمريكية. ويؤكد هباش أن القرار، مهما كانت خلفياته، لا يطال جوهر العلاقة الاقتصادية بين البلدين.
القطاعات الثانوية قد تتأثر.. ولكن بشكل محدود
ورغم نجاته من آثار الرسوم الأمريكية، لا يغفل فارس هباش احتمال تأثر بعض القطاعات الثانوية الأخرى، لكنه يحرص على تأطير هذا التأثر ضمن حدوده الواقعية، مؤكدًا محدوديته.
ويستهل الخبير طرحه بالإشارة إلى أن "القطاعات الأخرى قد تتضرر، مثل صادرات المعادن، والمنتجات الفلاحية، والصناعات الخفيفة"، مبرزًا أن هذه المنتجات وإن كانت مشمولة بالرسوم، إلا أن وزنها الاقتصادي في العلاقة مع السوق الأمريكية يبقى ضعيفًا.
ويشرح هباش أن هذه القطاعات تمثل "حجمًا أقل بكثير من النفط والغاز"، ما يجعلها عرضة لتأثر جزئي فقط، خاصة في ظل المنافسة القوية في الأسواق الدولية، وأيضًا بالنظر إلى طبيعة المؤسسات العاملة في هذه المجالات.
ويؤكد في هذا السياق أن "الرسوم الجديدة قد تضعف قدرتها التنافسية في السوق الأمريكية وتقلص هوامش أرباحها"، مشيرًا إلى أن التأثير الأكبر قد يطال "المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تطمح إلى التوسع الخارجي"، والتي كانت تراهن على الانفتاح على أسواق جديدة.
ومع ذلك، لا يُهوّل الخبير من التأثير المحتمل، بل يعتبره ضمن الحدود القابلة للاستيعاب، لا سيما أن هذه القطاعات لم تكن أصلاً ذات حضور قوي في السوق الأمريكية. فهي مجرد محاولات جزئية للاختراق، وليست دعائم أساسية للاقتصاد الجزائري.
ويعني ذلك، وفق تحليل هباش، أن الخسائر المحتملة في هذه الفروع لن تغيّر من المعادلة العامة، لكنها تتطلب يقظة خاصة من المتعاملين الاقتصاديين المستهدفين لهذه الأسواق، حتى لا تؤثر الرسوم على طموحاتهم التوسعية.
علاقات تجارية تُضعف الأثر
وينتقل هباش إلى بُعد آخر يُفسر محدودية انعكاس القرار الأمريكي، ويتمثل في الحجم المتواضع أصلاً للعلاقات التجارية بين البلدين.
ويبرز هذا الجانب من خلال الأرقام، مؤكّدًا أن "قيمة التبادل التجاري بين الجزائر والولايات المتحدة تبقى محدودة نسبيًا"، ما يجعل من الصعب تصوّر تأثير واسع النطاق لقرار الرسوم على الاقتصاد الوطني، حتى في القطاعات البعيدة عن المحروقات.
ويستشهد ببيانات صادرة عن مرصد دولي مختص، موضحًا أن "واردات أمريكا من الجزائر بلغت نحو 148 مليون دولار في أبريل الماضي، مقابل صادرات أمريكية نحو الجزائر بقيمة 102 مليون دولار"، وهي أرقام تبقى متواضعة مقارنة بمبادلات الجزائر مع شركائها التقليديين كأوروبا أو الصين.
ويستخلص من ذلك أن "الميزان التجاري يميل قليلًا لصالح الجزائر"، لكن بشكل لا يخلق علاقة تبعية أو اعتماد كبير من أحد الطرفين على الآخر، ما يُفسر محدودية وقع قرارات كهذه، وغياب تأثير ملموس لها.
ويُشير هباش إلى أن "بهذا الحجم المحدود للعلاقات التجارية، تبقى التأثيرات الكلية على الاقتصاد الجزائري طفيفة نسبيًا"، مضيفًا أن هذا الواقع يعزز مناعة البلاد تجاه تقلبات السياسة التجارية الأمريكية، في ظل تنوع الشركاء ووجهات التصدير.
ويشدد على أن "أغلب صادرات الجزائر لا تزال موجهة نحو أسواق أوروبا وآسيا"، ما يقلل تلقائيًا من أهمية أي تضييق أمريكي محتمل، ويُبرز أن القرار الأمريكي جاء بطابع رمزي أكثر منه اقتصادي.
دافع لتسريع التحول الاقتصادي
ويختم هباش تحليله بالتأكيد على أن الرسوم الأمريكية، رغم رمزيتها، لن تُربك المسار الاستراتيجي الذي تتبناه الجزائر لتنويع اقتصادها بعيدًا عن الاعتماد المفرط على المحروقات.
ويفتتح هذه النقطة بتقييم واضح لمستوى التهديد، قائلًا إن "محدودية التأثير الحالي" تُشكّل عنصر طمأنة، إذ لم تؤدِ الإجراءات إلى أي تغيير جوهري في المعطيات الاقتصادية أو المساس بالقطاعات الحيوية.
ويرى أن الجزائر، بحكم تركيزها المتزايد على تنويع مصادر دخلها وتنمية قطاعات بديلة، قادرة على تجاوز هذه الرسوم، بل وتحويلها إلى دافع إضافي لتعزيز التحول الاقتصادي. ويؤكد أن "الخطوة الأمريكية تُعتبر إشارة مقلقة نسبيًا لكنها لا تؤثر في خطط الجزائر لتنويع اقتصادها".
ويوضح أن هذا التوجه يأتي في إطار استراتيجية اقتصادية شاملة، تعي تمامًا مخاطر التبعية لأي شريك أو قطاع منفرد. والإعفاء من الرسوم على النفط والغاز يمنح الجزائر هامشًا أوسع للتحرك دون الوقوع تحت ضغط مالي إضافي.
ويشدد على أن بقاء الموارد الأساسية خارج دائرة العقوبات أو الرسوم يمنح صانع القرار الاقتصادي مساحة كافية للاستمرار في الإصلاحات الهيكلية، دون الانحراف عن المسار المرسوم بسبب عوامل خارجية.
ويختم بالتأكيد على أن "الرسوم الأمريكية على الجزائر تبقى محدودة التأثير على المستوى الكلي"، ما يتيح مواصلة بناء اقتصاد أكثر مرونة واستقلالًا، قادر على استثمار التحديات كفرص لتسريع التحول بدل التراجع أمام الضغوط الظرفية.
في المجمل، يُظهر التحليل الذي قدّمه الخبير الاقتصادي فارس هباش أن الرسوم الجمركية الأمريكية الأخيرة، رغم ما تحمله من دلالات سياسية، تبقى ذات تأثير اقتصادي محدود على الجزائر، خاصة مع استثناء قطاع النفط والغاز الذي يُعد حجر الزاوية في التجارة الثنائية. وبينما قد تتأثر بعض القطاعات الثانوية، فإن ضعف حجم المبادلات مع الولايات المتحدة، إلى جانب استراتيجية الجزائر في تنويع شراكاتها ومصادر دخلها، يوفران لها هامشًا واسعًا للمناورة. ومن هذا المنطلق، لا تبدو هذه الإجراءات الطارئة سببًا للقلق، بل قد تتحول إلى محفّز إضافي لتسريع وتيرة التحول الاقتصادي نحو نموذج أكثر تنوعًا واستدامة.

الدكتور بوحوص بوشيخي - خبير اقتصادي
الرسوم الأمريكية على الجزائر.. هل يتحوّل التحدي إلى فرصة؟
يقترح الخبير الاقتصادي الدكتور بوحوص بوشيخي حزمة من الحلول العملية لتجاوز تداعيات الرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة على الجزائر بنسبة 30%. ويرى أن هذه الرسوم، بدلاً من اعتبارها تهديداً اقتصادياً، يمكن تحويلها إلى فرصة استراتيجية لتعزيز الحضور الجزائري في السوق الأمريكية. ويؤكد في تحليله أن الوضع الاقتصادي الداخلي للولايات المتحدة لا يسمح لها بالمناورة الطويلة، بينما تمتلك الجزائر إمكانات إنتاجية ولوجستية ومالية تؤهلها للتخفيف من أثر هذه الرسوم، بل وتحقيق طفرة نوعية في قيمة صادراتها إلى واشنطن، عبر التحكم في الكلفة، ودعم اللوجستيك الوطني، وإنشاء معارض دائمة داخل الولايات المتحدة للتقرب من المستهلك الأمريكي.
وفي حديثه "للأيام نيوز"، يؤكد الدكتور بوحوص بوشيخي أن تأثير الرسوم الأمريكية يمكن تجاوزه، وأن أولى الخطوات العملية يجب أن تنطلق من الداخل عبر خفض التكاليف الإجمالية للمنتجات الجزائرية الموجهة نحو السوق الأمريكية لتبقى قادرة على المنافسة. ويشير إلى أن "السلطات في الجزائر قادرة على التغلب على هذا التحدي من خلال تخفيض تكاليف المنتجات"، مشدداً على ضرورة مراجعة حلقات الإنتاج والتصنيع والتغليف للوصول إلى تكلفة نهائية أقل دون المساس بالجودة. ويضيف أن هذه العملية تتطلب دعماً إدارياً وحكومياً لتسهيل شروط الإنتاج وخفض الأعباء عن المصدّر الجزائري، مما يمكنه من امتصاص كلفة الرسوم دون تحميلها للمستهلك الأمريكي. ويرى أن هذه الخطوة تمثل مفتاحاً لإجراءات أخرى، لأنها تعزز القدرة التنافسية للمنتج الجزائري في الأسواق الخارجية، وتحافظ على تسعير معقول مقارنة بالمنافسين.
ويؤكد أن كسر حدة الرسوم يبدأ من الداخل، معتبراً أن "تخفيض كلفة المنتج" هو الأداة الأولى التي تملكها الجزائر لتُثبت أن قرار ترامب لن يُعيق طموحاتها التوسعية، بل قد يشكل حافزاً لإعادة هيكلة منظومة التصدير بشكل أكثر كفاءة.
تعزيز النقل البحري والجوي بخدمات وطنية لوجستية
وفي سياق متصل بخفض التكاليف، يرى الدكتور بوحوص بوشيخي أن العامل اللوجستي يمثل ركيزة أساسية في استراتيجية مواجهة الرسوم الأمريكية، خاصة من خلال التحكم في نفقات الشحن والنقل، والتي تُعد من أبرز أسباب ارتفاع أسعار المنتجات المصدّرة. ويدعو إلى الاستفادة من الإمكانات الوطنية، موضحاً أن "كلفة النقل يمكن التحكم فيها عبر استخدام الأسطول البحري والجوي الجزائري"، بما يقلّص الاعتماد على شركات النقل الأجنبية التي تفرض أسعاراً مرتفعة وتقلل من هامش الربح عند التصدير.
ويعتبر أن تفعيل النقل الوطني في التصدير نحو الولايات المتحدة يشكل حلاً اقتصادياً ووسيلة لتعزيز السيادة التجارية، لا سيما إذا ترافق مع خطط طويلة المدى لفتح خطوط بحرية وجوية مباشرة بين الموانئ الجزائرية والمدن الأمريكية الكبرى. ويضيف أن هذا التوجه يتطلب تنسيقاً فعّالاً بين الفاعلين الاقتصاديين ومؤسسات النقل، إلى جانب حوافز لتعبئة الموارد الوطنية في خدمة التوسع التجاري، خصوصاً في الأسواق ذات الإمكانات الاستهلاكية الضخمة كسوق الولايات المتحدة.
ويخلص الدكتور بوشيخي إلى أن "النقل الوطني أداة فعالة لكسر هوامش التكلفة التي تفرضها الأسواق الخارجية"، مؤكداً أن الحلول متوفرة داخل المنظومة الاقتصادية الجزائرية نفسها، إذا ما تم تفعيلها بذكاء واستباقية.
الاعتماد على الدينار في العمليات التجارية لتقليل الفجوة
واستمرارًا في البحث عن أدوات داخلية فعالة لتقليص أثر الرسوم الأمريكية، يطرح الدكتور بوحوص بوشيخي خيارًا ماليًا يُعد من أبرز الآليات غير المستغلة، ويتمثل في الاعتماد على العملة الوطنية — الدينار الجزائري — في بعض جوانب العمليات التجارية المرتبطة بالتصدير.
ويؤكد الخبير، في حديثه لـ"الأيام نيوز"، أن من بين الحلول الممكنة لتقليل كلفة المنتجات الجزائرية في الأسواق الخارجية، هو "استعمال العملة الوطنية، الدينار الجزائري"، في تسوية بعض المعاملات أو في حساب التكاليف الإنتاجية، بما يخفف من أثر تقلبات أسعار الصرف وضغط الدولار في عملية التسعير.
ويُبرز أهمية هذا التوجه في تعزيز استقلالية القرار المالي وتقليل الارتباط بالعملات الصعبة، لا سيما في ظل التذبذبات التي يشهدها الاقتصاد الأمريكي، وارتفاع مديونيته، مما يؤثر على قيمة الدولار في المدى المتوسط.
كما يطرح إمكانية إدماج الدينار في اتفاقيات ثنائية مع شركاء محددين، أو في إطار ترتيبات تجارية خاصة، تسمح للمنتج الجزائري بالتوسع دون تحويل كل عملياته إلى الدولار، مما يُسهم في تعزيز استقرار التكلفة وتحسين هامش الربح.
