2025.10.13
الصدفة.. \

الصدفة.. "كومبارس" في مسرحية من إخراجك!


تخيّل معي أنّك جالس في المقهى تشرب فنجان قهوة وتنتظر "الصدفة" أن تمرّ من أمامك مثل قطة شاردة، وفجأة تتعثّر بكراسي المقهى وتكسر نظارتك، عندها تقول لنفسك: "آه! صدفة!"، بينما الحقيقة أنّ الأمر كلّه سلسلة من الأسباب الصغيرة: كرسي مكسور من قبل، عامل تنظيف نسِيَه، وأنت قررت أن تجلس في الزاوية الضيّقة بدل الطاولة الواسعة.

في ثقافتنا العربية نحبّ أن نحمّل "الصدفة" أوزارنا: إذا فشل مشروع نقول "صدفة"، إذا خاب حلم نقول "صدفة"، وإذا وقعت في غرام شخص ثم اكتشفت أنّه لا يشبه بطل الرواية ولا حتى بائع التّبغ، تواسي نفسك بالصدفة أيضا. لكن لو دقّقنا قليلاً، نجد أنّ "الصدفة" مجرد شمّاعة نعلّق عليها كسلاً في التخطيط، أو عجلة في القرارات، أو وهمًا صنعناه بيدنا وسمّيناه حبًّا، ثم توقّعنا أن يحرسه القدر كما يحرس الحراس أبواب الملوك.

الأدب العربي مليء بهذه الحكايا: من "قيس" الذي التقى "ليلى" وكأنّ اللقاء مكتوب "صدفة"، إلى بطل "ألف ليلة وليلة" الذي يعثر على مصباح "علاء الدين" تحت الرمل بلا مناسبة. لكن إن تأملتَ جيّدا، ستجد أنّ الأمر ليس "صدفة" أبدًا: "قيس" لم يكن يترك المراعي إلا حينما تمرّ "ليلى"، والمصباح لم يظهر إلا لأنّ الحفر كان مبرمجًا من شيخ ماكر هاكر (Hacker) يعرف كيف يضحك على سذاجة الفتى. نحن الذين نسمّي تراكم الأسباب "صدفة"، ثم نصدّق اللعبة ونعلّق عليها سقوط الأحلام، بدل أن نواجه الحقيقة: أنّ الوهم أقوى من التخطيط في حياتنا.

ولأنّنا نحب الخلط بين الجدّي والمضحك، نجد في ثقافتنا الشعبية إلى الآن شخصيات مثل "الشيخة أم عباس لجلب الحبيب"، التي تقنعك أنّ الحب سيأتيك بدعسة بخور وقرن تَيس أحوَل وسبعة حروف معقودة على خيط أحمر. وهكذا يصبح الحلم بالزواج السعيد أو الحبيب العائد محروسًا لا بخطّة ولا بجهد، بل بـ "صدفة" مدفوعة الثمن على شكل بخور وصوت تمتمة. وما إن ينهار الوهم، حتّى نلعن الصدفة مجدداً، وننسى أنّنا نحن من منحناها مكانة العرّاف.

الفكرة أنّ "الصدفة" لا تحطّم الأحلام، بل تكشف أنّها كانت أوهامًا منذ البداية. نحن الذين نبني القصور على رمل الكلمات، وننتظر أن يثبتها البحر. الأدب العربي فضح هذا منذ قرون، حين جعل من الأبطال ضحايا انتظارات طويلة بلا تدبير، ثم ختم حكاياتهم بدمعة أو مصيبة أو نكسة. وإذا أردنا أن نأخذ عبرة كوميدية من الأمر، فهي ببساطة: لا تنتظر الصدفة، ولا تشترِ بخور "الشيخة أم عباس"، ولا تظن أنّ القدر موظف علاقات عامة يعمل على راحتك. الأحلام تُبنى بالخطط، والوهم يُهدَم بالوعي، وما الصدفة إلا "كومبارس" يمرّ في المشهد ليذكّرك أنّ المسرحية من إخراجك أنت لا من إخراج الغيب.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار