لا ريب في أن الإنسان هو معادلة بين الروح والجسد، وفي عصرنا الراهن تكاد نزوات الجسد أن تطغى على كل شؤون الروح، والله يعلم ما الذي ستكون عليه أحوال أجيالنا خلال العقود القادمة.. وإذا تأمّلنا في واقعنا الراهن، نرى مظاهر عدم الاتزان الشخصي وعدم التحكم في الانفعالات في المعاملات بين الناس أو حتى في الجوانب العاطفية والوجدانية، وافتقاد مجتمعاتنا إلى تقاليد الصراحة والوضوح وانتشار مظاهر سلوكية غريبة.. من هذا المنظور، فالتربية النفسية صارت أمرًا ضروريًّا في تنشئة الأجيال. وباعتبار الأدب يلامس ويتقاطع مع علوم إنسانية واجتماعية عديدة، ومن الواجب استثماره (الأدب) في التربية النفسية للأجيال القادمة وعلى الكاتب والشاعر والمُبدع أن يكون على معرفة بأصول التربية النفسية. وذلك لأننا نستشعر الأخطار المحدقة بالأجيال الصاعدة ذات التأثير على بيئتهم النفسية!
والأدب مرتبط بالتربية ارتباطًا شديدًا حتى في دلالاته اللغوية؛ فقد جاء في "لسان العرب" و"تاج العروس": "الأَدَبُ، مُحَرَّكَةً: الذي يَتَأَدَّبُ به الأَديبُ من الناس، سُمّيَ به لأَنه يَأْدِبُ الناسَ إلى المَحَامدِ وَيَنْهَاهُم عن المَقَابِحِ، والأَدَبُ مَلَكَةٌ تَعْصِمُ مَنْ قامت به عمَّا يَشِينُه، وفي المصباح: هو تَعَلُّم رِيَاضَةِ النَّفْسِ ومَحَاسِن الأَخْلاَقِ. وقال أَبو زيد الأَنصاريّ: الأَدبُ يَقَع على كل رِيَاضَةِ مَحْمُودَةٍ يَتَخَرَّجُ بها الإِنسانُ في فَضِيلَةِ من الفَضَائِلِ.. أو هو استعمالُ ما يُحْمَدُ قَوْلاً وفِعْلاً، أَو الأَخْذُ أَو الوُقُوفُ مع المُسْتَحْسَنَات أَو تَعْظِيمُ مَنْ فوقَك والرِّفْق بمَنْ دُونَكَ، أو هو حُسْنُ الأَخلاق وفِعْلُ المَكَارِم... أَدَبْتُه أَدْباً، مِنْ بابِ ضَرَب: عَلَّمْتُه رِيَاضَةَ النَّفْسِ ومَحَاسِن الأَخلاق، وأَدَّبْتُه تَأْدِيباً مُبَالَغَةٌ وتَكْثِيرٌ، ومنه قيل: أَدَّبْتُه تَأْدِيباً، إذا عَاقَبْتَه على إِسَاءَته؛ لأَنه سبَبٌ يدعو إلى حَقِيقَةِ الأَدَبِ، و... أَدَبَه، كضَرَبَ وأَدَّبَه: راضَ أَخْلاَقَه وعَاقَبَه على إِساءَته لِدُعَائِه إِيَّاهُ إلى حَقِيقَةِ الأَدَب".
وبتدبّر ألفاظ: (اللسان والقول والكلام والشعر والقصص والبيان) في القرآن الكريم يتضح لنا وجود نظرية متكاملة حول ضوابط البيان الإسلامي من حيث متطلباته ومحاذيره، من خلال ثنائية: الكلم الطيب والكلم الخبيث، ومدح الكلم الإيجابي بالعروبة، والإبانة، والطيب، والحسن، والسداد، ونفي رذائل الخبث والكذب والخيانة واللغو والإفساد والهمز واللمز عنه. ومن خلال التنظير لأهم جنسين أدبيين: الشعر والقصة؛ فالإسلام: "لا يحارب الشعر والفن لذاته كما قد يفهم من ظاهر اللفظ. إنما يحارب المنهج الذي سار عليه الشعر والفن بمنهج الأهواء والانفعالات التي لا ضابط لها، ومنهج الأحلام الموهومة التي تشغل أصحابها عن تحقيقها، فأما حين تستقر الروح على منهج الإسلام، وتنضج بتأثراتها الإسلامية شعرا وفنا، وتعمل في الوقت ذاته على تحقيق هذه المشاعر النبيلة في دنيا الواقع، ولا تكتفي بخلق عوالم وهمية تعيش فيها، وتدع واقع الحياة - كما هو - مشوهًا متخلفا قبيحا، أما حين يكون للروح منهج ثابت يهدف إلى غاية إسلامية، وحين تنظر إلى الدنيا فتراها من زاوية لإسلام، في ضوء الإسلام، ثم تعبر عن ذلك كله شعرا وفنا، فأما عند ذلك فالإسلام لا يكره الشعر ولا يحارب الفن كما يفهم من ظاهر الألفاظ". فلم يحرم القرآن الكريم قول الشعر، ولم يقف دونه أو ينتقصه من حيث قيمه المعرفة إذا التزم بالحق، وأغراض الشعر جميعها معرضة للشاعر، إذا قصد فيها تغليب جانب الخير على جانب الشر، فالمضامين الشعرية وحدها هي التي خضعت لمبدأ الصالح وغير الصالح من الشعر، أما الأطر الشكلية فلم ينتقصها القرآن "ولم يحدد شكلا معينا يلتزم به الشعراء ولا يخرجون عنه، لأن الصياغة في ذاتها لا توصف بالفضيلة أو بضدها". كما يقرر الدكتور "محمد بن مريسي الحارثيط.
إن الدين يلتقي في حقيقة النفس بالفن؛ فكلاهما انطلاق من عالم الضرورة، وكلاهما شوق مجنِّح لعالم الكمال؛ وكلاهما ثورة على آلية الحياة... والفن الإسلامي ليس بالضرورة هو الفن الذي يتحدث عن الإسلام! وهو على وجه اليقين ليس الوعظ المباشر والحث على اتباع الفضائل (فقط)، وليس هو كذلك حقائق العقيدة مجردة، مبلورة في صورة فلسفية. إنما هو الفن الذي يرسم صورة الوجود من زاوية التصور الإسلامي لهذا الوجود... هو الفن الذي يهيّئ اللقاء الكامل بين الجمال والحق؛ فالجمال حقيقة في هذا الكون، والحق هو ذروة الجمال، كما يقرر صاحب كتاب "منهج الفن الإسلامي".
وكان موقف الرسول (صلى الله عليه وسلم) من الشعر والشعراء يدور حول إبراز المفهوم الجديد الذي حدّده القرآن الكريم للشعر والدور المطلوب من الشعراء؛ فقد تشكل موقف الرسول (صلى الله عليه وسلم) من الشعر في الاتجاهين نفسهما الوارد ذكرهما في خواتيم سورة الشعراء، وهما:
الأول أعطى فيه الشعر أهميةً باعتباره فنًّا معرفيًّا قادرًا على تشكيل العقول من خلال قيمه المعرفية الخيرية والفنية الموحية. وهذا هو الاتجاه الذي استأثر باهتمام الرسول الكريم. ومن أمثلة ذلك:
- عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إن من البيان سحرا وإن من الشعر حكما" وفي رواية: "إن من الشعر لحكمة"؛ فليس كل شعر غواية بل منه ما يتضمن إقامة الحق والحث على الخير، وإطلاق اسم الحكمة يدعو إلى رزانة العقل والرأي وشرافة الخلُق.
- أخرج عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: "لما نزلت وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ" أتيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقلت: يا رسول الله، ماذا ترى في الشعر؟ فقال: إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه. والذي نفس محمد بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل".
- قال ابن سعد في الطبقات: أخبرنا عبد الوهاب أخبرنا ابن عوف عن ابن سيرين "أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لكعب بن مالك: هيه: فأنشده. فقال: لهو أشد عليهم من وقع النبل"، وفي رواية لمسلم عن عائشة (رضي الله عنها): "اهجوا قريشا فإنه أشد عليها من رشق النبل"، وفي رواية للترمذي: "خل عنهم يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل"، وفي لفظ للنسائي: قال لحسان: "اهج المشركين، فإن روح القدس معك".
- أخرج الحاكم وابن مردويه من طريق مجالد عن الشعبي عن جابر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال يوم الأحزاب: "من يحمى أعراض المسلمين؟ فقال حسان: أنا. قال: فقم اهجهم، فإن روح القدس سيعينك".
- وروي عن عمر بن الشريد عن أبيه قال: استنشدني النبي (صلى الله عليه وسلم) شعر أمية ابن أبي الصلت وأنشدته، فأخذ النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: "هيه هيه". حتى أنشدته مائة قافية. فقال: "إن كاد ليسلم".
أما الاتجاه الثاني فقد تناول فيه الشعر من زاوية ما يحدثه من ضرر أو أذى فذلك مذموم منهي عنه، وكانت مواقفه قليلة في هذا الاتجاه إذا ما قورنت بمواقفه التوجيهية للشعر والشعراء في الاتجاه الأول؛ فالرسول (صلى الله عليه وسلم) بشر يتأثر بالكلمة والموقف، وعربي في قمة الفصاحة، يقدّر التعبير الفني، ويعرف خطره وعمق تأثيره في النفوس ويطرب له حين يعبّر عن مبادئ خلقية وجمالية مقبولة من وجهة الدين الجديد، ويرفضه ويقبحه حين يكون دعوة للشر أو الشقاق أو الرذيلة أو تحريضًا على طرح الجدِّيَّة في الحياة والاستسلام لمباذلها. ومن أمثلة ذلك ما رُوي من أن النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "لِأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا يَرِيهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا". والتَّحْقِيقَ أَنَّ الحَدِيثَ الصَّحِيحَ الْمُصَرِّحَ بِأَنَّ امْتِلَاءَ الْجَوْفِ مِنَ الْقَيْحِ الْمُفْسِدِ لَهُ خَيْرٌ مِنِ امْتِلَائِهِ مِنَ الشِّعْرِ، مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَقْبَلَ عَلَى الشِّعْرِ، وَاشْتَغَلَ بِهِ عَنِ الذِّكْرِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الشِّعْرِ الْقَبِيحِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْكَذِبِ، وَالْبَاطِلِ كَذِكْرِ الْخَمْرِ وَمَحَاسِنِ النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
أما عن شبهة أن نفي الشعر عن الذات النبوية دال على رفض الشعر وذمِّه قاطبة؛ فقد اتفق المفسرون والباحثون قاطبةً على أن الله تعالى لم يجعل في طبع النبي (صلى الله عليه وسلم) القدرة على نظم الشعر، وقد فطره على النُّفرة بين ملَكته الكلامية والملَكة الشعرية، أي لم يجعل له ملَكة أصحاب قرض الشعر؛ لأنه أراد أن يقطع من نفوس المكذبين دابر أن يكون النبي (صلى الله عليه وسلم) شاعرًا، وأن يكون قرآنه شعرًا؛ ليتضح بهتانهم عند من له أدنى مُسكة من تمييز الكلام. وليس المراد نفي إنشاء الشعر عنه؛ لأن إنشاء الشعر غير تعلُّمه، فكم من راوية للأشعار ومن نقَّاد للشعر لا يستطيع قول الشعر. وكذلك كان النبي (صلى الله عليه وسلم) قد انتقد الشعر ونبَّه على بعض مزايا فيه، وفضّل بعض الشعراء على بعض، وهو مع ذلك لا يقرض الشعر، كما يقرر المفسرون قديمًا وحديثا.