ويشدد الدكتور بوشيخي على أن "العملة الوطنية يمكن أن تكون أداة سيادية للتعامل الذكي مع الضغوط الخارجية"، مؤكدًا أن التحكم في العملة لا يقل أهمية عن النقل أو الإنتاج، وكلها حلقات مترابطة ضمن منظومة مواجهة الرسوم وتحقيق مكاسب مضاعفة.
فتح معارض دائمة في أمريكا لتجاوز هوامش التوزيع
وانطلاقًا من أهمية الاقتراب من المستهلك الأمريكي، يطرح الدكتور بوحوص بوشيخي حلًا مبتكرًا وعمليًا يتمثل في الانتقال من التصدير الكلاسيكي عبر الوسطاء إلى التوزيع المباشر، من خلال فتح معارض دائمة للمنتجات الجزائرية داخل الولايات المتحدة. ويعد هذا التوجه من المفاتيح الأساسية لتجاوز الرسوم الجمركية وتعقيدات سلسلة التوزيع.
ويؤكد الخبير أن "تحقيق رقم أعمال جديد ممكن من خلال الاستحواذ على تجارة التجزئة"، وهو ما يتطلب فك الارتباط بالوسائط التجارية التقليدية التي ترفع الأسعار وتقلل هامش ربح المنتج، مشيرًا إلى أن التوزيع المباشر يُقلل من الأثر الفعلي للرسوم ويزيد من القدرة التنافسية في السوق الأمريكية.
ويُقترح إنشاء "معرض دائم للمنتجات الجزائرية في أمريكا" تحت عنوان "شبكات الأسواق والأروقة الجزائرية العالمية"، في مدن محورية كـ نيويورك، شيكاغو، ولوس أنجلوس، حيث يوجد طلب مرتفع على المنتجات المتوسطية مثل التمور، زيت الزيتون، الحديد، والإسمنت.
ويرى أن هذه المبادرات تُساعد على تثبيت علامة "صنع في الجزائر" في السوق الأمريكية، وتساهم في بناء علاقة مباشرة بين المنتج والمستهلك، ما يفتح آفاقًا جديدة لتجاوز الرسوم وبناء ولاء تجاري طويل الأمد.
ويعتبر الدكتور بوشيخي أن هذا التوجه سيُمكّن الجزائر من "الوصول إلى المستهلك مباشرة"، ويحول السوق الأمريكية من تحدٍّ إلى فرصة، مؤكدًا أن تجاوز الرسوم يمر عبر مبادرات ذكية على أرض الواقع.
تحويل التحدي إلى فرصة لمضاعفة الصادرات نحو السوق الأمريكية
وإتمامًا للخطوات المقترحة، يؤمن الدكتور بوحوص بوشيخي أن الجزائر لا يجب أن تكتفي بتجاوز الرسوم الجمركية، بل عليها أن تستثمر الظرف لتحويله إلى نقطة انطلاق جديدة نحو مضاعفة صادراتها إلى السوق الأمريكية. فهو يرى أن هذه الأزمة تحمل في طياتها فرصًا غير مسبوقة إذا تم التعامل معها بعقلية هجومية واستباقية.
ويستند الخبير في تحليله إلى الأرقام، موضحًا أن "حجم التبادلات يبلغ حوالي 4 مليارات دولار، منها 3 مليارات صادرات جزائرية إلى أمريكا"، تشمل النفط، الغاز، الحديد، الإسمنت، والتمور، مقابل واردات محدودة لا تتجاوز مليار دولار، ما يضع الميزان التجاري لصالح الجزائر ويفتح مجالًا لتوسيعه.
ويؤكد أن الرسوم، رغم طبيعتها، لن تمنع الجزائر من "الوصول إلى 6 مليارات دولار" كهدف قابل للتحقيق، أي مضاعفة صادراتها الحالية إلى الولايات المتحدة، بشرط تنفيذ الحلول المقترحة مجتمعة، ضمن سياسة تصديرية شاملة ومدروسة.
ويرى أن الوضع الاقتصادي الصعب في الولايات المتحدة — من عجز يفوق 40% في ميزان المدفوعات ومديونية تتجاوز 36 تريليون دولار — يجعلها غير قادرة على خسارة شركاء تجاريين، خاصة في قطاعات حيوية كالمواد الأولية والطاقة.
ويشدد الدكتور بوشيخي على أن الجزائر، إذا تبنت عقلية هجومية ترتكز على خفض التكاليف، تعزيز اللوجستيك، اعتماد الدينار، والتموقع الذكي داخل السوق الأمريكية، فإنها "قادرة على قلب المعادلة"، وتحويل الرسوم الجمركية إلى محفز لقفزة نوعية في التجارة الخارجية.

الدكتور شيحي حسين - خبير في المالية والمحاسبة والجباية
في مواجهة السياسات الحمائية.. الجزائر تتسلّح بخيارات العبور الاقتصادي
في خضم تصاعد السياسات الحمائية التي تقودها الولايات المتحدة بقيادة الرئيس السابق دونالد ترامب، وما صاحبها من فرض رسوم جمركية بنسبة 30% على واردات دول عديدة، تبرز الجزائر كحالة فريدة تستدعي فحصًا دقيقًا. وبين المخاوف من الانعكاسات السلبية والفرص الكامنة في قلب الأزمة، يرى الدكتور شيحي حسين، الخبير في المالية والمحاسبة والجباية، أن ما يحدث ليس مجرد خطر اقتصادي، بل إنذار مبكر وفرصة نادرة لإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني.
في حديثه لـ "الأيام نيوز"، يطرح الدكتور شيحي مقاربة استراتيجية للتعامل مع هذا التحول العالمي، مؤكدًا أن الجزائر، رغم هشاشتها النسبية، تملك من المقومات ما يجعلها قادرة على تحويل التهديد إلى رافعة تنموية. فهل تمثّل هذه الرسوم الجمركية بداية تراجع أم فرصة لإقلاع اقتصادي جديد؟ هذا ما يجيب عنه هذا التحليل المتعمق.
يؤكد الدكتور شيحي أن الجزائر، رغم ما قد تتعرض له من انعكاسات غير مباشرة نتيجة هذا القرار، تملك هامش مناورة يسمح لها بالاستفادة من المتغيرات العالمية، خاصة في ما يتعلق بتنويع شركائها التجاريين، وتشجيع التصنيع المحلي، وتخفيف الاعتماد على المحروقات، بما يعزز مناعتها الاقتصادية في مواجهة الصدمات الخارجية.
وانطلاقا من قراءته الإيجابية للمشهد، يرى الدكتور شيحي حسين أن من بين أبرز الآثار المحتملة لفرض الرسوم الأمريكية على دول متعددة، ظهور فرص لإعادة رسم خريطة الشراكات التجارية العالمية، وهي فرصة يمكن للجزائر أن تستثمرها لصالحها. ففي ظل بحث العديد من الدول المتضررة عن أسواق بديلة لمنتجاتها، تبرز الجزائر كطرف قادر على التفاعل الإيجابي مع هذا التحول.
