غزة لا تموت، بل تتفنّن في انتزاع الحياة من تحت أنقاض الموت، تُراكم وجعها لتُحوّله إلى إرادة، وتُخفي لهيبها تحت الرماد لتفاجئ به عدوًا اعتاد قراءة الصمت ضعفًا. لطالما أدركت غزة أن البقاء هنا ليس صدفةً جغرافية، بل مهمة وجودية يحرسها الشرفاء بالدم ويوقّعونها بالرصاص ويسقونها بالذاكرة. في غزة، لا وهم ولا ترف انتظار، كل لحظة تُعاش كأنها الأخيرة، وكل نَفَس يُنتزع من فم الموت كأنه معجزة. وحين يُعلن المهزومون أن زمن المقاومة قد انتهى، تُثبت غزة أن زمن الصمت هو الذي انتهى. ففي قلب الجحيم، تكتب الحقيقة بلغة لا لبس فيها: المقاومة لم تنطفئ، بل تتّقد في العتمة، وتضرب حين يظن العدو أن الساحة قد خلت.
في هذا المشهد الملطّخ بدماء الأطفال، تندفع بعض الأنظمة العربية إلى تقبيل الأعتاب الصهيونية، وتسابق الزمن لدفن ما تبقى من الذاكرة على موائد التطبيع. في المقابل، كانت غزة تكتب سطورها الجديدة بدمها، لا على الورق، بل على جدار المعركة. كمين بيت لاهيا في قلب منطقة العطاطرة، لم يكن فعلًا معزولًا، بل فصلًا متقدّمًا في معادلة المقاومة، ودليلًا على أن كتائب القسام، رغم الحصار والتدمير، ما زالت حاضرة، بل أشد بأسًا واستعدادًا.
منذ بدء الحرب الإبادية على غزة، سعت "إسرائيل" إلى فرض معادلة "الردع المطلق" عبر سياسة الأرض المحروقة، لكنها اصطدمت بحقيقة أن الردع لا يُبنى بالقوة فقط، بل بالكلفة. ومع ازدياد خسائرها، انتقلت المقاومة من المواجهة المباشرة إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، تعتمد الدهاء والمباغتة وتضرب حيث لا يتوقّع العدو. وفي هذا السياق، جاء كمين العطاطرة، كترجمة لعمل استخباري ميداني محكم، استخدمت فيه كتائب القسام عبوات "شواظ" وقذائف "تاندوم" ضد وحدة صهيونية، موقعة قتلى وجرحى، وفق تسريبات إعلامية إسرائيلية غير رسمية.
العطاطرة: الجغرافيا تُبدع التكتيك
اختيار العطاطرة شمال بيت لاهيا لم يكن عشوائيًا؛ فهي منطقة لم تشهد اجتياحًا بريًا مكثفًا، ما أتاح للمقاومة إعادة التمركز فيها وتحويلها إلى أرضٍ خصبة للكمائن. يقدّر الخبراء أن المسافة بينها وبين السياج الأمني لا تتجاوز كيلومترين، ما يجعلها مثالية للمباغتة. كما أن طبوغرافية المنطقة وشبكات أنفاقها القديمة والحديثة شكّلت رافعة ميدانية لمباغتة الجنود والانكفاء الآمن بعد العملية.
غزة، بهذا المعنى، لا تُقاتل بالسلاح فقط، بل بإرادةٍ لا تُقهر، وبذاكرةٍ لا تُساوم، وباستراتيجية تتكيّف مع الجحيم وتحوّله إلى جبهة مفتوحة على الدهشة. إنها مرآة لعار العالم، وقبلة الجراح التي لا تنزف عبثًا، بل تكتب بالدم فصول معركة لا تزال في بدايتها، لأن غزة، ببساطة، لا تعرف النهاية. ورغم ما يُروّج له إعلام العدو وبعض الأبواق العربية من أن المقاومة استُنزفت أو أصابها الوهن، فإن كمين بيت لاهيا يكشف عن منظومة ثلاثية ما زالت متماسكة داخل كتائب القسام: الإنسان، والسلاح، والمعلومة.
أولًا، من الناحية البشرية، لا تزال المقاومة قادرة على رفد الميدان بالمقاتلين، سواء من خلال تدريب أفراد جدد أو إعادة تموضع وحدات مقاتلة فُصلت عن مراكز القيادة. ثانيًا، من ناحية السلاح، فإن القسام تُظهر قدرة لافتة على إعادة تدوير مخلفات المعركة: قذائف العدو غير المنفجرة تتحول إلى أدوات فتك، والصواريخ الفاشلة يعاد تصنيعها وتطويرها. أما ثالثًا، فإن البعد الاستخباري يظل هو الجوهري، حيث نجحت المقاومة في الحفاظ على شبكات رصد داخلية ترصد تحركات العدو بدقة وتحدد نقاط ضعفه.
