2025.07.17
فسيفساء
هذا غليون!

هذا غليون!


تؤكّد هذه اللوحة لـ "رينيه ماغريت" سطوةَ اللغة، ودورَها في إعادة تشكيل الحقائق. فاللوحة تكشف لنا عن غليون، والغليون جليّ واضح لا يقبل الشّكّ، لكنّ الجملة التي كُتبت تحته تناقض هذه الحقيقة المثبتة: "هذا ليس غليونًا". هذه الجملة الأخيرة التي اتّخذها الرسّام عنوانًا للوحته، تزعزع فهمنا ويقيننا وإدراكنا، وتضعنا أمام مفارقة عويصة. وقبل أن أدرك المعنى الفلسفيّ الكامن خلف هذه المفارقة، ساورني شكّ كبير، ورحتُ أقلّب الصّورة محاولًا اكتشاف الشّكل الجديد الذي قصده "ماغريت". إن لم يكن غليونًا فما هو إذًا؟! ما هذه الخدعة؟! هل هو مقبَض؟ حذاء؟ علامة استفهام؟ وكدت أقتنع بأحد هذه الأشكال المفترَضة، قبل أن أقرأ مقالة "ميشال فوكو" التي قدّم فيها قراءة عميقة للّوحة، تكشف سرّها.

اللغة إذًا ليست مجرّد أداة للتّواصل كما تعلّمنا في المدارس، إنّها أيضًا إحدى أدوات الحقيقة. وكثيرًا ما يصعب علينا الفصل بين اللغة وصاحبها، بين النّصّ والمرجع. فـ "ماغريت" فرض نفسه مرجعًا لا يمكن تجاهله. فحين نفكّر في الجملة التي تخالف منطق اللوحة، سنُجرّ تلقائيًّا إلى التّفكير في صاحب الجملة؛ إذ هو الذي فرض علينا هذه السّرياليّة، وهذه الأحجية التي يصعب فهمهما. إنّه صاحب اللوحة، وصاحب الجملة أيضًا، فإن قال إنّ الشّكل الظّاهر في اللوحة ليس غليونًا، فهو ليس غليونًا إذًا! ستتلبّد الحقيقة ويختلّ الإدراك البديهيّ، فقط لأنّ المرجع قرّر ألّا يكون الشّكل المعروف، شكلًا معروفًا. وهذا ما نصادفه كثيرًا في الكتب المقدّسة، فما زلنا حتّى اليوم نرفض الحقائق العلميّة، فقط لأنّ هناك ما يناقضها في الكتب المقدّسة، أي إنّنا نرفض التّجريب ونتمسّك باللغة. أجل، فاللغة خطيرة جدًّا!

وفي صراعنا التّاريخيّ مع الكيان الصهيوني مثلًا، لم تكن الذّخائر والعتاد سلاحنا الأقوى والأهمّ، بل اللغة! فالخطابات التي دخلت آذاننا وعقولنا ووجداننا لسنوات، هي التي رسمت قوّتنا وحدّدت شكلها وملامحها. ولسنا وحدنا الذين صدّقنا هذه الرّسمة الجميلة، فالعدوّ أيضًا صدّقها. ربّما صدّق أنّنا نشكّل تهديدًا حقيقيًّا لوجوده، إلى أن جاءت الحرب الأخيرة وعرّت الحقيقة اللغويّة، عرّتها من اللغة، من صورها ومحسّناتها وغواياتها. فهذه الحرب كشفت عن الشّرخ المخيف بين الرّسمة والواقع، بين المهارة اللغويّة والمهارة العسكريّة، بين المقبَض والغليون! صدّقنا أنّ الغليون مقبَضًا، فقط لأنّ هناك من كتب تحته جملة تنفي هويّته الواضحة. كذّبنا عيوننا، وعقولنا، وصدّقنا اللغة، وها نحن الآن ندفع الثّمن.

ماذا في اللوحة إذًا؟ غليون. في اللوحة غليون. لطالما كان كذلك، وسيظلّ كذلك.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار