2025.10.13
\

"ماري شيلي" وإحياء الموتى.. صدفة أم مفاجأة أدبية؟


"الصُّدفة تُهَيَّأ للأذهان المستعدّة" (باستير).

قد يتجلَّى لنا من الوهلة الأُولى أنَّ الصُّدفة والحظّ هما مضمار هذه الحياة. ولكن لو نظرنا بعينِ العقل لاكتشفنا أنَّ ذلك وهم خدعنا بِهِ أنفسنا.

لنقل أنَّ الحياة قد أعارتنا من خزانتها قميص "فرص" كعربون أو هديَّة لنكمل السَّير حفاة خلف ما نسعى إليه. لقد حاول باستير تفسير الصُّدفة بأنَّها تُهَيّأ للفرد صاحب الذهن المستعدّ، وكأنَّهُ بذلك يخبرنا أنَّ هناك دائمًا ما يدفعنا لاستغلال تلك الفرص، كخلفية تراكميَّة مثلا.

لكن هذا الـ "قميص" لن يدومَ العمر، فأكمامه ستصبحُ قصيرة، أو ربَّما يضيقُ على جسدِ صاحبهِ، فَيُرمى وكأنَّهُ لم يكن! لا بدَّ من السَّعي، فالحياة ليست طبقًا من فضَّة، والحظُّ ليس سيِّد المواقف دائمًا، سوف يتلاشى الحلم ونبقى عراةً في دربِ أمنياتنا. لا يوجد ماردٌ في السَّماءِ، والغيمُ لا يمطرُ صدفًا جميلةً. الإنسان محمَّلٌ بالسَّعي!

صحيحٌ أنّ بعض الفرص تأتي جميلة خالية من الانتظار كمال قال -محمود درويش - وكأنَّها "نقرة فوق الأنفِ" مُلفتةٌ، إلاَّ أنَّ علاء الدين وماردهُ ما هما إلَّا أسطورة.

دائمًا ما أقول: "بعض النُّصوص تكتبنا.. لا نكتبها"، تمسكُ بقلمنا وتسكب الحبر كيفما تشاء، تحرّكنا وتلهو بنا كما يحلو لها حتَّى تكتمل الصّورة فيأتي النَّص عكس المخطَّط، وربَّما عكس الفكرة تمامًا. هنا تأتي المفاجآت الأدبية بمعانيها السحريَّة لتقلبَ الطَّاولة رأسًا على عقِب! ومهارةُ الكاتب هنا عندما يصوّر النَّص بفطرتِهِ للقارئ من دونِ العبثِ بحنكتِهِ.

أُؤمن بأنَّ تلك المفاجآت الأدبيَّة أجمل وأكثر براعة من الصُّدف، فهي حوار خلاّق يبني نفسه بين الوعي واللاَّوعي والكاتب الحقيقي هو الذي يحرّر تلك المفاجآت للوحة فنِّية تذهلُ عين القارئ!

وبعيدًا عن الثّرثرةِ حول الصُّدفة العمياء، فقد كتب أشهر الكتّاب قصصهم عن طريق هذه المفاجآت فالكاتبة الإنجليزية "ماري شيلي" (1797 - 1851) مثلاً التي أصبحت فيما بعد واحدة من أشهر الكُّتاب في الخيال العلمي، ولدت فكرتها من كابوسٍ رأتُه في منامها أن "رجلاً يحاول إحياء الموتى بطريقة سحريّة.."، ولولا المؤهلات والحنكة الأدبيَّة، لمات ذلك الكابوس في ذاكرتها ولم يولد قصّة شهيرة في المكتبةِ الأدبيّة، وغيرها الكثير مثل الكاتب الأرجنتيني "خورخي لويس بورخيس" (1899 - 1986) وولعِهِ المفرط بالفهارس والأفكار الفلسفيّة الذي قدّم للعالم كتاب "مكتبة بابل"، لم يكن ذلك مجرّد صدفة بل تحوّل حدث فجأة  أثناء إعداد لهيكل الرّواية، ليقدّم لا بحذاء السّردية التقليديّة إنَّما بخضوعه للفكرة التي قدمت الفهرس كمكتبة كونية تضمّ التّناقض، المعرفة والجنون.

لحظة السّحر عندما يدير الكاتب الدَّفة باتجاهِ لعبته الأدبية وليس الاستسلام للأفكار الَّتي تولد محض صدفة.

للصُّدفِ أثوابٌ كثيرة تغرينا بها، مفاجآت، ضربةُ حظ، فرصة... لكنَّها ما هي إلّا ملوّثات عقول لتبعدنا عن طريقِ العمل وترمي بنا نحو الكسلِ وخمول الفِكر.. هي تحرّك سكّة القطار كما تشاء إلى أن نبتعدَ عن الهدفِ الحقيقيّ وننتظر الصُّدف، المعجزات وأمنيات تتساقط مع المطر.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار