2025.10.13
قصاصات لاجئة
الأسير المُحرَّر \

الأسير المُحرَّر "أسامة محمد علي أشقر" (15)


تُعرف الشاعرة الفلسطينية "نهى شحادة عودة" في المجتمع الأدبي العربي باسم "ياسمينة عكَّا"، أبصرت النور في مُخيّمات اللاجئين في لبنان ذات يوم مُندسٍّ بين أعوام ثمانينيات القرن الماضي، وتعود أصولها إلى قرية شعب في قضاء عكّا بفلسطين.. هي ناشطة ومناضلة من أجل الحفاظ على الثقافة والذاكرة الفلسطينية وضمان توريثها لأجيال اللاجئين.. نشرت رواية واحدة وعددا من الدواوين الشعرية، وخصّت جريدة "الأيام نيوز" بمجموعة من القصاصات التي أودع فيها الأسرى المُحرّرون الفلسطينيون بعض ذكرياتهم في رحلة العذاب..

أحدّثكم الآن وأنا أشعر بمشاعر متضاربة ومتناقضة. أشعر بألم شديد، بحزن عميق، وبقشعريرة تسري في جسدي من منظرنا في "البوسطة" (سيارة تنقل الأسرى من سجن إلى آخر، أو من السجن إلى المحكمة، أو من السجن إلى المستشفى، وما إلى ذلك). هذه النّقليات تُعرف باسم "البوسطة"، وهي تدار من قبل مصلحة السجون.

توجد وحدة تُدعى "وحدة النحشون"، وهي المسؤولة عن نقل الأسرى بين السجون وبين المحاكم. هذه الوحدة الإجرامية ارتكبت آلاف الجرائم بحق الأسرى. يبدأ الأمر بتكبيل الأسير داخل الزنزانة، ثم يتم إخراجه إلى باب القسم، وهناك يُعصب بصره، وتُكبّل يداه خلف ظهره، وتُقيّد قدماه بالحديد. فيصبح الأسير معصوب العينين، مكبل اليدين والقدمين، غير قادر على الرؤية أو الحركة بحرية.

يقوم السجّانون بنقل الأسير بطريقة مذّلة ومهينة، فيُجبر على الانحناء أثناء السير. يحاولون بكل قوتهم إذلاله، أحيانًا يتعمّدون إسقاطه أرضًا، يستهزئون به، يشتمونه، ويشتمون عائلته طوال الطريق. وكلما كانت المسافة أطول، زادت الممارسات المهينة: شتائم، سخرية، وأحيانًا ضرب مباشر، وهو في تلك الوضعية المهينة، منحنٍ، رأسه إلى الأسفل، ويداه مكبلتان خلف ظهره.

يُقاد الأسير إلى ما يُسمّى بـ "غرفة الانتظار"، وهناك يبقى حتى يصل طاقم "وحدة النحشون". هذه الوحدة مدربة بشكل عال، ومسلحة بشكل جيد، وهي وحدة خاصة تابعة لإدارة سجون الاحتلال. يتعامل عناصرها بفظاظة شديدة، دون أيّ تعاطف، ودون أي إنسانية. لا يُسمحون للأسير بأن تطلب شيئًا، ولا حتى أن يتحدث.

يُخرجون الأسير من غرفة الانتظار الأولى إلى غرفة ثانية تحت إدارتهم، وقد يبقى فيها ساعتين، أو ثلاثًا، أو حتى خمس ساعات، والأسير في الوضع نفسه: جالس على ركبتيه، مكبل اليدين إلى الخلف، والقدمين بالحديد، معصوب العينين. خلال هذا الوقت، يُفتّش السجّانون الأسيرَ تفتيشًا دقيقًا في المرة الأولى، وعند خروجه مرة أخرى يُعاد التفتيش.. حتى لو مزّق منديلًا، ليلقيه في الزبالة، قد يعاقَب على ذلك، وقد يُضرب أو يُهان لأيّ تصرّف بسيط.

بعد ساعات من الانتظار والإذلال، يتم نقل الأسير إلى "البوسطة". والبوسطة، كما قلت، هي عبارة عن مكعب حديدي ضيق، لا يحتوي على أيّ مساحة للراحة. الكراسي حديدية تمامًا. في الشتاء تكون شديدة البرودة، ومعاناة الجلوس عليها قاسية جدًّا، خاصة بدون أيّ ملابس أو وسائل تدفئة. أما في الصيف، فالحرارة لا تُحتمل، الهواء خانق، والاختناق شديد. كثيرٌ من الأسرى أغمي عليهم داخل البوسطة بسبب طول الوقت وسوء الظروف.

تستمر هذه الرحلة لساعات طويلة، يمرّ خلالها الأسير على عدة سجون، وكل سجن ينتظر فيه ساعتين أو ثلاثًا داخل البوسطة نفسها. أحيانًا تستمر الرحلة 10 ساعات، وأحيانًا 12، وقد تصل إلى 18 ساعة. بصراحة، إنها رحلة موت حقيقي... البوسطة موت حقيقي.

عندما ينزل الأسير من "البوسطة"، يكون في استقباله السجّان أو أحد أفراد وحدة "النحشون" بطريقة سيئة. يمسكه من يديه المكبّلتين إلى الخلف، ويجبره على خفض رأسه إلى الأسفل. يبدأ بتفتيشه، رغم أنه لا تملك شيئًا، لكن هدفهم ليس الأمن، بل الإهانة. يقومون بتعريته وتفتيشه مجددًا، ثم يُدخلونه إلى الغرفة، ويعيدون تكبيله بطريقة شديدة وقاسية جدًّا جدا.

يكون الأسير قد قضى عشر أو اثنتي عشرة ساعة في "البوسطة"، وفي تلك اللحظة يكون الدم محصورًا في يديه، والأعصاب مشدودة إلى درجة أن أطرافه تصبح زرقاء بالكامل. القيود الحديدية لا تترك أيّ مجال للحركة، فتغرس في الجلد والعظم، وتترك أثرًا مؤلمًا جدًّا. وينتظر الأسير بعدها ساعة أو ساعتين، حسب مزاجهم، حتى يتم إدخاله إلى الغرفة أو إلى السجن أو إلى العيادة.

وقد يبقى الأسير في "البوسطة" يومًا أو يومين في هذا الوضع المهين والمذل، دون أيّ شروط إنسانية للحياة: لا طعام، لا شراب، ولا حتى استخدام الحمام. "البوسطة" هي المقصلة الحقيقية للأسرى.

بعد 7 أكتوبر، ارتفع منسوب العنف والوحشية. أصبحوا يضربون الأسرى ضربًا مبرحًا جدًّا، إلى درجة أن بعضهم أغمي عليه من شدة الضرب، وبعضهم تعرّض لتكسير أضلاعه أو أطرافه.

في شهر آذار/ مارس 2024، انتقلتُ من سجن "عوفر" إلى سجن "ريمون"، وكنا مجموعة من 25 أسيرًا، تعرّضنا جميعا إلى الضرب المُبرح، وبيننا مَن كُسرت أذرعهم أو ضلوعهم بسبب شدة العنف الذي مُورس عليهم أثناء النقل في "البوسطة".

رحلة "البوسطة" قد تستمر يومًا، يومين، أو ثلاثة، بحسب المسافة والمكان الذي يتم نقلك إليه. هي بحق رحلة موت وعذاب حقيقيين، ما زالت مستمرة حتى الآن في داخل سجون الاحتلال.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار