الإنسان ليس جسدا فحسب، كما إنه ليس روحا فقط، وإنما هو معادلة بين الروح والجسد، في توازن يكفل استقامة الحياة وسعادة الإنسان، وفي عصرنا الراهن تكاد نزوات الجسد أن تطغى على كل شؤون الروح، والله يعلم ما الذي ستكون عليه أحوال أجيالنا خلال العقود القادمة، إذا استمر الوضع على ما هو عليه من طغيان الحياة المادية وإهمال الجوانب الروحية.
وإذا تأمّلنا في واقعنا الراهن، نرى مظاهر عدم الاتزان الشخصي وعدم التحكم في الانفعالات في المعاملات بين الناس أو حتى في الجوانب العاطفية والوجدانية، وافتقاد مجتمعاتنا إلى تقاليد الصراحة والوضوح وانتشار مظاهر سلوكية غريبة..
ومن هذا المنظور، فإننا نعتقد بأنَّ التربية النفسية صارت أمرًا ضروريًّا في تنشئة الأجيال، حفاظا على توازنها واستقامتها وضمانا لحياة سويّة مستقرة تُوازن بين المادة والروح، بين حاجات الجسم وضرورات النفس.
ومما لا شك فيه أن هذه التربية المتوازنة لها جذور وتاريخ في ثقافتنا العربية والشعبية، ولأنَّ الأدب يلامس ويتقاطع مع علوم إنسانية واجتماعية عديدة، فإننا نعتقد أنه من الواجب استثمار الأدب في التربية النفسية للأجيال، مثله مثل سائر العلوم والفنون القديمة والمستحدثة على السواء كالرسم والنحت والتصوير والموسيقى والغناء وغيرها.
وعلى الكاتب والشاعر والمُبدع أن يكون على معرفة بأصول التربية النفسية، حتى يكون لأدبه الأثر المرجو في هذه التربية المتوازنة لمَن يتعاطون هذا الأدب شعرًا كان أم نثرًا، لأننا نستشعر أخطارًا محدقة بالأجيال الصاعدة ولها تأثير كبير على بيئتهم النفسية والاجتماعية.
كما نرى ضرورة استعداد المجتمعات العربية وقادة الرأي فيها، من مؤسّسات وأفراد لإيجاد طُرق لاستباق "الكوارث" التي قد تلحق بمجتمعاتنا وأجيالنا، في عصر العولمة الثقافية والفكرية، ومحاولة فرض الأنموذج الغربي على مجتمعاتنا في التنشئة الاجتماعية، كما نرى ضرورة الاهتمام بالتربية النفسية للنشء، ومعرفة سبل اكتسابها، وعلاقتها بالأدب.
فالتربية النفسية ليست ترفًا فكريًّا ولا مسألة هامشية، بل هي عملية عميقة تهدف إلى بناء الإنسان من الداخل، وتحقيق التوازن بين روحه وجسده، وضبط انفعالاته، وتطوير شخصيته، ليعيش حياة متوازنة قوامها الأخلاق والوعي الذاتي.
وفي عصرنا الراهن، أصبحت التربية النفسية ضرورة ملحّة في ظل الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي يواجهها الفرد والمجتمع.
مفهوم التربية النفسية وأهميتها
التربية النفسية هي عملية شاملة تهدف إلى تزكية النفس، وتنمية القدرات العقلية والعاطفية، وتحقيق التوازن بين متطلبات الجسد واحتياجات الروح. وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية تزكية النفس في قوله تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" (الشمس، الآية: 9 – 10). وهذا يؤكد أنَّ نجاح الإنسان وفلاحه مرتبط بقدرته على تزكية نفسه وضبط شهواته وانفعالاته. وفي السنة النبوية، نجد حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم): "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"، وهذا الحديث يؤكد على أهمية التحكم في الانفعالات، وهو أحد أهداف التربية النفسية.
وهناك آيات قرآنية كثيرة تتناول مسألة التوازن بين متطلبات الجسد وتزكية النفس وتطهيرها، ولعل في حديث النفر الذين سألوا عن عبادة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فلما أخبروا بها، كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال: أما أنا فأقوم الليل ولا أنام، وقال الثاني وأما أنا فأصوم النهار ولا أفطر، وقال الثالث وأنا لا أتزوج النساء. فلما علم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لهم: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما إني أتقاكم لله وأخشاكم له، ولكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس مني.
وهذه التوجيهات النبوية وغيرها كثير تؤكد على أهمية التوازن بين مطالب الجسم والروح وعدم تغليب أحدهما على الآخر، فلا رهبانية في الإسلام، وقديما قيل: وراء كل راهبة قصة.
أهمية التربية النفسية
تتبدّى أهمية التربية النفسية في الجوانب الآتية:
1. الحد من الاضطرابات النفسية والاجتماعية.
2. بناء شخصيات متوازنة قادرة على مواجهة التحديات.
3. تعزيز القيم الأخلاقية والسلوكية في المجتمع.
سُبل اكتساب التربية النفسية
اكتساب التربية النفسية عملية متدرّجة تحتاج إلى وعي وجهد وممارسة مستمرة، ومن أهم سبلها:
1. المصادر الدينية:
- القرآن الكريم والسنة النبوية هما الأساس في تزكية النفس، وقد قال تعالى: "وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران: 134).
- الممارسات التعبديّة كالصلاة والصوم والزكاة والحج تُعلّم الإنسان الصبر والانضباط وضبط النفس، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصوم جُنّة من اللغو والرفث، والزكاة تطهير للمال وتزكية للنفس من الشح والبخل، والحج غسل للنفس من أدرانها فمَن حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
2. التربية الأسرية:
- تبدأ التربية النفسية من الأسرة عبر غرس القيم منذ الصغر، فالتعليم في الصغر كالنقش في الحجر، وفي الحديث النبوي الشريف: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه. والفطرة هنا تعني الإسلام.
كما يقول الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا -- على ما كان عوده أبوه
- تشجيع الحوار والتواصل الإيجابي بين أفراد العائلة، لأنَّ التسلّط وفرض الرأي والقهر وعدم الحوار ينتج شخصيات مريضة نفسيًّا وغير قادرة على المشاركة في بناء المجتمع والإسهام في تطوره وتقدمه سياسيا واجتماعيا ونفسيا.
3. التربية الذاتية:
- محاسبة النفس بشكل دوري، وقد ورد في الأثر: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزَن عليكم. فمحاسبة النفس مدعاة لتصحيح الأخطاء أولا بأول، وإحداث التوازن بين الجسم والروح من جهة وبين الإنسان ومجتمعه من جهة أخرى.
- التأمل ومراجعة المشاعر والانفعالات، مما يؤثر في النفس، ويدعو إلى تصحيح الأخطاء بضبط المشاعر والانفعالات في تعاملات الإنسان مع نفسه وأقاربه وأصدقائه وزملائه وأبناء مجتمعه بل وأبناء المجتمعات الأخرى الذين قد يتعامل معهم، فيكون صورة مشرفة ومرآة صادقة لنفسه ولدينه ولمجتمعه، فكل إناء بالذي فيه ينضح.
4. المدرسة والمجتمع:
- المدارس بيئة مهمّة لتعليم مهارات الحياة والذكاء العاطفي، فهي الحاضنة التربوية الثانية بعد الأسرة ومنها يتعلم النشء كيفية السلوك السوي في المجتمع ومع الأقران والأساتذة، كما يتعلم مبادئ الحياة ومهاراتها كالتعاون والإيثار وحب الوطن والتضحية في سبيله وعدم الأنانية والرياضة وحب الأدب والفنون والعلوم وكيفية التعامل مع الآخرين وغير ذلك مما يسهم في إحداث التوازن في حياة الصغار بين مطالب الروح والبدن.
- توفير برامج إرشاد نفسي للطلاب، لمعالجة أوجه القصور التي تنتج عن جهل الآباء أو انشغالهم عن أبنائهم أو التفكك الأسري نتيجة انفصال الوالدين وغير ذلك مما يؤثر على نفسية الأبناء وعلى سلوكهم في المجتمع، ومن هنا كان هناك أخصائي اجتماعي وأخصائي نفسي في كل مدرسة بل وفي كل كلية ومعهد تعليمي لتقويم سلوك الطلاب وتوجيههم ليكونوا لبنات صالحة في بناء المجتمع.
5. الأدب والفن:
- الأدب يعكس النفس البشرية ويساعد في فهمها، فالأدب هو مرآة المجتمع التي تعكس أمراضه وعيوبه وتحاول أن تعالجها وتضع لها الحلول الناجعة.
- قراءة الروايات والقصص والشعر ينمِّي التعاطف والقدرة على التأمل، ويرهف الحس ويهذّب الذوق بحيث يكون الإنسان مثقفا يتعاطف مع النماذج البشرية المهضومة الحق، ويقف في وجه الظلم في المجتمع ويصحح المفاهيم المغلوطة ويعالج الآفات التي خلفتها عصور الجهل والتخلف وسيطرت عليها الأعراف الفاسدة والتقاليد البائدة، بدلا من القيم الدينية السمحة والمبادئ القويمة، وكأننا عدنا إلى جاهلية القرون الأولى، ومن أمثلة ذلك موضوع الأخذ بالثأر وهو من العادات المتأصلة في صعيد مصر حتى اليوم وإن خفت حدّتها بعض الشيء مع انتشار التعليم وسيطرة الدولة وتطور العادات. وكذلك قضية ظلم المرأة وهضم حقها في الميراث، فهي من العادات الذميمة التي تخالف الشرع الحنيف.
علاقة الأدب بالتربية النفسية
الأدب هو مرآة النفس الإنسانية، وهو أحد الوسائل الفعّالة في التربية النفسية، حيث يتيح للإنسان فهم مشاعره ومشاعر الآخرين.
الأدب كأداة للتعبير عن النفس
يُعدُّ الشعر مرآة النفس الإنسانية، وصوت الضمير الجمعي للأمّة، وأداة من أقدم أدوات التهذيب والتوجيه، فمنذ أن نطق العربي بالشعر في الجاهلية، كان شعره تعبيرًا عن القيم التي تشكّل وعيه ووجدانه، وكان وسيلةً لتربية النفس على مكارم الأخلاق، وتغذية الروح بالمعاني السامية، وظل الشعر في كل عصر ينهض بهذا الدور التربوي والنفسي، حتى أصبح أحد أعمدة الأدب الأخلاقي في التراث العربي.
الشعر في العصر الجاهلي: مدرسة الفضائل والقيم
لم يكن الشعر الجاهلي مجرّد وصفٍ للخيل أو المديح أو الفخر، بل كان منبرًا للفضيلة والقيم، فقد دعا إلى الكرم، والشجاعة، والوفاء، والعفة، وصيانة العرض، واحترام العهود. وكان الشاعر يمثل ضمير القبيلة ومربيها، يمدح المحسن ويهجو المسيء، وبذلك يهذب السلوك العام.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك قول حاتم الطائي في الكرم، وعنترة بن شداد في الشجاعة والعفة، وزهير بن أبي سلمى في الحكم والعقل حيث يقول:
ومَنْ لا يَذُدْ عن حوضِه بسلاحِه -- يُهدَّمْ، ومَنْ لا يَظلمِ الناسَ يُظلَمِ
فقد دعا زهير إلى التوازن بين العدل والقوة، موجهًا النفوس إلى الحكمة في السلوك، وهو نوع من التهذيب النفسي والاجتماعي.
صدر الإسلام.. الشعر في خدمة الإيمان والأخلاق
فمع بزوغ الإسلام، انتقل الشعر من ميدان القبيلة إلى ميدان العقيدة والإنسانية، فقد أصبح وسيلة للدفاع عن القيم الإسلامية، ومساندة الدعوة إلى الخير والإصلاح.
قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "إنَّ من الشعر حكمة" (رواه البخاري). فقد كان الشعر عند المسلمين وسيلة لتربية النفس على الصبر والتقوى، وحبّ العمل الصالح. ومن شعراء تلك المرحلة "حسان بن ثابت" الذي جعل شعره سلاحًا للدفاع عن الرسول والدين، فغرس في النفوس معاني الإيمان والكرامة والعزة، وكذلك كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وغيرهم.
العصر الأموي والعباسي: الشعر بين الحكمة والتهذيب
وفي العصرين الأموي والعباسي، اتّسعت آفاق الشعر لتشمل موضوعات الزهد، والحكمة، والموعظة، والفكر، فظهر شعراء جعلوا من الشعر منبرًا للتأمل في النفس والوجود، أمثال أبي العتاهية والحسن البصري وأبي تمام والمتنبي.
قال أبو العتاهية في الزهد:
لا تأمن الموتَ في طرفٍ ولا نفسٍ -- وإنْ تمنَّعت بالحُجّابِ والحــــــرسِ
فهنا يربّي الشاعر النفس على التواضع، ويذكرها بفناء الدنيا.
أما المتنبي فقد غرس في النفوس الاعتداد بالذات والسعي إلى المجد، فقال:
وإذا كانتِ النفـــوسُ كبارًا -- تعبتْ في مُـرادِها الأجسامُ
وقال أيضا:
ولم أر في عيوب الناس عيبا -- كنقص القادرين على التمـــام
فكان شعره مدرسة في الإرادة والطموح وعلوِّ الهمة.
في العصور المتأخرة والنهضة الحديثة: الشعر التربوي والوطني
وفي العصور المملوكية والعثمانية، ظل الشعر وسيلةً للحفاظ على الأخلاق والقيم رغم ضعف اللغة والسياسة، ثم جاء عصر النهضة، فنهض الشعر برسالة جديدة، تمزج بين تهذيب النفس وبعث الأمة.
فالشعراء أمثال محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وإيليا أبو ماضي وحافظ إبراهيم أعادوا للشعر دوره التربوي والإنساني.
قال شوقي في تربية النفس:
وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ -- فإن همُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا
وهنا يربط الشاعر بين الفضيلة وبقاء الأمة، مؤكدًا أنَّ تهذيب النفوس هو أساس النهضة والخلود.
الشعر في العصر الحديث والمعاصر: تهذيب بالوعي والوجدان
وفي القرن العشرين وما بعده، أصبح الشعر وسيلةً للتهذيب الوجداني والفكري معًا، فدخلت إليه قيم إنسانية كالسلام، والحرية، والعدالة، والتسامح.
نجد في شعر إبراهيم ناجي ومحمود غنيم ومحمود درويش وغيرهم دعوات إلى تأمّل الذات، وتزكية الروح، والارتقاء بالإنسان نحو الوعي. فقد غدا الشعر في هذا العصر تربية فكرية ونفسية معًا، تزرع في النفس حبّ الجمال، وإدراك عمق الوجود، ومقاومة القبح والظلم.
أثر الشعر في تهذيب النفوس وغرس الفضائل
1. غرس القيم الأخلاقية: كالصدق، والكرم، والوفاء، والشجاعة، والتواضع.
2. تربية الوجدان: بإيقاظ الحسِّ الجمالي، وتنمية المشاعر النبيلة.
3. التزكية النفسية: بتطهير القلب من الأحقاد والأنانية.
4. الإصلاح الاجتماعي: بتصوير المظالم والحثِّ على العدل.
5. تحفيز الإرادة: ببثِّ روح الإصرار والأمل والمقاومة.
6. التذكير بالمآل: من خلال الزهد والتأمل في الموت والحياة والجزاء.
فلقد كان الشعر العربي منذ الجاهلية وحتى اليوم ضمير الأمّة ومربّيها. لم يكن ترفًا لغويًّا، بل أداة إصلاح وتهذيب وبناء للإنسان. وإذا كانت النفوس تُصاغ بالكلمة، فإنَّ الشعر هو أرقى تلك الكلمات، لأنه يخاطب الوجدان والعقل معًا، ويغرس في النفس معاني الخير والحق والجمال.
القصة والرواية
لا شك أنَّ القصة تساعد القارئ على استكشاف شخصيات متنوعة وصراعات نفسية مختلفة، مما يعزز قدرته على فهم ذاته والآخرين.
دور القصة والرواية في غرس القيم النبيلة وتهذيب النفوس
تُعدّ القصة والرواية من أعرق فنون الأدب الإنساني وأقواها تأثيرًا في وجدان المتلقي، إذ تخاطبان العاطفة والعقل معًا، وتقدمان القيم والمبادئ في ثوب فني شيق يجعل من التوجيه الأخلاقي تجربة وجدانية ممتعة، فالأدب القصصي ليس مجرد تسلية، بل هو وسيلة من وسائل التربية الفكرية والنفسية والاجتماعية، يسهم في تهذيب النفوس وغرس الفضائل، على نحو ما فعل القصص القرآني والنبوي، وما واصلته الرواية العربية المعاصرة بأساليبها الحديثة.
القصة في القرآن الكريم والتربية الأخلاقية
جاء القصص في القرآن الكريم لتربية الإنسان على الإيمان والفضيلة، لا لمجرد السرد أو التسلية. فقد عرض الله تعالى قصص الأنبياء والأمم السابقة للعبرة والعظة، قال تعالى: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ" (يوسف: 111).
ومن أبرز الأمثلة قصة يوسف (عليه السلام) التي تمثل مدرسة في الطُّهر والعفّة والصبر والعفو. فقد عرضت القصةُ فتنَ الشهوة والظلم والسجن، ثم أظهرت انتصار القيم على الأهواء، حين قال يوسف (عليه السلام): "مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ" (يوسف، الآية: 23)، فكانت أنموذجًا رفيعًا للعفة ومقاومة الإغراء.
وكذلك قصة موسى (عليه السلام) التي تُعلّم الشجاعة والثقة بالله في مواجهة الطغيان، وقصة لقمان الحكيم التي تجسد الحكمة والأدب مع الله والوالدين والناس. وبهذا، أسّس القصص القرآني قاعدة تربوية متينة تجعل من السرد وسيلة للتهذيب النفسي وتزكية الروح.
القصة النبوية وغرس القيم العملية
اقتدى النبي (صلى الله عليه وسلم) بالمنهج القرآني في التربية بالقصة، فكان يروي لأصحابه قصصًا موجزة ذات دلالات عميقة. من ذلك قصة الرجل الذي سقى كلبًا فغفر الله له، وهي درس في الرحمة والعطاء الإنساني. وكذلك قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فكانت مثالاً للصدق في العمل والإخلاص في الدعاء والبر بالوالدين. وبهذه القصص الموجزة رسَّخ الرسول (صلى الله عليه وسلم) في نفوس أصحابه معاني الإخلاص والتوبة والرحمة والوفاء، فأصبحت القصة وسيلة تربوية عملية تُخاطب القلب والعقل معًا.
القصة والرواية في الأدب العربي الحديث
مع تطور الأدب العربي في العصر الحديث، أصبحت الرواية مرآة المجتمع ووسيلة فاعلة لغرس القيم والنهوض بالوعي، فقد استخدم كبار الروائيين القصة لتصوير الصراع بين الفضيلة والرذيلة، والعدل والظلم، والعلم والجهل. فنجد "طه حسين: في روايته "الأيام" يقدم أنموذجًا لمعاناة الإنسان في سبيل العلم والنور، داعيًا إلى الصبر والمثابرة. ويبرز "نجيب محفوظ" في رواياته مثل "اللص والكلاب" و"بين القصرين" صورة الإنسان الذي يتأرجح بين القيم والغرائز، ليخلص القارئ إلى ضرورة التمسك بالمبادئ رغم التحولات الاجتماعية. أما "عبد الحميد جودة السحار" في روايته "أم العروسة"، فقد صوَّر دفء الأسرة المصرية وتماسكها، مُبرزًا قيم التعاون والتضحية.
وفي روايات "غسان كنفاني" مثل "رجال في الشمس"، نرى تجسيدًا لقيمة الكرامة ورفض الاستسلام، بينما تبرز روايات الطاهر وطار وعبد الرحمن منيف قيم الحرية والعدالة والصدق الفني في مواجهة الظلم.
الوظيفة النفسية والجمالية للقصة
تتجاوز القصة وظيفتها التعليمية إلى وظيفة نفسية عميقة، إذ تُسهم في تطهير النفس (التطهير الأرسطي)، وتحرير العواطف المكبوتة، وتقديم القدوة الحسنة، فحين يتماهى القارئ مع بطل الرواية الصالح أو المصلح، تتولد لديه رغبة في الاقتداء به، وحين يرى عاقبة الشر والفساد، يتجنبها طوعًا. وبهذا، تصبح القصة علاجًا للنفس ووسيلةً لبناء الضمير الجمعي للمجتمع، تجمع بين اللذة الفنية والفائدة الأخلاقية.
إنَّ القصة والرواية، منذ القصص القرآني والنبوي حتى الأدب المعاصر، كانت ولا تزال من أنبل وسائل التربية الإنسانية، فهي تُهذّب النفس، وتزرع في الإنسان قيم الصدق والعدل والصبر والرحمة، وإذا أحسن الكاتب استخدام هذا الفن بما يوافق قيم الحق والخير والجمال، تحولتْ الكلمة إلى طاقة روحية ترفع الإنسان إلى مدارج الكمال، وتجعل من الأدب رسالة للإصلاح والبناء.
الأدب الصوفي
- يركّز على تزكية النفس والسمو الروحي، مثل أشعار ابن الفارض وجلال الدين الرومي.