لقد حسم القرآن الكريم صلة النبي الخاتم (صلى الله عليه وسلم) بالشعر إنشاءً وإنشادً وتذوقًا وتوجيهًا، فنفى الإنشاء للشعر والإبداع له عن الرسول الكريم نفيًا قاطعًا؛ تنزيهًا لشخصه العظيم، وتنزيهًا للقرآن الكريم، وحفظًا له من الظنون المشوِّهة والشكوك المشوِّشة. وينبغي ألا يُفهَم هذا النفي فهمًا خاطئًا، ويؤدي إلى نتائج منافية للفهم الصحيح، أو مُجافية للحقيقة الجلية، كما يقول الدكتور "شوقي رياض"، في كتابه "الشعر في السيرة النبوية". قال الحافظ ابن حجر: "وأما الشعر فكان نظمه محرّمًا على الرسول (عليه الصلاة والسلام) باتفاق. قال الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}"...
إن نفي إبداع الشعر عن الذات النبوية لا يعني موقفًا سلبيًّا من الشعر والشعراء؛ فالرسول الكريم كان من أفصح العرب، وقد جمعت له أسباب البلاغة وأُوتي من البيان منزلة رفيعة فكلامه يأتي بالمنزلة التالية لكلام الله عز وجل. وبذلك تضافرت لديه مقومات الذوق الرفيع، الذي يميز به جيد الكلام من رديئه، ويستشعر به جميل القول من قبيحه، والشعر من فنون القول التي استوعبت الكثير من آيات الإبداع الشعري، بل هو عند العرب الفن الرئيس الذي صبوا فيه كل طاقات فصاحتهم وبلاغتهم وإبداعهم، فليس غريبًا – إذًا - أن يكون له في نفس النبي الكريم موقع إعجاب وتأثير. ويقرر هذه الحقيقة الجليلة الخليل بن أحمد (ت 170 هـ) بقوله: "كان الشعر أحب إلى رسول الله من كثير من الكلام، ولكنه لا يتأتَّى له"... وتتوارد كثير من الروايات والأخبار والآثار التي تُبيِّن تلك العلاقة الوطيدة بين الرسول الكريم والشعر حبًّا للحسن منه، وتقديرًا له، وإقبالاً على سماعه، وتبصّرًا بالجيِّد منه وإعلانًا عمَّا فيه من قيم سامية، ورفضًا للقبيح منه، الذي فيه نزعات جاهلية مرفوضة، وتعبيرات شيطانية محاربة وغير مقبولة في المجتمع المسلم الجديد الواعد، وكذلك كان شأنه (صلى الله عليه وسلم) مع بعض النصوص النثرية.
ومن توجيه النبي (صلى الله عليه وسلم) لغرض الفخر إسلاميًّا ذلك الموقف النبوي الشريف مع النابغة الْجعْدِيِّ، حيث روي عن النابغة قال: "أتيت النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) فأنشدته قولي:
بلغنا السماء: مجدُنا وجدودنا -- وَإِنَّـا لَنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرَا
قال النبي (صلى الله عليه وسلم): أين المظهرُ يا أبا ليلى؟ قلت: الجَنَّةُ، قال: أَجَلْ إن شاء الله". فجلي أن البيت يحتمل النزعة الجاهلية في الفخر، فجاء السؤال النبوي وعظًا للشاعر ولفتًا لانتباهه حتى لا يعود إلى ماضيه في التعبير أو التفكير من كبر زائف أو فخر خيالي غير واقعي، ومن ثم جاءت إجابة الشاعر - لما أحس الغضب في السؤال النبوي - قاطعة، دالة على أنه فخر إسلامي معتدل متوجّه وجهة أخروية طيبة فيها إيمان بالغيب. ثم كان تعليق الرسول الكريم على إجابة الشاعر - بعد أن اطمأن إلى أنه حين عبّر بمجد جدوده المتطاول قد انتهى إلى التطلع في ظل الإسلام إلى ما هو أعظم - مقررًا قيمة الاعتدال، وحاثًّا على الحرص على كل ما هو أخروي. قال: "ثم قال: أَنْشِدْنِي، فأنشدتُهُ قولي:
ولاَ خَيْرَ فِي حِلْمٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ -- بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا
وَلاَ خَيْرَ فِي جَهْلٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ -- حَلِيمٌ إِذَا مَا أَوْرَدَ الأَمْرَ أَصْدَرَا
قال النبي (صلى الله عليه وسلم): أَحْسَنْتَ، لاَ يَفْضُضِ الله ُفَاكَ".
فعبارته (صلى الله عليه وسلم): "أَحْسَنْتَ"، جامعة للإحسان في جمال اللفظ وحُسْنِ سَبْكِهِ وإيقاعِهِ، وفي معناهُ البارِعِ أيضا، وهذا ما لا يخفى في هذه الأبيات التي تنضح بالبَهَاءِ الشعري على نحو لا يُدْفَع. والعبارة النبوية تدل على ارتياح إلى ما يُسمع من وحي الروح الدينية، ومن التوجيه الخلُقي الرشيد...
وهكذا نجد الرسول الكريم يقف موقفًا رائعًا من الشعر فيه إيجابية ووسطية مقبولة محمودة؛ فهو تارة لا تعجبه لفظة فيها روح الجاهلية، وتارة أخرى يشير إلى عمق فهمه لمراد الصحابي الشاعر، وتارة ثالثة يعجب بشعر الصحابي لما فيه من تحديد لخيرية الحلم ونفعيته تحديدًا ينطلق من ثوابت الإسلام، ومنطوق نصوصه. ومن ثم جاء النقد الأدبي في عصر صدر الإسلام في تربة صالحة توجه رسالة الشعر في إطار الإسلام "فالجو الإسلامي في ذراه متمثلاً في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تتفتح في أحضانه المواهب الشعرية وتتفتح بتفتحها ملكات النقد، ويقف الإسلام من وراء ذلك عاملاً أساسيًّا يستلهمه الشعراء وينهلون من نبعه الشعر الفياض، ولا يدخر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسعًا في تقويم الشعر الذي بقي فيه أثَرةٌ من عصبية أو ظلت فيه بعض الرواسب التي تضرب بجذورها للإسلام.
ثم أصبحت مواقف النبي الكريم وتوجيهاته للأدب والأدباء فيما بعد أساسًا بنى عليه كثير من الخلفاء والعلماء والمهتمين بالشعر والنقاد العرب نظرية عربية إسلامية أصيلة في ميدان النقد الأدبي، منطلقين من أن الأدب كلام، ومن الكلام حسن جميل مقبول، ومنه سيء خبيث مرذول، والتمييز بين النوعين لا يخفى على عاقل. وتزداد نظرة الإسلام إلى الشعر وضوحًا في موقف الخلفاء الراشدين من الشعر والشعراء، وهي نظرة مستمدة من الاتجاه الديني الذي وضع أسسه القرآن الكريم وطبقه الرسول (صلى الله عليه وسلم) في توجيه الأدب وتهذيبه وتقويمه.
وهكذا ينطلق الرسول (صلى الله عليه وسلم) وخلفاؤه الكرام منطلقًا إسلاميًّا واضح المعالم، بيِّن القسمات، مستمدًّا من نور القرآن وما يدعو إليه من مكارم الخلاق وجميل الخلال، فلا يعري الشريفة أو يرمي العفيفة، ويقر على نفسه بالفضيحة، ويبتعد عن الهجاء فإنه يحنق به كريمًا ويستثير به لئيمًا. والمدح كسب الوِقاح وطُعْمة السؤَّال، وافخر بمفاخر قومه، وليقل من الأمثال ما يزين به نفسه وشعره ويؤدب به غيره".
فللأدب إذًا رسالة إنسانية نبيلة تعلو به وتجعله في مصاف الكلام الطيب الذي يرفعه الله، والذي هو كالشجرة الطيبة وصدق الرسول الكريم الذي قال: "إنما الشعر كلام مؤلف، فما وافق الحق فيه فهو حسن، وما لم يوافق الحق منه فلا خير فيه". وفي رواية: "الشعر كلام، حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيحه". فلا ريب في أن الشعر طاقة فنية فعّالة، كان ديوان العرب في جاهليتهم، وسجلّ مفاخرهم ومُنتهى علمهم، به يأخذون إليه يصيرون. إنه كما قال الشاعر الجاهلي:
والشعر لب المرء يعرضه -- والقول مثل مواقع النبل
فللشعر - بفكره العميق وصياغته البديعية - فعل السحر في النفوس. وقد كان كذلك في عصر صدر الإسلام، إذ خاض - إلى جوار النثر - معركة التحدي التاريخي بين نصراء الإسلام وخُصَمائه، عندما استحرَّ الخلاف العقَدي بين الفريقين... وأخذ صوت التوحيد يتعالى على ألسنة الشعراء، وتدفق الحس القرآني، فلون نبض الإبداع الشعري بعبَق التعالي وطهارة الإلهام، وانتشر الشعر المسلم في كل بيت، حتى قال جابر بن سمرة (رضي الله عنه): "جالست النبي (صلى الله عليه وسلم) أكثر من مئة مرة، فكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون من أمر الجاهلية، وهو ساكت، فربما يبتسم معهم"، وقال عبد الله بن الزبير (رضي الله عنهما): "ما أعلم رجلان من المهاجرين إلا قد سمعته يترنم"، وقال أنس (رضي الله عنه): "كنا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وما بالمدينة بيت إلا يقول الشعر"، وقالت عائشة (رضي الله عنها) لعروة: "الشعر منه حسن، ومنه قبيح، خذ بالحسن ودع القبيح. ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعارًا، منها القصيدة، منها أربعون بيتًا، ودون ذلك".
وروى الإمام البخاري قال: "حدثنا إسحق قال: حدثنا محمد بن الفُضَيْل عن الوليد بن جميع عن أبي سلمة بن عبد الرحمان، قال: لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مُنْحَرِفِينَ ولا مُتَمَاوِتِينَ، وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، ويذكرون أَمْرَ جاهليتهم، فإذا أُرِيدَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الله دَارَتْ حَمَالِيقُ عَيْنَيْهِ كَأَنَّهُ مَجْنُونٌ".
وروى الإمام الترمذي قال: "حدثنا علي بن حُجْرٍ، أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ، عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة (رضي الله عنه) قال: جالست رسول الله (صلى الله عليه و سلم) أكثر من مائة مرة، وكان أصحابه يتناشدون الشعرَ ويتذاكرون أشياء مِنْ أَمْرِ الجاهلية، وهو ساكِتٌ، وربما تَبَسَّمَ مَعَهُم"، فهذه المجالس تضم أكمل الخلق، محمدًا (صلى الله عليه وسلم)، و أَفْضَلَ ما في هذه الأمّة، صحابته رضي الله عنهم، وهم أعلم الناس بكلام العرب، وبالضوابط الشرعية التي عَلَّمَهُمْ إياها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وبالتالي فَلُغَةُ المجلس أَنْظَفُ لغة وأصفاها وأضبطُها، و مع ذلك، فهم يتكلمون في أمر الجاهلية ويتناشدون أشعارها ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتابع بحرص المعلم الأمين ما يَتَفَوَّهُ به أصحابه، لأن أقوالهم وأفعالهم في حضرته (صلى الله عليه وسلم) تشريعٌ لِمَنْ بَعْدَهُمْ في هذه الأمة، وربما يعجبه (صلى الله عليه وسلم) هذا البيت، أو تلك الحادثة، فيتبسم (صلى الله عليه وسلم)؛ إنه حقاًّ لفرقٌ كبير بين هذا المجلس الزَّكِيِّ الطاهر، وبين مجالس اللهو والقَصْفِ والخلاعة التي تُتَنَاشَدُ فيها الأشعارُ الجاهلية وأحاديثُها بما فيها من فِسْقٍ ومجون، وبالتالي شَتَّانَ بين شعر جاهلي يُنْشَدُ في ذلك المجلس الطاهر، وبين هذا الذي يُنشد في هذا المجلس الفاجر.
