2025.07.17
نوستالجيا
من أوراق الدكتور المصري \

من أوراق الدكتور المصري "عمر الدسوقي".. صدى الثورة الجزائرية في الشعر العربي الحديث (الجزء الثالث)


تميّزت ثورة التحرير الجزائرية بأنها ثورةٌ متعدّدة الأبعاد، فلم تكتف بالبُعد الوطني فحسب بل تعدّت إلى البُعدين: العالمي والإنساني، لذلك صارت كلمات: الحرية، البطولة، الكرامة، العزّة، الصمود.. من المرادفات الأصيلة لكلمة "الجزائر". ولا عجب، فهذه الكلمات فقدت معانيها في أيّامنا هذه ولم تعد تعني شيئا بمُفردها، لذلك يجب إدراك معانيها وهي مقترنة بالجزائر وفلسطين.. ومن الإنصاف أن نعترف بفضل الجزائر وفلسطين في الحفاظ على معاني الكلمات "النبيلة" المُهدَّدة بـ "الفصام اللغوي"، وأيضًا بفضل غزّة في الحفاظ على قاموس البطولة والصمود.. وكثيرٍ من الكلمات التي تتعرّض معانيها للإبادة تمامًا مثلما يتعرّض الشعب الفلسطيني للإبادة في غزّة.

وعن معنى الجزائر، يقول شاعر الثورة "مفدي زكرياء" في إلياذته:

جَزائرُ أنتِ عَروسُ الدُّنا -- ومنكِ استمَدَّ الصَّباحُ السَّنا

وأنتِ الجِنان الذي وعَدوا -- وإن شغلونا بطيب المُنى!

وأنتِ الحنان، وأنتِ السَّما -- حُ وأنتِ الطِّماح، وأنت الهنَا

وأنتِ السُّمو، وأنت الضميـ -- ر الصَّـريحُ الذي لم يخُنْ عهدنا

ومنك استمد البُناةُ البقـ -- اءَ فكان الخلود أساسَ البنا

وألهمتِ إنسانَ هَذا الزَّمانِ -- فكان بأخلاقنا مُومنا

وعلّمتِ آدمَ حبَّ أخيهِ -- عساه يسير على هَدينا!

وقد تغنّى معظم الشعراء العرب بثورة التحرير الجزائرية خلال خمسينيات القرن الماضي، ومنهم من خصّها بديوان كامل في أعماله الشعرية. غير أن معظم الأشعار تميّزت بالانفعالية والعاطفة الملتهبة ولم تنصرف إلى شخصية الثوريّ والثورة في حدّ ذاتها، وربما يعود هذا إلى طبيعة التعبير باللغة الشِّعرية التي تنحاز إلى الخيال والانفعال على حساب الواقع والحقيقة. ومن الذين تنبّهوا إلى هذه النقطة، الشاعر الأردني "عيسى الناعوري" عندما كتب عن المجاهدة "جميلة بوحيرد"، ورأى بأن السرّ في قوّتها وصلابتها وبطولتها هو انتماؤها إلى الجزائر، فتلك العناصر هي من خصائص الإنسان الجزائري الأصيل.

أما عن الانفعالية في الشعر، فقد عبّرت عنها الشاعرة العراقية "نازك الملائكة" عندما رأت بأن " كل ما قيل من شِعرٍ في جميلة (بوحيرد) لا يتكافأً أبدا مع ما لاقته من عذاب، بل (نازك) تخجل من هذا الشعر". وخاطبت "الملائكةُ" المجاهدةَ البطلة "جميلة" ساخرةً من كل الشعر العربي الذي قيل فيها آنذاك، قالت: "لا تبكِ، ألسنا نغنّي لك ونُشيد ببطولتك، وحين تتحرّق شفتاك ظمأً نسكب نحنُ الألحانَ والأغنيات، ألا يكفي هذا؟ وماذا فعلنا لإنقاذها؟ لا لا شيء سوى الهتاف بحياتها، لقد رحنا نتغنّى بجمالها الذي أكلته القيود، وأثرينا شعرنا بالمعاني المُستمدّة من مأساتها. فيا للعار، إذا كان الفرنسيون قد جرحوها بأنيابهم فقد جرحناها بأشعارنا التي تتضاءل حزنًا أمام مأساتها". ومن المُجدي الإشارة إلى أن هذا ما يحدث الآن مع غزّة.. بل هذا ما حدث ويحدث منذ أكثر من سبيعين عامًا مع فلسطين!

ولعل "جميلة بوحيرد" هي المرأة الأولى في العالم التي نزفَت من أجلها أقلام الأحرار بكل اللغات في مختلف أنحاء العالم، إضافة ما لم يُحص بعد من القصائد للشعراء العرب، وأعمال فنيّة أخرى مثل فيلم "جميلة" عام 1958، من إخراج "يوسف شاهين"، وسيناريو وحوار: "نجيب محفوظ" و"عبد الرحمن الشرقاوي".. إضافة إلى "أوبريت جميلة" للشاعر المصري "كامل الشناوي"، التي لم تر النور على ركح المسرح، ولم تصدر بشكل منفردٍ في كتاب بل صدرت متأخّرةً ضمن كتاب (الذين أَحَبُّوا "ميّ" و"أوبريت جميلة")..

وفي سياق الحديث عن "أوبريت جميلة"، تدعو جريدة "الأيام نيوز" إلى تعاون المبدعين العرب: شعراء، كُتّاب، ملحّنين، موسيقيين، مطربين، ممثلين، منتجين.. إلى إنجاز أوبرات عالمية عن غزّة بلغات عالمية متعدّدة، فربّما مثل هذا العمل يكون أكثر جدوى وفعالية لخدمة الشعب الفلسطيني في غزّة.

دراسات كثيرة تناولت الثورة الجزائرية في الشعر العربي، ومن بينها هذه الدراسة التي كتبها الدكتور المصري "عمر الدسوقي"، عندما كان أستاذا في جامعة قسنطينة، وألقاها محاضرةً في قاعة المحاضرات الجامعية في الجزائر عام 1968. ثم قام المؤرّخ الجزائري الدكتور "أبو القاسم سعد الله" بنشرها في مجلة "الثقافة" الجزائرية في شهر أوت 1982، وقدّم لها بمقالٍ حول علاقته بالدكتور "الدسوقي"، وكيف حصل على المحاضرة مرقونةً بالآلة الكاتبة.. وفيما يلي، نترك القارئ يستكشف "صدى الثورة الجزائرية في الشعر العربي الحديث"..

من كلّ قُطرٍ شاعرٌ

وقبل أن أتكلم على ما هاجته بطولة "جميلة بوحيرد" من مشاعر، وما أملته من شعر، أُلقي نظرة عاجلة على الشعر العربي خارج مصر، وكيف كان صدى لأحاسيس الشعوب العربية وانفعالاتها بثورة الجزائر وما حققه أبطالها، وكيف كان يفيض بالأمل ويصرخ في وجه العُداة الطغاة صرخةَ النقمة والبغضاء.

الشاعر "علي الرقيعي" من ليبيا

هذا "علي الرقيعي"، وهو شاعر ليبي، يحيي الثورة الجزائرية في أول عهدها بقوله:

يا دماء الثورة الحمراء في أرض الجزائر

اصبغي الأرض احمرارا واهدري كالبحر زاجر

شعبنا.. قام اليوم في غضبة ثائر

الشاعر "سليمان العيسي" من سوريا

ومن سوريا، ينظر "سليمان العيسي" إلى ثورة الجزائر على أنها ثورة العرب جميعا، وهو إن لم ير الجزائر بعينيه فقد تمثّلها بقلبه، وأخذ يُنذر الفرنسيين بالويل والثبور، وأن فتيان الجزائر الأحرار سيطاردونهم في الجبال والسفوح والوديان والمدن والقرى حتى يطّهروا منهم الأرض الطاهرة، وأن العدو الغادر مهما حاول أن يفصل الجزائر عن الوطن العربي فلن يفلح له مسعى. ثم استبشر بهذه الثورة التي أيقظت العربَ واستشرف فجر وحدتهم في لمعانِ السلاح الثائر، وأن العرب سيعودون من جديد لهداية البشرية إلى طريق الهدى والرشاد بعد أن ضلّت الطريق السوي. قال الشاعر:

لم أزرها أرض أجدادي التي ماجت رعودا

والتقت بالمجرم الباغي دخانـا وحديـدا

غير أني لم أعش في خلجةٍ منها بعيدا

تتخطّاهم ضحايانا سهولا ونجودا

ليقيموا ما يشاؤون على الرمل حدودا

يصل الأجيال يمحو البُعد يجتاح السّدودا

ثائر يهوى على أرض البطولات شهيدا

....

سِر معي فوق الدروب الحُمر نَستهدي الأضاحي

يلتقي المشرق والمغرب فيها بالصباح

في ثرى تونس، في مراكش، عبر البطاح

والصحارى الجُرد، كم نسر تردّى وجناح

حنَّت الشام تشدّ الجرحَ منه بالجراح

أيها الساقون في "الأوراس" ساحات الكفاح

بدماكم أورق الفجر على حدّ السلاح

...

لم يعد في وطني في ساحة الفتح عبيد

 كل صخر خلفه لو زُحزح الصخر شهيد

جاد بالروح اتّقاء الذل أو هو يجود

وثبة تومئ للأجيال أنّا سنعود

شعلة تهدي ونُبلا جهلت فيه الحدود

في ذرى الأطلس فجر راح ينشق جديد

ألف سفاح على خفقه البكر يبيد

الشاعر "أنور العطار" من سوريا

الشاعر السوري "أنور العطار" له قصيدة عصماء في الثورة الجزائرية أشاد فيها بشهداء الثورة، ثم ذكر أنها ليست ثورة الجزائر وحدها وإنما هي ثورة العرب جميعا، وأنها قامت لتثأر للعرب من فرنسا، وهو لا يفرّق بين سوريا وبين الجزائر فكلاهما وطن له، وينادي المجاهدين بأنهم أصحابه لا يزال يترقّب أخبارهم، ويخفق فؤاده بشتّى الأحاسيس التي توحيها المعارك بينهم وبين أعدائهم، وهي قصيدة طويلة نقتطف منها قوله:

ثورة يعربيّةٌ ما تناهی -- فار تنّورها فهال اشتداده

هزّت الأرض هزةً فإذا الحق -- مبين لا يُستباح مراده

وعرَا الكون فرحةٌ حين سالت -- بالروابي وبالذُّرى أجناده

يا لثارات يعرب من فرنسا -- نقمة الثأر أن يعمّ امتداده

كم تهزّأت بالعروبة دهرا -- فإذا الهزء قد طواك نطاده

يا لثاراتنا فنحن بنو الثأر -- لدينا نُشؤُه وَوِلاده

إن تغنّى بنا فنحن مُغنّوه -- تعالى من أرضنا إنشاده

يا بلادي وأنت مني مرادي -- شرف المرء أن تُصان بلاده

يا دماء على الجزائر سالت -- أنت أصل العُلا وأنت عماده

 فانزفي واسكبي وجودي لنحيا --علقم العزّ منك يحلو شِهاده

يا صحابي الأبرار في السهل والحزَن -- وفى مربض غلَت أحقاده

أزبد الثأر في النفوس وأرغى -- ولقد أفزع الورى إزباده

مقلتي لم تزل تحوم عليكم -- وفؤادي وقف عليكم وداده

الشاعر "يوسف عز الدين" من العراق

الشاعر العراقي "يوسف عز الدين" يناشد ثوّار الجزائر باسم الدم المُراق، وباسم الضحايا من ثاكلات وأيتام في كل مكان أن يأخذوا بثأر العرب، ثم يحيّي الثورة ويُناجيها ويبشّر أبطالها بالنصر المُبين لأنهم دُعاة الحق، والذّادة عن الحرية، ويختم قوله بأن العرب أمّة واحدة إذا اشتكى منها عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، قال:

 بكم وبالعزم العتيد وبالدم -- متدفقا من كل ليث ضيغم

بالثاكلات النائمات عشيّة -- بالدمع تذرفه عيون الأيم

بالطفلة الولهى تسائل أمّها -- أمّاه أين أبي؟ بمن أنا سأحتمي؟

باسم الضحايا في جميع ديارها -- قد جئت أطلب ثأر موتورٍ ظَمي

إيهٍ جزائرنا ورمز كفاحنا لقاها -- المجد تنسجه عزيمات الكمي

إياك يا رمز البطولة أن تَني -- قدما وجزى كل علجٍ مجرم

أَبَنِي الجزائر يا حُماة تراثها -- ودروعها في الموقف المتأزّم

قسما بثورتكم وثورتكم سنا -- للنصر في الليل الطويل المظلم

إنّا وإياكم فؤاد واحد -- والويل للمستعمر المُتحكّم

إنّا إذا شحبت دماء جريحكم -- لبّاه كل بني العروبة بالدم

الشاعر "أحمد السقاف" من الكويت

ومن الكويت يقول الشاعر "أحمد السقاف" يحيّي الثورة الجزائرية، ويشيد ببطولات المجاهدين، وينوّه بأثرها في وحدة المشاعر العربية، والتفاهم حولها، وسخطهم على فرنسا، وإحساسهم العميق بأن الجزائر قطعة من الوطن العربي الكبير جديرة بأن يفتديها العرب بدمائهم، فقال:

وكانت غضبة دوّى صداها -- فمن فاس إلى أرض الأبلّه

توحّدت المشاعر في كفاح -- فريد لم تر الغبراء مثله

وما أرض الجزائر غير أرضي -- بقلب تُفتدى مني ومُقله

أقبّل مِن ثراها كل شبرٍ – بكل جوارحي مليون قُبله

وقد جهلت فرنسا أيّ جهل -- فليست ثورة الأحرار سهله

وساعات الحياة بعيش عزٍّ -- أجلّ من السِّنين بعيش ذِلَّه

قصائد في رموز الثورة الجزائرية

وقد لمعت في سماء البطولة الجزائرية أسماءٌ، منهم من قضى نحبه وهو يؤدي فريضة الجهاد، ويروي بدمه شجرة الحرية، ومنهم من نجا من براثن الوحوش الإنسانية، وإن عُذّب ما شاءت القسوة أن يُعذّب، وصبر وما لانت له قناة، ولم يُذِع سرًّا، أو يحني رأسًا، وقد نوّه شعراء العربية في كل صقع بهؤلاء الأبطال.

الشاعر "هلال ناجي" من العراق

يقول "هلال ناجي" من العراق في "مولود فرعون" الذي اغتاله الإرهابيون الفرنسيون في الجزائر قبل بزوغ فجر السلام بساعات ولم يشهد ساعة النصر ومولد الحرية، يقول:

يقولون مات ولفّ التراب --جبينًا تألّق كالفرقد

أَيا شعلة في احتلال الدّجى -- تسامى وضوَّا للأبعد

أحقًّا طواك الرّدى غِيلةً -- قبيل ائتلاف الصباح النّدي

لك المجد من صامت مرعد -- ومن باسمٍ للرّدى مُزيد

أحقًّا إذا انتصر الثائرون -- وبات المُشرَّد كالسيّد

يُقال: إذا ما سألت الرفاق -- هنا انطفأت شعلة الفرقد؟

هنا قبره؟ فأحسّ الفؤاد -- يناديك في زهوة الموعد

تمهَّل فديتك، لكـن -- مضى ناسيًّا بهجة المولد

الشاعر "حسن فتح الباب" من مصر

ويرثي "حسن فتح الباب"، من مصر، البطل الجزائري "عبد الحميد بوصوف" الذي أحرقه المستعمرون حيًّا حين انضمّ إلى صفوف الشعب، وهو يصوّر المأساة ويبيّن أن هؤلاء الشهداء والضحايا وُقود الثورة يزيدونها اشتعالًا، وأنهم أحياء في قلوب المجاهدين.. قال الشاعر:

كانت بيادر الحصاد تشتعل

وأذرع الثوّار في الجبل

تســدّ عين الشمس (...)

وأدمع النساء لم تفض

على ثرى مناضل سقط

فالموت كان يجرف الجليد

ويُطعم الوليد نار الثأر

لمّا هوى (بوصوف) يحترق

ثم يخاطبه بقوله:

لن تستطيع أن تموت

وفي دار وهران كلّ أمٍّ

تسقي صغارها الظِّماء

دماء زوجها الشهيد

لتنضج الثمار في الوهاد

والطفل يهجر المهاد

وحفنة من الدماء تحترق

في كفّه، يرمي بها الجناة

وكلّما تخضّب الأفق

عادت إلى رفاتك الحياة

(بوصوف) يا مُخلَّدًا إلى الأبد

يتصفحون الآن
أخر الأخبار