ويشير الدكتور شيحي إلى أن "الجزائر يمكنها أن تستفيد من ذلك عبر إعادة التموقع التجاري والانفتاح على آسيا وأفريقيا لتقوية صادراتها غير النفطية"، موضحا أن هذا الظرف العالمي المتقلب قد يفسح المجال أمام الجزائر لبناء علاقات تجارية أكثر تنوعا واستقلالا عن التكتلات التقليدية.
كما يرى أن التحرّك نحو القارة الإفريقية، التي تُعد سوقا واسعة وواعدة، يمكن أن يكون خيارا استراتيجيا لرفع قيمة الصادرات الجزائرية، لا سيما في ظل توجّه الحكومة نحو تعزيز الحضور الاقتصادي في الفضاء الإفريقي من خلال المنطقة القارية للتبادل الحر.
ويؤكد الخبير أن إعادة التموقع التجاري تعني مراجعة سياسات التصدير وتحسين تنافسية المنتجات الجزائرية، بما يسمح لها بالولوج إلى أسواق كانت سابقا خارج دائرة الاهتمام أو صعبة الاختراق.
ويعتبر أن هذه اللحظة الاقتصادية الحرجة عالميا، يمكن أن تتحول إلى نقطة انطلاق جديدة للجزائر، إذا ما تم التعامل معها كفرصة لبناء شراكات استراتيجية متعددة الاتجاهات، تقلل من الاعتماد على الأسواق التقليدية، وتفتح آفاقا جديدة أمام الصادرات خارج المحروقات.
ارتفاع أسعار الواردات يدفع نحو التصنيع المحلي
وبالانتقال من التحولات في الشراكات التجارية إلى التغيرات داخلية المنشأ، يشير الدكتور شيحي حسين إلى أن من بين الانعكاسات التي يمكن أن توظف إيجابيا، الارتفاع المتوقع في أسعار السلع المستوردة عالميا، نتيجة الاضطرابات التجارية الناتجة عن السياسات الحمائية، ومنها الرسوم الأمريكية. هذا الارتفاع، في نظره، قد يكون دافعا حقيقيا لتشجيع التصنيع المحلي وتقليص التبعية للاستيراد.
ويؤكد الدكتور شيحي أن "ارتفاع أسعار السلع المستوردة (بشكل عام عالميا بسبب تداعيات الرسوم) قد يدفع الجزائر إلى التفكير في بدائل محلية وتقوية التصنيع الوطني"، وهو ما يفتح المجال أمام مراجعة عميقة للسياسات الصناعية والتوجه نحو خلق نسيج إنتاجي داخلي أكثر تماسكا واستجابة للاحتياجات.
ويرى أن تقليص الاستيراد لا يجب أن يكون ردّ فعل مؤقت، وإنما استراتيجية دائمة، تبدأ بتحديد المواد القابلة للتصنيع محليا، وتوفير بيئة مشجعة للاستثمار في هذا المجال، مع دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة القادرة على لعب دور في هذا التحول.
كما يشير إلى أن هذا الظرف قد يشجع على تسريع إصلاح المنظومة الصناعية، من خلال تبسيط الإجراءات، وتوفير التمويل المناسب، وتوجيه الدعم نحو مشاريع إنتاجية حقيقية تخلق القيمة المضافة ومناصب الشغل، عوض الاعتماد على استيراد منتجات جاهزة بأسعار مرتفعة.
ويؤكد بالقول إن الضغط الناتج عن ارتفاع الأسعار قد يكون محفّزا لإعادة التفكير في النموذج الاقتصادي القائم، والتوجه نحو اقتصاد منتج، مشددا على أن "تشجيع التصنيع المحلي" يجب أن يطرح كخيار استراتيجي تعززه الظروف الدولية الحالية.
تحولات عالمية تُحفّز الجزائر على تسريع الإصلاح الاقتصادي
وباستمرار تتبع التداعيات الاقتصادية للرسوم الأمريكية، يرى الدكتور شيحي حسين أن هذه التطورات، وإن بدت خارجية المنشأ، إلا أنها تصلح لتكون محفزا داخليا للإسراع في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الضرورية. فالواقع الدولي المتغير يفرض على الدول النامية، ومنها الجزائر، ضرورة مواكبة التحولات بدل انتظار نتائجها.
ويشدد في هذا السياق على أن "التحول من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج ومتنوع، أصبح ضرورة استراتيجية لمواجهة الصدمات الخارجية"، معتبرا أن مثل هذه الأحداث العالمية تُظهر هشاشة الاقتصادات التي تعتمد على مصدر واحد للدخل، وتُبرز الحاجة العاجلة لإعادة بناء النموذج الاقتصادي الوطني على أسس أكثر تنوعا واستدامة.
ويربط الدكتور شيحي هذه الضرورة بالإجراءات التي بدأت الجزائر فعليا في اعتمادها، مثل دعم الصادرات خارج المحروقات، وتشجيع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتحسين جاذبية مناخ الأعمال، لكنه يرى أن "تسريع الوتيرة" أصبح أمرا ملحا في ظل بيئة دولية غير مستقرة.
كما يؤكد أن الظرف الدولي الحالي يجب أن يُترجم داخليا إلى حركية إصلاح حقيقية تشمل مجالات الجباية، الحوكمة، الرقمنة، وتشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي، لأن الرهانات أصبحت اقتصادية وسيادية وأمنية.
وينبه إلى أن الجزائر أمام فرصة لإعادة ترتيب أوراقها الاقتصادية، فالتحولات العالمية لم تعد تسمح بالتردد، "والتأقلم مع الواقع العالمي المتغير" — كما يقول — شرط للبقاء في مسار الدول القادرة على حماية استقرارها وتحصين قرارها السيادي.
انعكاسات عالمية قد تطال أسعار الطاقة والتوريد والاستثمار
ورغم تأكيده على وجود فرص إيجابية ينبغي استثمارها، لا يُغفل الدكتور شيحي حسين ما قد تحمله هذه الرسوم من انعكاسات غير مباشرة على الاقتصاد الجزائري، خاصة عبر قنوات الاقتصاد العالمي التي أصبحت أكثر ترابطا وتشابكا. ويُنبّه في هذا الإطار إلى ثلاثة مجالات أساسية قد تتأثر: أسعار الطاقة، سلاسل التوريد، والاستثمار الأجنبي.
ويبدأ بتحليل أثر الرسوم على الاقتصاد الدولي عموما، مشيرا إلى أنه "إذا أدت الرسوم الأمريكية إلى تباطؤ الاقتصاد العالمي أو انخفاض التجارة الدولية، فإن الطلب على النفط والغاز ينخفض"، وهو ما قد ينعكس سلبا على الجزائر باعتبارها دولة تعتمد في مداخيلها بشكل كبير على صادرات المحروقات.
ويُوضح أن هذا الانخفاض في الأسعار يمتد إلى التأثير على "عائدات الدولة، والاحتياطات من العملة الصعبة، والميزانية العامة"، ما يجعل من أي اضطراب في الأسواق العالمية عامل ضغط داخلي يجب الاستعداد له.
وفي الشق المتعلق بالواردات الصناعية، يشير إلى أن "الشركات الجزائرية التي تستورد آلات ومعدات أمريكية ستتأثر بزيادة الأسعار"، إذا ما فرضت الولايات المتحدة رسوما إضافية على مكونات أساسية تدخل ضمن سلاسل التوريد العالمية، ما قد يؤدي إلى تباطؤ المشاريع الإنتاجية والاستثمارية.
كما يلفت إلى أن "أي خلل في التجارة الدولية يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الأولية أو تأخر تسليمها"، وهي نقطة حساسة بالنسبة لعدد من القطاعات الصناعية الناشئة في الجزائر، والتي تعتمد بشكل جزئي على مكونات مستوردة، سواء من الولايات المتحدة مباشرة أو من دول ترتبط معها تجاريا.
أما بخصوص الاستثمار الأجنبي، فيحذر من أن "السياسات الحمائية الأمريكية قد تؤدي إلى إعادة تموقع الاستثمارات العالمية"، وهو ما قد يدفع المستثمرين إلى التريث، خاصة في الدول التي يُنظر إليها كمخاطر مرتفعة في مناخ الأعمال، ما يتطلب من الجزائر مواصلة تحسين بيئتها الاستثمارية.
علاقات تجارية محدودة مع أمريكا تقلل من المخاطر المباشرة
ويربط الدكتور شيحي حسين بين كل ما سبق وبين طبيعة العلاقة التجارية الحالية بين الجزائر والولايات المتحدة، ليؤكد أن محدودية هذه العلاقة تُعد عاملا مطمئنا يخفف من حدة التأثيرات المباشرة المحتملة. فبخلاف ما قد يحدث مع دول تعتمد بشكل كبير على السوق الأمريكية، فإن الجزائر لا تُصنَّف ضمن شركاء واشنطن التجاريين البارزين.
وفي هذا الإطار، يوضح أن "الولايات المتحدة لا تمثل شريكا تجاريا رئيسيا للجزائر مقارنة بالاتحاد الأوروبي والصين"، وهو ما يجعل من القرارات الجمركية الأمريكية عاملا خارجيا محدود التأثير المباشر على الاقتصاد الوطني.
ويشرح أن طبيعة المبادلات بين البلدين تتركز على المحروقات من جهة الجزائر، والمعدات الصناعية والتكنولوجية من جهة الولايات المتحدة، ما يعني أن نطاق التداخل الاقتصادي يبقى ضيقا، ولا يخلق تبعية اقتصادية فعلية.
ويؤكد أن "التأثير لا يكون مباشرا، ويأتي غالبا من سلسلة التفاعلات الاقتصادية العالمية الناتجة عن أي إجراء أمريكي ضخم"، مما يعزز طرحه السابق حول أن المخاطر الأكبر تكمن في الانعكاسات غير المباشرة لا في العلاقات الثنائية بحد ذاتها.
ويقول إن هذه المحدودية تمنح الجزائر وقتا ومساحة للرد الذكي والهادئ، دون الدخول في حالة ارتباك اقتصادي، مما يسمح لها بإعادة تقييم سياساتها التجارية والاستثمارية بشكل استباقي، وبناء بدائل استراتيجية مستندة إلى منطق السيادة الاقتصادية والانفتاح المتوازن.

البروفيسور واعلي عرقوب - خبير اقتصادي
الجزائر خارج ضغوطات واشنطن.. دروس من أزمة الرسوم الجمركية
يرى الخبير الاقتصادي البروفيسور واعلي عرقوب، أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 30% على الصادرات الجزائرية لا يعد حدثا اقتصاديا مقلقا بقدر ما هو إشارة ظرفية يمكن تجاوزها. ويعتبر أن حجم المبادلات التجارية بين الجزائر والولايات المتحدة لا يرقى ليشكل تهديدا مباشرا على الاقتصاد الوطني، مؤكدا أن الجزائر تمتلك هامش مناورة واسعا لإعادة توجيه صادراتها نحو وجهات بديلة أكثر قربا وتكاملا، خاصة نحو الاتحاد الأوروبي والدول الإفريقية. ومن هذا المنطلق، يرى عرقوب أن التحدي الظاهري يحمل في طياته فرصة لإعادة التفكير في خريطة التصدير الجزائري، وتوسيع أسواقه الخارجية بما يخدم مصلحة السيادة الاقتصادية على المدى الطويل.
وفي تقييمه الأولي لتأثير القرار الأمريكي، يوضح البروفيسور واعلي عرقوب في تصريح لـ "الأيام نيوز"، أن حجم المبادلات التجارية بين الجزائر والولايات المتحدة "لا يتجاوز 3.1 مليار دولار"، موزعة بين أكثر من ملياري دولار صادرات جزائرية، ومليار دولار فقط كواردات من السوق الأمريكية. ويعتبر أن هذه الأرقام تعكس محدودية العلاقة الاقتصادية، وبالتالي فإن الرسوم المفروضة "لن تكون لها آثار كارثية على الاقتصاد الجزائري".
ويشير إلى أن غالبية ما تُصدّره الجزائر لأمريكا يتركز في المحروقات، حيث أن "95% من الصادرات الجزائرية نحو الولايات المتحدة الأمريكية هي صادرات نفطية وغازية"، بينما لا تتعدى المنتجات الأخرى كالعجلات، الحديد، والتمور نسبة 5%، مما يحد من نطاق التأثر الحقيقي.
ويؤكد عرقوب أن هذا التركيب في بنية الصادرات يُفضي إلى نتيجة مباشرة، وهي أن الضرر الأكبر من الرسوم سيقع على المستورد الأمريكي وليس على الجزائر، خاصة أن المنتجات النفطية تمثل مادة استراتيجية يصعب الاستغناء عنها بسهولة في السوق الأمريكية.
كما يشير إلى أن المنتجات التي تستوردها الجزائر من أمريكا، على غرار بعض المعدات الصناعية والفضائية، لا تشكل عبئا كبيرا، إذ "ما نستوردُه من الولايات المتحدة لا يتعدى 1 مليار دولار، وهو رقم ضئيل جدا بالمقارنة مع شركاء آخرين"، ما يعني أن القرار لا يُهدد الأمن الاقتصادي أو التكنولوجي للبلاد.
ويقول إن القرار "سلبي في ظاهره، لكنه محدود جدا في أثره"، ويدعو إلى التعامل معه بهدوء وتقدير دقيق للمعطيات لا يتأثر بالتهويل الإعلامي أو السياسي.