يقول سيدنا عمر (رضي الله عنه): "خير صناعات العرب أبيات يقدمها الرجل بين يدي حاجته، يستميل بها الكريم، ويستعطف بها اللئيم"، ويقول سيدنا عمر (رضي الله عنه) لأبي موسى الأشعري: "مُرْ مَن قبلك بتعلم الشعر؛ فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب".
وهذا يجسد بوضوح ذلك البعد الإنساني العميق في النظرة النبوية الشريفة إلى الشعر، فهي تأخذ من الإبداع الجاهلي ما يعبّر عن الإنسان البريء، الناطق بالحكمة المعبّرة عن مشاعر الإنسان وخَلَجَاتِهِ بما هو إنسان، و ليس بالكلام البذيء الذي يحط من هذه الإنسانية ذاتها إلى مدارك الحيوان الْمُمَجِّدِ للشُّذُوذِ واللَّذَّةِ والْخَطِيئَةِ، أو التي تقدس الحجر فَتَعْبُدُه من دون الله عز وجل؛ و كأني بمجلس رسول الله (صلى الله عليه و سلم) وهو يقوم بعملية التصفية للإرث الشعري العربي، فيأخذ منه ما يتلاءم مع الشعور الإنساني النبيل وذوقه الفطري السليم، وينبذ ما يتعارض مع دينه وإنسانيته، وهذا ما يحيل عليه قول جابر بن سمرة (رضي الله عنه): "فإذا أُرِيدَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الله دَارَتْ حَمَالِيقُ عَيْنَيْهِ كَأَنَّهُ مَجْنُونٌ"، فكل ما يتعارض مع دين المسلم أو يطعن فيه من إبداع مهما كانت طبيعته، يظل إبداعًا مرفوضًا، حتى و إن صدر عمّن يدّعي بأنه مسلم فضلا عن سواه، لأن ما يعارض الدين الإسلامي، يعارض بالضرورة الفطرة الإنسانية.
فالإبداع العربي قبل الإسلام هو إنتاج إنساني، فيه الغَثُّ والسمين والطَّيِّبُ والرديء، فليس من العدل أن يقاس كله بمقياس واحد، وأن يُهْمَلَ كلُّه بحجة أن قائله ليس بمسلم، لا، لأن عظمة الإسلام تكمن في تهذيب الإنسان وإصلاحه وتكريمه، وليس في هدمه وتحطيمه، وأولى هذه الجوانب استدعاءً لهذا الإصلاح وذاك التهذيب، بعد تصحيح عقيدته وتنقيتها، هو فكره و ثقافته، فما كان من إبداعه فطريا وإنسانيا لا يصادم الحق ولا يضاد العقيدة الإسلامية، وَجَبَ احتضانه وتزكيته مهما كان قائله، لأنه أَوَّلاً وقبل كل شيء هو إنسان له أحاسيسه وعواطفه التي أودعها الله عز وجل فيه، ليعبّر بها عن فطرته وإنسانيته في إبداع يُؤْخَذُ منه ويُتْرَكُ، ويُقْبَلُ منه و يُرَدُّ، وهذا هو هَدْيُ محمد (صلى الله عليه وسلم)، وهَدْيُ صحابته رضي الله عنهم، وهَدْيُ من تبعهم بإحسان.
فما أجمل أن نوظّف الأدب شعرًا ونثرًا في تربية الأجيال القادمة تربية هادية بانية نافعة واقية، بدل هذا الغثاء الشيطاني الذي يُقدّم لهم وإن شئت قل: يُفرض عليهم فرضًا، ويُدسّ لهم من خلاله كل سمّ وكل زيف وكل ضلال وكل إضلال! وما تاهت أجيال العرب خلال هذا العصر الحديث البائس إلا من خلال النصوص الأدبية المنحطة الهابطة الداعرة في فنون القصة القصيرة والرواية والمسرحية، والأغنية الشعبية والشوارعية! وعبر توظيفها في الدراما مسرحيًّا وسينمائيًّا وتلفازيًّا وإذاعيا!

