2025.10.13
علم النفس للأدب كالملح للطعام

علم النفس للأدب كالملح للطعام


قد يتبادر إلى الذهن سؤال: هل هناك علاقة بين علم النفس والأدب؟

ربما يقول قائل: وما حاجة الأدب إلى علم النفس؟ وما ارتباطه به؟ وهذا القول إن صدر عن واحد من الناس، فقائله عرضة للاتهام في ثقافته وتفكيره؛ فالأدب وعلم النفس إنما ينبعثان من مشكاة واحدة، فالباحث النفسي يعتمد الخيال والعاطفة والغرائز الإنسانية كظواهر أساسية في تشكيل العقل البشري وضبط توازنه، وتمييز الناس فيما بينهم وفق معطيات تلك الظواهر، والأديب شاعرًا كان أو كاتبًا، إنما يتغنّى بعواطفه ومشاعره وأحاسيسه، التي تملك عليه وجدانه، وينقل تلك المشاعر إلى الآخرين، حاملة رؤيته للحياة والأحياء، عبرَ فنّه الأدبي الأثير لديه، شعرًا كان أو قصة أو مسرحية أو أيّ لون إبداعي، راح يجد نفسه من عشاقه وموهوبيه.

ويأتي دور علم النفس تجاه الأدب، في أنه قد يساعدنا كما يقول الدكتور "محمد مندور": "في فهم نفسية الكُتَّاب وتحليل الشخصيات الروائية التي يخلقها أولئك الكتاب، ولكنه قد يضللنا أيضًا في ذلك الفهم وهذا التحليل... فاستخدام علم النفس في نقد الأدب يجب أن يتمّ في حذر، لأنك بذلك قد تذهب بالأصالة الموجودة في العمل الأدبي، فتفهم الشخصية الروائية مثلا، أو تحليل نفسية الشاعر على ضوء قوانين نفسية عامة لا يصدق إلا في التخطيطات العامة، وذلك لأن النفس البشرية يستحيل أن تتطابق تطابقًا تامًّا". (في الأدب والنقد ص 39 – 40).

فعلم النفس يقوم بدور كشفي مهم، حين يفسر الظواهر الأدبية من خلال واقع ملموس، بلا إفراط ولا تفريط، دونما نضوبٍ أو إغراقٍ، فالحكم على الظواهر الأدبية والأدباء من خلال قواعد نفسية عامة، واستخلاص الأحكام والمسلّمات من خلال الاستنتاج، الذي قد يكون مجرد حدس أو تطبيق لنظرية نفسية، قد لا تنطبق إلا على حالات خاصة من البشر، ولا تصلح لتعميمها على كل ما يشبهها من الحالات؛ فالبشر متفاوتون في السلوك والدوافع إليه، وتعميم الأحكام عليهم فيه كثير من التجوز وعدم الدقة؛ مما ينبئ بعدم سلامة الطرح من الخطأ، والوقوع في براثن الوهم، غير المبرر.

وأمام القارئ المثقف أنموذج من "أبي نواس"، الشاعر العباسي، فقد دارت حول شعره وشخصيته دراسات عديدة، منها دراسة الأستاذ "العقاد" (أبو نواس الحسن بن هانئ) حيث طبق نظريات علم النفس على الشاعر وشعره، وأفرط في التوغّل في التفاصيل النفسية التي ربما ينطبق بعضها على الشاعر، ومن المؤكد أن بعضها يرتبط بظروف المجتمع وطبيعة الحياة في ذلك العصر، من ذلك أن "العقاد" وضع مجمل شعر "أبي نواس" في الغزل ووصف الخمر والتغني بعشقها وتصوير حياته الماجنة بلا تحفظ، وضع "العقاد" ذلك كله في (لازمة العرض) التي تشمل الإظهار بكافة درجاته، بدعوى أنّ الشاعر قد عمد إلى التمتّع بالمحرّمات والجهر بها، والدعوة إلى اقترافها، والتشجيع عليها وذلك في مثل قوله:

وإن قالوا حرام قل حرامٌ -- ولكنّ اللذاذةَ في الحرامِ

وقوله:

ألا فاسقني خمرًا وقل لي هي الخمرُ -- ولا تسقني سرًّا إذا أمكن الجهرُ

فما العيش إلا سكرةٌ بعد سكرةٍ -- فإن طال هذا عنده قَصُرَ الدَّهرُ

فـ "العقاد" يرى أنّ ما يقوم به "أبو نواس" من الجهر بالمحرّمات ما هو إلا محاولة الظهور وعرض شخصيته، ليسدّ بذلك حاجة نفسيّة في داخله، كما يقول المثل: "خالِف تُعرَف".