الجزائر ليست رهينة السوق الأمريكية
وبالانتقال من حجم التأثير إلى طبيعة العلاقة الاقتصادية، يوضح البروفيسور واعلي عرقوب أن الجزائر ليست مرتهنة للسوق الأمريكية، لا من حيث التبادلات، ولا من حيث الاعتماد الاستراتيجي. ويشير بوضوح إلى أن الولايات المتحدة ليست من الشركاء الأساسيين للجزائر، سواء في التصدير أو الاستيراد، وهو ما يجعل الجزائر في موقع قوة نسبية يتيح لها التحرّك بحرية دون أن تتأثر بقرارات تجارية ظرفية مثل الرسوم الجمركية الأخيرة.
ويؤكد الخبير أن الجزائر "تُصدر أكثر مما تستورد من الولايات المتحدة"، أي أن الميزان التجاري يميل لصالحها، وهذا يمنحها هامشا مريحا في التعامل مع أي إجراءات. ويشير إلى أن الجزائر تُعد "ثالث شريك إفريقي للولايات المتحدة الأمريكية"، لكن رغم ذلك، "حجم المبادلات ليس كبيرا"، مما يُثبت أن العلاقات التجارية بين البلدين لا ترقى إلى مرتبة الاعتماد أو التشابك العميق.
كما يرى عرقوب أن ما تستورده الجزائر من أمريكا يقتصر على "منتجات مُصنّعة وزراعية، وأحيانا معدات عسكرية أو طائرات"، وهي مواد يمكن الحصول عليها من أسواق أخرى، أو حتى تصنيع جزء منها محليا مع تحفيز المشاريع الصناعية، في ظل سياسة تقليص فاتورة الاستيراد.
ويُبرز أيضا أن ما يُميز الاقتصاد الجزائري هو احتفاظه بمرونة عالية في اختيار الشركاء، دون أن تكون قراراته التصديرية مرهونة بمزاج سياسي خارجي. ويقول في هذا السياق: "لدينا فرصة وهامش مناورة كبير، وهذا القرار لا يؤثر كثيرا على الجزائر"، مشددا على أن مناعة الاقتصاد تقاس بالأرقام وبقدرة الدولة على التحرّك ببدائل واقعية.
وبذلك، يعتبر أن المبالغة في تصوير السوق الأمريكية كوجهة لا بديل عنها هو وهم يجب تجاوزه، مؤكدا أن الجزائر قادرة على الحفاظ على استقرارها التجاري دون الاعتماد على واشنطن، خصوصا وأن صادراتها نحوها لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من إجمالي صادرات البلاد.
الاتحاد الأوروبي وغرب إفريقيا بدائل منطقية وقريبة
وبالاستفادة من هامش المناورة الذي تمنحه العلاقة غير المعقّدة مع السوق الأمريكية، يؤكد واعلي عرقوب أن الجزائر تمتلك بدائل جغرافية واقتصادية جاهزة، يمكن اللجوء إليها لتعويض أي تأثير محتمل من الرسوم الجديدة. ويخص بالذكر الاتحاد الأوروبي ودول غرب إفريقيا، باعتبارهما خيارين أكثر قربا وتكاملا من حيث البنية التحتية، والطلب على المنتجات الجزائرية، وسهولة الوصول.
ويُوضح أن الجزائر، "بحكم القرب الجغرافي من الاتحاد الأوروبي، وحتى من دول غرب إفريقيا، يمكن أن تجد البديل لتصدير صادراتها"، خصوصا في القطاعات التي تتأثر مبدئيا بالرسوم الأمريكية، مثل المحروقات والحديد والتمور والعجلات. ويضيف أن هذه المنتجات تجد طلبا معتبرا في الأسواق الإفريقية والأوروبية، ما يجعل من عملية إعادة التوجيه أمرا عمليا وغير مكلف.
كما يشير إلى أن صادرات الجزائر من المحروقات تحديدا، لا تواجه صعوبات في تسويقها داخل الفضاء الأوروبي، بحكم البنية التحتية المشتركة كخطوط الأنابيب، والاتفاقيات الثنائية، والطلب المرتفع على الغاز الجزائري خاصة بعد تغير موازين الطاقة الدولية.
أما فيما يخص التمور والحديد وبعض المواد نصف المصنعة، فيرى أن الأسواق الإفريقية، لا سيما غرب القارة، يمكن أن تشكّل متنفسا مهما للمنتج الجزائري، خاصة في ظل الاندماج المتزايد داخل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، والتي تتيح تسهيلات جمركية ونقلا مرنا.
ويشدد عرقوب على أن الجزائر مطالبة باستثمار هذه الفرصة لإعادة هيكلة وجهات صادراتها، عبر استراتيجية طويلة المدى تراعي القرب، وتُقلل التبعية، وتُعزز من تواجدها في أسواق ذات مستقبل واعد، بدل الانشغال بردود فعل انفعالية تجاه سياسات تجارية ظرفية من قِبل أطراف غير مؤثرة.
إعادة توجيه الصادرات ضرورة
وانطلاقا من أهمية استغلال البدائل الجغرافية، يشدد البروفيسور عرقوب على أن إعادة توجيه الصادرات الجزائرية لا ينبغي أن تُعامل كاستجابة مؤقتة لقرار الرسوم الأمريكية، ويجب أن تتحول إلى خيار استراتيجي دائم. ويرى أن ما حدث مع واشنطن يمثل فرصة للتفكير الجاد في تنويع الشركاء وتحرير القرار التصديري من التبعية لأية قوة اقتصادية بعينها.
ويؤكد أن "الجزائر تصدّر نحو الولايات المتحدة ما لا يتعدى 5% فقط من صادراتها"، وهذا ما يُثبت أن الاعتماد على هذا السوق لم يكن يوما أساسيا، ما يجعل من السهل — حسب رأيه — بناء شبكة بديلة من الشركاء، أكثر توازنا وجدوى، سواء من حيث التكاليف أو القرب اللوجستي.
ويرى عرقوب أن التوجيه الذكي للصادرات يرتبط بالبحث عن أسواق جديدة، وبإعادة ترتيب الأولويات الاقتصادية، وتوجيه المنتجات نحو أسواق تستجيب لحاجياتها، وتُقدّر جودة المنتجات الجزائرية، بدل الانحصار في وجهات محدودة قد تُصبح رهينة سياسات تجارية خارجية غير مستقرة.
كما يُشدد على أهمية أن تكون هذه الخطوة مدروسة وليست مجرد رد فعل، من خلال تطوير آليات دعم المؤسسات المُصدّرة، وتحسين البنى التحتية اللوجستية، وتسهيل التمويل البنكي، وربط سياسات التصدير بخارطة الأسواق الناشئة، لا سيما في إفريقيا وآسيا.