يُعَدُّ الأدب الصوفي من أرقى ألوان التعبير الإنساني التي سعت إلى تهذيب النفس، ورفعها من عالم الحسِّ إلى عالم الروح، تحقيقًا للتوازن الذي دعا إليه الإسلام بين الجسد والروح، فالإسلام لا ينكر الجسد ولا يُهمل الروح، بل يجعل لكلٍّ حقَّه، كما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): "إنَّ لِرَبِّكَ عليك حقًّا، ولِنَفْسِكَ عليك حقًّا، ولأَهْلِكَ عليك حقًّا، فأعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّه"، فكان الأدب الصوفي صوتًا حيًّا لهذه الفلسفة الوسطية التي تجمع بين الزهد والعمارة، بين العبادة والعمل.
مفهوم الأدب الصوفي: الأدب الصوفي هو نتاج التجربة الروحية التي يعيشها الصوفي في سعيه نحو معرفة الله، فيتحوّل الوجدان إلى كلمات، والمعرفة إلى شعرٍ أو نثرٍ مشبعٍ بالرموز والدلالات الروحية. وقد عبّر المتصوّفة عن مشاعرهم بلغة المحبة والعشق الإلهي، كما نجد عند الحلاج وابن الفارض وابن عربي وجلال الدين الرومي وغيرهم.
دوره في الارتقاء بالنفس الإنسانية: يهدف الأدب الصوفي إلى تطهير النفس من أدران الشهوة والأنانية، ودعوتها إلى السموّ بالحبّ الإلهي، فالإنسان في التصوُّف لا يُخلَق للغرائز فحسب، بل خُلق ليكون خليفة الله في الأرض. ومن هنا جاءت رمزية العشق الإلهي في الشعر الصوفي لتعبّر عن الاتحاد بالمطلق لا بالمعنى المادي، بل بالمعنى الروحي الذي يُذيب الأنا في محبة الله.
يقول ابن الفارض في تائيّته الكبرى:
زدني بفــــــرطِ الحبِّ فيكَ تحيُّرًا -- وارحمْ حشىً بلظى هواكَ تسعَّرا
فهو يطلب من الله مزيدًا من الحبّ الذي يطهّر النفس من التعلّق بالدنيا، ويقرّبها من النور الإلهي.
تحقيق التوازن بين الروح والجسد: الأدب الصوفي لا يدعو إلى إهمال الجسد أو احتقاره، بل إلى تزكيته ليكون وسيلة لا غاية، فالمتصوف يروِّض الجسد بالصوم والذكر، ويغذّي الروح بالتأمل والعبادة، وهنا يتحقّق التوازن الذي أكّد عليه الإسلام، إذ إنَّ الروح بدون جسد لا تعمّر الأرض، والجسد بلا روح آلة خاوية. يقول جلال الدين الرومي في ديوانه:
لستُ من الطينِ، بل من روحِكَ يا ربِّ -- فكيفَ أُقيمُ في سجـــــنِ الجسدِ طويلاً؟
فهو لا يُنكر الجسد، لكنه يرى أنه ممرّ نحو النور، لا موطن إقامة.
أثر الأدب الصوفي في المجتمع الإسلامي: كان الأدب الصوفي مدرسة في الأخلاق والرحمة والتسامح، فقد علَّم الناس محبة الله والخلق جميعًا، ووجّههم إلى الزهد بلا انطواء، والعبادة بلا عزلة، وانتشرتْ أشعاره ونثره في الزوايا والطرق، تذكِّر الناس بالحق، وتواسي المهموم، وتدعو إلى الصفاء الداخلي.
وقد تأثر بالأدب الصوفي كثير من الأدباء والمفكرين، مثل الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين"، وابن عربي في "الفتوحات المكية" و"ترجمان الأشواق"، حيث امتزج الفكر بالعاطفة، والعلم بالذوق.
إن الأدب الصوفي لم يكن مجرّد كلماتٍ عن الحبّ الإلهي، بل كان منهج حياة يسعى إلى بناء الإنسان المتوازن روحًا وجسدًا، مؤمنًا بأنَّ السَّعادة الحقيقية تكمن في صفاء القلب لا في متاع الدنيا، وهكذا أسهم التَّصوُّف الأدبي في الارتقاء بالنفس الإنسانية، وفي تحقيق الانسجام بين عالم المادة وعالم الروح كما أراد الإسلام.
فالأدب، بجميع أشكاله، يسهم في غرس القيم، ويقدّم نماذج للتعامل مع الانفعالات والصراعات النفسية.
الأخطار المحدقة بالأجيال المعاصرة
تواجه الأجيال الصاعدة تحديات نفسية كبيرة، منها:
1. التأثير السلبي لمواقع التواصل الاجتماعي، مثل التنمّر الإلكتروني وضغوط المقارنة.
2. الصراع بين القيم التقليدية والحديثة، مما يؤدي إلى فقدان الهوية.
3. ضعف الروابط الأسريّة وقلّة الحوار داخل الأسرة.
4. قلة الوعي بالصحة النفسية وعدم توفر الدعم الكافي.
هذه الأخطار تستدعي برامج تربوية متخصصة لحماية الشباب وتنمية وعيهم النفسي.
استباق الكوارث النفسية
لمواجهة التحديات النفسية، نحتاج إلى استراتيجيات استباقية، منها:
1. إدخال التربية النفسية في المناهج الدراسية.
2. تدريب المعلمين والأسر على مهارات الدعم النفسي.
3. تعزيز القراءة الأدبية التي تبني الوعي النفسي.
4. إنشاء مراكز استشارية نفسية متاحة للجميع.
5. نشر ثقافة الصحة النفسية عبر الإعلام والمؤسسات الثقافية.
هذه الإجراءات تسهم في بناء جيل متوازن قادر على مواجهة الحياة بثقة وإيجابية، فالتربية النفسية هي الركيزة الأساسية لبناء الإنسان والمجتمع.
ومن خلال القرآن الكريم والسنة النبوية، والأدب بأشكاله المختلفة، نستطيع غرس القيم النفسية السليمة في الأجيال.
إنَّ الاستثمار في التربية النفسية ليس ترفًا، بل هو ضرورة لحماية الفرد والمجتمع من التفكك والاضطرابات.
وبهذا تتضح العلاقة الوطيدة بين الأدب والتربية النفسية، فكلاهما يسعى إلى بناء إنسان متوازن، يمتلك الوعي بذاته وبالآخرين، وقادر على مواجهة تحديات العصر.
ويطيب لي أنْ أختم هذا المقال المهم بقصيدة توجهتُ بها إلى ابني أحمد منذ سبعة عشر عاما في (10 - 11 - 1429 هـ - 8 - 11 - 2008 م)، بعنوان "رسالة إلى ولدي"، تجسّد دور الشعر في التربية والتوجيه إلى الفضائل والقيم والنبيلة والمُثل العليا، والتحذير من ضدها، والحضّ على طلب العلم والتمسك بالأخلاق لتحقيق الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
ولدي أحبك هل تعــــــي -- إني وهبتك أجمعــــــــي
لم يا بني تثيــــــــــــرني -- وتسيل أنهر أدمعــــــــي
وتثير أمك يا فتــــــــــى -- قد أجهشت بمدامــــــــــع
دمع الأبوة يا حبيـــــــــ -- ـب، دليل حرقة أضلـــــع
إياك أن تعصي الإلــــــ -- ـه بقول "أف" هل تعي؟
حرفان لو نطقا لكــــــــا -- نا صكة لمسامــــــــــــع
فاربأ بنفسك عنهمــــــــا -- كي لا تثير مواجعــــــي
وتحطم الآمال فيــــــــــ -- ــك، وتنتهي لفجائــــــع
إنا نريدك طيب الـــــــــ -- أخلاق، رب منافـــــــــع
ونريد منك تواضعـــــــا -- فلتتصف بتواضــــــــــع
لكن نريدك شامخـــــــــا -- ذا هيبة وترفـــــــــــــــع
بالدين كن مستمســـــــكا -- في همــــة وتدافـــــــــع
والعلم أتقنه تفــــــــــــــز -- فالعلم أكبر شافـــــــــــع
فمداد عالمنا يفـــــــــــــو -- ق دم الشهيد فســــــارع
للفوز بالعليــــــــــا وكن -- في العلم دون منــــــازع
قم يا بني بهمــــــــــــــة -- عليا كسيف قاطـــــــــــع
لنعيـــــــــد مجــد بلادنا -- ونكف بأس الطامــــــــع
لن تستقيم أمــــــــــورنا -- إلا بعلـــــــــم نـــــــــافع
وبحسن أخلاق وديــــــ -- ـن للشباب الخاشــــــــــع
وتذكرن يا نجلنـــــــــــا -- إني وهبتك أجمعــــــــي
(والدك المحب لك).