ولكن إفراط الأستاذ "العقاد" في تطبيق اللوازم النفسية، والبحث عن أصولها عند "أبي نواس"، والربط بين مظاهره الخِلْقِية وشذوذه، كعلم وظائف الأعضاء وارتباطه بهرمونات الأنوثة والذكورة، كل ذلك جعل الأستاذ "العقاد" يغفل طبيعة المجتمع، الذي عاش فيه "أبو نواس"، ولم يوله الاهتمام المستحق؛ لأن جلّ اهتمامه كان منصبًّا على ما ذكرنا، مع أن تلك الحقبة كانت تضجّ بألوان البذخ وصنوف الترف والمجون، وليس من الضروري أن يكون الدافع وراء تلك المجاهرة بمثل هذه المحرمات راجعًا إلى شذوذ جنسي، أو اختلال في الغدد لدى صاحبها، بل ربما كان ذلك بسبب نقصٍ مَّا لدى الشخصية، أو انعدامٍ للتربية، أو مخالطة وسطٍ يشجع على مثل تلك السلوكيات، التي لا تراعي للدين حرمة ولا للمجتمع أصولا وأعرافًا.

وبينما وجدنا الأستاذ "العقاد" يفسر ظاهرة الشذوذ لدى "أبي نواس"، وفق ما تمليه نظريات علم النفس، والفكرة النرجسية التي انتابته، وأثّرت في سلوكياته وأشعاره، وجدنا أيضًا دارسًا آخر هو الدكتور "محمد النويهي" في كتابه عن "نفسية أبي نواس" ينطلق من وجهة أخرى في تفسير حياة الشاعر وشعره، معتمدًا على "عقدة أوديب"، التي تنهض على فكرة تعلّق الطفل بأمّه، ومحاولته الاستئثار بها، إذ يرى الدكتور "النويهي"، والكلام للدكتور "طه حسين"، أن النواسي الطفل: "أحب أمّه وكلف بها كلفا بلغ الهيام، وحيل بينه وبين غايات هذا الحب فأدركه ما أدركه من هذه العلة التي أفسدت عليه أمره كله، وحولته عن الجادة إلى الطريق الملتوية في الحب".

فانظر يا قارئي العزيز كيف أخذت النظرية النفسية قامتين مثل العقاد والنويهي إلى افتراض أن الشخصية المدروسة شخصية معقدة، وكيف أنهما راحا منذ البداية إلى النهاية يدوران في فلك تلك الفكرة ويحاولان إثباتها والانتصار لها، مغفلَينِ - في الغالب - طبيعة البيئة والمجتمع والحياة في عصر الشاعر؛ مما حدا بالدكتور "طه حسين" إلى انتقاد منهج الناقدين معا في مقالة أدرجها ضمن كتابه "خصام ونقد" وحملت عنوان "بؤس أبي نواس" حيث رأى ما فحواه أن المنهج النفسي له دارسوه ومتخصّصوه، وأن مجاله الحقيقي في المعامل والتجارب على الأحياء، وحين يقوم بهذا الدور نقاد الأدب فإنما ينقلون إلينا نظريات وأفكارًا، قد لا تصلح لتطبيقها على الأموات ومن ليس تحت أيدينا تقارير طبية ونفسية، بناء على فحوص أجريت لهم واستخلصت النتائج من خلالها، حينئذ يكون التحليل النفسي قائمًا على أسس وثوابت، لا على فرَضيات ونظريات غير قابلة للتطبيق إلا على أفراد، مِن قبيل مَن خضعوا للفحص والتجربة، لا عموم الناس.

ولما كانت دراسة الأدباء - أحياء وأمواتًا - وإخضاعهم للدراسات النفسية، لا تأتي في الغالب بنتائج حقيقية، يمكن اعتمادها في الحكم على الأدباء ونتاجهم، لما كان الأمر كذلك، وجدنا أن اعتماد تلك المناهج في الدراسات الأدبية لا يحظى باهتمام كثير من الأوساط الثقافية؛ لعدم التخصص من ناحية، ولأن غالبية تلك المناهج تنطلق في تفسيراتها للظواهر من تفسير جنسي لدى الأدباء، مما يعدّه البعض إقحامًا لسلوكيات سلبية، لا تسلم من محاولة تقليدها والتأسّي بها، وبالتالي، فإن أصحاب هذه الرؤية، يرون أن التحليل الفني للنص الأدبي يكفي لفهمه وبيان الدوافع، التي صبغت أدبه بلون معين، وأخذته إلى وجهة مَّا دون غيرها من الوجهات الأخرى.

ولكن.. هل معنى ذلك: أن على دارسي الأدب ونقّاده إهمال الجوانب النفسية في دراسة الأدب والأدباء؟ والجواب عن ذلك بالنفي قطعًا، فالنقد الأدبي لا يعيش بمعزل عن المناهج المختلفة، ولكن يفيد منها بمقدار ما يضيف إليها، ويسلط الضوء على ظواهرها ويبرز دوافعها وأسبابها، بشكل متوافق مع منطق الأحداث وتراتبها، بلا إغراق في المبالغة والتفسيرات العميقة التي تجافي الواقع وتباين الحقيقة، فمثلا عند تناول ظاهرة وصف الليل لدى بعض الشعراء كامرئ القيس والنابغة والعباس بن الأحنف مثلا، نجد أن جميعهم يشتركون في وصف الليل بالطول والتمدد والجثوم الطويل والإثقال على النفس، فامرؤ القيس يصفه قائلا:

وليلٍ كموج البحر أرخى سُدُولَهُ --عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لما تَمَطَّى بصُلبِهِ -- وأردف أعجازا وناءَ بكلكل

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي -- بصبح وما الإصباح منك بأمثلِ

فيا لك من ليل كأن نجومه -- بكل مُغَارِ الفَتْلِ شُدَّتْ بِيَذْبُلِ

كأن الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ في مَصامِهَا -- بأمراسِ كِتَّانٍ إلى ُصِّم جَنْدَلِ

والنابغة يقول:

كليني لِهَمٍّ يا أميمة ناصبِ -- وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكبِ

وصدرٍ أراح الليلُ عازبَ همِّهِ -- تضاعف فيه الحزن من كل جانبِ

تقاعسَ حتى قلت ليس بمنقضٍ -- وليس الذي يرعى النجومَ بآيبِ

والعباس بن الأحنف يقول:

أيها الراقدون حولي أعينو -- ني على الليل حسبةً وائتجارا

حدثوني عن النهار حديثًا -- أو صفوه فقد نسيتُ النهارا

فالشعراء الثلاثة جميعهم يعبّرون عن استثقال الليل وجثومه وامتداده.

 فعلى الباحث الأدبي ألّا يقف عند حدود التفسير اللغوي للنص، والتحليل الفني لمعطياته الأسلوبية والموضوعية، وإنما عليه أن يبحث في الدوافع التي تكمن وراء تلك النظرة إلى الليل، فامرؤ القيس كانت تلاحقه فكرة الثأر لمقتل أبيه، وتنغّص عليه حياته وتؤرّق منامه، والنابغة كان غضب النعمان بن المنذر عليه، وهو مليكه المُحبّب، من وراء تلك الصور التي رسمها الشاعر لليل، والعباس بن الأحنف كان عشقه وغرامه وصدّ محبوبته عنه شغله الشاغل، الذي أطال بقاء ليله، وأيأسه من نهار، يكون فيه خلاصه من الهموم الجاثمة الطاغية.

حين يبحث الناقد عن مثل تلك الدوافع الاجتماعية، وما تسبّبه لأصحابها من ضغوط نفسية، مستخدما منهج التحليل النفسي يكون قد جعل الأدب يضيء من مشكاة المنهج النفسي، بما يكشف له عن الدروب المظلمة والسبل المعتمة، بمقدار ما يعبر تلك الطرق آمنًا مطمئنًا.

ولو أنه أوغل في مصطلحات المنهج النفسي وأوغل في تطبيق نظرياته، ربما لم يسلم من الخطأ؛ إذ إن تعميم تلك المعطيات النفسية على كل من تتشابه ظواهرهم خطأ فادح، وإلا قل لي رأيك في تجربتي الخاصة مع الليل، بما يخالف فحول الشعراء الذين شكوه للقاصي والداني، بينما أنا أراه على خلاف ذلك وفيه أقول:

آه يا ريف يا جمال الدُّنَى -- فيك ليل لو يشترى أشتريهِ

فيك سحرٌ هاروته مبدعٌ -- سحرُهُ صادقٌ ولا إثمَ فيهِ

أيها الليل أنت لي مُسْعِدٌ -- وصديقٌ مَحَبَّبٌ أصطفيهِ

كم من الهَمِّ قد أزحتَ إذا -- أثقل الهمُّ بالمصاب الكريهِ

وقديما حُمِّلْتَ ثُقْل الجَوَى -- ذاك ظلمٌ يا ليلُ ما أرتضيهِ

بلسمٌ أنت لم تزل آسيًا -- جُرحَنا مطفئًا لظًى نكتويهِ

ما شكوناك يا صديقُ فلَمْ -- نلقَ من ليلنا أذًى نشتكيهِ

يتصفحون الآن
أخر الأخبار