ويؤكد على أن الجزائر تمتلك مقومات هذا التحول، ولكن تحتاج إلى إرادة سياسية واقتصادية تُحوّل الأزمة إلى مسار إصلاحي فعلي، لأن "إعادة توجيه الصادرات أصبحت ضرورة تمليها طبيعة النظام التجاري العالمي الذي يتغير بسرعة".
فرصة لتحرير القرار التجاري وتعزيز السيادة الاقتصادية
كما يرى واعلي عرقوب أن الرسوم الأمريكية — رغم طابعها السلبي الظاهري — تشكل فرصة ثمينة للجزائر لإعادة النظر في فلسفة علاقاتها التجارية الدولية، وتحرير قرارها التصديري من أي ضغوط أو رهانات غير متكافئة، بما يُعزز سيادتها الاقتصادية ويمنحها استقلالية أكبر في توجيه صادراتها وخياراتها الاستراتيجية.
ويؤكد أن "ما تصدّره الجزائر نحو الولايات المتحدة يمكن توجيهه بسهولة نحو شركاء آخرين"، وهو ما يعكس قدرة الجزائر على التحرّك خارج منطق التبعية، واستغلال تعددية الأسواق لبناء شراكات أكثر توازنا واحترامًا للسيادة الوطنية.
كما يشير إلى أن هذه الحادثة يجب أن تكون درسا اقتصاديا مهما، يدفع إلى بناء سياسة تجارية خارجية مستقلة، تتجاوز منطق رد الفعل إلى منطق التخطيط، وتُحوّل الأزمات الظرفية إلى محطات تدفع باتجاه تعميق الانفتاح المدروس على محيط الجزائر القريب.
ويرى عرقوب أن تحرير القرار التجاري يعني تنويع الشركاء، وأيضا دعم المنتج الوطني ليكون أكثر قدرة على المنافسة الدولية، وتقوية أدواته من حيث الجودة، الترويج، والتوزيع، ليكون جاهزا لأي تغير في الخارطة التجارية العالمية.
ويختم تصريحه بالتأكيد على أن "الجزائر لا تحتاج إلى السوق الأمريكية لتثبت مكانتها"، بل تحتاج إلى إرادة اقتصادية قوية، تستغل الفرص وتواجه التحديات باستراتيجية تبنى على فهم عميق لمعادلة القوة والمصلحة في الاقتصاد العالمي.

البروفيسور هشام غربي - خبير مختص في المالية الدولية
من التجارة الحرة إلى الجمارك الانتقائية.. أمريكا تنقلب على منظومتها
يرى البروفيسور هشام غربي، الخبير في المالية الدولية، ، أن الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على أكثر من 100 دولة، بينها الجزائر، تعكس تراجعًا واضحًا في الالتزام الأمريكي بمبادئ النظام التجاري العالمي، الذي كانت واشنطن نفسها من أبرز مهندسيه. ويُبرز أن هذه السياسة الحمائية تُسوَّق على أنها رد فعل على ما تسميه الإدارة الأمريكية "استغلالًا تجاريًّا" من قبل الدول الأخرى، بينما هي في الحقيقة محاولة لتمويل العجز الأمريكي من خلال إجراءات تتناقض تمامًا مع فلسفة العولمة الاقتصادية التي قامت على أساسها مؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية. وبالنسبة للجزائر، يعتبر غربي أن تأثير هذه الرسوم سيكون محدودًا بحكم ضعف حجم المبادلات، وسهولة إيجاد بدائل تجارية، مؤكدًا في الوقت ذاته على أهمية استغلال هذا الظرف لتعزيز خيارات الجزائر في التنويع الاقتصادي وبناء قاعدة إنتاجية أكثر استقلالًا.
ويؤكد البروفيسور هشام غربي في تصريح لـ "الأيام نيوز" أن ما تقوم به الولايات المتحدة اليوم لا يمكن تفسيره إلا على أنه انقلاب اقتصادي على منظومة العولمة التي كانت هي من أسس قواعدها وفرضها على العالم لعقود. فالرسوم الجمركية التي تفرضها إدارة ترامب على عشرات الدول تمثل خروجًا صريحًا عن مبدأ "الحرية التجارية" الذي قامت عليه منظمة التجارة العالمية، وهيمنة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهي المؤسسات التي وُلدت من رحم اتفاقيات بريتون وودز بزعامة أمريكا نفسها. يقول غربي إن هذه المؤسسات كانت تعمل على تكريس التجارة الحرة وفتح الأسواق أمام المنتجات الأمريكية، وهو ما منح الولايات المتحدة تفوقًا هائلًا لعقود، قبل أن تبدأ الآن في هدم ما بنته بيديها.
ويضيف أن الرئيس ترامب يُروّج بأن هذه الرسوم تأتي ردًّا على "استغلال" تتعرض له أمريكا من قبل الدول الأخرى، متذرعًا بأن العديد من الشركاء يفرضون رسومًا مرتفعة على المنتجات الأمريكية، وهو ما يستدعي فرض رسوم مماثلة من باب "المعاملة بالمثل". لكن الحقيقة، كما يراها الخبير، مختلفة تمامًا، لأن الولايات المتحدة لم تكن في موقع الضعف أو الاستغلال، بل استفادت لسنوات من تيسير التبادل التجاري لتغذية اقتصادها القائم على الاستهلاك، واستيراد السلع بأسعار منخفضة، مقابل تصدير الدولار كثقل مالي عالمي مدعوم سياسيًّا.
ويشدد غربي على أن التحول من مبدأ "الدولة الأولى بالرعاية" إلى مبدأ "الرسوم الانتقائية" يعكس أزمة في العمق الاقتصادي الأمريكي، وليس إعادة توازن كما تدعي الإدارة الأمريكية. ففرض رسوم جديدة هو دليل على تعثّر الإنتاج الداخلي الأمريكي، وليس انتصارًا له، لأن الحماية الجمركية تأتي عادة حين تفقد القدرة الإنتاجية تنافسيتها، وتصبح الأسواق المحلية مهددة. وهنا، يوضح غربي أن ما يحدث ليس سوى رد فعل على تراجع القدرة الصناعية لأمريكا، خاصة أمام الصعود الصيني المتسارع.
الدولار أداة نفوذ اقتصادي
ط بين التحول في السياسة التجارية الأمريكية وهيمنة العملة الأمريكية، يوضح البروفيسور هشام غربي أن الولايات المتحدة لطالما استندت في تفوقها الاقتصادي إلى القوة الرمزية والعملية للدولار، وليس إلى عدالة التبادل التجاري كما تدعي اليوم إدارة ترامب. فمنذ اتفاقية بريتون وودز عام 1944، ثم انهيارها في 1971، استمر الدولار في لعب دور غير متكافئ في المنظومة الاقتصادية العالمية، باعتباره العملة الوحيدة القابلة للتحويل إلى الذهب، قبل أن يتم فصله عن هذا المعيار، ويُصبح أداة سيطرة مالية بامتياز.
