تُعرف الشاعرة الفلسطينية "نهى شحادة عودة" في المجتمع الأدبي العربي باسم "ياسمينة عكَّا"، أبصرت النور في مُخيّمات اللاجئين في لبنان ذات يوم مُندسٍّ بين أعوام ثمانينيات القرن الماضي، وتعود أصولها إلى قرية شعب في قضاء عكّا بفلسطين.. هي ناشطة ومناضلة من أجل الحفاظ على الثقافة والذاكرة الفلسطينية وضمان توريثها لأجيال اللاجئين.. نشرت رواية واحدة وعددا من الدواوين الشعرية، وخصّت جريدة "الأيام نيوز" بمجموعة من القصاصات التي أودع فيها الأسرى المُحرّرون الفلسطينيون بعض ذكرياتهم في رحلة العذاب..
سنبدأ حديثنا عن أحداث ما بعد السابع من أكتوبر داخل سجون الاحتلال، انطلاقًا من جذور نشأة وتكوين الحركة الصهيونية.
الحركة الصهيونية، كما تعرّفها الأمم المتحدة وكما تُعرّفها الحركة الوطنية الفلسطينية، هي حركة عنصرية وعدوانية تقوم على الإلغاء والإقصاء والاجتثاث الكامل للآخر.
في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر، استلهمت سلطات سجون الاحتلال سياساتها تجاه الأسرى من المخزون الثقافي الذي تشكّل لدى الحركة الصهيونية على مدار عشرات السنين. هذه الحركة التي خاضت، بمعناها العميق، معركة الغرب ضد الشرق، حملت معها إرثًا استعماريًّا عنيفًا، وظّفته في كل ساحة اشتباك.
إدارة السجون تعاملت مع الأسرى بأساليب مبتكرة لا إنسانية، لم تخطر على بال أحد من قبل. فلم يكن أحد يتخيّل، قبل "إسرائيل" وقبل إدارة السجون الصهيونية، أن يُجرَّب هذا الكم من التنكيل والتجويع الممنهج.
بصدق، لم نكن نتخيل، ولا ليوم واحد، أن تصل درجة اللاإنسانية لدى ألدّ أعدائنا إلى هذا الحد. كنا نعلم أن هذا عدو مجرم ومتوحش، لكن أن تكون الوحشية بهذه الصورة وبهذا العمق، فهذا ما لم يصدقه عقل. لم نشهد مثيلًا لما حدث داخل سجون الاحتلال في أيٍّ من دول العالم، ولا في أي تجربة تاريخية معروفة، عبر مختلف العصور.
لقد أقدمت إدارة سجون الاحتلال على تنفيذ مئات الإجراءات اللاإنسانية، بدءًا من منع وتحريم وربط كل أشكال الحياة الإنسانية والبشرية داخل الزنازين.
ننتقل إلى الحديث عن بعض الإجراءات الإضافية التي قامت بها إدارة السجون، والتي لا يمكن وصفها إلا بالمفارقة المؤلمة، أو كما يقول البعض: "المضحك المبكي". فقد منعت إدارة السجون الأسرى من الخروج إلى ساحة "الفورة" (النزهة اليومية) نهائيًا، لأشهر متواصلة، ضمن سياسة العقاب الجماعي.
وبعد فترة من المنع، أُجبِرت إدارة السجون - بقرار صادر عمّا تُسمّى بـ "محكمة العدل العليا" في الكيان الصهيوني (محكمة بينكِسِن) - على السماح بخروج الأسرى ساعة واحدة يوميًّا إلى "الفورة" (ساحة السجن). لكن كيف تعاملت الإدارة مع هذا القرار؟
وافقت، نعم، لأنها لا تستطيع قانونيًّا رفضه، لكنها عمدت إلى التحايل عليه بأسلوب خبيث، فقد قامت برسم مُربّع صغير داخل الساحة، لا تتعدى مساحته بضعة أمتار، بحيث لا يخرج الأسير فعليًّا من محيط الزنزانة، بل ينتقل من داخل الجدران إلى جدران أخرى.
المربع المرسوم لا يُقدّم أيّ فائدة حقيقية، فلا شمس تُرى، ولا هواء يُستنشق، ولا حتى خطوة واحدة يمكن أن تمتد. بهذا الشكل، تكون إدارة السجون قد استجابت للقرار شكليًّا، لكنها فعليًا حوّلته إلى أداة قمع إضافية، تؤكّد من جديد العقلية الاستعمارية القائمة على الإذلال والتحايل حتى في أبسط حقوق الإنسان.
ولا خيار أمام الأسرى إلاّ الحركة داخل هذا المربع. وأيّ أسير يخطئ فتتخطّى قدمه هذا المربع أو هذا الخط - نحن أطلقنا عليه تسمية "الخط الأصفر" - يتم عقاب الأسير وإدخاله إلى الغرفة. وأيّ أسير يقول "صباح الخير" لأيّ أسير آخر في إحدى الزنازين المجاورة المُطلّة على النزهة، يقومون بحرمانه من "الفورة". وأيّ أسير يقوم بأيّ حركة مهما كانت، مثلا إذا ما قرأ أسيرٌ القرآن، وسجد سجدة، يقومون بإدخالنا إلى الغرف.
إذًا، الفكرة هي أنهم أُجبِروا على تنفيذ قرار محكمتهم، ولكنهم بطريقة ملتوية فعليًّا يعاقبون الأسرى يوميًّا.
مثلاً: بعدما يدخل الأسرى إلى الفورة، يأتي شرطي فإذا وجد أن الساحة غير نظيفة، يعاقب القسم بكامله: (بكرا فش فورة)، ثلاثة أيام. وإذا ما مرّ شرطي بين الغرف، ووجد أسيرا واقفا، يقول له: "ارفع راسك"، أو "وقف"، وإذا ما رفض فإن القسم يعاقب بأكمله.
فمئات الأعذار اللامنطقية وغير المبررة تُستخدم من أجل منع هذه "الفورة"، فعلى سبيل المثال: هم يمنحون وقتا مُحدّدًا لأسيرين ليقوما بتوزيع الأكل على الأسرى، وهناك ما بين 15 أو 20 غرفة، فالأسيران يحتاجان إلى ساعتين على الأقل لتوزيع الاكل، فإذا لم يوزّعا الأكل خلال ساعة واحدة، فإن جميع الأسرى يُعاقبون.
إذا تُركت الأواني في الساحة، يُعاقَب القسم فورًا.. مئات الأعذار تُستخدَم من أجل منع الأسرى من الفورة. ما ذكرته هو قليلٌ من أمثلة كثيرة يعيشها الأسرى يومًا بيوم. والأسرى، إذا سمعوا كلامي اليوم، يعرفون بالضبط ما أعنيه، لأنني أتحدّث هنا عمّا جرى على جلودهم.

