في زمنٍ صار فيه الجسد هو البطل الأوحد على مسرح الوجود، تُرفع له الرايات وتُقدَّم له القرابين، بينما الروح واقفة عند الباب تنتظر إذن الدخول… يبدو أننا بحاجة ماسّة إلى "تربية نفسية" لا تقلّ أهمية عن تربية العضلات أو تعليم مهارات استخدام الهاتف المحمول بمهارة تفوق مهارة "سقراط" في الجدل. الإنسان، كما نحبّ أن نردّد في دروس الفلسفة، هو معادلة بين روح وجسد، غير أن ميزان المعادلة اليوم اختلّ إلى درجة باتت فيها الروح مجرّد "ملف مؤجل" على سطح المكتب.
حين ننظر حولنا، نجد أنفسنا وسط جيلٍ يجيد التعبير عن انفعالاته بالرموز التعبيرية أكثر من الكلمات، ويقيس صدقه بعدد "اللايكات"، ويعتقد أن الصراحة جريمة أخلاقية تستحق الإعدام الافتراضي. في المقاهي والجامعات وحتى البيوت، نرى وجوهًا تتكلّم كثيرًا ولا تقول شيئًا، وانفعالات تُشبه النيران العشوائية، وقلوبًا تحتاج إلى إعادة برمجة. فهل نلوم المدارس التي تُعلّمنا كيف نرسم خريطة العالم ولا تُعلّمنا كيف نرسم خريطة أنفسنا؟ أم نلوم الأسر التي تخاف من "الحديث النفسي" كأنّه طقس غامض من طقوس اليوغا الشيطانية؟
التربية النفسية إذًا ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية لو أردنا أن نحافظ على ما تبقّى من إنسانيتنا قبل أن تتحوّل حياتنا إلى حلبة صراع بين الغرائز والتطبيقات. غير أنّ السؤال الأخطر هو: من أين نأتي بها؟ من معالج نفسي لا يجد وقتًا إلا بعد شهر من الحجز الإلكتروني؟ من مؤثّرٍ على "تيك توك" يُقدّم دروسًا في السلام الداخلي بخلفية موسيقية وصوت رخيم؟ أم من كتب علم النفس القديمة التي تتحدّث عن "اللاشعور الجمعي" بينما اللاشعور الفردي لدينا ينهار أمام إعلان عطر جديد؟
ولعلّ المفارقة الجميلة أن جذور التربية النفسية كانت دائمًا في ثقافتنا دون أن نمنحها اسمًا. ألم تكن وصايا الأمّهات والأجداد نوعًا من تربية الروح؟ ألم يكن الشعراء القُدامى يعلّموننا الصبر والعشق والكرامة من دون أن يفتحوا كتابًا في التحليل النفسي؟ في الأمثال الشعبية وحدها تجد علم نفسٍ عميقًا: "كل إناء بما فيه ينضح"، و"اللهم لا تجعلنا من الذين يرون القذى في عيون الناس وينسون الخشبة في عيونهم". لكننا، في زمن السرعة، صرنا نحفظ الأمثال كما نحفظ كلمات الأغاني: بلا روح ولا عبرة.
وهنا يدخل الأدب، ذاك الطبيب النفسي الذي لا يطلب أجرًا. فالرواية الجيدة جلسة علاج جماعية، والقصيدة نافذة تهوية للعقل، والمسرحية مرآة تشخّص العطب. الأدب ليس ترفًا لغويًّا، بل ممارسة علاجية لمن يجرؤ على مواجهة نفسه. ولعلّ الكاتب الحقّ هو من يمارس تربيةً نفسيّة على نفسه أولًا، قبل أن يكتب عن الآخرين. فكيف يمكن لشاعرٍ يكتب عن الجمال أن يزرع الجمال في النفوس وهو نفسه غارق في فوضاه؟ وكيف لمبدعٍ أن يكون "مربيًّا نفسيًّا" للأجيال إن لم يعرف أصول التوازن بين الحلم والواقع؟
المشكلة أننا نتعامل مع الأدب كما نتعامل مع الأدوية: نقرأه بعد فوات الأوان. نلجأ إليه عندما تصيبنا خيبات الحب أو الغربة أو القلق، بينما الأدب كان يجب أن يكون جزءًا من مناعتنا النفسية منذ البداية. فبدل أن نعلّم أولادنا جدول الضرب فقط، ماذا لو علّمناهم كيف لا "يضربهم" الواقع بهذه القسوة؟
أما عن الأخطار المحدّقة بالأجيال، فهي لا تحتاج إلى عالم اجتماع ليكتشفها؛ يكفي أن تفتح هاتفك خمس دقائق لتدرك حجم العطب. أجيالٌ تعرف كل شيء عن التكنولوجيا، ولا تعرف شيئًا عن ذاتها. أجيالٌ تظنّ أن الحرية في أن تفعل ما تشاء، لا أن تفهم لماذا تفعل ما تشاء. أجيالٌ تحتاج إلى "مناعة نفسية" أكثر من أيّ لقاح. وإن لم نبادر نحن إلى تربيتها نفسيًّا، فستتكفّل الشاشات بالمهمة، لكن بطريقتها الخاصة: تحويل الإنسان إلى صورة جميلة من الخارج، متكسّرة من الداخل.
باختصار، التربية النفسية ليست شعارًا ولا مادة دراسية، بل هي فن العيش بوعي. وإن لم نستيقظ قريبًا، فسنحتاج يومًا إلى "وزارة للاتزان النفسي" و"هيئة عامة للعواطف المعتدلة" وشرطة خاصة تضبط حالات الغضب المفرط في التعليقات الإلكترونية. وحتى ذلك الحين، فلنحاول على الأقل أن نربّي أنفسنا قليلًا قبل أن نُطالب بتربية الأجيال.