ويُبرز غربي أن الدول الأخرى — ومنها الجزائر — كانت طيلة عقود تسوّق منتجاتها وتُدير احتياطاتها بالاعتماد على الدولار، وهو ما وفّر لأمريكا امتيازًا غير معلن وصفه وزراء أوروبيون في وقت سابق بـ"الامتياز المفرط". إذ لا تملك أي دولة في العالم أن تطبع عملتها بحرية وتستخدمها كوسيلة تسوية عالمية إلا الولايات المتحدة، التي كانت تستورد السلع وتدفع مقابلها بالدولار، ثم تعيد ضخ العملة نفسها في الاقتصاد الدولي دون تكلفة إنتاج حقيقية.
ويُشير إلى أن ترامب، في حملته لفرض الرسوم، يتجاهل عمدًا أن أمريكا هي من قامت بهندسة اقتصاد العولمة لمصلحة الدولار، حيث جُعلت أهم السلع الاستراتيجية كالنفط، والغاز، والمعادن الثمينة تُسعَّر بالدولار، وهو ما ضمن للولايات المتحدة عقودًا من التفوق النقدي والسيطرة التجارية. ومع أن ترامب يحاول تقديم نفسه كمنقذ للاقتصاد الأمريكي من "استغلال خارجي"، إلا أن السياسات الحمائية التي يعتمدها تهدد بإرباك النظام الاقتصادي الذي قام أصلًا على "تدويل الدولار"، ويُعيد العالم إلى معادلات تجارية أقل شفافية وأشد تناقضًا مع المبادئ التي أسستها واشنطن نفسها.
الجزائر تفرض رسوم بـ 59% على السلع الأمريكية... فمن يردّ على من؟
وانطلاقًا من السياق الدولي، ينتقل البروفيسور هشام غربي للحديث عن الحالة الجزائرية، ليفنّد ما يحاول ترامب تسويقه بخصوص "الرد بالمثل" على الدول التي تفرض رسومًا جمركية على السلع الأمريكية. ففي هذا السياق، يوضح غربي أن الجزائر أصلًا تفرض رسومًا جمركية مرتفعة على الواردات الأمريكية، تصل إلى 59%، وهي نسبة تفوق بكثير ما فرضته الولايات المتحدة على الجزائر مؤخرًا، والمقدرة بـ30 %. ما يعني — وفقًا لتحليله — أن واشنطن لم تكن تتعرض لـ"استغلال" من الجزائر، بل كانت تستفيد من انفتاح الأسواق الدولية على سلعها دون قيود تعادل تلك التي تفرضها هي على الآخرين.
ويؤكد غربي أن هذا الواقع يُسقط الخطاب الأمريكي القائم على "المظلومية التجارية"، ويكشف أن الرسوم الأخيرة لا تنبع من منطق التوازن أو العدالة، بل من تحوّل جذري في العقيدة الاقتصادية الأمريكية، نحو مزيد من الانغلاق ومحاولة الحد من العجز التجاري بأي وسيلة، حتى ولو كان ذلك على حساب مبادئ منظمة التجارة العالمية. ويضيف أن الجزائر، في علاقاتها التجارية مع واشنطن، كانت تلتزم بحماية مصالحها عبر فرض رسوم معقولة تخدم السوق المحلية، ولا يمكن اتهامها بسياسات استغلالية.
كما يُشير إلى أن قراءة الأرقام بهدوء تكشف أن الولايات المتحدة ليست شريكًا تجاريًّا محوريًّا للجزائر، حيث لا تمثل صادرات الجزائر نحو السوق الأمريكية سوى 5% من إجمالي صادراتها العالمية، في حين تبلغ قيمة المبادلات بين البلدين نحو 3.5 مليار دولار فقط، منها 2.5 مليار صادرات جزائرية. وبالتالي، فإن فرض رسوم جديدة لا يُهدد التوازن التجاري بين الطرفين، ولا يفرض على الجزائر أي تغييرات عميقة في استراتيجيتها التجارية، وهو ما يُفسّر محدودية الأثر المباشر لهذا القرار على الاقتصاد الوطني.

بقلم: الدكتور جمال شرفي - خبير دولي ومستشار لدى البنك العالمي وعضو الأكاديمية الأمريكية للخبراء الدوليين
بين جمارك ترامب وأسواق الجوار.. الجزائر ترسم مسارها الاقتصادي بذكاء
فرضت الإدارة الأمريكية بقيادة ترامب رسوما جمركية بنسبة 30% على الواردات الجزائرية في إطار سياسة حمائية تهدف إلى تقليل العجز التجاري الأمريكي، والذي بلغ 59% لصالح الجزائر فقد بلغت في 2024، قيمة المبادلات التجارية بين البلدين نحو 3.1 مليار دولار، لكنها لا تزال أقل من مستواها قبل 2017، مما يشير إلى تراجع تدريجي في العلاقات التجارية.
حيث تُصدر الأخيرة للولايات المتحدة أساساً النفط والغاز (95% من صادراتها)، بالإضافة إلى الحديد والإسمنت والتمور، بينما تستورد منها الطائرات والمعدات التكنولوجية والمعدات الفلاحية بقيمة 197 مليون دولار، ورغم أن هذه الرسوم ستُزيد أسعار السلع الجزائرية في السوق الأمريكية، إلا أن تأثيرها المباشر على الاقتصاد الجزائري يبقى محدوداً نظراً لضعف الاعتماد على السوق الأمريكية (5% فقط من إجمالي الصادرات)، مع إمكانية تعويض الخسائر عبر التوجه إلى أسواق إفريقيا والاتحاد الأوروبي، خاصة في ظل استمرار استثمارات شركات الطاقة الامريكية الكبرى مثل إكسون موبيل وشيفرون وعودتها بقوة للجزائر.
في المقابل، يُنظر إلى القرار الأمريكي كخطر على الاقتصاد العالمي ككل وليس الجزائري فقط بعد أن تسببت الإجراءات الحمائية لترامب في خسائر بورصية تقدر بـ 2 تريليون دولار وتراجع مؤشر "ستاندرد أند بورز" بنسبة 3.4%، مما يضع العالم أمام مرحلة جديدة من عدم الاستقرار التجاري تتناقض مع مبادئ العولمة ومنظمة التجارة العالمية.
بينما تظهر الجزائر مرونة نسبية في مواجهة التحديات للولوج للسوق الامريكية بفضل تنويعها للشركاء وتعزيزها لمبدأ اولوية التركيز على الاسواق الدولية الجوارية التي يستطيع للمنتوجات الجزائرية اخذ حصة منها على غرار السوق الأفريقية الواعدة وكذا الاسواق العربية والاوروبية والسوق الكندية. بحكم التواجد الهام للجالية الجزائرية التي تعتبر محفز ومشجع كبير لاستهلاك السلع الجزائرية.