من الرد العسكري إلى الفعل السياسي
ما يجعل هذه العملية نوعية لا يقتصر على بعدها العسكري فقط، بل في كونها تُحوّل الدم إلى رسالة سياسية. فهي تخاطب الداخل الفلسطيني لتقول: "لسنا في الرمق الأخير"، وتخاطب العدو لتهمس في أذنه: "كل خطوة إلى الأمام قد تكون فخًا ينتظرك". هذا النوع من العمليات يقوّض سردية التفوق الصهيوني، ويعيد تشكيل صورة الصراع أمام العالم، في وقت بدأت فيه أسئلة صعبة تُطرح داخل المجتمع الإسرائيلي حول جدوى الحرب وكلفتها المتزايدة.
لقد أصبح كل قتيل في صفوف الجنود الصهاينة يُحدث ارتجاجًا في المشهد السياسي الداخلي، ويدفع بمزيد من الغضب إلى الشارع، لا سيما في ظل قيادة تعاني من الانقسام والفساد وفقدان البوصلة. فالمجرم نتنياهو، الذي يواصل الحرب تحت لافتة استعادة الرهائن وتدمير "بنى الإرهاب"، يعلم في قرارة نفسه أن كل يوم إضافي في الحرب يزيد من عمق المأزق السياسي الذي يعيشه، ويهدد تماسك ائتلافه الهش.
من “عربات غدعون” إلى الرمال المتحركة
من “عربات غدعون” إلى الرمال المتحركة، تتكشف أمام المراقبين صورة متآكلة لحملة عسكرية تُسوَّق كاستراتيجية لحسم المعركة مع حماس، لكنها في الحقيقة لم تعد تخدع أحدًا، حتى داخل الكيان. فعملية "عربات غدعون"، التي انطلقت بشعارات تفكيك البنية التحتية للمقاومة، تحوّلت إلى واجهة لصراعات داخلية وتصفية حسابات سياسية يقودها المجرم نتنياهو تحت ضغط شركائه من اليمين الديني، كسموتريتش وبن غفير. هذان الوزيران لا يكتفيان بتأجيج خطاب الكراهية والتحريض، بل يدفعان نحو تصعيد متواصل يسعى لتكريس مشروع تهويدي على أنقاض غزة، حتى لو كانت النتيجة غرق "الجيش" الصهيوني في مستنقع دماء لا قعر له.
أمام هذا المشهد، تبرز المقاومة كفاعل مختلف تمامًا. ليست فقط في خنادقها الميدانية، بل في قدرتها على إدارة معركة استنزاف متقنة، تقوم على المفاجأة، والكمائن، وتغيير قواعد الاشتباك. العمليات النوعية، مثل كمين بيت لاهيا، تُعدّ نموذجًا لما يمكن تسميته بـ"الهندسة العكسية للهزيمة"؛ أي استخدام نقاط ضعف العدو لتحويلها إلى عناصر قوة. فـ(إسرائيل)، التي تملك أقوى ترسانة في المنطقة، تبدو عاجزة عن حسم معركة على أرض محاصرة، لأنها تواجه خصمًا لا يراهن على التوازن العسكري، بل على إرادة الصمود والتضحية.
كمين بيت لاهيا ليس مجرد ضربة موفقة في توقيت حساس؛ إنه إعلان واضح بأن غزة لم تُكسر، وأن من راهنوا على إنهاكها أخطأوا التقدير. المعركة لم تعد تُقاس بالمساحات، بل بمدى القدرة على إفشال الأهداف الصهيونية. إنها حرب الإرادة، لا العتاد. حرب إعادة تعريف النصر، لا انتزاعه بالشعارات. في هذا الإطار، تبدو المقاومة أكثر من مجرد تنظيم مسلح؛ إنها حالة وعي جماعي، تعبير عن شعب لا يرضى بالاندثار، بل يصرّ على الحياة وسط الركام، وعلى المقاومة رغم الجراح.
هذه ليست ملحمة تكتيكية فحسب، بل ملحمة معنوية أيضًا. فالمقاومة لا تُقاتل فقط للحفاظ على الأرض، بل لتثبيت سردية فلسطينية تتحدى النسيان، وتحفظ للهوية معناها في مواجهة محاولات الطمس. وهنا يكمن المعنى الأعمق للنصر: أن تبقى حكاية الشعب الفلسطيني حيّة في ضمير الأمة، وأن تظل غزة عنوانًا لكرامة لا تُقهر، مهما اشتدت العواصف.