يحيي الجزائريون هذا الاثنين الذكرى التاسعة والستين لليوم الوطني للطالب، المصادف لتاريخ 19 ماي، في أجواء تعبق بالفخر والاعتزاز بجيل من الشباب المثقف الذي حمل مشعل الحرية منذ فجر الثورة التحريرية، ولا يزال اليوم يواصل المسيرة لبناء جزائر قوية ومزدهرة ومتجذرة في القيّم الوطنية. وفي هذه المناسبة، وجّه رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون رسالة مؤثرة إلى الطلبة الجزائريين، ذكّرهم فيها بمكانتهم التاريخية ودورهم المركزي في النهوض بالوطن، مستحضرا تضحيات طلبة 1956 الذين قرّروا مغادرة مقاعد الدراسة للالتحاق بالكفاح المسلح، من أجل جزائر حرّة، سيدة ومستقلة.
الرئيس تبون شدد على أن الطلبة الجزائريين اليوم هم الامتداد الطبيعي لرفاقهم في سنة 1956، الذين تخلوا عن مقاعد الدراسة والتحقوا بجبهات القتال إلى جانب المجاهدين، حاملين معهم وعي النخبة المثقفة وشعلة التغيير. تلك اللحظة التاريخية التي تجلّت في البيان الصادر يوم 19 ماي 1956، والذي صاغه المجاهد لمين خان، شكّلت نقلة نوعية في مسار الثورة الجزائرية، حيث لم يعد التعليم هدفاً شخصياً بل تحوّل إلى واجب وطني، وكان مضمون البيان آنذاك واضحاً وصادماً: "الحصول على الشهادات لا يجعل منا جثثاً أفضل"، في إشارة إلى أن العلم في ظل الاستعمار فقد معناه، ما لم يتحوّل إلى أداة للتحرر والنضال.
وسجل التاريخ التحاق آلاف الطلبة بمعاقل الثورة، تاركين أحلامهم الجامعية مؤقتاً في سبيل تحقيق الحلم الأكبر: جزائر حرّة سيدة. وقد تميز هذا الانخراط بما مثّله من إضافة نوعية على صعيد الكفاءة والتنظيم والخطاب السياسي والإعلامي. فالشباب الجامعي لم يكن مجرد مقاتل، بل كان كذلك مناضلاً يحمل مشعل التنوير، ينقل صوت القضية الجزائرية إلى الخارج ويعري وحشية الاستعمار أمام الرأي العام الدولي.
وفي خضم هذا التحول، ظهر "الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين" كهيئة نضالية منظمة تأسست في جويلية 1955، لتصبح الذراع الطلابية لجبهة التحرير الوطني. وقد ساهم هذا الاتحاد في تسريع وتيرة التعبئة الوطنية، وكان له دور ريادي في تدويل القضية الجزائرية. ولكن نجاحه هذا أزعج الإدارة الاستعمارية، التي سارعت في جانفي 1958 إلى حلّه واعتقال العديد من أعضائه، وتعرّض الكثير منهم للتعذيب الوحشي والاعتقال التعسفي، غير أن هذه القمعية زادت من صلابة الطلبة، الذين واصلوا النضال من مواقعهم، داخل الوطن وخارجه.
ومع استشهاد أسماء بارزة مثل عمارة رشيد وطالب عبد الرحمن، ترسّخت صورة الطالب المناضل في الذاكرة الجماعية الجزائرية. لم يكن الشهيدان مجرد رقمين في سجل الشهداء، بل كانا نموذجين حقيقيين لطالب لم يكن العلم عنده نقيضاً للنضال، بل طريقاً إليه. لقد أسّسوا لثقافة جامعة بين المعرفة والفداء، ورسّخوا قناعة أن العلم في ذاته يحمل في طياته قدرةً على التحرر.
وتكريماً لهذا الجيل، استلهم الرئيس تبون من تضحياتهم نداءً إلى شباب اليوم: أنتم ورثة الشهداء، وبناة الجزائر المنتصرة. فالدولة، التي وُلدت من رحم الثورة، لا يمكنها أن تتقدّم إلا بعقول نيّرة تشبه أولئك الذين افتكّوا النصر بالبندقية والفكر معاً. وبناء على هذه القناعة، دعا الرئيس إلى تجديد العقد الوطني بين الجامعة والمجتمع، من خلال ربط التكوين الجامعي بسوق العمل، وتوجيه البرامج التعليمية نحو اقتصاد المعرفة.
وبينما أكد الرئيس أن الجامعة الجزائرية بُنيت على أنقاض سياسة التجهيل التي مارسها الاستعمار الفرنسي، أشاد بالمكاسب التي تحققت منذ الاستقلال، سواء على صعيد الهياكل أو التأطير البيداغوجي، مشيراً إلى أن الإرادة الوطنية هي التي مكّنت من ولادة منظومة جامعية حديثة ومشرفة. وهذا ما يجعل الطالب اليوم مطالباً بدور تاريخي لا يقل أهمية عن دور أسلافه: المساهمة في بناء اقتصاد وطني متنوع، والتموقع في قلب التحول الرقمي والعلمي العالمي.
وفي هذا الإطار، أبدى رئيس الجمهورية فخره بالطلبة المتفوقين الذين يمثلون الجزائر في المحافل العلمية الدولية، ويدفعون بعجلة الابتكار قدماً من خلال مشاريع بحثية واختراعات ومساهمات أكاديمية تُعلي من شأن الجامعة الجزائرية. هؤلاء النوابغ، كما وصفهم الرئيس، هم طاقة متجددة قادرة على حمل مشعل التنمية في الجزائر الجديدة، وهم محرّكو اقتصاد الغد، الذين سيؤسسون لمرحلة ما بعد الريع البترولي، عبر إطلاق المشاريع الناشئة وتأسيس مؤسسات صغيرة ومتوسطة تمكّنهم من قيادة التحوّل الاقتصادي في البلاد.
وضمن هذا المسعى، كان رئيس الجمهورية قد قرر الرفع من قيمة المنحة الجامعية، علاوة على توجيهاته للشروع في مخطط الإصلاح الشامل للخدمات الجامعية، وهو ما يعكس رؤية شاملة تصبو إلى الاستثمار في الطلبة باعتبارهم من أهم الثروات التي تعتمد عليها الجزائر. وتعوّل الجزائر على الطاقات الطلابية الشابة للسير قدماً نحو آفاق أرحب على نهج التطور والازدهار، كما اعتمدت عليهم ذات 19 ماي 1956، حين قرر طلبة الجامعات والثانويات شن إضراب عن الدروس والامتحانات، تلبية لنداء جبهة التحرير الوطني، ما شكّل نقلة نوعية في مسار الثورة التحريرية المجيدة. وسيبقى هذا الحدث البارز في تاريخ الذاكرة الوطنية نبراساً يهتدي به جيل اليوم والغد، في سبيل رفعة الوطن بين باقي الأمم، وهو ما شدّد عليه رئيس الجمهورية حين دعا إلى ضرورة استلهام العبر من "تاريخنا وماضينا المشرف، تقديراً لتضحيات من سبقونا".
وكتأكيد منه على الأهمية التي يوليها للشباب والطلبة، التزم رئيس الجمهورية بعدم اتخاذ أي قرار يخصهم "دون إشراكهم فيه وموافقة المجلس الأعلى للشباب"، مبرزاً حرصه شخصياً على تطبيق ذلك. وتنفيذاً للرؤية الإصلاحية للجامعة الجزائرية، أعرب رئيس الجمهورية في عدة مناسبات عن أمله في أن تكون المدارس الوطنية العليا بالجزائر – "الفريدة من نوعها إفريقيا وعربياً" – بداية لانطلاقة جديدة. وفي هذا المنحى، جاء تدشين القطب العلمي والتكنولوجي الشهيد "عبد الحفيظ إحدادن" بالمدينة الجديدة سيدي عبد الله لتعزيز شبكة المدارس الوطنية العليا من خلال إنشاء خمس مدارس وطنية تضمن التكوين في تخصصات علمية دقيقة مختلفة، لاسيما منها الرياضيات، الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي.
ومن ذات المنطلق، أطلقت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، شهر مارس المنصرم، الطبعة الأولى لـ "جائزة رئيس الجمهورية للباحث المبتكر"، الموجهة لفائدة الأساتذة الباحثين والطلبة الذين تتميز أعمالهم بالأصالة والأثر العلمي والاقتصادي. وبالنظر إلى الأهمية التي يكتسيها البحث العلمي كأولوية في الجزائر الجديدة المنتصرة، حظي هذا القطاع باستثمارات وتمويلات هامة، حيث بلغت الميزانية المخصصة له خلال سنة 2024 ما يعادل 18 مليار دج، مقابل نحو 8 مليار دج سنة 2020، ما يمثل زيادة تفوق 112 بالمائة. كما شهدت هذه الميزانية ارتفاعاً آخر سنة 2025 بنسبة 10 بالمائة مقارنة بالسنة التي قبلها، لتبلغ 20 مليار دج.
ومن ذات المنظور، عرف الموسم الجامعي الجاري استحداث بيئة مقاولاتية تضم 117 حاضنة أعمال لمرافقة أصحاب الأفكار المبتكرة، علاوة على 107 مراكز لتطوير المقاولاتية، يضاف إلى ذلك المسعى المتبع لانتقال مؤسسات جامعية إلى جامعات الجيل الرابع.
وعلى صعيد التضامن مع الدول الشقيقة والصديقة، شكّلت الجامعة الجزائرية منذ الاستقلال أحد أوجه الوفاء لمبادئ التضامن والأخوة مع مختلف الدول الإفريقية، وهو ما أكده رئيس الجمهورية العام المنصرم خلال مشاركته في نواكشوط بالمؤتمر القاري حول التعليم والشباب وقابلية التوظيف، أين أبرز أنه "انطلاقاً من الروح الأصيلة في سياسة الجزائر الخارجية المبنية على أولوية التضامن الإفريقي، فإنها لم تدخر جهداً للمساهمة في النهوض بمجالات التربية والتعليم والتكوين في القارة، حيث تستقبل الطلاب من مختلف الدول الإفريقية الشقيقة في الجامعات ومعاهد التكوين والتدريب".
وكان رئيس الجمهورية، قد كشف -ي هذا الصدد- عن أن عدد الطلبة الأفارقة المسجلين في الجامعات الجزائرية خلال سنة 2024 قد قارب 6000 طالب. وفي هذا الإطار، تخصص الجزائر 2000 منحة دراسية سنوية في التعليم العالي و500 منحة دراسية في التكوين المهني للطلبة الأفارقة، علماً بأنه تم توفير فرص التعليم والتكوين لـ65 ألف طالب إفريقي شاب في مختلف التخصصات، بالمعاهد والجامعات منذ استقلال الجزائر.
وفيما يتصل بتقوية مرئية الجامعة الجزائرية، تم تسجيل التحاق آلاف الطلبة الأجانب بالجامعات الجزائرية خلال الموسم الجامعي الجاري، كنتيجة لوسم "أدرس بالجزائر"، والذي يرمي لجعل الجامعة الجزائرية وجهة مفضلة للطلبة من الدول الإفريقية، العربية والآسيوية.
من جهة أخرى، فإن تخليد ذكرى 19 ماي ليس مجرد مناسبة احتفالية بل هو محطة وطنية لترسيخ الوعي بتاريخ النضال الطلابي، وبأهمية مساهمة الشباب الجامعي في صياغة المشروع الوطني على أسس الحداثة والعدالة. فطلبة الأمس واجهوا الاستعمار بالسلاح والفكر، وطلبة اليوم مدعوون لتحصين الهوية الوطنية ومواجهة تحديات العولمة، والحفاظ على السيادة التكنولوجية والثقافية في عالم سريع التحول.
لقد أثبتت التجربة الجزائرية أن النخبة المثقفة لم تكن يوماً نخبة معزولة عن واقع شعبها، بل كانت دائماً في طليعة الفعل الوطني. فمن الثورة إلى بناء الدولة، ومن المقاومة إلى التنمية، لم تتوقف مساهمة الطالب الجزائري في صياغة الوعي الوطني، وفي ترجمة تطلعات الأمة إلى مشاريع واقعية.
وفي هذا السياق، حمّل الرئيس تبون الطالب الجزائري مسؤولية مزدوجة: الحفاظ على الأمانة التاريخية من جهة، وتحقيق قفزة نوعية في مجال التطوير العلمي والاقتصادي من جهة أخرى. إنها دعوة لتحويل الجامعات من مجرد مؤسسات تعليمية إلى فضاءات حقيقية للإبداع والإنتاج، قادرة على صنع الفارق في معركة البناء كما صنعت في معركة التحرير.
وهكذا، لم تكن رسالة الرئيس تبون مجرد خطاب رسمي بمناسبة وطنية، بل كانت إعلاناً سياسياً واضحاً عن مكانة الطالب في منظومة الدولة الجديدة، ونداءً استراتيجياً لإعادة صياغة علاقة الطالب بالوطن، علاقة لا تُقاس بدرجات الامتحانات، بل بمستوى الإيمان العميق بقيم التضحية، والعطاء، والانخراط الفعّال في خدمة الوطن. لقد قالها بوضوح: أنتم ورثة الشهداء، وأنتم أيضاً من سيكتب فصول الانتصار الجديد.